الرحمة من خلق المسلم والغلظة من خلق الخوارج
الرحمة خلق كريم، أودعه الله في النفوس، به تستقيم الحياة وتطيب، وبه ترتقي وتزدهر، أمر الله سبحانه به في جميع شرائعه، وكمّله في شريعة "الرحمةِ المهداة"جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: (إنما أنا رحمة مهداة)، أخرجه البراز (9205) والطبراني في المعجم الصغير (264) والحاكم (100) وقال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرّجاه، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح (5800).صلى الله عليه وسلّم، الذي أرسله رحمة للعالمين، فجاءت تشريعات الإسلام كلها رحمة، سواء في العبادات أو المعاملات، بين المسلمين أنفسهم أو مع أعدائهم، أو مع غيرهم من الموجودات في هذا الكون.
وقد وعد الله تعالى من يتصف بهذا الخلق بعظيم الجزاء (الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ)رواه أبو داوود (4941)، والترمذي (1924)، وأحمد (6494)، وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح.، أما الذين نزعت الرحمة من قلوبهم فهم شرار الخلق، وهم الأشقياء في الدنيا والآخرة.
تعريف الرحمة:
-
الرحمة في اللغة:
الرحمة: الرِّقَّةُ والتَّعَطُّفُ، والمرْحَمَةُ بمعنى الرحمة، قال الله عز وجل: {وتَواصَوْا بالصَّبْر وتواصَوْا بالمَرحَمَةِ}[البلد: 17] أَي: أَوصى بعضُهم بعضاً بِرَحْمَة الضعيف والتَّعَطُّف عليه.انظر الصحاح (5/1929).وقال ابن فارس: "(رَحِمَ) الرَّاءُ وَالْحَاءُ وَالْمِيمُ أَصْلٌ وَاحِدٌ يَدُلُّ عَلَى الرِّقَّةِ وَالْعَطْفِ وَالرَّأْفَةِ. يُقَالُ مِنْ ذَلِكَ رَحِمَهُ يَرْحَمُهُ، إِذَا رَقَّ لَهُ وَتَعَطَّفَ عَلَيْهِ. وَالرُّحْمُ وَالْمَرْحَمَةُ والرَّحْمَةُ بِمَعْنًى"مقاييس اللغة (2/498)..
-
الرحمة في الاصطلاح:
قال الجاحظ معرّفًا الرحمة: "الرّحمة خلق مركّب من الودّ والجزع، والرّحمة لا تكون إلّا لمن تظهر منه لراحمه خلّة مكروهة، فالرّحمة هي محبّة للمرحوم مع جزع من الحال الّتي من أجلها رُحم"تهذيب الأخلاق، (ص 20)..
وقال ابن القيم: "الرحمة صفة تقتضي إيصال المنافع والمصالح إلى العبد وإن كرهتها نفسه وشقت عليها"إغاثة اللهفان (2/174)..
ويذكر الشريف الجرجاني تعريف الرحمة بأنها: "إرادة إيصال الخير"التعريفات (1/110)..
ويعرّفها أبو البقاء الكفوي بقوله: "هِيَ حَالَة وجدانية تعرض غَالِبا لمن بِهِ رقة الْقلب"الكليات (1/471)..
أما ابن عاشور فيعرّف الرحمة بقوله: "رقة في النفس تبعث على سَوق الخير لمن تتعدى إليه"التحرير والتنوير (26/24)..
-
الرحمة خلق عظيم من أخلاق المسلم:
الرحمة خلق وصفة صبغ المسلم عليها، فتراه رحيمًا مع أسرته، رحيمًا في نصحه ودعوته، رحيمًا في تعاملاته، ورحيمًا حتى في جهاده.
كيف لا يكون المسلم رحيمًا وقد علم أن الله هو الرحمن الرحيم الذي وسعت رحمته الخلائق كلها، وهذا ما شهد به على ذاته جل جلاله: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}[الحجر: 49]. ليس هذا فحسب، بل أوجب على نفسه الرحمة: قال تعالى: {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ}[الأنعام: 12]. وقال سبحانه: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ}[الأنعام: 54]. وشهدت بهذا الملائكة: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ}[غافر: 7].
كيف لا يكون المسلم رحيمًا والقرآن الذي يلتزم بتعاليمه وتشريعاته وأحكامه رحمة، قال تعالى: {حم ♦ وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ ♦ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ ♦ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ♦ أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ♦ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}[الدخان: 1-6]. وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ♦ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}[يونس: 57، 58].
كيف لا يكون المسلم رحيمًا وقد سمع الحديث عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا مَنْ فِي الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ، الرَّحِمُ شُجْنَةٌ مِنَ الرَّحْمَنِ، فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلَهُ اللَّهُ وَمَنْ قَطَعَهَا قَطَعَهُ اللَّهُ)سبق تخريجه..
كيف لا يكون المسلم رحيمًا ونبيه الذي صدّق برسالته موصوف من الله بأنه رحمة، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}[الأنبياء: 107].
-
الرحمة في خلق المجاهد:
الجهاد في سبيل الله لا يعني الوحشية والتجرّد من الإنسانية، والتفلّت من التكاليف الشرعية، بل هو عبادة من العبادات، وهو ذروة سنام الإسلام، وفيه تتجلى الكثير من معاني وأخلاق الإسلام السامية التي يجب على المسلم أن يتحلّى بها، وللجهاد تشريعات خاصّة به تضبط الغاية منه، وتحدّد الطريق الصحيح لتحقيقها دون ظلم أو شطط.
وقد كان إمام المجاهدين رسولنا محمد صلى الله عليه وسلّم: القدوةَ الحسنة والمثالَ المحتذى في تطبيق تشريعات الإسلام الخاصّة بالجهاد،
ومن أمثلة رحمته بالمجاهدين:انظر مقال (رحمة النبي في الجهاد) لراغب السرجاني، موقع قصة الإسلام: https://islamstory.com/ar/artical/362/%D8%A7%D9%84%D8%AC%D9%87%D8%A7%D8%....
- حرصه على راحة الجيش: فعن جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ فِي رَمَضَانَ، فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ كُرَاعَ الْغَمِيمِ فَصَامَ النَّاسُ مَعَهُ، فَقِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ النَّاسَ قَدْ شَقَّ عَلَيْهِمُ الصِّيَامُ، فَدَعَا بِقَدَحٍ مِنْ مَاءٍ بَعْدَ الْعَصْرِ فَشَرِبَ وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ، فَأَفْطَرَ بَعْضُ النَّاسِ وَصَامَ بَعْضٌ، فَبَلَغَهُ أَنَّ نَاسًا صَامُوا فَقَالَ: أُولَئِكَ الْعُصَاةُ)أخرجه الشافعي في مسنده (621) وهذا لفظه، وأصله في صحيح مسلم (1114)..
- بكاؤه على أصحابه إن أصيبوا أو قتلوا: عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا جَعْفَرٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَأُصِيبَ -وَإِنَّ عَيْنَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَتَذْرِفَانِ- ثُمَّ أَخَذَهَا خَالِدُ بْنُ الوَلِيدِ مِنْ غَيْرِ إِمْرَةٍ فَفُتِحَ لَهُ)صحيح البخاري (1246)..
- إعفاؤه الضعفاء من القتال: روى الحسين بن علي رضي الله عنهما أنّ رجلا جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: إني جبان وإني ضعيف. فقال: (هلمَّ إلى جهاد لا شوكة فيه: الحج)رواه الطبراني في الأوسط (4287)، والكبير (2910) قال الهيثمي في مجمع الزوائد (3/206): رجاله ثقات. وصححه الألباني في صحيح الجامع (7044). وقول الصحابي: "إني جبان" تفسّره الرواية الأخرى في مسند سعيد بن منصور (2342)، وفيها أنّه قال: "وَإِنِّي شَيْخٌ كَبِيرٌ عَلِيلٌ لَا قُوَّةَ لِي فِي نَفْسِي وَلَا ذَاتِ يَدِي"..
- منعه النساء والأطفال من الخروج للجهاد: عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ، نَرَى الْجِهَادَ أَفْضَلَ الْعَمَلِ ، أَفَلَا نُجَاهِدُ؟ ، قَالَ: (لَا ، لَكِنَّ أَفْضَلَ الْجِهَادِ حَجٌّ مَبْرُورٌ)صحيح البخاري (1423)..
وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (عُرِضْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَ بَدْرٍ، فَلَمْ أُقْبَلْ وَأَنَا ابْنُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَعُرِضْتُ عَلَيْهِ يَوْمَ أُحُدٍ وَأَنَا ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ فَلَمْ أُقْبَلْ، وَعُرِضْتُ عَلَيْهِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ وَأَنَا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ فَقُبِلْتُ)رواه بهذا اللفظ أبو داوود الطيالسي (1970) وغيره، وأصله في الصحيحين، ينظر: البخاري (2521)، ومسلم (1868)..
- رعايته أسر المجاهدين: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَدْ غَزَا، وَمَنْ خَلَفَهُ فِي أَهْلِهِ بِخَيْرٍ فَقَدْ غَزَا)متفق عليه: البخاري (2843)، ومسلم (1895)..
وكان -صلى الله عليه وسلم- يتفقد بنفسه شؤون أقارب الشهداء والمجاهدين، من ذلك ما رواه أنس -رضي الله عنه- من أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- لَمْ يَكُنْ يَدْخُلُ بَيْتًا بِالْمَدِينَةِ غَيْرَ بَيْتِ أُمِّ سُلَيْمٍ إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِ، فَقِيلَ لَهُ فَقَالَ: (إِنِّي أَرْحَمُهَا، قُتِلَ أَخُوهَا مَعِي)متفق عليه: البخاري (2844)، ومسلم (2455). وقال النووي: " قد قدمنا في كتاب الجهاد عند ذكر أم حرام أخت أم سليم أنهما كانتا خالتين لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- محرمين إما من الرضاع وإما من النسب، فتحل له الخلوة بهما"..
وأما عن رحمته عليه الصلاة والسلام بالأعداء فتشمل أمورًا كثيرة من أهمّها:
- تحديد الهدف والغاية من قتالهم، فليس الجهاد لسلب الأموال ولا الاستيلاء على الأرض، ولا لمجّرد القهر والغلبة، بل لإزاحة من يقف عائقًا أمام نشر الإسلام، ويمنع وصوله إلى الناس، ولذا كانت وصيته لعلي -رضي الله عنه- وهو ذاهب لحرب يهود خيبر: (علَى رِسْلِكَ، حَتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الإِسْلاَمِ، وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ، فَوَاللَّهِ لَأَنْ يُهْدَى بِكَ رَجُلٌ وَاحِدٌ خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ)صحيح البخاري (2942)..
وقوله: (وإذا لقيت عدوك من المشركين، فادعهم إلى ثلاث خصال -أو خلال- فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم، وكُفّ عنهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك، فاقبل منهم، وكُفّ عنهم، ... فإن هم أبوا فسلهم الجزية، فإن هم أجابوك فاقبل منهم، وكُفّ عنهم، فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم)صحيح مسلم (1731)..
- وصية المجاهدين بعدم التعرض لغير المقاتلين، ومن ذلك وصيته لأصحابه بالتزام آداب الإسلام وعدم هدر ما لا حاجة إلى هدره، فعن بريدة -رضي الله عنه- قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمّر أميرًا على جيش، أو سرية، أوصاه في خاصته بتقوى الله، ومن معه من المسلمين خيرًا، ثم قال: (اغْزُوا بِاسْمِ اللهِ فِي سَبِيلِ اللهِ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللهِ، اغْزُوا وَلَا تَغُلُّوا، وَلَا تَغْدِرُوا، وَلَا تَمْثُلُوا، وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا...)صحيح مسلم (1731)..
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلم قال: (انْطَلِقُوا بِاسْمِ اللَّهِ وَبِاللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ، وَلَا تَقْتُلُوا شَيْخًا فَانِيًا وَلَا طِفْلًا وَلَا صَغِيرًا وَلَا امْرَأَةً، وَلَا تَغُلُّوا، وَضُمُّوا غَنَائِمَكُمْ، وَأَصْلِحُوا وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)سنن أبو داود (2614)..
ولقد تعاقب المسلمون على التزام هذه الوصايا، فهذا الصدّيق -رضي الله عنه- لمّا بعث الجيوش إلى الشام أوصاهم فقال: "أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ، اغْزُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَقَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللهِ، فَإِنَّ اللهَ نَاصِرٌ دِينَهُ، وَلَا تَغُلُّوا، وَلَا تَغْدِرُوا، وَلَا تَجْبُنُوا، وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ، وَلَا تَعْصُوا مَا تُؤْمَرُونَ."السنن الكبرى للبيهقي (18125)..
وكذا كانت وصيّة الفاروق عمر رضي الله عنه، فعَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ، قَالَ: كَتَبَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "لَا تَغُلُّوا، وَلَا تَغْدِرُوا، وَلَا تُمَثِّلُوا وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا، وَاتَّقُوا اللَّهَ فِي الْفَلَّاحِينَ الَّذِينَ لَا يَنْصُبُونَ لَكُمُ الْحَرْبَ"سنن سعيد بن منصور (2625)..
ليس هذا فحسب، بل وبالرحمة أوصى من بعدهم، فقد أخرج مالك في الموطأ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِالْعَزِيزِ كَتَبَ إِلَى عَامِلٍ مِنْ عُمَّالِهِ أَنَّهُ بَلَغَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ إِذَا بَعَثَ سَرِيَّةً يَقُولُ لَهُمُ: (اغْزُوا بِاسْمِ اللَّهِ. فِي سَبِيلِ اللَّهِ، تُقَاتِلُونَ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ، لَا تَغُلُّوا، وَلَا تَغْدِرُوا، وَلَا تُمَثِّلُوا، وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا) وَقُلْ ذَلِكَ لِجُيُوشِكَ وَسَرَايَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَالسَّلَامُ عَلَيْكَ"الموطأ (2/448)..
وأيّ رحمةٍ تلك التي دفعت بالنبي -عليه الصلاة والسلام- أن يعفو ويصفح عن أهل مكة وهم الذين آذوه نكّلوا بأصحابه، وعذبوه وعذبوا أصحابه، أخرجوه من بيته وأخرجوا أصحابه... ثمّ كان العفو منه؟!
الجهاد لم يكن للتشفي والانتقام وحب القتل، بل شُرع ردًّا للاعتداء ومنعًا للظالمين من ظلمهم فقال تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ}[الحج: 39].
وقد تواترت أخبار الرحمة في جيوش المسلمين حتى اشتهرت هذه العبارة عنهم (ما عرف العالم فاتحاً أرحم من المسلمين)، وذلك لأنهم حين فتحوا البلاد: حرروا العباد من الطغاة المستبدين، وكان العدل أساسًا لحكمهم، والرحمة صفة مميزة لجيوشهم.
-
الرحمة المذمومة:
في مقابل هذه الرحمة الممدوحة المطلوبة، هناك رحمة مذمومة ممجوجة، كالرحمة في المواطن التي تحتاج إلى شدة، وكذا عندما تكون في غير أهلها. كما في الرحمة بحق من يستحق حدّا جزاء جناية، قال الله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}[النور: 2]. وهذه الرحمة والرأفة في غير موضعها كانت سببًا لغضب النبي صلى الله عليه وسلم، ففي الحديث عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ المَرْأَةِ المَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ، فَقَالُوا: وَمَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالُوا: وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلَّا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ، ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ، أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الحَدَّ، وَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا)متفق عليه: البخاري (3475)، ومسلم (1688)..
يقول ابن تيمية: "إنَّ دين الله هو طاعته، وطاعة رسوله، المبني على محبَّته ومحبَّة رسوله، وأن يكون الله ورسوله أحبَّ إليه ممَّا سواهما، فإنَّ الرَّأفة والرَّحمة يحبُّهما اللَّه ما لم تكن مضيِّعةً لدين الله"مجموع الفتاوى (15/290)..
وكذا من الرحمة في غير موضعها وإلى غير أهلها: الرحمة بالعدو الكافر المحارب، ولقد نهى الله تعالى عن ذلك فقال: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ♦ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}[الممتحنة: 8،9].
لكن هذه الشدة لا تعني الظلم أو التعامل غير المشروع، بل تعني عدم التهاون في إقامة العدل وتطبيق الحق.
-
الغلظة:
في مقابل الرحمة تأتي الغلظة، وهي خلق ذميم، لا يجلب إلا الشرّ الكبير على أصحابه المتخلّقين به، ولا يولّد إلا الكراهية والنفور في المجتمع.
والغِلظة ضدّ الرّقّةِ في الخَلْق والطبْعِ والفِعْل والمَنْطِق والعيْش ونحو ذلك، ورجل غليظ: فظٌّ فيه غلظة، وذو غلظة: أي ذو فظاظة وقساوة وشدة، وفي التنزيل العزيز: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}[آل عمران 159]. وبينهما غلظة ومغالظة أي: عداوة، وأَمر غَلِيظٌ: شَدِيد صَعْبانظر لسان العرب، مادة: غ ل ظ..
وغِلَظُ القلب: "قساوته، وقلة إشفاقه، وعدم انفعاله للخير"فتح القدير للشوكاني، (1/451)..
-
الغلظة منهج الخوارج والغلاة:
على الرغم من كثرة التوجيهات النبوية التي تأمر المسلمين بالرفق والرحمة وتؤكّد أهميتهما في أحاديث كثيرة، تجنح فرقة الخوارج نحو الشدة والغلظة، مبتعدة عن هذه التوجيهات، ضاربة بها عُرض الحائط، وتؤسس نظامًا جديدًا في التعاملات قائمًا على الغلظة والقسوة والعنف، ولا تكتفي بذلك، بل إنها ترمي الذين يأمرون بالرفق والرحمة والتسامح بالكفر والبدعة وموالاة أعداء الله!
ومن أولى نماذج الغلظة عند الخوارج في التاريخ: تصرّف ذي الخويصرة مع النبي صلى الله عليه وسلم، حيث أساء الأدب معه، وقدح بعدالته بأسلوب فجّ، فقد روى الشيخان عن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: (بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ يَقْسِمُ قِسْمًا، أَتَاهُ ذُو الْخُوَيْصِرَةِ -وَهُوَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍلا يعدّ ذو الخويصرة التميمي من الصحابة؛ ذلك لأنه رأس الخوارج، وصاحب بدعة، وقد عدّه كثير من أهل العلم من المنافقين؛ لأنه من الذين نزل فيهم قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ}، ولأن عمر -رضي الله عنه- وصفه بالنفاق ولم ينكر عليه النبي -صلى الله عليه وسلّم- ذلك، فضلًا عمّا جاء في وصفه في أحاديث كثيرة منها: (يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ، يَقْتُلُونَ أَهْلَ الإِسْلاَمِ وَيَدَعُونَ أَهْلَ الأَوْثَانِ، لَئِنْ أَنَا أَدْرَكْتُهُمْ لَأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ) رواه البخاري.فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اعْدِلْ، فَقَالَ: "وَيْلَكَ! وَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَعْدِلْ ؟! قَدْ خِبْتَ وَخَسِرْتَ إِنْ لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ، فَقَالَ عُمَرُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ، ائْذَنْ لِي فِيهِ فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ، فَقَالَ :" دَعْهُ فَإِنَّ لَهُ أَصْحَابًا يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ، وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ، يَقْرَؤونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ، آيَتُهُمْ رَجُلٌ أَسْوَدُ إِحْدَى عَضُدَيْهِ مِثْلُ ثَدْيِ الْمَرْأَةِ أَوْ مِثْلُ الْبَضْعَةِ تَدَرْدَرُ (أي تضطرب) وَيَخْرُجُونَ عَلَى حِينِ فُرْقَةٍ مِنْ النَّاسِ)متفق عليه: البخاري (3610)، ومسلم (1064)..
ومن ذلك أيضًا ما جاء في قصة مقتل خبّاب بن الأرت رضي الله عنه، قال الحافظ ابن حجر: "فاستعرضوا الناس (أي: الخوارج) فقتلوا مَن اجتاز بهم من المسلمين، ومرَّ بهم عبد الله بن خبّاب بن الأرتّ وكان واليًا لعليٍّ على بعض تلك البلاد ومعه سريَّةأي: أمَة. وهي حامل فقتلوه وبقروا بطن سريته عن ولد، فبلغ عليًا فخرج إليهم في الجيش الذي كان هيأه للخروج إلى الشام، فأوقع بهم بالنهروان ولم ينجُ منهم إلا دون العشرة ولا قتل ممن معه إلا نحو العشرة."فتح الباري (12/284)، وانظر: مصنف بن أبي شيبة (7/560)، ومسند أحمد (21064)..
-
لماذا تلجأ تنظيمات الغلو إلى الشدة والغلظة؟
حاول الخوارج أن يوجدوا لأفعالهم وأخلاقهم السيئة مبررات شرعية، فنقّبوا في الكتب عما يمكن أن يفسّروه بأفهامهم على أنه دعوة إلى التقتيل والتشريد والتغليظ، فكانت لهم محاولات كثيرة لاقت قبولًا من أنصاف المتعلمين وأصحاب الأمراض النفسية المتعطشة إلى الدماء والاستعلاء على الآخرين والتحكم بالضعفاء، ويرجع تشريع الغلظة والشدة في عصرنا الحديث إلى شخصيتين رئيستين محبوبتين عند أهل الغلو، الأول هو أبو عبد الله المهاجر المصري الذي يقرّر في كتابه (مسائل من فقه الجهاد) أنّ البلاد الإسلامية هي دار كفر، ويجب الهجرة منها، وأنّ الإسلام لا يفرق بين مدني وعسكريمسائل من فقه الجهاد، (ص 139).، وأنّ ما في القتل وقطع الرؤوس من الشدة والترهيب مقصود في ذاته، وهو أمر محبوب عند الله ورسوله صلى الله عليه وسلّمالمصدر السابق، (ص269)..
والثاني هو أبو بكر ناجي صاحب كتاب (إدارة التوحش أخطر مرحلة ستمر بها الأمة) الذي يقرّر فيه أنّ الجهاد شدّة وغلظة وإرهاب وتشريد وإثخان، وقد عقد فصلًا في كتابه أسماه: "اعتماد الشدة"إدارة التوحش، (ص31).، وقد قرّر في كتابه هذا أّنّ من الأهداف المرتبطة بالشدة: القيام بعمليات عسكرية من مثل عمليات نيروبي ودار السلام عام 1998 وعملية نيويورك وواشنطن عام 2001، والقصد منها إسقاط جزء من هيبة العدو، وبثّ الثقة في نفوس المسلمين من جهة، إضافة إلى استدراج جيوش الأعداء للمنطقة من جهة ثانية!يقول الدكتور غازي التوبة في نقد هذه الأهداف في مقاله: قراءة في كتاب "إدارة التوحش" لـ "القاعدة": "من خلال تقويم الهدف الأول وقعت "القاعدة" في خطأين: شرعي وكوني، أما الشرعي فهو أنها جهلت كيف يمكن أن تبني الثقة في نفوس المسلمين، وكيف يمكن أن تسقط هيبة العدو، وأما الكوني فهو استخدام العمليات العسكرية في غير مجالها الذي يجب أن تستخدم فيه، وهو: إضعاف العدو، وتدمير قواته، وقتل قياداته، وتخريب منشئاته العسكرية، وتحرير أراض منه ... إلخ وأضاف: وتلجأ التنظيمات المتطرفة إلى هذه الاستراتيجيات لأنها تحقق رصيدًا كبيرًا من الفوضى وعدم الاستقرار، وهي " لا تستطيع إقامة مشروعها بنفسها، وأنه غير قابل للوجود في المجتمعات المستقرة؛ لذا تبحث في المجتمعات التي تنهار السلطة فيها، أو تضعف، أو توجد فيها حروب، كأفغانستان، والعراق، والصومال، وموريتانيا وغيرها؛ لتنشئ مشروعها، فتتسلل إلى هذه المناطق، وتحاول بناء شعبية في كنف الجماعات الأخرى ثم تنقلب عليها." ويُرجع بعض الباحثين جنوح تنظيم داعش إلى الشدة والغلظة إلى انضمام الكثير من البعثيين في صفوفه بدءًا من مرحلة خليفتهم الأول (أبي عمر البغدادي) أمير ما يسمى (دولة العراق الإسلامية) إلى مرحلة (أبي بكر البغدادي) أمير خلافتهم الحالية، وتنظيم داعش يريد تأسيس دولته، وإنه يحتاج إلى ترسيخ قبضته على الأراضي التي يسيطر عليها وإلى زيادة عدد المؤيدين له والطامحين إلى العيش في دولته، ولذلك فإنه يلجأ إلى القسوة والوحشية لتحذير أعدائه". ينظر باقي المقال على موقع على بصيرة، http://alabasirah.com/node/681..
ولا شك في أنّ مثل هذه التصرّفات التي تصدر من تنظيمات الغلاة التي تدّعي الانتماء إلى الإسلام: يؤدّي إلى تشويه صورة الإسلام الصحيح وتنفير الناس منه، وصبغه بالإرهاب والتخلّف والدماء، ويؤدّي إلى الفرقة والتنازع بين المسلمين، واستعداء الكفّار عليهم، وإيجاد المبررات لدول الاستبداد والظلم وساداتهم من الدول العظمى للقضاء على ثورات الشعوب التي تنشد الحريّة والكرامة والسلام وتحقيق عمارة الأرض والاستخلاف فيها كما يريد الله تعالى.
من صور الغلظة عند الغلاة:
-
الغلظة مع الوالدين والأقربينانظر بحث: قتل الأهل والأقارب عند تنظيم الدولة للشيخ إبراهيم السكران، موقع على بصيرة، http://alabasirah.com/node/256:
لقد أمر الله عزَّ وجلَّ عباده بأنْ لا يَعبدوا إلا إيَّاه، وعطف على الأمر بتوحيده الإحسانَ بالوالدينِ، ونهَى عن قول (أفّ) لهما والتضجر منهما، إكرامًا لهما وتبيانا لمكانتهما، يقول تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}[الإسراء 23]
إلا أنّ تنظيم داعش لا يعطي اعتبارًا لأب أو أمّ أو قريب، ولا يلتفت إلى الروابط الأسرية، ويدعو إلى التحلل منها، بل إنه دعا غير مرة إلى إعمال السيف في البيت الواحد، وقد استجاب بعض مرضى القلوب لهذه الدعوات الهمجية، من ذلك ما أفاده المرصد السوري لحقوق الإنسان وشبكة بي بي سي في كانون الثاني 2016، من أنّ أحد مسلحي تنظيم داعش (علي صقر) أقدم على قتل والدته (لينا القاسم) أمام الملأ، تنفيذًا لحكم إعدام أصدره التنظيم بحقها، لأنّها طالبته بترك العمل مع التنظيم!
وفي إصدار مرئي للتنظيم أعدّه ما يسمى (المكتب الإعلامي لولاية بركة) دعا فيه مناصريه في السعودية إلى البراءة من أهلهم وذويهم، وتضمّن الإصدار تحريضًا صريحًا على قتل الأقارب والأهل بدعوى النصرة، وتطبيق الولاء والبراء، وقد كانت هناك استجابة من بعض جهالهم، فقد شهد الخليج حوادث لقتل ذوي القربى، تنفيذا لتعليمات تنظيم داعش.
ففي السعودية حدثت جريمة مفجعة نفذها التوأمان: (خالد) و(صالح) ابنا (إبراهيم بن علي العريني)، في جمادى الثانية 1437 /حزيران 2016م إذ أقدما على قتل والدتهما (67 عاماً) طعناً بساطور وسكاكين حادة، ومحاولة قتل والدهما (73 عاماً) وشقيقهما سليمان (22 عاماً)، بطعنات عدة، أُدخلا على إثرها قسم العناية المركزة في أحد المستشفيات. وأعلنت الداخلية السعودية بحسب بيان لها، ثبوت اعتناق مرتكبي الجريمة (خالد) و(صالح) المنهج التكفيري.
وتزامنًا مع فاجعة السعودية، كانت هناك حادثة أخرى في الكويت، حيث نحر مواطن كويتي في العشرينات من عمره أخاه، وبحسب التحقيقات فقد اتهم الجاني شقيقه المجني عليه بـ(الإلحاد)، مبرّرًا أنّ ما دفعه لارتكاب جريمته هو أن شقيقه لم يكن يؤدي الصلوات، ولا يبالي بالصوم، وذلك حسب ما ذكرته صحيفة (الأنباء) الكويتية.
وفي رمضان 1436هـ/ تموز 2015م، بادر مطلوب أمني بإطلاق النار على والده خلال عملية دهم أحد المنازل التي كان يتحصن بها، وذلك في محافظة خميس مشيط (جنوب السعودية). وبعد هذا الحادث بيومين، أقدم مراهق على قتل خاله، الذي يعيش في كنفه مع والدته بأربع رصاصات و10 طعنات، ثم فجّر نفسه بالقرب من نقطة تفتيش أمنية بمنطقة الرياض. وذلك حسب ما ذكرته صحيفة (الحياة).
هذا الاعتداء على الرحم وذوي القربى من الأهل والأصدقاء يرجع إلى أنّ تنظيم داعش يرى أنّ قتل الأقرباء تطبيق عملي للولاء والبراء، وأنّ التعامل مع المرتدّين في نظره تحكمه قاعدتان، هما: عدم التفريق بين الطائفة والأعيان، وتقديم قتال المرتد على الكافر الأصلي، "والحقيقة أن هاتين القاعدتين لم يكتفِ بإعلانهما نظريًّا فقط، بل نصّ أيضًا على تفعيلهما وتطبيقهما في ذات هذه المسألة، ... مسألة تكفير واستباحة دم عوام المسلمين العاملين في المؤسسات العسكرية والأمنية"قتل الأهل والأقارب عند تنظيم الدولة للشيخ إبراهيم السكران، موقع على بصيرة، http://alabasirah.com/node/256.
وقد صدق في خوارج اليوم ما قاله (ابن كثير) عن خوارج الماضي: "ولم يتركوا طفلًا ولا طفلة، ولا رجلًا ولا امرأة، لأنّ الناس عندهم قد فسدوا فسادًا لا يصلحهم إلا القتل جملة"البداية والنهاية، (10/584-585)..
وتؤكد منهجهم هذا فتاواهم الكثيرة التي تحضّ على قتل الأبرياء، ومن ذلك فتوى أبي قتادة الفلسطيني التي أباح فيها قتل النساء والأطفال، وطبقتها جماعة (الجيا) في الجزائر، يقول أبو قتادة في فتواه: "تبين لنا... جواز قتل الذرية والنساء توصّلًا لقتل الكفار المقاتلين، فهل يجوز قتل الذرية والنساء توصّلًا لإحياء مسلم ودفعًا لهتك عرض المسلمة؟ من المعلوم شرعًا أنّ إحياء المسلم أعظم شأنًا من قتل الكافر، فدفع المفاسد وإبطالها خير من جلب المنافع، وقتل المسلم مفسدة عظيمة، أما قتل الكافر فمصلحة"! وينتهي في فتواه بقوله: " بهذا يتبين أنّ ما فعلته الجماعة الإسلامية المسلحة من تهديد ذرية ونساء المرتدين بالقتل من أجل تخفيف وطأتهم على النساء والمساجين والإخوان هو عمل شرعي لا شبهة فيه""جواز قتل الذرية والنسوان درءًا لخطر هتك الأعراض وقتل الإخوان"، أبو قتادة الفلسطيني، مجلة الأنصار الجزائرية العدد (90)، ص (12)..
-
الغلظة في الدعوة والمعاملات:
وهذه الغلظة في الدعوة والتعاملات راجعة إلى النظرة الاستعلائية لدى هذه التنظيمات، فهي تعتبر نفسها على حق وجميع الناس على باطل، وأنّ جميع من لا ينضوي تحت رايتهم من أجل القتال مرتكب لكبيرة القعود عن الجهاد، هذا في حال حكموا عليهم بالإسلام!
لقد تحكّمت تنظيمات الغلاة بحياة الناس وفرضت وجودها عليهم، وأصدرت مجموعة من القرارات التي قيّدت حركة الأهالي في تنقلاتهم وحياتهم اليومية، ابتداء من ذهابهم إلى الأسواق والمطاعم والرحلات والمدارس، وصولًا إلى السفر.
ونذكر من تلك الممارسات التي تدل على الفظاظة إجبار تنظيم داعش المحامين والمعلمين والمنشقين من جيش النظام والذين كانوا يعملون في المؤسسات الدينية الحكومية على حضور دوراته الشرعية في محاولة لعملية (مسح الأدمغة) تحت مسمى (التوبة من الردة)، وكل من يتخلف عن الحضور أو يرفضه يقتل على اعتباره مرتدًا، وقد أصدر التنظيم في ريف درعا الغربي بتاريخ 17ربيع الآخر 1438هـ/ 16 كانون الثاني 2017م بيانًا يفرض من خلاله على الحقوقيين في المناطق الخاضعة لسيطرته الرجوع إلى مكاتب الدعوة التابعة له من أجل التوبة، وجاء في بيان جيش خالد بن الوليد التابع للتنظيم أنّ "كل من درس في كلية الحقوق أو يحمل شهادة محاماة الحضور إلى مكتب الدعوة والمساجد من أجل الاستتابة، في مدة أقصاها عشرة أيام" وقد فعل ذلك في كل مدينة و قرية دخلهاينظر: استتابة تنظيم الدولة للمعلمين، نظرة شرعية، "على موقع على بصيرة" http://alabasirah.com/node/723 .
ومن ذلك أيضا فرض عقيدة التنظيم بالقوة عن طريق رجال الحسبة الذين يتجوّلون في الشوارع ويتدخّلون في شؤون الناس ويرمونهم بالمخالفات الشرعية والجهل بالدين بطريقة سمجة ومنفّرة، ويعاقبون المخالفين بمخالفات مالية أو بالجلد أمام العامة من الناس على أبسط الأشياء، ويشترك ولي أمر المرأة بالجلد في حال مخالفتها الأوامر والقوانين المفروضة!
وقد فرض تنظيم داعش الإقامة الجبرية على جميع الناس في بعض مناطق سيطرته، مستثنيًا التجار، والمرضى الذين لا يجدون العلاج في مناطقه، معتبرًا أنّ داره دار إيمان وجميع الدور الأخرى كفر وردة.
وقد وصل الأمر بالتنظيم في تدخله بشؤون الناس وفرض نفسه بالقوة إلى إصداره بيانًا يحظر فيه تربية الحمام على أسطح البيوت، فيما أسماه ولاية الفرات الممتدة من الأنبار إلى دير الزور في سوريا، ومن يخالف الأمر يكون عرضة للعقوبة التعزيرية من غرامة مالية وسجن وجلد!هذا الأمر ناتج عن غلط فقهي لدى الغلاة، فتربية الحمام من المباحات، وأما حديث أنَّ رسولَ الله صلَّى الله عليْه وسلَّم رأى رجُلاً يتْبع حمامةً فقال: "شيطان يتْبع شيطانة" فقد قال صاحب عوْن المعبود: "إنَّما سمَّاه شيطانًا لمباعدتِه عن الحقِّ، واشتِغاله بما لا يَعنيه، وسمَّاها شيطانة؛ لأنَّها أورثتْه الغفلة عن ذكْر الله"(13/194)، وقال النووي: "اتّخاذ الحمام للفرْخ والبيض، أو الأنس، أو حمْل الكتب - جائز بلا كراهة، وأمَّا اللَّعب بها للتطيُّر، فالصَّحيح أنَّه مكروه، فإنِ انضمَّ إليْه قمار ونحوه، ردَّت الشهادة " (مرقاة المصابيح 7/2856)..
كما أن التنظيم أجبر المقيمين في مناطق سيطرته على إزالة أجهزة الاستقبال الفضائي المعروفة بـ(الستلايت) ليبقوا منعزلين في دائرته غير مطّلعين على ما يجري حولهم، وقد أصدر من خلال مكتبة (الهمّة) التابعة له مطويات ورقية ملونة، ومنشورات كبيرة ألصقها في الشوارع العامة، وعلى جدران المساجد والأسواق في المدن التي يسيطر عليها، حملت عنوان: "لماذا عليَّ أن أحطم الدش (الستلايت)"، واضعًا عشرين سبباً يستوجب إتلاف أجهزة الستلايت، مهدّدًا بمحاسبة من يخالف الأوامر بمعاقبته من قِبَل ديوان الحسبة.
ولا يخفى على أحد أنّ خطر أجهزة الاستقبال الفضائي كبير إن استخدمت دون ضوابط شرعية، وأطلق العنان لمشاهدة كل ما تجلبه من قنوات، إلا أنّ هذا لا يصيّرها مالاً غير محترم يوجب إتلافها ومعاقبة أصحابها، وقد أساء التنظيم بطريقة إنكار المنكر بهذا أيما إنكار، وتعدّى وظلم.
-
حرف براءة الأطفال وتعليمهم العنف:
عملت تنظيمات الغلو على حرف فطرة الأطفال عن مسارها، فلقّنتهم عقيدة الخوارج، وجنّدتهم في صفوفها، واجتثت من قلوبهم الرقّة والشفقة والرحمة، فتحول كثير من الأطفال في إماراتهم ودولهم إلى ذئاب صغيرة تهوى القتل والعنف، ويمكن ملاحظة ذلك في إصدارات خاصة بتنظيم داعش، مثل: (حدثني أبي) و (أحياني بدمه)انظر مقال: (داعش تغتال براءة الأطفال وتستخدمها في آلتها الإعلامية)، موقع: على بصيرة. http://alabasirah.com/node/490.
-
قطع الرؤوس والتمثيل بالجثث:
عمل تنظيم داعش على قطع رؤوس الرجال والنساء، سواء كانوا من سكان المناطق التي يسيطر عليها أو أجانب أو من الذين يتصدون له عسكريًّا، وشملت عمليات الذبح عسكريين وأطباء وعلماء وعمال إغاثة وصحفيين، وأشخاصًا يرى أنهم مرتدون عن الدين.
ويحرص التنظيم على تصوير مشاهد الذبح وتقديمها على أنها منهج نبوي، مشوِّها الدين الحنيف الذي جاء رحمة للعالمين، على الرغم من أنه لم يرد نص شرعي صحيح صريح يدل على جواز ذبح العدو حيًا، فضلاً عن أن يكون سنة نبوية متَّبعةانظر بحث: حكم ذبح الأعداء بالسكين، موقع بصيرة، http://alabasirah.com/node/278.
ومن أبشع المشاهد المروعة التي بثّها التنظيم كانت في إصداره الذي يحمل عنوان (صناعة الوهم) إذ قام فيه بذبح خمسة عشر شاباً سوريًّا من دير الزور في أول يوم من أيام عيد الأضحى المبارك عام 1437هـ 2016م، على طريقة ذبح الأغنام، بعد أن اتهمهم بالتجسس لصالح أمريكا.
وقد أظهر الشّريط المصوّر عملية ذبحهم داخل مسلخ مخصّص لذبح الأضاحي بطريقة بشعة، بدءًا بربط أيديهم وراء ظهورهم، ثم ذبحهم بالسّكين بكل وضوح، ثم تعليقهم بالسّلاسل الحديدية، ثم سحبهم على أرض المسلخ جثثاً هامدةانظر: (جريمة داعش النّكراء في عيد الأضحى)، موقع على بصيرة: http://alabasirah.com/node/439.
ولا يشبع التنظيم من القتل فينتقل إلى التمثيل بالجثث وإهانتها بلا رحمة أو شفقة، ومن ذلك نذكر جريمة قتل حسين السليمان (أبو ريان) أمير حركة (أحرار الشام) في مدينة (تل أبيض) تحت التعذيب بعد اعتقاله من قبل تنظيم داعش، وقد ظهرت على جثته علامات التعذيب، حيث قُطعت أذنه وأطلق الرصاص على كفّيه وقدميه.
-
قتل الرهائن:
حثَّ الإسلام على معاملة الأسير معاملة إنسانية كريمة، ويذخر التاريخ الإسلامي بالقصص التي تتحدث عن إكرام الأسير وعدم إهانته ومعاملته معاملة حسنة، وقد أوصى النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك، وسار على نهجه الصحابة والتابعون، إلا أنّ تنظيم داعش يرفض هذه الدعوة ويعتبرها إهانة له، لأنها تدل على الجبن أو المودّة للكفار بزعمه، ولذلك يقوم بإعدام أسراه بطرق تعبّر عن الحقد والإجرام.
أما فيما يخصّ الخطف فقد سار التنظيم على نهج المافيا وقطاع الطرق، فخطف أناسًا أبرياء يعملون في الصحافة والإعلام ليتفاوض مع ذويهم وحكوماتهم ويطلب الفدية منهم، ومن ذلك خطف داعش للرهينة الياباني (كينجي غوتو) وقتله وعرض مشهد القتل في إصدار بعنوان (رسالة إلى حكومة اليابان) وظهر (غوتو) بلباس برتقالي جاثيًا على ركبتيه وبجانبه رجل بلباس أسود يوجّه رسالة إلى اليابان معلنًا انطلاق (الكابوس)، ومهدّدًا بوجود جيش كامل متعطش إلى الدماء. وكذلك قامت داعش بقتل مختطف ياباني آخر هو (هارونا يوكاوا)
وقد استفاد النظام السوري من هذا المشهد أيّما استفادة، فراح يخلط الحابل بالنابل ويدّعي أن الثورة السورية هي (داعش)، وقد نقلت وكالة الأنباء السورية الرسمية عن مصدر مسؤول في وزارة الخارجية قوله: إنّ "سورية تدين بأشدّ العبارات قيام تنظيم داعش الإرهابي بذبح المواطنَيْن اليابانيَّيْن كينجي غوتو وهارونا يوكاوا".
-
• حرق الأسرى:انظر (حرق أسرى الأعداء لا يجوز، وليس سنّة تتبع)، موقع على بصيرة http://alabasirah.com/node/481.
أقدم تنظيم داعش أكثر من مرة على إحراق عدد من الأسرى بطريقة وحشية تظهر مدى إجرامه وفهمه الخاطئ للدين الإسلامي، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم نهيه عن عقوبة الحرق بالنار، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنّه قال: بعثنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بعثٍ فقال : (إن وجدتم فلاناً وفلاناً فأحرقوهما بالنار، ثم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين أردنا الخروج: إنِّي أَمَرْتُكُمْ أَنْ تُحْرِقُوا فُلاَنًا وَفُلاَنًا، وَإِنَّ النَّارَ لاَ يُعَذِّبُ بِهَا إِلَّا اللَّهُ، فَإِنْ وَجَدْتُمُوهُمَا فَاقْتُلُوهُمَا)رواه البخاري (3016)..
-
التعذيب في السجونانظر (العدل خلق عظيم لا يعرفه الغلاة)، موقع على بصيرة: http://alabasirah.com/node/687:
وبهذا الفعل يلتقي تنظيم داعش مع النظام السوري ودول الاستبداد التي تتبع سياسة التعذيب من أجل الحصول على المعلومات، وقد أدانت المفوّضة العليا لحقوق الإنسان بالأمم المتحدة (نافي بيلاي) تعميم التعذيب في سجون الأسد، معربة عن الأسف لوقوعه أيضًا في معتقلات تنظيم داعش.
وهنا نعرض شهادة (أبو صفيّة اليمني) العنصر السابق في جبهة النصرة الذي وضع في سجن تنظيم داعش وهو لا يعلم ما هي تهمته، فقد تحدث (اليمني) عن شاب كان يُعذَّب من قبل عمه المسؤول العام عن الاستخبارات في الدولة، وأضاف: كان في سجن الرجال امرأتان تهمتهما أنهما عميلتان، إحداهما علقت 13 ساعة وعُذّبت، والثانية وُضعت في الدولاب.
ويضيف اليمني بأنّ طرق التعذيب عند تنظيم داعش تختلف باختلاف الحالات، إما بالضرب في الأماكن التي قد تسبب كسوراً داخلية أو رضُوضاً قوية، مثل المفاصل وعظام الفخذ، والظهر والصدر، أو ما يسمونه بـ(الشبْح)، أو التغريق بالماء، واستخدام الدولاب والضرب من خلاله، فلكل حالة من حالات التحقيق وسيلة للتعذيب، بل قد تجتمع كل الأساليب في شخص واحد.
كما أكد أنّ السجانين داخل السجن يجرون التجارب الكيميائية على المساجين، من خلال مسؤول السجن (أبو محمد الفرنسي)، فقد جرّبوا مادتين على بعض المساجين ممن يقولون إنّهم محكوم عليهم بالإعدام، وقد كان مفعول هاتين المادتين قويًّا على بعضهم، فقد أُغمي على أحدهم مباشرة بعد شمه هذه المواد، وآخر قامت المواد بتعطيل كليتيه، وثالث قامت هذه المواد بحرق أنفه حتى أصبحت أرنبتهُ سوداء وحُرق بلعومه وصدره، ويقومون كذلك برش الغاز الخانق لإسكات المساجين من حين لآخر.
وقد وصف (اليمني) السجون بأنها عبارة عن مقابر جماعية وفردية، وأنّ حالها مزرية من الناحية الصحيّة، فالسجون رطبة جداً، وهناك من الحشرات ما يكفي لقتل فيل، ناهيك عن القمل والبراغيث التي يشهد الله أنها تعمل الجرب، على حد قوله.
وأكد (أبو صفية اليمني) أنّ التعذيب في هذه السجون تعذيب ممنهج مرتّب له مسبقًا من الناحية الإدارية، وتقوم اللجنة الشرعية بالدولة بتدريس وتلقين الفتاوى للشباب مسبقًا للردّ على من يعترض على فعلهم وعلى جواز الأمر شرعًا.
وعن الصلاة: أكّد (أبو صفية) أنّهم ينهون المساجين عن الصلاة في السجون، ومَنْ يطلب منهم الوضوء للصلاة يقال له: تيمم. موضّحًا أنّه سمع من الشيخ (أبو شعيب المصري) أحد الذين قتلهم التنظيم لانشقاقه عنه، أنّه حينما كان في سجون الرقة سمع أحدهم يقول للسجان أو المحقق: فكَّ يدي لكي أصلي -وقد كانت يده موثوقة إلى أعلى- فقال له: صلِّ قائمًاانظر مداخلة أبي صفية اليمني على قناة الجزيرة والحديث عن اعتقاله في سجون تنظيم الدولة https://www.youtube.com/watch?v=lU0y94Ysbb0.
-
تفجير المساجد والأماكن العامة:
دأبت تنظيمات الغلاة على ترويع المسلمين وقتلهم بحجة الكفر والردة عن الدين، فاستهدفت أسواقهم العامة من دون تمييز بين رجل أو شيخ أو طفل أو امرأة، واستهدفت مساجدهم سائرة على نهج الخوارج الأوائل الذين لم يراعوا حرمة دم المسلم ولا حرمة بيوت الله.
فنجد أنّ "تنظيم القاعدة" قد استهدف عددًا من المساجد في العراق، وكذلك فعلت "بوكو حرام" و"حركة الشباب الصومالية"، إلا أن "تنظيم داعش" أظهر تفنّنًا في هذه الأعمال الإجرامية وأضاف عليها الكذب والتضليل. فهو يذكر أنّ استهداف مساجد السنة هي من سياسات الروافض، إلا أنّه أيضًا يستهدف المساجد ويطبّق ذات السياسة الرافضيةانظر مقال (مكتسبات تفجير مساجد أهل السنة)، موقع على بصيرة http://alabasirah.com/node/257.
من ذلك استهدافه مسجدًا في منطقة (عسير) جنوب السعودية يوم الخميس 21 شوال 1436 هـ الموافق 6 أغسطس 2015 أثناء أداء صلاة الظهر نتج عنه مقتل 15 شخصًا، وقد تبنّى التنظيم رسمياً قيامه بهذه العملية وافتخر بها.
وكذلك قيامه في 24 تشرين الثاني 2017م بالهجوم على مسجد الروضة بمدينة العريش في محافظة شمال سيناء شمال شرقي مصر، عقب أداء صلاة الجمعة، وقد أدّى إلى مقتل 305 أشخاص، بينهم 27 طفلًا، وإصابة 128 آخرين.
وفضلا عن قتل المصلين، وانتهاك حرمات المساجد، وإحراق المصاحف، فإن هذه الأعمال ستؤدي إلى تزهيد الناس في الصلاة والمساجد والجوامع الكبيرة والمكتظة، لأنها لم تعد آمنة، وهذا –بلا شك-من السعي في خراب بيوت الله، ونقيض عِمارتها.
إضافة إلى أنّ هذه الأعمال تبرز ضعف التنظيم وخَوَره وجبنه، فهو يستهدف أماكن المدنيين بدل أن يستهدف المقاتلين والمراكز العسكرية والاستراتيجيةينظر: (مكتسبات تفجير مساجد أهل السنّة)، موقع على بصيرة http://alabasirah.com/node/257.
-
الغلظة مع النصارى:
سيطر تنظيم داعش على مساحات شاسعة من العراق وسورية، ومارس فظائع ضد النصارى والأقليات العرقية، وفرض تعاليمه المتشددة، وطبق الحدود في المناطق التي سيطر عليها وقدّمها بصورة منفرة، وبعد أن أعطى النصارى الأمان عاد وخيّرهم بين الدخول في الإسلام أو دفع الجزية أو القتل، ثم قام بتشريد الآلاف منهم وتهجيرهم والاستيلاء على بيوتهم وممتلكاتهم.
ووفقًا لصحيفة (ميرور) البريطانية، فإنّ القتل بحق النصارى في العراق كان مستمرًّا من جانب داعش، حتى بعد هروبهم إلى (نينوى) التي كانوا يظنون أنها مأوى آمن لهم.
-
الخاتمة
تميزت الشريعة الإسلامية السمحة بالرحمة، وأمرت المسلمين بالرحمة في حالتيْ سلمهم وحربهم، فكانت الرحمة بيِّنة في نشاطاتهم العامة، وظاهرة في ساحات جهادهم.
ولنا في الرسول محمد -صلى الله عليه وسلم- قدوة حسنة في الاتصاف بالرحمة وتطبيقها في جميع جوانب الحياة وأحوالها، ومن ذلك حال الحرب، فقد كان بأمّته وجنوده رحيمًا، كما تجلّت رحمته -صلى الله عليه وسلم- بغير المسلمين في أمور كثيرة، منها نهيه عن قتال غير المقاتلين، ودعوته المقاتلين للإسلام قبل البدء بقتالهم.
وفي مقابل الرحمة نجد الغلظة والشدّة التي يجنح إليها الخوارج على اختلاف مسمياتهم، وأول ما ظهر من غلظتهم: سوء أدب ذي الخويصرة مع النبي صلى الله عليه وسلم، وطريقة قتل أتباعه من الخوارج لقتل عبدالله بن خبّاب بن الأرت وسريّته دون وجه حق.
وقد سار على نهج الخوارج الأولين في الشدة والغلظة تنظيماتُ الغلو المعاصرة، الذين حاولوا أن يشرعنوا أفعالهم وأخلاقهم السيئة وأفعالهم الإجرامية، وأن يجدوا المبررات لها، فتارة يجعلونها من الإثخان في العدو، وتارة يزينونها قبيحها بأنه من البراءة من الكفر وأهله، وتارة يصرّحون بأنها السبيل لدفع العدو لمزيد من التصعيد الذي سيؤدي في النهاية لسحقه وانتصارهم!
ومن صور الغلظة والشدة التي ظهرت في أعمال تنظيمات الغلاة على اختلاف مسمياتها:
• الغلظة مع الوالدين والأقربين وقتلهم بطريقة بشعه، باعتبار أن قتل الأقرباء تطبيق عملي للولاء والبراء.
• فرض عقيدتهم بالقوة، ودعوتهم إليها بأسلوب جاف ينطوي على الاستعلاء والتكبّر.
• قهر الناس وإنزال العقوبات البدنية والمالية عليهم لقيامهم بأعمال جائزة شرعًا لكنها عند الغلاة من المحرمات، أو وقوعهم في مخالفات لا توجب حدّا ولا تعزيرًا.
• حرف براءة الأطفال وتعليمهم العنف.
• قطع الرؤوس والتمثيل بالجثث.
• قتل الرهائن.
• التعذيب في السجون.
• تفجير المساجد والأماكن العامة.
• حرق الأسرى.
• الغلظة مع النصارى.
إضافة تعليق جديد