تعليقًا على خطاب "(الظواهري)"، وردّ "(عطون)" عليه
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبيا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
يبدو أنّ أهل الشام لا يكفيهم ما هم فيه من بلاء القصف والقتل والحصار والتجويع والتهجير، حتى تصبح ثورتهم ساحةً لخلافات الغلاة ومساجلاتهم العقيمة ومراهقاتهم المقيتة، والتي لو كانت نتيجتها إصداراتٍ إعلامية وردودًا داخلية لقلنا: دعهم في سكرتهم يعمهون، وعلى فتات البيعات يتقاتلون، وحول أوهام الإمارة يختلفون. ولكنّ المصيبة أنّ نتيجة نزاعاتهم ومراهقاتهم: دماء تسيل من شبابنا البسطاء السذّج، ومصير بلاد وثورة، وشعب يتأثر ويتلطخ بفعالهم.
ولم تنس ثورة الشام وأهلها، مناكفات (العدناني) و(الظواهري) من جهة، و(البغدادي) و(الجولاني) من جهة أخرى، وما تبعها من حشود فتاوى وكتابات لمشجعي ومصفقي كل فريق، وما لحق الثورة بسببها من بلاء كبير ومصاب خطير، حتى عادت اليوم مناكفات جديدة في (القاعدة) بين أصلها وفرعها، بين (الظواهري) و(الجولاني)، وإن كنّا نرجو أن تكون هذه الخلافات سببًا لإراحة الأمّة منهم جميعًا، لكننا نعوذ بالله أن تكون سببًا لمزيد من تضييق الخناق وإلحاق الضرر بالشام وأهله.
ولقد سمع المهتمّون للرسالة المسجّلة يُنظر: تسجيل صوتي جديد لأيمن الظواهري يهاجم فيه هيئة تحرير الشام، http://alabasirah.com/node/683 ومن أهم ما جاء في هذا التسجيل الصوتي: اتهام (هيئة تحرير الشام) بعدد من الأمور، من أهمها: 1- جريمة نكث بيعة (القاعدة)! والإعلان عن كيان جديد. 2- التعتيم على أتباعها وادعاء أن ما يجري هو بموافقة قيادة (القاعدة). 3- الظلم والغدر من خلال التضييق على المبايعين للقاعدة وقتالهم، واعتقال "مهاجرات" صابرات والتحقيق مع أطفالهن. 4- قصر الجهاد على قُطر واحد، في حين أنّه جهاد أمة! 5- إظهارهم بدعة جديدة ليس لها أصل، وهي بدعة (ليس لدينا صلات خارجية)! كما تضمنت الكلمة: - نداءً لكل من في عنقه بيعة (للقاعدة) أن يثبت عليها. - وأنّ الوحدة في الشام وغير الشام غاية (القاعدة). - وأنّه لا علاقة للقاعدة بالقصف الأمريكي، وهي ليست سببًا فيه. - وأنّ (للقاعدة) منّة على (النصرة) عندما فصلت في الخلاف الكبير الذي جرى بينها وبين جماعة البدري (داعش). لـ (أيمن الظواهري) زعيم (تنظيم القاعدة)، المنعزل عن العالم، المسردب أو المتسردب في كهوفٍ لا يعلمها إلا الله، الذي يجعل من نفسه وصيًا على جهاد الأمّة وتضحياتها، ويصفه أتباعه بأنّه (حكيم الأمّة)!!.
وكذلك سمعوا لرد (عبد الرحيم عطّون)، كبير كهنة ومرقّعة (الجولاني) التي ردّ فيها على أميره الأكبر.
ولقد تضمّنت الرسالة والردّ نقاطًا تستحقّ أن نقف عندها لنبين من خلالها للشباب المخدوع بأبواق هؤلاء، ولنوضّح كذب وجهل القوم.
-
مزاوداتٌ مَقِيْتَةٌ:
لعلّ صفة وسمة "المزاودات" هي الحاضر الأكبر في خطاب الغلاة كل مرّة، ونجدها هنا كذلك في كلام (الظواهري) وردّ (عطّون)، فالأول يتّهم (هيئة تحرير الشام) وأميرها (الجولاني) بفكّ الارتباط مع القاعدة بسبب التراجع أمام الضغط الأمريكي، والثاني يرد بما يبعد هذه التهمة عن تنظيمه وأميره.
وهذه التهمة: (الرضوخ للضغط الأمريكي) لطالما اتهموا بها كل من عاب عليهم سياستهم، ورفعوا عقيرة الكبر بأنهم لا يخشون أمريكا ولا يهابونها، مع أنّهم أكثر فصيل يحسب حسابات لأمريكيا حتى يكاد يراها في منامه من الهلوسة بها!
وليس أدلّ على ذلك من شعارهم الذي يتميّزون به وهو إخفاء أشخاصهم وأسمائهم، فتجدهم يتلثّمون ولا يبدوون وجوههم، باستثناء من يقتضى الأمر ظهوره (كالظواهري) و(الجولاني)، ويستعملون أسماء مستعارة وكنى يغيرونها كل فترة، أليس هذا من الخوف من أمريكا وغيرها حتى لا يطالهم القصف؟
ليس في الخوف الذي يدفع الإنسان للحذر من الأعداء مذمّة لا شرعًا ولا عرفًا، فالمرء يخاف الأذى من عدوه بفطرته، والذي لا يخافه ويعرّض نفسه له لا يقال له شجاع بل متهور.
وقد أثبت الله الخوف لصفوة خلقه ولم يذمّهم بها، فقال عن موسى عليه السلام: {قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ}[القصص:33]، وقال عن المؤمنين: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا}[النساء:101]، وسمّيت الصلاة وقت الحرب صلاة الخوف. فليس في الخوف من العدو أي منقصة ومذمّة، بل هي من الحذر والحيطة، ونحن مأمورون بالحذر من العدو، كما قال تعالى: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا}[النساء:102].
ومن الحذر: الأخذ بالأسباب التي تدفع شر العدو، كما فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم الهجرة من التخفي والتسلل سرًّا، ولبسه الدرع في المعركة، والتمويه عن وجهته في كل معركة، ونحو ذلك.
ومن الحذر والأخذ بالأسباب: أن لا يتبع المسلم سياسة أو عملًا يذعر العدو على المسلمين، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لحذيفة يوم الخندق: (اذهب فأتني بخبر القوم، ولا تذعرهم عليّ)أخرجه مسلم برقم (99/1788)، كتاب الجهاد، باب غزوة الاحزاب.، ومعنى لا تذعرهم كما قال النووي: "أي لا تفزعهم علي ولا تحركهم علي"شرح مسلم للنووي (12/145)..
وجاء في حديث حذيفة السابق قوله: (فرأيت أبا سفيان يُصْلِي ظهْره بالنَّار، فوضعت سهما في كبد القوس فأردت أن أرميه، فذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ولا تذعرهم علي»، ولو رميته لأصبته).
فتأمل فقه وطاعة حذيفة، حيث لاح له هدف ثمين وفرصة سانحة ليقتل رأسًا من رؤوس الكفر يومها، ولكن ترك هذا المغنم والهدف طاعة لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسدًا ومنعًا لبلاء كبير يرجع على المسلمين، يغدو هذا المغنم أمامه ضئيلًا جدًا.
لكنّ هذا الفقه لم تفهمه (القاعدة) وأتباعها إلى اليوم، فيحسبون أنّ ضرب سفارة هنا، أو ضرب هدف هناك يعدّ نصرًا عظيمًا!
وإن سلّمنا بأنّه مغنم (وهو ليس كذلك بالنظر إلى النتائج والمآلات) فقد عاد بضرر لا يعلم مداه ومنتهاه إلا الله، فهل هذا إلا الحمق والتهور بعينه؟
إنّ الحذر بابٌ من التلطّف الذي أمر الله به ومدحه في سياق الحديث عن أهل الكهف، فقال: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا* إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا}[الكهف:19-20].
فالتلطف واجب لحفظ النفس والدين وهما من مقاصد الشريعة، والتهوّر بترك التلطف سيؤول إلى أن يَظهرَ العدوُّ فيرجم المسلمين ويقتلهم، أو يعيدهم في ملته ويرجعهم إلى حياة القهر والظلم.
إذن: فالخوف من العدو ليس منقصة، بل الحذر منه محمَدَة شرعية وعقلية وعُرفية، والخوف المذموم من العدو هو الخوف الذي يمنع صاحبه من جهاده ونزاله إذا حدث القتال، وهذا هو الجبن الذي نهى الله عنه، وهو مَذَمّة شرعية وعقلية، فقد ذكر القرآن سياسة المرجفين الذين يبثون الهزيمة في صفوف الجيش كما فعل المنافقون يوم أحد، فقال تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}[آل عمران: 173]، فوصف الله هذا الفعل منهم بقوله: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}[آل عمران:175].
فشتّان بين من يأخذ بالأسباب ليمنع عدوه من النيل منه، ويخاف بمعنى يحذر غدره وبطشه، وبين من يخاف من قتاله فيجبن ويولّي هاربًا.
والجهل في التفريق بين الأمرين ابتلي به الغلاة، فكثيرًا ما يجيبون -عند الحديث عن ترك تذعير العدو والأخذ بالأسباب- بإيراد آيات جاءت في سياق المنافقين ممن جبن في قتال العدو واستسلم له وظنّ بالله الظنون.
إلا أنهم في الفترة الأخيرة بدؤوا يتّبعون سياسة الحذر، لكن على عادتهم: إن جاء الحذر منهم فمحمود ومشروع، وإن جاء من غيرهم فمذموم ومبتدع! وإلا فما الذي دعا (النصرة) لتغيّر اسمها وتدخل في تحالفات مع الفصائل الأخرى إلا الهروب من شبح التصنيف واستهداف أمريكا لها؟ وهذا الأمر معروف بشهادة من عاصرهم وجالسهم في اتخاذ مثل هذه القرارات، وإن كذبوا وزعموا أنّه من أجل وحدة الكلمة والصفوف، فهم يعلمون يقينًا أنّهم غير صادقين، فكم أفشلوا وخرّبوا وحدة المسلمين من أول الثورة إلى تاريخ فك الارتباط.
ألم يقل (الظواهري) أنّه لم يكن يرغب بظهور اسم (القاعدة) في الشام حتى لا تكون سببًا في البلاء على أهلها!!؟ فلماذا اليوم صار هذا الحذر "إرضاء لأمريكا"؟ أليست (القاعدة) هي مَنْ رغبت في تغيير اسمها لتتخلص من شبح الملاحقة والتصنيف، كما ردّ بهذا (عطّون) على (الظواهري)!!؟
إنّ المزاودات الممجوجة هي مطيّة الغرور والكبر وسبيل التفرقة، وسمة أهل الغلو قديمًا وحديثًا.
-
كذب (الجولاني) على (الظواهري)
يبدو واضحًا من كلمة (الظواهري) أنّ الرجل مكلوم ومجروح من تصرف (النصرة) بترك (القاعدة)، بل ومحاربة وجودها في سوريا، وهي التي استفادت منها يومًا ما، فالرجل لم ينسَ بعدُ طعنة (البغدادي) وخروجه عن طاعته حتى تأتي طعنة (الجولاني).
وركّز (الظواهري) على عدّة نقاط في هذه الطعنة وهي:
- نكث العهد وترك البيعة.
- قتال من ينتسب للقاعدة.
وحاول (عطّون) جاهدًا أن يدفع التهمة عنهم في هذه الأمور بالخوض في تفاصيل تنظيمية وترتيبية لا تهمّ أهل الشام في شيء، وما نريد التعليق عليه هنا هو النقاط الآتية:
1. ما ذنب أهل الشام أن يتحملوا تبعات خلافات تنظيمية وحزبية؟ لقد قام أهل الشام بثورتهم
ليتخلّصوا من طاغية وظالم جثم على قلوبهم بالحديد والنار، ولينالوا حريتهم وكرامتهم، وفي سبيل ذلك خرجوا، ومن أجله جاهدوا، ولكن (الغلاة) و(القاعدة) دخلوا سوريا وامتطوا ثورتها؛ فحرقوا شبابنا وأبناءنا في أتون خلافات تنظيمية لا ناقة لهم فيها ولا جمل.
فعلى أعقاب خلاف (البغدادي) مع (القاعدة) مرّت الساحة ولا تزال تمرّ باقتتال استنزفَ خيرة أبناء سوريا، وأثّر على الثورة كلها، واستنزف قواها، ومهّد لتمكين عدوها.
وها نحن اليوم على أعتاب مرحلة جديدة من الاقتتال البيني كما يبدو، ولو كان الأمر بين رؤوسهم وأكابر مجرميهم لقلنا: اللهم أهلك الظالمين بالظالمين، ولكنّ نار خلافاتهم تحرق شبابنا وأبناءنا، وهم وإن كانوا جنودًا لهم ومغررًا بهم، لكنّنا نحرص على إنقاذهم من نيرانهم لعلهم يعودون إلى رشدهم، كما أنّ نيران خلافاتهم تحرق الثورة وأهلها وتزيد في معاناة هذا الشعب المجاهد الصابر.
فلو كان عند القوم شيء من الحياء والذوق لاستحوا أن يجعلوا من خلافاتهم مهلكة ومحرقة للأمة.
ومع أنّ أهل الشام قابلوهم بكل احترام وتقدير كما هو معروف في طبعهم وعاداتهم، وأسكنوهم في ديارهم، وقاسموهم لقمة عيشهم، وحموهم وساندوهم، فكان جزاء هذا الإحسان أن قابلوهم بالتكفير والقتل والتهجير، وملاحقتهم في أرزاقهم وأموالهم، وخاصّةِ أمورهم، حتى صار الكثير من أهل الشام يترحّم على النبّاش الأول كما يقال، أي على عهد بشار.
ثم يمنّون على أهل الشام جهادَهم، ولقد علم القاصي والداني أنّ رقعة المحرر كانت تزيد على 80% من مساحة سورية، حتى قدم هؤلاء وبدؤوا بسياساتهم الرعناء فتقلّص المحرر بفضل جهادهم وتضحايتهم ليصبح عُشر سوريا! وتهجّر المجاهدون بسببهم، وترك الكثير السلاح بسبب ظلمهم وبطشهم، فكانت جنايتهم على أهل الشام لا تقلّ عن جناية النظام ومرتزقته.
ولا ننسى أنّ هذا النظام كانوا يومًا ما من حلفائه أيام العراق، وأخبر غير واحد من رجال (القاعدة) أنّ العمل ضد النظام السوري كان ممنوعًا بحجّة أنّه يشكّل طريق إمداد لهم في العراق، وهي ذات الحجة التي لم يحاربوا بسببها إيران قطّ إلى الآن، كما فضحهم العدناني. مع أنّ هذه الحجّة لو سلّمنا بها أولى وأصدق أن تتحقق بالدول الداعمة للثورة السورية وعلى رأسها تركيا، فلماذا كان ضرب تركيا من أولى أولويات البغدادي عندما جاء إلى سوريا؟ ثم فتاوى تكفير وردّة تركيا ومن يتعامل معها كانت من المسلّمات في صفوف (النصرة)، ومدخلاً للطعن ببعض الفصائل؟ إنّ هذا ليؤكد أنّ الهدف الخفي من السكوت عن نظام الأسد وإيران ليس كما يُظهرون. وأيًا كان السبب فالمهمّ أنّ تبجحهم بقتال النظام كلام أخرق، فلولا هذا الشعب الذي ثار وقاتل لما حاربوه، بل بقوا على تحالفهم، ولا نبعد إن قلنا بعد كل هذه الأحداث: يبدوا أنّهم مازالوا على تحالفهم ولم يقاتلوه حقيقة، إلا كقتال حزب اللات لإسرائيل.
2. إنّ حقيقة ترك جبهة النصرة لتنظيم (القاعدة) كان مهزلة وكذبة لم تخف على المطّلع على القوم، فقد كان الإخراج الفني لبيان الانفكاك باهتًا، وقال الكثير يومها: هو تغيير المظهر فقط، لكنّ القوم على بيعتهم وفكرهم، وراح الكثير يرحب بالانفكاك، متوهمًا أنّ (النصرة) فكّت ارتباطها، وجاء خطاب (الظواهري) وردّ (عطّون) ليبيّن أنّه كان تمثيلًا على الناس وأنّ البيعة بقيت سرًا، لكنّ دخول (النصرة) في تحالف مع بعض الفصائل جعل الانفكاك حقيقيًا، وهذا ما أشعَل غضب (الظواهري)، وهنا حلقة مفقودة لا يفهمها إلا من عاشر القوم وعاصرهم.
فـ(الجولاني) كان يريد التخلص من ربقة (القاعدة) حسب تصريحات مقرّبين منه، فراوغ بذكاء للتخلص منها، وبكل وضوح ضحك على (الظواهري) كما ضحك على (البغدادي) من قبل.
وسبب تخلّصه منها: أنّها أصبحت عائقًا أمام طموحاته القيادية، لا سيما بعد مجيء نائب (الظواهري) وخروج بوادر انتقال القرار من يد (الجولاني)، ولهذا صارت (القاعدة) عثرة في طريقه، فقرّر التخلص منها ومن كلّ من سيعيدها.
ولقد صدق (الظواهري) وكذب (عطّون) في قضية اتخاذ (النصرة) قرارًا بإنهاء (القاعدة) ومحاربتها، يعلم هذا المقربون، وليس خلاف (النصرة) مع (أبي جليبيب) بسبب أنّه صاحب هوى، فلقد استجار من ظلمه وبطشه الحجر والشجر والمدر في درعا، وكان يزيد (الجولاني) في تقريبه وترقيته، فهل اليوم عندما أراد إعادة (القاعدة) صار مفسدًا وصاحب هوى؟!
-
جهل وتدليس:
ملئت كلمة (الظواهري) بمغالطات علمية وتدليس لبعض المسائل، وإذا كان هذا مستوى كبيرهم في العلم فما حال من دونه، وأهم هذه النقاط:
- البيعة:
لقد صوّر (الظواهري) ترك بيعته بأنّه خيانة ونكث، وحمل آيات الوفاء بالعقود عليها، وأحاديث رفع لواء الغادر عليها، وهذا استحضار للأدلة في غير مواضعها! (فالقاعدة) تقدّم بيعتها على أنّها بيعة خاصة لا عامّة، وهي بيعة على القتال إلى حين تنصيب الإمام كما يدّعون.
والبيعة كما وردت في النصوص الشرعية نوعان: فالبيعة العامّة هي بيعة الإمام على السمع والطاعة في المنشط والمكره إلا إنْ أمر بمعصية، والبيعة الخاصة: وهي بيعة على أمور بعينها.
وقد تكون البيعة الخاصة لإمام سبقت بيعته بيعة عامة، فتكون مؤكدة، كبيعة الصحابة للنبي -صلى الله عليه وسلم- على الموت يوم الحديبية، ولا خلاف في جواز هذه.
وقد تكون بيعة لغير الإمام على أمر مشروع، كالبيعة على الجهاد أو الذكر أو الدعوة، كما تفعله الجماعات الجهادية والسياسية والدعوية، ومن هذا النوع بيعة (القاعدة) والفصائل الجهادية كلها.
وهذه البيعة الأخيرة معاصرة، حدثت بعد سقوط الخلافة وانفراط عقد الأمة.
واختلف العلماء في هذه البيعات، ولعلّ خلافهم ناشئ من الخلاف في جواز إحداث جماعات إسلامية، سياسية أو جهادية.
فذهب فريق إلى بدعيّة التحزّب والتجمّع، وعليه فالبيعة بدعة وليست جائزة، وذهب فريق آخر إلى وجوبها، في حين ذهب فريق ثالث إلى جواز التجمّع على أمر مشروع ولكن من دون بيعة؛ لأنها لا تكون إلا للإمام.
وليس الغرض بحث هذه المسألة أو ترجيح القول فيها، بل الإشارة إلى أنّ أصل بيعة الجماعات والأحزاب مختلف في مشروعيته وجوازه، وهي مسألة معاصرةانظر كتاب البيعة العامة والخاصة في الإسلام ص (201) وما بعدها، للدكتور واثق وليد خماس..
ولو قلنا بجوازها وصحتها، فهي مقيدة بموافقتها لله ورسوله وتحقيقها مصلحة الأمة، بل البيعة العامة المتفق عليها مقيّدة بهذا، فكيف بهذه المختلف فيها؟.
وبناء عليه نركز على أنه:
- لا يجوز جعل الجماعة والحزب مِعْقِدَ الولاء والبراء والنصرة.
- ولا يجوز موافقتها على معصية أو ضرر للمسلمين.
- ويجوز ترك البيعة إن اقتضت مصلحة الأمة ذلك.
وحتى في مدرسة (القاعدة): لم يتفق كل شرعييها على وجوب البيعة وتحريم تركها لمصلحة أفضل، يقول الشيخ العرجانيhttps://t.me/alial3rjani/3297 العرجاني هو المعروف بأبي حسن الكويتي، وقد أوذي بسبب رفضه بغي (الجولاني) وغلوّ الغلاة، وانشق عن جماعتهم عمليًا من أيام بغيهم على (جمال معروف)، ورسميًا بعد بغيهم على (الأحرار). في قناته على التلغرام: "مسألة البيعات للجماعات من المسائل المعاصرة والتي وقع فيها الخلاف بين العلماء، وهي اجتهادية، وذهب بعض كبار العلماء إلى بدعة البيعة التي عند الجماعات، ومنهم من أجاز العهود للجماعات، وقال: من أعطى عهدًا لجماعة ورأى تركه لمصلحة شرعية فحكمه حكم اليمين، وله أن يحنث وعليه كفارة يمين، وبعضهم قال: عليه الاستغفار فقط، وحدثني من شباب خرسان بأنّ الشيخ (أبا الوليد الأنصاري) و(الشيخ مرجان سالم) وهما من مشايخ الجهاد الكبار الثقات قولهم: بأنّ البيعة عند الجماعات بدعية، والمقصود منها السمع والطاعة بالمنشط والمكره، فهي للإمام وليس للجماعات".
وأضاف: "قال الشيخ أبو يحيى الليبي: "وعليه فأرجوا أن لا تشغلوا أنفسكم كثيرًا ولا قليلًا بقضية هل بايعت أم لم تبايع؟ ولا: مَنْ هي الجماعة الشرعية في الساحة؟ ولا: "لا بد أن تبايع"، فإنّ هذا لا كبير جدوى وراءه لا واقعًا ولا شرعًا، فرصّ الصفوف وتوحيد الكلمة وتنسيق الجهود أكبر من أن يعالج بمثل هذا الطرح".
فقضية البيعات الخاصة ومنها بيعة الجماعات الجهادية ومنها بيعة (القاعدة)، تدور مع موافقة الشرع ومصلحة الأمّة، فمن رأى أنّ بيعته (للقاعدة) محرّمة لكونها جماعة منحرفة -وهذا ما ندين به- وكان قد سبقت منه البيعة قبل أن تتضح له الرؤية، فيجب عليه خلعها وتركها؛ لأنّه أشبه بمن حلف على أمر وتبيّن له حرمة فعله، ومن رآها مشروعة لكنّ مصلحة الجهاد والأمة تقتضي تركها والالتحاق بركب جماعة أخرى، ففعله جائز بل واجب إن كان يترتب على انتقاله مصلحة الجهاد والأمة، وعلى بقائه فيها فسادهما.
فليس (للظواهري) ولا (للجولاني) أن يرفعوا سيف البيعة على أتباعهما في كلّ مرة، ويستحضروا أدلة تحريم نكث العهد ووجوب الوفاء بالبيعات، فتلك للعقود والعهود التي لا تخالف الشرع ولا تجلب الضرر على الفرد والأمة.
فإمّا أنّ (الظواهري) يجهل هذا الحكم، وإما أنّه لا يرى ضرر جماعته على الأمة عامة وسوريا خاصة، والله المستعان.
- جهاد الأمة الإسلامية:
تحت هذا المسمى يمكن أن نورد بعض ما طرحه (الظواهري) من انتقادات للنصرة، وهي ذاتها التي كانت تعيب بها (النصرة) وتوجهها للفصائل الأخرى، والجميل أنّ (النصرة) اليوم تشرب بكف (الظواهري) من ذات الكأس التي سقت منها غيرها من الفصائل، وهذا الأمر الذي أثار غضب (عطّون) واستفزه، كما بدا واضحًا في كلامه.
ومما طرحه (الظواهري): أنّ الجهاد جهاد الأمة، فلا يقال جهاد أهل الشام ولا جهاد سوريا ..الخ.
وردّ عليه (عطّون) بأنّ تخصيص الشام من باب التركيز على هذا الثغر أكثر، لا باب من باب الانسلاخ عن الأمّة والإيمان بالوطنية.
ونحن نسأل (عطّون): أليس هذا ما عليه الفصائل التي اتهمتموها في دينها؟ بل أليس طرح القُطْرية والوطنية عند الكثير من باب التركيز على قضية هذا القُطر وهذا الوطن؛ لأنّه المتاح والمسموح به والممكن شرعًا وعرفًا؟ فليس في فصائل سورية من هو منسلخ عن قضايا أمته ولا من ينادي بالأمة السورية، ولا من يحارب قضايا المسلمين من غير السوريين.
ولكن إن يكن (عطّون) قد ناقض نفسه وحرّم على غيره ما أباحه لنفسه، فشيخه (الظواهري) ناقض نفسه كذلك. ولعل (عطّون) استحى أن يذكّره بها، ومنعه من ذلك تظاهره باحترامه وتقديره والتأدب معه.
ففي خلاف (الجولاني) مع (البغدادي) واحتكامهم إلى (حكيم الأمة وشيخ الجهاد الظواهري)! جاء حكمه بخروج (البغدادي) إلى العراق، وقصر عمله عليها، وببقاء (الجولاني) بسوريا وقصر عمله عليها، فلِمَ قال (الظواهري) (للبغدادي) ارجع إلى العراق؟ هل كان هذا إيماناً منه بأن الجهاد الشامي والجهاد العراقي قاصران على أهلهما؟ ووقتها: اتهم الدواعش (الظواهري) و(النصرة) بالعمل بمعاهدة (سايكس بيكو)، وكانت هذه حجة في رفض قرار (الشيخ الحكيم!) واتهامه بأنّه لم يعرف الصواب!
أوليس في التنظيم فروع قطرية تختص بقطرها وأمورهم ولا تتدخل في قضايا الفرع الآخر؟ فهل هذه مخالفة لشرع الله ولما قرره الفقهاء؟
إنّ ما قرره الفقهاء مما استدل به (الظواهري) من أنّ ديار المسلمين واحدة في وادٍ، وتأصيل مسألتنا هنا في واد آخر، فبلاد المسلمين واحدة، من حقّ كل مسلم أن يسكن حيث شاء منها، ولم يطرد السوريون أحدًا ممن جاء إليها، بل أكرموهم وقرّبوهم وصاهروهم وآثروهم بمالهم وبيوتهم.
أما قضية التأمر والتحزّب فلها مناط آخر مختلف عن هذا، فيُنظر في شروط من يُقدّم ومدى صلاحية تحقق مصلحة الأمة فيه، فعلى سبيل المثال: ليس في اشتراط أن يكون الإمام الأعظم قرشيًّا شيء من العرقية والطائفية، ولكّنه اشترط لعلة ولغاية، ولسنا هنا بصدد بحث علة تخصيص القرشية، بل لنشير إلى أنها لا تنافي ما جاء في الإسلام من أنّ الناس سواء، وأنّه لا فرق لعربي على عجمي إلا بالتقوى، ولكنّ الإمارة لها اعتباراتها الخاصة.
فإذا كانت مصلحة الجهاد تقتضي أن لا يظهر غير السوريين فليكن، ويقال لغير السوري إن كنت جئت تريد الجنة والنصرة لإخوانك فدونك الجبهات قاتل سرًا، فمن جئت تقاتل لأجله لا يخفى عليه صنيعك، وإن أحببت البقاء في سورية تعيش فيها كما يعيش أهلها فأهلًا وسهلًا، ولم يخالف في هذين الأمرين بشر قط من أهالي سوريا ولا فصائلها، ولكن أن يأتي المهاجر يريد الإمارة على أهل سوريا أو تولي القضاء فيها، أو يعقد الأحزاب والجماعات، فهنا مناط آخر للمسألة ومحل نظر مختلف تمامًا، فينظر فيه لمصلحة الجهاد والأمة ولأهل سوريا، وقصره على أشخاص معينين باعتبارات معينة يوافق الشرع وما قرره الفقهاء في هذا الباب، فمن الجهل أو التدليس أن تخلط الأبواب وتتداخل المسائل.
وتابع (الظواهري) خلطه بقوله: لو جاء خالد بن الوليد أو أبو عبيدة -رضي الله عنهما- فهل سيقول لهم أهل الشام اخرجوا؟. فهذه كسابقتها في الخلط، وجوابها كما تقدّم، فضلًا عمّا في استدعاء أمثلة من التاريخ وإسقاطها على الحاضر -مع تغاير الظروف والأحوال والملابسات والمعاني- من الخطأ في القياس والاستدلال.
وفي ردّ (عطون) اعتراف بصحة الاستدلال مع انكار وقوعه، فهو إما شريكه في التدليس وعدم التفريق والخلط بين المسائل، وإما أنّه سكت ليتقي غضبة الشيخ وأتباعه في ردّه عليه هذه المسألة؛ لأنّ السلفية الجهادية فاقت الصوفية بأضعاف في الامتثال العملي للشيخ، وإن كانت تنكرها نظريًا.
- بدعةُ "ليس لنا صلات خارجية":
جاء في رسالة (الظواهري): "ثم ما هذه بدعة: ليس لنا صلات خارجية"؟ وهو سؤال استنكاري منه، يشير به إلى خطاب (الجولاني) في إعلانه فكّ الارتباط (بالقاعدة) وتشكيل (فتح الشام)، ومما جاء فيه قوله في تعريف (هيئة فتح الشام): "وليس لها صلات خارجية"، ومقصوده أنّ هذا الكيان الجديد ليس له صلة (بالقاعدة)، فاعتبر الظواهري أنّ نفي الصلات الخارجية بدعة!!؟
ولا ندري هل قصد (الشيخ الحكيم!) البدعة بمعناها اللغوي؟ أم الشرعي؟
فإن قصد البدعة بمعناها اللغوي وهي فعل شيء لا على مثال سابق، فليست البدعة بهذا المعنى منكرة على الإطلاق، بل منها المحمود ومنها المذموم، على حسب موافقتها أو مخالفتها للشرع، وقول (الجولاني): "ليس لنا صلات خارجية" ليس فيها مخالفة لشرع الله البتة، ولا وقوعًا في محرم، فلم النكير؟
وإن قصد البدعة بمعناها الشرعي وهي: "طريقة في الدين مخترعة" كما عرّفها الشاطبي، أو جعْل ما ليس من الدين دينًا، فأين وجه البدعة بهذا المعنى في كلمة (الجولاني)؟ فهل نفي الصلات الخارجية دينًا أضافه (الجولاني)؟ إنّ التنظيمات والأحزاب في أساسها بدعة لم تكن موجودة في زمن النبوة ولا السلف ولا تاريخ الأمة إلا بعد زوال الخلافة، فكيف يجعل تركها بدعة؟؟ إلا إن اعتبر (الظواهري) أنّ الارتباط (بالقاعدة) دين يتقرّب إلى الله به، وأنّ ترك الصلة به ترك لما هو من الدين، فكان هذا الترك بدعة، كحال أهل البدع عندما تركوا معتقدات دلّت على الشريعة، وهذا الاعتقاد منهم وإن لم نسمعه صراحة من أكابرهم إلا أنّه تفوح رائحته من سياستهم وسلوكياتهم، ويتحدث به سوقتهم، ولعمر الله إن لم تكن عقيدتهم هذه بدعة فليس في الدين بدعة البتة.
على أن (الجولاني) في نفيه الصلات الخارجية كذب مرتين:
أولهما: في تدليسه على الناس ليفهموا أنّهم تركوا (القاعدة)، والحقّ أنهم كانوا على بيعتهم، وإنما تظاهروا بالترك وغيّروا الاسم، وتركوا البيعة سرية، كما كشف ذلك كلام (الظواهري) وردّ (عطّون)، وهذا من الكذب.
وثانيهما: في عموم نفيه للصلات الخارجية التي كثيرًا ما يتبجح به (الجولاني) في لقاءاته فيقول: نحن لا نتلقى الدعم من أحد، وليس لنا صلات بأحد، ويدرك كل قريب منهم -بل متأمّل لحالهم- أنّ القوم مِنْ أكبر مَنْ يتلقى الدعم الخارجي، وأنّهم مِنْ أكثر مَنْ له صلات سياسية مع الخارج، وبرهان هذين الأمرين سهل.
أما الدعم:
- فكل ما تأخذه فصائل (الموم)(الموم) تسمية لغرفة عمليات عسكرية أمنية، تشترك فيها القوى الإقليمية والدولية الفاعلة في الملف السوري، ومقرها تركيا، ومثلها (الموك) ومقرها الأردن. من غرفة الدعم، يأخذ (الجولاني) على الأقل ثلثه -ضريبة- وبعلم أمريكا وكل دول (الموم)!
- فدية صحفي واحد ممن خطفتهم جماعة (الجولاني)، ثم أطلقوهم مقابل فدية مالية، تعادل ما يتلقاه فصيل من (الموم) لأكثر من عشر سنوات، ولا تتم صفقات التبادل إلا باتصالات ولقاءات خارجية.
- المبالغ التي يتقاضاها مقابل بعض السياسات التي يقدمها ومنها ما حصل عليه مقابل معاهدة (الفوعة) الأخيرة.
ولسنا هنا بصدد ذكر موارد (الجولاني) التي تفوق ميزانية دولة مستقرة، ولا بصدد ذكر حوادث دعم دولية تلقاها، والتي قد يكون ضرر ذكرها أكبر من فائدته، بل للإشارة إلى أبواب الدعم الخارجي التي يكذب في نفيها، ويعلم كل من حوله بكذبه.
وأما الصلات السياسية:
فقد كتموها كثيرًا وحاولوا سترها، حتى فُضحوا بما لا يسعهم ستره، ومنها تواصلهم وذهابهم إلى قطر لإتمام معاهدة (الفوعة)، وتواصلاتهم وتفاهماتهم مع الأتراك في ترتيب دخول الأتراك الأخير، وبعبارة أصحّ: في الترتيب لتطبيق بنود (أستانة) التي استباحوا الفصائل بحجّتها.
ولسنا نعيب التواصل ولا تلقي الدعم الخارجي، بل نراهما ضرورة، ولكن نعيب من يكفّر الناس عليهما ويستبيح دماءهم، ثم يكون مهرولًا إليهما أكثر من غيره، وله منهما نصيب الأسد.
- شمّاعة "المهاجرين":
وهنا في سياق الحديث عن المهاجرين نريد التنبيه إلى متاجرتهم بهؤلاء المساكين، وكذبهم في قضيتهم، ودعوى قتالهم وملاحقاتهم، وهي كذبة لطالما تشدّق بها الغلاة من (داعش) و(النصرة)، واستباحوا بها دماء فصائل، واتّهموها بقتلهم واعتقال نسائهم، واليوم يسمع أتباع (الجولاني) هذه التهمة موجّهة إليهم، ولا يخفى وقعها وقسوتها على القوم كما ظهر في ردّ (عطون)؛ ليذوقوا من كأس الافتراء التي استباحوا به أعراض ودماء الفصائل المجاهدة في سورية.
وعندما افترت (داعش) على الفصائل أنّهم اختطفوا المهاجرات طالبها الكثيرون أن يسمّوا مهاجرة واحدة اعتقلت -فضلاً عن أن تكون اغتصبت- من قبل فصيل أو جندي من فصائل الجيش الحر، دون أن يجد هذا الطلب جوابًا.
وأما قتل المهاجرين فترتفع عقيرتهم بآبار (جمال معروف)يقصد بها: المقابر الجماعيّة التي عثرت عليها (النصرة) قُرب قرية (دير سنبل)، فقد عثرت على عدد كبير من الجثث ضمن آبار قديمة تعود للعصر الرومانيّ، منها عائد لعام 2011، وأخرى حديثة. وهذه الجثث بعضها عائد لعملاء وضباط وجنود كانت جبهة ثوار سوريا قبضت عليهم في بداية الثورة السورية، وأخرى عائدة لمقاتلي تنظيم "الدولة" بعد أن قُبض عليهم خلال المعارك التي دارت بين الطرفين بداية العام الحالي، وجثث حديثة عائدة لمقاتلين من جبهة النصرة اعتقلتهم "ثوار سوريا" خلال المواجهات التي دارت خلال الفترة الماضية. ينظر: الدرر الشامية http://eldorar.com/node/62796 وغيره، وكأنّ (النصرة) لا تملك آبارًا ولا معتقلات سرية، ولا ننكر وجود الآبار عند (جمال معروف) وغيره، ولكن ما زاد (جمال) في دفاعه عن نفسه أمام هذه التهمة على ما قاله (عطون) في الدفاع عن نفسه، فقد قال (عطون) وبالحرف: "وأمر آخر: لم يقم أحد بطرد أي مهاجر أو تهديده بالاعتقال لمجرّد كونه مهاجرًا، وحتى فصائل الجيش الحر لم تفعل هذا ولم تقله، خلا فصائل العمالة الواضحة ممن يتبع أمريكا بكل وضوح ووقاحة، وفطرة أهل الشام وأخلاقهم تأبى هذا. ولكن ههنا فرق -شيخنا الحبيب- بين من يفعل فعلًا شائنًا كالاحتطاب مثلًا، فإذا ما حوسب أو لوحق ينبري البعض ههنا -حاشاك- للتباكي على المهاجرين، والمهاجرون من فعله براء، وللأسف أنّ بعض هؤلاء اليوم يتدثر باسم (القاعدة) زورًا".
فبرّر أنّ التهديد والطرد ليس علته أنّه مهاجر، بل لكونه مسيئًا كما هو مفهوم كلامه، وهذه العلّة نفسها التي قتل بها (جمال معروف) بعض المهاجرين (ونذكره مثالاً وليس هو المقصود)، فهم من (الدواعش) الذين قتلوا وكفّروا من أهل سوريا، وقاتلهم (النصرة) وغيرها، والتباكي الذي يستنكره (عطّون) هو عينه الذي قامت به جماعته وشبيحتها في قتال الجيش الحر.
ولما كاد لسان (عطون) أن ينطق بالحق بأنّ فصائل الحر لم تفعل هذا، عاد للكذب والافتراء فقال: إلا فصائل العمالة الواضحة، وهذا مخرج لهم إن سئلوا: فلماذا إذن قاتلتم واتهمتم هذه الفصائل؟
ونضع سؤالاً وُضع منذ زمن ولم يجيبوا عليه: سمّوا لنا فصائل العمالة هذه، وأثبتوا عمالتها، وأثبتوا أنّها قتلت المهاجرين لأنّهم مهاجرون وتنفيذًا لأوامر خارجية؟
إنّ من يسمع تمسّحهم بالمهاجرين يخيّل إليه أنّهم مأرزهم ومأواهم، والحقيقة أنّ المهاجرين موجودون في معظم الفصائل، وحتى في فصائل الجيش الحر، ولكنّ المكنة الإعلامية للقاعدة وأذرعها المنتشرة في البلاد زيّنت لكثير من المهاجرين الالتحاق (بالقاعدة)، ونجحت (القاعدة) ولا سيما (الجولاني) باستغلال المهاجرين وإقناعهم أنّ مصيرهم مرتبط بمصير (القاعدة)، كما نجح الأسد في إقناع طائفته أنّ مصيرها مرتبط بمصيره، ولم يستفق الفريقان إلا بعد زمن، والحقّ أنّ المهاجرين أكثر من أساء لهم هي (القاعدةُ) عندما زجّتهم في خلافات مع أهل سوريا، وصدّرتهم للحكم والقضاء والإعلام، دون فهم منهم لتقاليد وعادات أهل البلد، ودون انتقاء للمهاجرين، فتلوّثت صورة المهاجرين وتشوّهت، وغطّت على الصادقين منهم، وما أكثرهم وأفضلهم.
-
غضب لجماعته فقط:
من يسمع رسالة (الظواهري) يسمع حرقة قلبه الممزوج بغضبه على معاملة (النصرة) لبعض عناصرهم الذي بقوا على بيعتهم للقاعدة، ويرى مدى حلمه الذي انتظر مرة تلو المرة وأعطى المهلة تلو المهلة؛ حتى خرج للإعلام وتكلّم.
وهنا نريد أن نقول (للظواهري): أغضبك وأقضّ مضجعك ورحت تستنفر قواميس اللغة لتستجدي عبارات التخوين والنكث والظلم والأذى، وتسوق الآيات والأحاديث لتردّ ظلم الظالم وتعيده إلى الطاعة؛ فقط من أجل أنّ (الجولاني) اعتقل بعض العناصر المبايعة لك، وأساء لزوجة أحدهم وأطفاله، بغض النظر عن حقيقة اتهام (النصرة) لهم، وبغض النظر عن ردها على هذه التهمة؟
كل هذه لاعتقال أشخاص ومن أجل منع ظهور حزبك وجماعتك؟ أين كنت يا (فضيلة الشيخ الصابر المجاهد المحتسب الحكيم!) يوم كانت جنود فرعك في الشام تداهم مقرات المجاهدين في (الفوج 46)، وقبله في جبل الزاوية؟
أين كنت يوم اقتحموا معرّة النعمان في رمضان قبيل الإفطار وقتلوا (العقيد سماحي) وهو صائم على مائد الإفطار ينتظر المغرب؟
وأين كنت يوم قاتلوا (الصقور) و(جيش المجاهدين) و(الأحرار) و(حزم) و(جبهة ثوار سوريا) و(جبهة الحق) وغيرها الكثير؟
أما سمعت باعتقال (أبي عبد الله الخولي) الذي له فضل على كل الثوار والثورة، وضحّى وقدم قبل أن تطأ رجل (الجولاني) سوريا؟
أما سمعت عن (العقاب) وجرائمه و(سجن حارم) وفظائعه؟
أما وصلتك أخبار (أبي عبد الرزاق رحّال) الذي أفضى إلى ما قدّم؟ ولا أحاديث (علي وهوب) في سجن حارم؟
أما سمعت بقتل امرأة من كفر بطيخ عند مداهمة بيت زوجها؟
ألم يصلك خبر اغتيال (الشيخ مازن قسّوم) و(قصي قسوم) و(أبو أسيد المهاجر اليمني) بل و(يعقوب العمر) أمير (النصرة) في المعرة؟
المعذرة فقد فاتنا أنّك منقطع عن العالم لمدة سنتين وعشرة شهور كما قال (عطّون)، وكل هذه حدثت في هذه الفترة، ولكن يبدو أن السرداب الذي كنت فيه لم يفتح بابه إلا عندما صار الأذى لجماعتك!
ولا يكفي قولك في نهاية الكلمة: "ونبرأ من كل ظلم تفعلونه"، فإن كنت لا تسمع ولا تدري فتلك مصيبة، وإن تدري فالمصيبة أعظم، وهذه شنشنة نعرفها من أخزم، فكل شيوخ (القاعدة) لا يتحرك لهم ساكن مهما أجرم أتباعهم إلا عندما يصل الأمر إلى حريم (القاعدة) نفسها. فسكتوا عن كل جرائم (البغدادي) في العراق، وناصروه في سوريا ودافعوا عنه دفاع المستميت، وكان سلاحه يقطر من دماء المجاهدين والثوار، حتى وقع الخلاف بين (البغدادي) و(القاعدة)، وخرج (العدناني) يقول: "عذرًا أمير القاعدة"، فكانت الجريمة التي لا تغتفر أن نال من هيبة (حكيم الأمة!)، تلك الكبيرة التي تهون دونها دماء المسلمين وتكفيرهم وتهجيرهم، فعندها بدأت ألسنة مناصري (القاعدة) في أوربا والأردن تسلق (البغدادي)، وأسقطت عنه الشرعية في مجتمع السلفية الجهادية.
وهذا السبب هو الذي جعل (الجولاني) يلين في خطابه في الرد، ويشكّل محكمة للنظر في قضية المعتقلين، وسينزل عند رأي (الظواهري) فليس هو أحمق (كالبغدادي) ليقع بما وقع به، لكنّه ذكي بما فيه الكفاية ليجعل (القاعدة) و(الظواهري) يشرقون بريقهم ويموتون غيظًا.
ويكذب (الظواهري) وأتباعه و(عطّون) في زعمهم أنّ (القاعدة) لها الفضل في حرب الدواعش، بل ناصروها وآزورها وباركوا جرائمها، وخرجت للرقة برايات (النصرة) وحمايتها هربًا من قتال الجيش الحر، وذهب جند الأقصى بعتادها وعدتها لأمها داعش بموافقة (النصرة)، ولا يزال الكثير من جنود (النصرة) وشرعييها يعتبرون الخلاف مع داعش خلافًا مستساغًا، كما قال (الجولاني): "خلاف في البيت الواحد".
والفضل لله ثم لأهل الشام بفطرتهم في كشف زيف الدواعش وكذبهم، ولولا أنّ نارهم وصلت إلى (القاعدة) لما تكلّمت عليها (القاعدة) فضلاً عن أن تقاتلها، فلا تمنّ على أهل الشام بخير لم تفعله، ولا تمنّ عليهم بمحاربة شرّ أنت من أوجده وربّاه وقتلهم به.
إنّ (القاعدة) وما تناسل منها لا ترى الأمّة إلا هي، ولا ترى مظلومًا إلا من منها، ولا ترى جريمة إلا إن وقعت عليها.
-
الغيبة والتسردب:
لقد صرّح (عطّون) بأنّ الانقطاع دام سنتين وعشرة أشهر بين (الظواهري) و(النصرة)، وهذا الانقطاع -ومثله صعوبة التواصل وجهالة الوسيط وتهمة التغيير والتبديل- أمور يعرفها كل مطّلع على أحوال الجماعة، ويدرك خطورتها وما تسببت به في الصومال والعراق وفي سوريا، وهنا لا بد لكل جندي في (القاعدة) وكل أمير فرع بل، وعلى (الظواهري) نفسه: أن يفكّروا بأي شرع وأي فقه تجوز إمرة رجل هذا حاله لجماعة جهادية أمورها دماء ومصير أمة؟ لو كان مدير شركة اقتصادية هذا حاله لأُقيل حرصًا على تحقيق الربح، فكيف بجماعة تجاهد وتمر بمراحل مصيرية ويتعلق بها مصير أمة وشعوب.
إنّ الإمارة -سواء على جماعة أو دولة أو حتى الإمامة العظمى- إنّما جعلت لينتظم عقد الجماعة والأمة بالإمام، وليكون قادرًا على النظر في مصالحها، ويصل حكمه ويده إلى برّها وفاجرها، فإذا عجز عن ذلك لسبب من الأسباب فقد سقطت إمرته لفوات معناها وزوال مقصدها.
قال الماوردي: "وأمّا القهر: فهو أن يصير مأسورًا في يد عدو قاهر لا يقدر على الخلاص منه، فيمنع ذلك عن عقد الإمامة له؛ لعجزه عن النظر في أمور المسلمين"الأحكام السلطانية ص (47)..
فجعل قهر الإمام كما لو وقع في الأسر: مسقطًا لإمامته؛ لعجزه عن النظر في أمور المسلمين، وتأمّل كلام الجويني رحمه الله تعالى: "لو سقطت طاعة الإمام فينا، ورثَّت شوكته، وَوَهَنت عدّته، وَوَهَت منَّتُه، ونفرت منه القلوب، من غير سبب فيه يقتضيه، وكان في ذلك على فكر ثاقب، ورأي صائب، لا يؤتى في ذلك عن خلل في عقل، أو عَتَهٍ وخَبَل، أو زَلَل في قول أو فعل، أو تقاعد عن نَبْل ونَضْل، ولكن خَذَلَه الأنصار، ولم تُواتِه الأقدار، بعد تقدّم العهد إليه، أو صحيح الاختيار، ولم نجد لهذه الحالة مستدركًا، ولا في تثبيت منصب الإمامة له مستمسكًا، وقد يقع مثل ذلك عن مَلَلٍ أنتجه طول مَهَلٍ، وتراخي أجل، فإذا اتفق ذلك، فقد حيل بين المسلمين وبين وَزَرٍ يستقلّ بالأمر، فالوجه: نصبُ إمامٍ مُطاع، ولو بذل الإمام المحقق أقصى ما يستطاع.
وينزّل هذا منزلة ما لو أُسِرَ الإمام، وانقطع نظره عن الأنام وأهل الإسلام، فلا يصل إلى مظانّ الحاجات أثرُ رأي الإمام، إذا لم تكن يده الطولى، ولم تنبسط طاعته على خطة الإسلام عرضًا وطولًا، ولم يصل إلى المارقين صَوْلُهُ، ولم ينته إلى المستحقين طَوْلُهُ، والإمام لا يُعْنَى لِعَيْنِهِ، ولا يَقْتَصِرُ انقطاع نظره على مُوَافَاتِهِ حينَ حَيْنِهِ"غياث الأمم ص (116-117)..
ولا أرى أصدق على (الظواهري) من عبارة الجويني: " ورثَّت شوكته، وَوَهَنت عدّته، وَوَهَت منَّتُه، ونفرت منه القلوب" وقوله: "والإمام لا يُعْنَى لِعَيْنِهِ، ولا يَقْتَصِرُ انقطاع نظره على مُوَافَاتِهِ حينَ حَيْنِهِ"؛ فمن لا تصل يده لجنوده ولا يستطيع أن يقف على كل صغيرة وكبيرة بنفسه، ولا يملك أن يردع متمردًا إلا بسوط الصوتيات، فأي إمرة هذه!!؟ فلو كان الفاروق -وحاشاه- هذا حاله لسقطت بيعته وانحلّت عقدته، فمتى يفهم جنود (القاعدة) هذه الحقيقة؟
وكيف لو أضفت لما سبق أنّ مقام الأمير في بلد الأعداء، ومقام بعض شوراه فيها، وحال الواسطة مجهول، وهذه حقيقة كان الأتباع يكابرون فيها، حتى جاءت على لسان (عطّون) في قناته من أنّهم رفضوا قرار اللجنة الثلاثية ولم يعتبروه ملزمًا لهم لأن اثنين منها في إيران.
وتلاعب إيران (بالقاعدة) واختراقها لها ليس سرًا يُفضح، فقد صرّح (أبو حفص الموريتاني) بعلاقة إيران مع (القاعدة)، وصرّح غيرُه بأنّها كانت تداوي جرحاهم، وصرح (العدناني) بأنّ (القاعدة) كانت تمنع فرعها في العراق من قتال إيران بحجة أنها طريق إمداد، فهل يبقى عند رجل له أدنى مسكة عقل أو ذرة من فهم قبول أو رضى بقومٍ هذا حالهم؟!
أخيرًا، هذه وقفة مع بعض ما جاء في كلام (الظواهري) و(عطّون) وليس القصد تتبع كل كلمة ونقطة فيها، فهذا يحتاج لتسطير كثير من الصفحات، ولكنّ القصد أنّ نسلط الضوء على إشارات فيهما، لعلها تصادف في بعض أبنائنا وشبابنا قلبًا واعيًا فيرجع لهداه ورشده.
خاص لموقع "على بصيرة" |
إضافة تعليق جديد