الجمعة 22 نوفمبر 2024 الموافق 20 جمادي اول 1446 هـ

إضاءات فكرية

من أسباب الانحراف الفكري قلة الفقه في دين الله

22 ربيع ثاني 1441 هـ


عدد الزيارات : 3800
إبراهيم بن عبدالله الزهراني


 

الدين الإسلامي مبناه على الوحي، قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ} [الأنبياء:45]، وقال تعالى: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً} [النساء: 113].

وفرض الله على الناس اتباع سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فقد دلّ القرآن على أنّ من أطاع الرسول صلى الله عليه وسلم فهو مطيع لله، كما قال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً} [النساء:80] وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 31]. فإقامة الدين على الوجه المطلوب شرعًا لا تحصل إلا بالعلم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. قال أبو حمزة البزاز: "مَن عَلِم طريق الحق سهل عليه سلوكه، ولا دليل على الطريق إلا متابعة الرسول في أقواله، وأفعاله، وأحواله"، ولذلك أمر المولى تبارك وتعالى بطلب العلم، فقال: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} [محمد:19]، وندب المؤمنين إلى التفقّه في الدين، فقال تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122]، وليس التفقّه في الدين إلا علم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وقال صلى الله عليه وسلم: (مَنْ يُرِدِ اللّهُ بِهِ خَيْراً يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ).

وللعلم بالكتاب والسنة طرقٌ وآلاتٌ من يسّرها الله له وأراد به خيرًا فَقُه في دين الله، ومن تنكّب تلك الطرق وحُرِم آلات العلم لم يعرف دينه، ومن لم يعرف دينه لا يكون فقيهًا ولا طالب فقه.

فمن طُرق اكتساب العلم: التعلّم، كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122]، وقال صلى الله عليه وسلم: (إنّما العلم بالتعلّم، والفقه بالتفقّه)، فالعلم بكتاب الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم سبيله بذل الجهد في طلبه، والأخذ من أفواه العلماء الربانيين المشهورين بالديانة، المعروفين بالستر والصيانة، الذين قد ارتقت في العلم درجتهم، وعلت فيه منزلتهم. ولا يكون العالِمُ ربّانيًا إلا إذا عَمِلَ بعلمه، قال ابن الأعرابي: "إذا كان الرجل عالمًا عاملًا معلّمًا، قيل له رباني، فإن خرم خصلة منها لم يُقل له ربّاني". وكذلك يؤخذ العلم عن الأكابر، فقد قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "لا يزال الناس بخير ما أخذوا العلم عن أكابرهم، فإذا أخذوه من أصاغرهم وشرارهم هلكوا". ولا يُؤخذ عن مبتدع ولا كذّاب ولا سفيه، كما قال الإمام مالك: "لا يُؤخذ العلم عن أربعة: سفيه يُعلن السَفَه، وإن كان أروى الناس، وصاحب بدعة يدعو إلى هواه، ومَنْ يَكذب في حديث الناس وإن كنتُ لا أتّهمه في الحديث، وصالحٌ عابدٌ فاضل إذا كان لا يحفظ ما يُحّدث به".

ومن آلات العلم: الذكاء وسرعة الفهم، فإن الإنسان إذا رزقه الله تعالى الذكاء سهل عليه طلب العلم، وعَقْلِ مسائله، وإذا لم يكن كذلك لا يستطيع أن يحقّق بغيته، قال ابن المعتز: "كما لا ينبت المطرُ الكثيرُ الصخرَ،كذلك لا ينفع البليدَ كثرةُ التعليم" وبهذا نعلم أنّ قلّة الفقه في الدين تحصل بسبب نقص الآلة، وعدم التفقّه في نصوص الوحي وسنّة الرسول صلى الله عليه وسلم بالطرق المعتبرة. فالإنسان إذا طلب العلم ممن لم ترسخ في العلم قدمه، أو كان صاحب هوى وبدعة، أو استقلّ بنفسه في الطلب، واكتفى بمطالعة الكتب، كان حريًّا ألّا يصل إلى مرتبة الفقه في دين الله، روى الخطيب البغدادي عن سليمان بن موسى قال: "لا تقرؤوا القرآن على المُصَحِّفين، ولا تأخذوا العلم من الصَّحفيين"، وروى عن عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: سألت أبي عن الرجل تكون عنده الكتب المصنّفة، فيها قول رسول صلى الله عليه وسلم، واختلاف الصحابة والتابعين، وليس للرجل بَصَرٌ بالحديث الضعيف المتروك، وبالإسناد القوي من الضعيف، فيجوز له أن يعمل بما شاء، ويتخير ما أحب منها، يفتي به ويعمل به؟ قال: لا يعمل حتى يسأل ما يُؤخذ به منها، فيكون يعمل على أمر صحيح، يسأل عن ذلك أهل العلم".

إنّ الإسلام دين يُدان به لله عز وجل، وهذا الدين لا يتم إلا بعلم مستقىً من مشكاة النبوّة، ولذلك فإنّ من الواجب على الإنسان أن يجتهد في اختيار من يأخذ عنه العلم، كما قال الإمام مالك: "إنّ هذا العلم دين، فانظروا عمَّن تأخذون دينكم".

 

بعض الآثار المترتّبة على قلة الفقه في الدين:

1. ترؤس الجهّال:

إنّ من أعظم ما تُبتلى به الأمّة ويفرّق كلمتها ويشتّت صفّها أن يتصدى لإرشاد الناس ودعوتهم وتعليمهم أمور دينهم مَنْ لم يكن من الراسخين في العلم، أو كان صاحب هوىً وبدعة، لأنّ مثل هذا يفسد أكثر مما يصلح. أخرج البخاري عن عبدِ اللهِ بنِ عمرو بن العاص قال: سَمعتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقول: (إنَّ اللهَ لا يَقبِضُ العِلمَ انتزِاعاً يَنتزِعُهُ من العِبادِ، ولكنْ يَقبِضُ العِلمَ بقَبض العُلماءِ، حتى إِذا لم يُبقِ عالماً اتخذَ الناسُ رُؤُوساً جُهَّالاً فسُئلوا فأفْتَوا بغير علمِ فضلُّوا وأضَلُّوا).

 

2. عدم معرفة مقاصد الشرع:

وقد أشار الرسول صلى الله عليه وسلم إلى هذا عندما قال له الرجل: اتق الله يا محمد !، فقال صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا -أَوْ في عَقِبِ هَذَا- قَوْمٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، لاَ يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ)، فهم أخذوا أنفسهم بقراءة القرآن، ولم يتفقّهوا فيه ولم يعرفوا مقاصده. إنّ الله سبحانه وتعالى أنزل كتابه بلسان عربي مبين، وبيّنه الرسول صلى الله عليه وسلم كذلك، ولذلك فإنّ طلب فهم القرآن إنّما يكون من هذا الطريق، فإنّه لا يعلم من إيضاح جُمَلِ عِلمِ الكتاب أحدٌ جهل لسان العرب وكثرة وجوهه وجماع معانيه وتفرقها، ومَنْ علمه انتفت عنه الشبه التي دخلت على مَنْ جهل لسانه.

وإذا كان الأمر كذلك، فيجب على مَن يتكلم في القرآن والسنة أن يكون له بصر بلسان العرب، ومعرفة بأساليبهم، وطرائق كلامهم. قال الشاطبي "فإذا كان الأمر على هذا لزم كلّ من أراد أن ينظر في الكتاب والسنة أن يتعلم الكلام الذي أُدّيت به، وأن لا يُحسن ظنّه بنفسه قبل الشهادة له من أهل العربية بأنّه يستحقّ النظر، وأن لا يستقل بنفسه في المسائل المشكلة التي لم يُحِط بها علمه دون أن يسأل عنها مَن هو من أهلها. فإن ثبت على هذه الوصاة: كان -إن شاء الله- موافقًا لما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام".

إنَّ تكلُّم مَن لا يعرف لسان العرب في أمور الشرع، واستنباطه الأحكام دون أن يتمكّن من آلة فهم الكتاب والسنة يؤدّي إلى تحريف الكلم عن مواضعه، والقول على الله بغير علم.

 

3. اتباع المتشابه من نصوص الكتاب والسنة وترك المحكم:

قاعدة الشريعة وطريقة الراسخين في العلم: الإيمان بالكتاب كلّه محكمه ومتشابهه، كما قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الأَلْبَابِ} [آل عمران: 7]، وأخرج الإمام أحمد عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: (لقد جلست أنا وأخي مجلسًا ما أُحبّ أن لي به حمر النعم، أقبلت أنا وأخي، وإذا مشيخة من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم جلوس عند باب من أبوابه، فكرهنا أن نفرّق بينهم، فجلسنا حجرة، إذ ذكروا آية من القرآن، فتماروا فيها، حتى ارتفعت أصواتهم، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مغضبًا، قد احمرّ وجهه، يرميهم بالتراب، ويقول: مهلًا يا قوم! بهذا أهلكت الأمم من قبلكم، باختلافهم على أنبيائهم، وضربهم الكتب بعضها ببعض، إنّ القرآن لم ينزل يكذب بعضه بعضاً، بل يصدق بعضه بعضًا، فما عرفتم منه فاعملوا به، وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه).

فقد دلّت هذه النصوص على أنّ في كتاب الله مَن لا يفهمه إلا مَن رزقه الله الفهم والبصيرة، فإنّ التشابه الذي لا تمييز معه، قد يكون من الأمور النسبية الإضافية، بحيث يشتبه على بعض الناس دون بعض. ومثل هذا يعرف منه أهل العلم ما يزيل عنهم هذا الاشتباه، فليس لكل أحد أن يقول فيه برأيه بل يكله إلى عالمه. قال الربيع بن خثيم: "يا عبد الله ! ما علمك الله في كتابه من علم، فاحمد الله، وما استأثر عليك به من علم، فكِلْهُ إلى عالمه، ولا تتكلف، فإنّ الله عز وجل يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ *إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ * وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ}" [ص: 86- 88].

إنّ ضلال كثير من أصحاب الغلو وانحرافهم كان بسبب ردّهم للمحكمات من النصوص، وأخذهم بالمتشابهات. قال عمر بن الخطاب صلى الله عليه وسلم: "إنّه سيأتي أناس يأخذونكم بشبهات القرآن فخذوهم بالسنن، فإنّ أصحاب السنن أعلم بكتاب الله"، وبيّن الشاطبي ذلك بقوله: "ومما يوضّح ذلك ما خرّجه ابن وهب عن بكير أنّه سأل نافعًا: كيف رأي ابن عمر رضي الله عنهما في الحرورية ؟ قال: يراهم شرار خلق الله، إنّهم انطلقوا إلى آيات أُنزلت في الكفار، فجعلوها في المؤمنين. فسرّ سعيد بن جبير من ذلك، فقال: مما يتبع الحرورية من المتشابه قول الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44]، ويقرنون معها {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 1]، فإذا رأوا الإمام يحكم بغير الحق، قالوا: قد كفر، ومن كفر عدل بربه، ومن عدل بربه فقد أشرك، فهذه الأمّة مشركون، فيخرجون فيقتلون ما رأيت، لأنهم يتأوّلون هذه الآية".

 

4. الأخذ ببعض الأدلة وترك ما سواها:

إنّ طريق الأئمة الراسخين في العلم النظر في جملة أدلة الشريعة، ومِن ثمّ استخراج الحكم، لأنّ أدلة الشرع كلّية وجزئية، وعام وخاص، ومطلق ومقيد، فاستخراج حكم قضية من القضايا يحتاج إلى النظر في الأدلة بحسب ما ثبت من كلياتها وجزئياتها المرتّبة عليها، وعامّها المرتب على خاصها، ومطلقها المحمول على مقيّدها، ومجملها المفسّر ببينها، إلى ما سوى ذلك من مناحيها، لأنّ أخذ الحكم من دليلٍ دون نظرٍ إلى ما يعارضه أو يقيّده أو يخصّصه أو تطبيق الحكم دون النظر في تحقّق المناط، يؤدّي إلى نتائج خاطئة وأحكام غير صحيحة، وضرب للأدلة ببعضها.

لقد كانت نتيجة مثل هذا النظر في الأدلة مؤلمة وقاسية على الأمة الإسلامية على امتداد تاريخها، فقد أُخرِج أقوام من دين الله، وسُفكت دماء، واسُتحلّت أموال، وانتُهكت أعراض، وخُربت أوطان، وتسلّط ظلوم غشوم طاغ على بلاد المسلمين، وأحال أمنهم خوفًا، وعزّهم ذلًّا، وغناهم فقرًا.

 

5. عدم النظر إلى مآلات الأفعال:

قاعدة الشريعة التي لا تنخرم: تحقيق المصالح ودرء المفاسد، ولذلك كان النظر إلى ما يؤول إليه الفعل، وهل يحقّق مصلحة، أو يدرأ مفسدة: من الفقه في دين الله.

والأصل في ذلك قوله تبارك وتعالى: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 108]، فمنع الله تعالى في كتابه أحدًا أن يفعل فعلًا جائزًا يؤدّي إلى محظور.

يقول الشاطبي رحمه الله: "النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعًا، كانت الأفعال موافقة، أو مخالفة، وذلك أنّ المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام، إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل، فقد يكون مشروعًا لمصلحة فيه تُستجلب، أو لمفسدة تدرأ، ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه. وقد يكون غير مشروع، لمفسدة تنشأ عنه، أو مصلحة تندفع به، ولكن له مآل على خلاف ذلك. فإذا أطلق القول في الأول بالمشروعية فربما أدّى استجلاب المصلحة فيه إلى مفسدة تساوى المصلحة أو تزيد عليها، فيكون هذا مانعًا من إطلاق القول بالمشروعية. وكذلك إذا أطلق القول في الثاني بعدم المشروعية ربّما أدّى استدفاع المفسدة إلى مفسدة تساوي أو تزيد، فلا يصح إطلاق القول بعدم المشروعية. وهو مجالٌ للمجتهد صعب المورد إلّا أنّه عذب المذاق، محمود الغبّ، جارٍ على مقاصد الشريعة".

وعملًا بهذا الأصل: لم يقتل الرسول صلى الله عليه وسلم عَبْد اللَّهِ بْنُ أُبَىٍّ حينما قال: {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ}، وعلّل ذلك بقوله: (لاَ يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ)، ولم يهدم البيت ثم يعيده على بناء إبراهيم صلى الله عليه وسلم، وقال لعَائِشَةَ رضي الله عنها: (لَوْلاَ أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ بِالْجَاهِلِيَّةِ، فَأَخَافُ أَنْ تُنْكِرَ قُلُوبُهُمْ أَنْ أُدْخِلَ الْجَدْرَ في الْبَيْتِ، وَأَنْ أُلْصِقَ بَابَهُ في الأَرْضِ)، وحرُم تغيير المنكر إذا كان يستلزم ما هو أعظم منه شرًّا. ولو تأمّل المنصف في كثير من الأحداث التي عصفت بالأمة الإسلامية في الماضي والحاضر لوجد أنّ سببها يرجع في الغالب إلى إهمال هذا الأصل.

إنّ إهمال النظر إلى ما يؤول إليه الفعل، يفسّر لنا ما نراه من بعض الناس من حماس زائد، واندفاع متهوّر، وعواطف ملتهبة، عند وقوع بعض الأحداث التي تعصف بالأمّة، فترى أولئك يفقدون الحكمة، ويسارعون في ردّ الفعل دون تروٍّ، ويتسابقون في اقتحام الميادين الصعبة، والمسالك الوعرة دون تثبّت، ولا مشاورة كبير أو صغير. وبعد أن تنجلي الأحداث وتهدأ العاصفة يتبين لأولئك الغيارى أنّ عاقبة سعيهم لم تكن محمودة، وأنّ ثمرة جهدهم لم تكن بقدر ما بذلوه من جهد، وأنّ الأمر لم يكن بمثل ما تصوروه، وأنّ العاقبة كانت أشدّ وقعًا وأعمق أثرًا وأكثر ضررًا.

المصدر: موقع الدرر السنيّة

أقرأ أيضاً

إضافة تعليق جديد