شروط وموانع التكفير
- ملخّص البحث:
يلتزم أهل السنة والجماعة بمنهج شرعي واضح فيما يتعلق بأحكام التكفير، فيثبتون المكفّرات التي دلّت عليها النصوص الشرعية، لكنهم لا يقولون بتكفير من صدرت منه هذه المكفرات بإطلاق دون ضوابط أو قيود، بل ينظرون في تحقق الشروط، وانتفاء الموانع، وذلك تجنّباً للوقوع في الخطأ والتسرّع والتساهل في تكفير مَن لا يستحقّ التكفير.
ويمكن إرجاع شروط التكفير إلى ثلاثة أنواع:
- أولاً: شروطٌ تتعلّق بالفعل أو القول أو الاعتقاد المكفّر، وهي:
- ثبوت أنّ هذا القول أو الفعل أو الاعتقاد أو الترك كفر بمقتضى دلالة الكتاب والسنة على وجهٍ لا شُبهةَ فيه، فإذا كان الفعل أو القول المكفّر فيه اشتباه أو تفصيل فلا يصح التكفير به.
- أن يكون اللفظُ المكفّر صريحَ الدّلالة، فإن كان اللفظ يحتمل التكفير ويحتمل غيره فلا يجوز حمله على التكفير احتياطاً.
- ثانياً: شروط التكفير المتعلقة بالقائل أو الفاعل، وهي:
- أن يكون مَن صدر عنه الكفرُ مكلّفاً، فلا يصح تكفير الصبي والمجنون، ولا مَن زال عقله بإغماء أو نوم أو تخدير أو بنج.
- أن يكون مختاراً عند صدور ما هو مكفر منه، فلا يجوز تكفير مكرَه على الكفر وقلبُه مطمئن بالإيمان.
- أن لا يكون قاصداً للفعل أو القول، أن لا يكون قاصداً للفعل أو القول: فلا يقع التكفير على المخطئ والناسي والمدهوش.
- العلم بدلالة الألفاظ، بأن يكون عالماً بدلالة اللفظ الذي صدر منه بأنه كفرٌ أو معصية.
- ثالثاً: ثبوت الفعل أو القول المكفّر في حقّ المكلّف،
ويكون الإثبات إما بالإقرار أو البيِّنَة المعتبرة شرعاً، أما مجرّد الظن أو الشك فلا.
- أما الموانع التي يلزم انتفاؤها فهي:
- الجهل: فمن تلفّظ بالكفر أو فعل فعلاً مكفراً جاهلاً؛ فلا يُحكم عليه بالكفر مطلقاً، حتى يبيّن له وتقام عليه الحجة.
- الخطأ: فمن تلفظ بكلمة الكفر أو فعل فعلاً مكفراً وكان مخطئاً فلا يقع عليه الكفرُ.
- الإكراه: فمن أُكره على الكفر: فله أن ينطق كلمة الكفر، ولا يكفر بذلك.
- التأول: وهو أن يقول القولَ أو يفعل الفعلَ المقتضي للكفر وهو يظنّ أنه لم يخالف الشريعة، أو يفهم النصّ على غير وجهه؛ لشبهةٍ قامت عنده، فيقع في المخالفة دون قصدٍ، فلا يُحكم عليه بالكفر، ويُحمل كلامه على غير الكفر، ولو كان هذا الاحتمال ضعيفاً.
وبيان هذه الشروط والموانع بالتفصيل، مع الأدلة، ونقل كلام العلماء في البحث التالي:
- البحث:
ينطلق أهلُ السنة والجماعة في بناء الأحكام الشرعية وتقرير العقيدة من نصوص الكتاب والسنة، وما اتفق عليه سلف الأمة من الصحابة والتابعين، ومما يدخل في ذلك مسائل الكفر والإيمان، فـ "الكفر حكمٌ شرعيٌّ متلقّى عن صاحب الشريعة"درء تعارض العقل والنقل، (1/242)..
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فلهذا كان أهلُ العلم والسنة لا يكفّرون مَن خالفهم وإن كان ذلك المخالف يكفرهم، لأنّ الكفر حكمٌ شرعي، فليس للإنسان أن يعاقب بمثله، كمن كذب عليك وزنى بأهلك ليس لك أن تكذب عليه وتزني بأهله، لأنَّ الكذب والزنا حرامٌ لحق الله، وكذلك التكفير حق لله، فلا يكفر إلا مَن كفره الله ورسوله"مجموع الفتاوى، (1/381)..
ومذهبُ أهل السنة والجماعة وسط بين الخوارج وأضرابهم من الجماعات التكفيرية المتطرفة التي تتسرع في التكفير، والحكم على الناس بالكفر، واستباحة دماء المسلمين وأموالهم، وقتالهم دون ضوابط أو قيود، وبين المرجئة وأضرابهم الذين يهوّنون مِن شأن الأعمال والمعاصي وأثرها على الإيمان نقصاً ونقضاً.
فأهلُ السنة والجماعة تابعون للكتاب والسنة في أحكام التكفير، فيثبتون في المكفّرات كلّ ما دلّت النصوص الشرعية على أنّه من موجبات الكفر، ويثبتون موجب ذلك في حقّ الأشخاص الذين وقع منهم الكفر إذا تحقّق فيهم ما دلّت النصوص على اعتباره، فلا يقولون بالتكفير على إطلاقه دون ضوابط وقيود، بل لا بد من تحقق الشروط، وانتفاء الموانع التي ثبتت بها الأدلة، فإذا فُقد شرط من الشروط، أو وُجد مانع من الموانع لم يجز إطلاق القول بتكفير الشخص الذي وقع في الفعل أو القول المكفّر، ومِن الأهمية بمكان أن تكون هذه الشروط والموانع حاضرة في الأذهان حتى لا يحصل التسرّع والتساهل في تكفير مَن لا يستحقّ التكفير مما يوجب الوقوع في الزّجر الوارد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في تكفير المسلم بغير حقّ ، مثل قوله: (أَيُّمَا امْرِئٍ قَالَ لِأَخِيهِ: يَا كَافِرُ، فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا، إِنْ كَانَ كَمَا قَالَ، وَإِلَّا رَجَعَتْ عَلَيْهِ) صحيح البخاري (6104)، وصحيح مسلم (60)..
وفيما يلي نبيّن هذه الشروط والموانع:
- شروط التكفير:
للتكفير شروطٌ لا بدّ مِن توافرها حتى يمكن الحكم بالكفر على الشخص الذي يصدر منه القول أو الفعل أو الاعتقاد المكفّر، ويمكن إرجاع هذه الشروط إلى ثلاثة أنواع:
- شروطٌ تتعلّق بالفعل أو القول أو الاعتقاد المكفّر.
- شروط تتعلق بالفاعل أو القائل.
- شروط تتعلق بثبوت الفعل أو القول في حقّ الشخص.
- أولاً - شروط التكفير المتعلقة بالفعل:
1. ثبوت أنّ هذا القول أو الفعل أو الاعتقاد أو الترك كفر بمقتضى دلالة الكتاب والسنة على وجهٍ لا شُبهةَ فيه:
فإذا كان الفعل أو القول المكفّر فيه اشتباه أو تفصيل فلا يصح التكفير به، ومثال ذلك: التكفير بالحكم بغير ما أنزل الله، ومعلومٌ أن الحكم بغير ما أنزل الله له حالات وصور مختلفة في الحكم، وكذلك التكفير بمطلق موالاة الكفار التي تتفاوت تفاوتاً عظيماً، بل قد ورد في القرآن ما يدل على إباحة بعض الصور كما في قوله تعالى: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ}[آل عمران: 24]. قال الطبري رحمه الله: "إلا أن تكونوا في سلطانهم فتخافوهم على أنفسكم، فتظهروا لهم الولاية بألسنتكم، وتضمروا لهم العداوة، ولا تشايعوهم على ما هم عليه من الكفر، ولا تعينوهم على مُسلم بفعل"جامع البيان (6/313)..
2. أن يكون اللفظُ المكفّر صريحَ الدّلالة:
فإن كان اللفظ يحتمل التكفير ويحتمل غيره فلا يجوز حمله على التكفير احتياطاً.
قال ابن نجيم رحمه الله: "وفي الخلاصة وغيرها: إذا كان في المسألة وجوه توجب التكفير، ووجه واحد يمنع منه، فعلى المفتي أن يميل إلى ذلك الوجه تحسيناً للظن بالمسلم، زاد في البزازية: إلا إذا صرح بإرادةٍ موجبةٍ للكفر فلا ينفعه التأويل حينئذٍ ... والذي تحرر أنه لا يُفتى بتكفير مسلمٍ أمكن حمل كلامه على محمل حسن، أو كان في كفره اختلاف"البحر الرائق، (5/134-135)..
- ثانياً: شروط التكفير المتعلقة بالفاعل:
1. أن يكون مَن صدر عنه الكفرُ مكلّفاً:
فلا يصح تكفير الصبي والمجنون، ولا مَن زال عقله بإغماء أو نوم أو تخدير أو بنج، لقوله صلى الله عليه وسلم : (رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنْ الصَّغِيرِ حَتَّى يَكْبَرَ، وَعَنْ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ، أَوْ يُفِيقَ)رواه أبو داود (4398)، والنسائي (3432)، وابن ماجه (2041)..
2. أن يكون مختاراً عند صدور ما هو مكفر منه:
فلا يجوز تكفير مكرَه على الكفر وقلبُه مطمئن بالإيمان، لقوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[النحل: 106].
3. أن لا يكون قاصداً للفعل أو القول:
فلا يقع التكفير على المخطئ والناسي والمدهوش، لقوله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ، وَالنِّسْيَانَ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ)رواه ابن ماجه (2045)، وصححه الألباني في إرواء الغليل (1/123)..
وقوله صلى الله عليه وسلّم : (لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ، مِنْ أَحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضِ فَلَاةٍ، فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَأَيِسَ مِنْهَا، فَأَتَى شَجَرَةً، فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا، قَدْ أَيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ، فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذَا هُوَ بِهَا، قَائِمَةً عِنْدَهُ، فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا، ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ: اللهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ، أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ)رواه مسلم (2747). فهذا الرجل سبق لسانُه بكلمة الكفر دون قصدٍ منه بسبب شدة فرحه، فلم يعتبر كافراً، وانتفى الإثم عنه.
4. العلم بدلالة الألفاظ:
أن يكون المكلف عالماً بدلالة اللفظ الذي صدر منه بأنه كفرٌ أو معصية، فكثيرٌ مِن المسلمين تصدر عنهم أقوال وأفعال مكفّرة، وهم لا يعلمون أنّها مكفّرة أو مخالفة للشريعة، لذلك من الواجب فيمن صدر منه اللفظ أو الفعل الوقوف على حاله، والتأكد منه هل يقصد المعنى المكفّر، ويعلم أنّه يرتكب به المحظور أو أنه جاهلٌ بذلك.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: "وأما جَحَدَ ذلك جهلًا، أو تأويلًا يُعذر فيه صاحبه فلا يكفر صاحبه به، كحديث الذي جحد قدرة الله عليه وأمر أهله أن يحرقوه ويذْرُوهُ في الريح، ومع هذا فقد غفر الله له ورحمه لجهله، إذْ كان ذلك الذي فعله مبلغ علمه، ولم يجحد قدرة الله على إعادته عنادًا أو تكذيبًا"مدراج السالكين (1/348)..
- ثالثاً: ثبوت الفعل أو القول المكفّر في حقّ المكلّف:
ويكون الإثبات إما بالإقرار أو البيِّنَة المعتبرة شرعاً، أما مجرّد الظن أو الشك فلا.
- موانع التكفير:
لا يكفي لإطلاق حكم الكفر على الشخص أن يتلبس بالفعل أو القول المكفّر، بل لا بدّ مِن اعتبار انتفاء الموانع في حقّه، فإذا وُجد أحدُ هذه الموانع امتنع تكفيره، وهذه الموانع هي: الجهل، والخطأ، والإكراه، والتأويل.
ونبيّنها فيما يلي:
1. الجهل:
فقد يتلفظ الشخص بالقول المكفّر أو يفعل فعلاً مكفراً ولا يُحكم عليه بالكفر، بسبب جهله، والعذر بالجهل له حالات،
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وكثير من الناس قد ينشأ في الأمكنة والأزمنة الذي يندرس فيها كثير من علوم النبوات، حتى لا يبقى من يبلغ ما بعث الله به رسوله من الكتاب والحكمة، فلا يعلم كثيراً مما بعث الله به رسوله ولا يكون هناك من يبلغه ذلك، ومثل هذا لا يكفر، ولهذا اتفق الأئمة على أن مَن نشأ ببادية بعيدة عن أهل العلم والإيمان، وكان حديث العهد بالإسلام فأنكر هذه الأحكام الظاهرة المتواترة فإنه لا يحكم بكفره حتى يعرف ما جاء به الرسول، ولهذا جاء في الحديث: (يأتي على الناس زمان لا يعرفون فيه صلاة ولا زكاة) ثم ذكر بقية الحديث"مجموع الفتاوى (11/407)..
ويدل للعذر بالجهل أدلة منها:
قوله تعالى: {ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ}[الأنعام: 131]، ووجهُ الدلالةِ: "أنّ إرادةَ اللهِ –سبحانه- لإهلاكِ القريةِ إنما يكونُ بعدَ إرسالِ الرُّسُلِ إليهم وتكذيبِهم، وإلّا فقَبْلَ ذلك هو لا يُريدُ إهلاكَهم لأنهم معذورون بغفلتِهم وعدمِ بلوغِ الرسالةِ إليهم"شفاء العليل، لابن القيم، ص (281)..
وحديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (كَانَ رَجُلٌ يُسْرِفُ عَلَى نَفْسِهِ، فَلَمَّا حَضَرَهُ المَوْتُ، قَالَ لِبَنِيهِ: إِذَا أَنَا مُتُّ فَأَحْرِقُونِي، ثُمَّ اطْحَنُونِي، ثُمَّ ذَرُّونِي فِي الرِّيحِ، فَوَاللَّهِ لَئِنْ قَدَرَ عَلَيَّ رَبِّي لَيُعَذِّبَنِّي عَذَابًا مَا عَذَّبَهُ أَحَدًا! فَلَمَّا مَاتَ فُعِلَ بِهِ ذَلِكَ، فَأَمَرَ اللَّهُ الأَرْضَ فَقَالَ: اجْمَعِي مَا فِيكِ مِنْهُ، فَفَعَلَتْ، فَإِذَا هُوَ قَائِمٌ، فَقَالَ: مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟ قَالَ: يَا رَبِّ خَشْيَتُكَ، فَغَفَرَ لَهُ)رواه البخاري (3481)، ومسلم (2756)..
فالحديث واضح الدلالة أن الرجل وقع في الكفر بإنكاره لقدرة الله تعالى على البعث وإعادة الجسم بعد الإحراق جهلاً منه، ولكنه كان مؤمناً بوجود الله تعالى، فغُفر الله له.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية معلقاً على هذا الحديث: "فهذا الرجل ظن أن الله لا يقدر عليه إذا تفرق هذا التفرق، فظن أنه لا يعيده إذا صار كذلك، وكلُّ واحد من إنكار قدرة الله -تعالى- وإنكار معاد الأبدان وإن تفرقت كفر، لكنه كان مع إيمانه بالله وإيمانه بأمره وخشيته منه جاهلاً بذلك، ضالاً في هذا الظن مخطئاً، فغفر الله له ذلك. والحديث صريح في أن الرجل طمع أن لا يعيده إذا فعل ذلك، وأدنى هذا أن يكون شاكاً في المعاد، وذلك كفرٌ إذا قامت حجة النبوة على منكره حكم بكفره"مجموع الفتاوى (11/409)..
وقال الإمام الخطابي رحمه الله: "قد يُستشكل هذا فيقال: كيف يغفر له وهو منكر للبعث والقدرة على إحياء الموتى؟ والجواب: أنه لم ينكر البعث، وإنما جهل فظن أنه إذا فُعل به ذلك لا يعاد فلا يعذب، وقد ظهر إيمانه باعترافه بأنه إنما فعل ذلك مِن خشية الله"ينظر: فتح الباري، (6/522)..
وعن حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يَدْرَسُ الإسلام كما يَدْرَسُ وَشْيُ الثوب، حتى لا يُدرى ما صيام ولا صلاة ولا نسك ولا صدقة. ولَيُسْرى على كتاب الله عز وجل في ليلة، فلا يبقى في الأرض منه آية، وتبقى طوائف مِن الناس، الشيخ الكبير والعجوز، يقولون: أدركنا آباءنا على هذه الكلمة: لا إله إلا الله، فنحن نقولها). "فقال له صلة بن زفر: ما تغني عنهم لا إله إلا الله، وهم لا يدرون ما صلاة ولا صيام ولا نسك ولا صدقة؟! فأعرض عنه حذيفة، ثم ردها عليه ثلاثاً، كلُّ ذلك يعرض عنه حذيفةُ، ثم أقبل عليه في الثالثة، فقال: يا صلةُ، تنجيهم مِن النار، ثلاثاً"رواه ابن ماجه (4049)، وقال الحاكم في المستدرك (8460): حديث صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي..
فهذا الحديث -وإن كان يتحدث عن حال الناس في آخر الزمان، حيث لا يُدرى ما صلاة ولا صيام- فإن فيه دليلاً على العذر بالجهل، حيث يوجد في بعض الأمكنة أو الأزمنة من ينطق بالشهادتين وتخفى عليه بعض الأحكام الظاهرة المتواترة كوجوب الصلاة والصوم، فأمثال هؤلاء يعذرون بجهلهم، لأن الحجة لم تقم عليهم.
2. الخطأ:
اتفق الأئمة على الإعذار بالخطأ، فمن تلفظ بكلمة الكفر أو فعل فعلاً مكفراً وكان مخطئاً فلا يقع عليه الكفرُ.
ومِن الأدلة على ذلك:
قوله سبحانه: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}[الأحزاب: 5].
وقوله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ، وَالنِّسْيَانَ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ)رواه ابن ماجه (2045) وصححه الألباني..
قال الحافظ ابن رجب: "والأظهر، والله أعلم أن الناسي والمخطئ إنما عفي عنهما بمعنى رفع الإثم عنهما، لأنّ الإثمَ مرتب على المقاصد والنيات، والناسي والمخطئ لا قصد لهما فلا إثم عليهما، وأما رفع الأحكام عنهما فليس مراداً مِن هذه النصوص، فيحتاج في ثبوتها ونفيها إلى دليل آخر"جامع العلوم والحكم (2/369)..
ويدل لذلك أيضاً الحديث السابق عن الرجل من بني إسرائيل، فهذا الحديث كثيراً ما يُستدل به في مسائل العذر بالجهل والخطأ والتأويل.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في تعليقه على هذا الحديث: "فهذا الرجل اعتقد أنّ الله لا يقدر على جمعه إذا فعل ذلك، أو شك، وأنه لا يبعثه، وكل هذين الاعتقادين كفر ... فمَن أخطأ في بعض مسائل الاعتقاد مِن أهل الإيمان بالله وبرسوله وباليوم الآخر والعمل الصالح، لم يكن أسوأ حالاً مِن هذا الرجل، فيغفر الله خطأه، أو يعذبه إن كان منه تفريط في اتباع الحق على قدر دينه، وأما تكفير شخص عُلم إيمانه بمجرد الغلط في ذلك فعظيم"الاستقامة (1/164-165)..
3. الإكراه:
فمن أُكره على الكفر: يجوز له أن ينطق كلمة الكفر، والأصلُ في ذلك قوله سبحانه: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[سورة النحل 105].
قال أبو بكر الجصاص عن هذه الآية: "هذا أصلٌ في جواز إظهار كلمة الكفر في حال الإكراه"أحكام القرآن (3/192)..
والمشهور في سبب نزولها: حديث محمد بن عمار بن ياسر قال: (أخذ المشركون عمار بن ياسر، فلم يتركوه حتى سبّ النبي -صلى الله عليه وسلم- وذكر آلهتهم بخير، ثم تركوه، فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: مَا وَرَاءَكَ؟ قال: شرٌّ يا رسول الله، ما ترُكت حتى نِلْتُ منك، وذكرتُ آلهتهم بخير، قال: كَيْفَ تَجِدُ قَلْبَكَ، قال: مطمئناً بالإيمان، قال: إِنْ عَادُوا فَعُدْ)رواه البيهقي (16896)، والحاكم (3362)، وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي..
قال ابنُ بطال تبعاً لابن المنذر: "أجمع العلماء على أن من أكره على الكفر حتى خشى على نفسه القتل أنه لا إثم عليه إنْ كفر وقلبه مطمئن بالإيمان، ولا تبِيْنُ منه زوجته، ولا يُحكم عليه بحكم الكفر"شرح صحيح البخاري لابن بطال (8/291)، وفتح الباري (12/314)..
4. التأول:
وهو أن يقول القولَ أو يفعل الفعلَ المقتضي للكفر وهو يظنّ أنه لم يخالف الشريعة، أو يفهم النصّ على غير وجهه، لشبهةٍ قامت عنده، فيقع في المخالفة دون قصدٍ، فإذا صدر من الشخص كلامٌ أو فعلٌ، وكان له وجهٌ غير الكفر، فنحمل كلامه على غير الكفر، ولو كان هذا الاحتمال ضعيفاً، لأن الخطأ في الترك خير من الخطأ في استباحة دم مسلم، وقد صاغ العلماء هذه القاعدة (يُدفع التكفير عن المتأوِّل ما أمكن)، وقد حذّر العلماء من التسرع في التكفير أو حمل الكلام على المعنى المكفّر مع احتماله لغيره .
وقد استدل ابن القيم بالقصة التي ذكرناها سابقاً عن الرجل الذي أحرق نفسه من بني إسرائيل فقال: "وأما جحدُ ذلك جهلاً أو تأويلاً يُعذر فيه صاحبه فلا يكفر صاحبه به، كحديث الذي جحد قدرة الله عليه، وأمر أهله أن يحرقوه ويذروه في الريح، ومع هذا فقد غفر الله له ورحمه لجهله إذْ كان ذلك الذي فعله مبلغ علمه، ولم يجحد قدرة الله على إعادته عناداً أو تكذيباً"مدارج السالكين، (1/333)..
ويقول القاضي عياض: "الذي يجبُ: الاحتراز من التكفير في أهل التأويل، فإن استباحة دماء المصلين الموحدين خطر، والخطأ في ترك ألف كافر أهون من الخطأ في سفك مَحجَمَةٍ من دم مسلم واحد، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (فإذا قالوها -يعني الشهادة- عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله)، فالعصمة مقطوع بها مع الشهادة، ولا ترتفع ويستباح خلافها إلا بقاطع، ولا قاطع من شرع ولا قياس عليه"الشفا (2/1058)..
ومن أمثلة التأول: شربُ قدامة بن مظعون -رضي الله عنه- الخمر مستحلاً لها بتأوّل، فلم يكفّره الصحابة، ولكن بيّنوا له الصواب، وأقاموا عليه الحد، فعَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قال: "أُتِيَ بِرَجُلٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ وَقَدْ شرب فأمر به أن يجلد، فقال لِمَ تَجْلِدُنِي؟ بَيْنِي وَبَيْنَكَ كِتَابُ اللَّهِ! فَقَالَ عُمَرُ: وَفِي أَيِّ كِتَابِ اللَّهِ تَجِدُ أَلَّا أَجْلِدَكَ؟ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ:{لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا} الْآيَةَ. فَأَنَا مِنَ الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا، ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا، شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَدْرًا وَأُحُدًا وَالْخَنْدَقَ وَالْمَشَاهِدَ كُلَّهَا، فَقَالَ عُمَرُ: أَلَا تَرُدُّونَ عَلَيْهِ مَا يَقُولُ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ هَؤُلَاءِ الآيات أنزلن عُذْرًا لِمَنْ غَبَرَ، وَحُجَّةً عَلَى النَّاسِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} الْآيَةَ، ثُمَّ قَرَأَ حَتَّى أَنْفَذَ الْآيَةَ الْأُخْرَى، فَإِنْ كَانَ مِنَ الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، الْآيَةَ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ نَهَاهُ أَنْ يَشْرَبَ الْخَمْرَ، فَقَالَ عُمَرُ: صَدَقْتَ، مَاذَا تَرَوْنَ؟ فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّهُ إِذَا شَرِبَ سَكِرَ وَإِذَا سَكِرَ هَذَى، وإذا هَذَى افْتَرَى، وَعَلَى الْمُفْتَرِي ثَمَانُونَ جَلْدَةً، فَأَمَرَ بِهِ عُمَرُ فَجُلِدَ ثَمَانِينَ جَلْدَةً"رواه النسائي في السنن الكبرى (5269)، والحاكم في المستدرك (8132)، وصححه، ووافقه الذهبي..
ومِن أمثلة ذلك أيضًا: الخوارج الذين استحلوا أشدَّ المحرمات القطعية، فكفَّروا كبار الصحابة، واستباحوا قتلهم، ومع ذلك لم يحكم الصحابة بكفرهم، قال ابن تيمية رحمه الله: "والخوارج المارقون الذين أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بقتالهم قاتلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أحد الخلفاء الراشدين. واتفق على قتالهم أئمة الدين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم. ولم يكفرهم علي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص وغيرهما من الصحابة، بل جعلوهم مسلمين مع قتالهم، ولم يقاتلهم علي حتى سفكوا الدم الحرام وأغاروا على أموال المسلمين، فقاتلهم لدفع ظلمهم وبغيهم، لا لأنهم كفار. ولهذا لم يسبِ حريمهم ولم يغنم أموالهم. وإذا كان هؤلاء الذين ثبت ضلالهم بالنص والإجماع لم يُكفَّروا مع أمر الله ورسوله بقتالهم، فكيف بالطوائف المختلفين الذين اشتبه عليهم الحق في مسائل غلط فيها من هو أعلم منهم؟ فلا يحل لأحد من هذه الطوائف أن تكفر الأخرى ولا تستحل دمها ومالها، وإن كانت فيها بدعة محققة، فكيف إذا كانت المكفرة لها مبتدعة أيضًا؟ وقد تكون بدعة هؤلاء أغلظ، والغالب أنهم جميعًا جهّال بحقائق ما يختلفون فيه. والأصل أن دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم محرمة من بعضهم على بعض لا تحل إلا بإذن الله ورسوله"مجموع الفتاوى (3/282-283)..
فإذا كان في المسألة الواحدة وجوهٌ توجب التكفير، ووجهٌ واحدٌ يمنع التكفير فنحمل كلامه على الوجه الذي يمنع التكفير بناء على الأصل، وقد تنبه المحققون لهذه المسألة، ونبهوا عليها في كتبهم، وقد تقدم النقل عن ابن نجيم في ذلك.
اقرأ أيضاً : التكفير بالمآل أو بلازم المذهب
إضافة تعليق جديد