التكفير بالمآل أو بلازم المذهب
التكفير بالمآل: والمقصود به أن يقول قولاً يؤديه سياقه إلى كفر، وهو إذا وقف عليه لا يقول بما يؤديه قوله إليه، كحال بعض أهل البدع والمتأولينانظر (الشفا) (2 / 1056)..
يقول ابن رشد الحفيد: "ومعنى التكفير بالمآل: أنهم لا يُصرّحون بقول هو كفر، ولكن يُصرّحون بأقوال يلزم عنها الكفر وهم لا يعتقدون ذلك اللزوم"(بداية المجتهد) (492 / 2)..
وقد بيّن أهل العلم هذه المسألة، ومن ذلك ما ذكره القاضي عياض حيث قال عند ذكره للمعطلة:
"فأما من أثبت الوصف، ونفى الصفة فقال: أقول: عالم ولكن لا علم له، ومتكلم ولكن لا كلام له، وهكذا في سائر الصفات على مذهب المعتزلة، فمن قال بالمآل لما يؤديه إليه قوله، ويسوقه إليه مذهبه كفر، لأنه إذا نفى العلم انتفى وصف عالم، إذ لا يوصف بعالم إلا من له علم، فكأنهم صرّحوا عنده بما أدى إليه قولهم. ومن لم ير أخذهم بمآل قولهم، ولا ألزمهم موجب مذهبهم، لم ير إكفارهم، قال: لأنهم إذا وقفوا على هذا، قالوا: لا نقول ليس بعالم، ونحن ننتفي من القول بالمآل الذي ألزمتموه لنا، ونعتقد نحن وأنتم أنه كفر، بل نقول: إن قولنا لا يؤول إليه على ما أصلّناه فعلى هذين المأخذين اختلف الناس في إكفار أهل التأويل، وإذا فهمته اتضح لك الموجب لاختلاف الناس في ذلك.
و الصواب: ترك إكفارهم والإعراض عن الحتم عليهم بالخسران، وإجراء حكم الإسلام عليهم في قصاصهم، ووراثاتهم، ومناكحتهم، ودياتهم، والصلاة عليهم، ولكنهم يغلظ عليهم بوجيع الأدب، وشديد الزجر والهجر، حتى يرجعوا عن بدعتهم"(الشفا) (1084 / 2 - 1086)..
ويبطل ابن حزم الكفر بالمآل فيقول:
"وأما من كفّر الناس بما تؤول إليه أقوالهم فخطأ، لأنه كذب على الخصم وتقويل له ما لم يقل به، وإن لزمه فلم يحصل على غير التناقض فقط، والتناقض ليس كفراً، بل قد أحسن إذ قد فرّ من الكفر"(الفصل) (294 / 3)..
إلى أن قال "فصحّ أنه لا يُكفّر أحد إلا بنفس قوله، ونصّ معتقده، ولا ينفع أحد أن يُعبّر عن معتقده بلفظ يحسن به قبحه، لكن المحكوم به هو مقتضى قوله فقط"(الفصل) (294 / 3)..
كما ينفي الشاطبي الكفر بالمآل فيقول:
"والذي كنا نسمعه من الشيوخ أن مذهب المحققين من أهل الأصول "إن الكفر بالمآل ليس بكفر في الحال" كيف والكافر ينكر ذلك المآل أشد الإنكار، ويرمي مخالفه به"(الاعتصام) (2 / 197)..
ومما هو قريب من مسألة التكفير بالمآل ما يُسمّى بالتكفير بلازم القولأطلق ابن الوزير على مسألة التكفير بالمآل: التكفير بالإلزام، انظر (العواصم والقوصم) (367/ 4)..
ومعنى اللازم: ما يمتنع إنفكاكه عن الشيء، وقد يكون هذا اللازم بيّناً، وهو الذي يكفي تصوّره مع تصوّر ملزومه في جزم العقل باللزوم بينهما. وقد يكون غير بيّن، وهو الذي يفتقر جزم الذهن باللزوم بينهما إلى وسطانظر (التعريفات) (ص: 190) للجرجاني..
إن التكفير بلازم القول مطلقاً قــد أورث في الأمة تفرّقاً واختلافـاً... وكما قال الإمام الذهبي رحمه الله:
"لا ريب أن بعض علماء النظر بالغوا في النفي، والرد والتحريف والتنزيه بزعمهم حتى وقعوا في بدعة، أو نعت الباري بنعوت المعدوم.
كما أن جماعة من علماء الأثر، بالغوا في الإثباتعفا الله عن الإمام الذهبي، فلو سلّمنا بأن بعض علماء الأثر بالغوا في الإثبات، فلا يسوى هؤلاء العلماء بأولئك المتكلمين كما يُفهم من عبارة الذهبي.، وقبول الضعيف والمنكر ولهجوا بالسنة والإتباع. فحصل الشغب ووقعت البغضاء، وبدّع هذا هذا، وكفّر هذا هذا ونعوذ بالله من الهوى والمراء في الدين، وأن نُكفّر مسلماً مُوحّداً بلازم قوله، وهو يفرّ من ذلك اللازم، ويُنزّه ويُعظّم الرب"(الرد الوافر) لابن باصر الدين (ص: 48)..
وقد بيّن العلماء هذه المسألة وأحوالها، وسنورد جملة من كلامهم في ذلك على النحو التالي:
سُئل ابن تيمية: هل لازم المذهب مذهب أم لا؟ فكان من جوابه ما يلي:
"الصواب أن لازم مذهب الإنسان ليس بمذهب إذا لم يلتزمه، فإنه إذا كان قد أنكره ونفاه، كانت إضافته إليه كذباً عليه، بل ذلك يدلّ على فساد قوله وتناقضه في المقال. ولو كان لازم المذهب مذهباً للزم تكفير كل من قال عن الاستواء وغيره من الصفات أنه مجاز ليس بحقيقة، فإنّ لازم هذا القول يقتضي أن لا يكون شيء من أسمائه وصفاته حقيقة"(مجموع الفتاوى) (217 / 20)..
ويقول في موضع آخر:
"لازم قول الإنسان نوعان: أحدهما: لازم قوله الحق، فهذا مما يجب عليه أن يلتزمه، فإن لازم الحق حق، ويجوز أن يضاف إليه إذا علم من حاله أنه لا يمتنع من التزامه بعد ظهوره، وكثير مما يضيفه الناس إلى مذهب الأئمة من هذا الباب.
والثاني: لازم قوله الذي ليس بحق، فهذا لا يجب التزامه، إذ أكثر ما فيه أنه قد تناقض، وقد بيّنتُ أن التناقض واقع من كل عالم غير النبيين، ثم إن عرف من حاله أنه يلتزمه بعد ظهوره له، فقد يضاف إليه، وإلا فلا يجوز أن يضاف إليه قول، لو ظهر له فساده لم يلتزمه، لكونه قد قال ما يلزمه، وهو لم يشعر بفساد ذلك القول ولا يلزمه.
وهذا التفصيل في اختلاف الناس في لازم المذهب: هل هو مذهب أو ليس بمذهب؟ هو أجود من إطلاق أحدهما، فما كان من اللوازم يرضاه القائل بعد وضوحه له فهو قوله، وما لا يرضاه فليس قوله"(القواعد النورانية) (ص: 129،128)، وانظر: (مجموع الفتاوى) (306 / 5 ، 477) و (شرح نونية ابن القيم) لابن عيسى (2 / 394 ، 395)..
وقال الشاطبي: "ولازم المذهب: هل هو مذهب أم لا؟ هي مسألة مُختلف فيها بين أهل الأصول، والذي كان يقول به شيوخنا البجائيون والمغربيون ويرون أنه رأي المحققين أيضاً أن لازم المذهب ليس بمذهب، فلذلك إذا قرر عليه، أنكره غاية الإنكار"(الاعتصام) (549 / 2)..
وأورد السخاوي مقالة شيخه ابن حجر حيث قال: "والذي يظهر أن الذي يحكم عليه بالكفر من كان الكفر صريح قوله، وكذا من كان لازم قوله وعرض عليه فالتزمه.. أما من لم يلتزمه وناضل عنه فإنه لا يكون كافراً ولو كان اللازم كفراً"(فتح المغيث) (334 / 1)، وانظر (العلم الشامخ) للمقبلي (ص: 412)..
وذكر الشيخ السعدي تحقيقه في هذه المسأله قائلاً: "والتحقيق الذي يدلّ عليه الدليل أن لازم المذهب الذي لم يصرح به صاحبه ولم يشر إليه، ولم يلتزمه ليس مذهباً، لأن القائل غير معصوم، وعلم المخلوق مهما بلغ فإنه قاصر، فبأي برهان نُلزم القائل بما لم يلتزمه. ونُقوّله ما لم يقله، ولكننا نستدل بفساد اللازم على فساد الملزوم، فإن لوازم الأقوال من جملة الأدلة على صحتها وضعفها وعلى فسادها، فإن الحق لازمه حق، والباطل يكون له لوازم تناسبه، فيستدل بفساد اللازم خصوصاً اللازم الذي يعترف القائل بفساده على فساد الملزوم"(توضيح الكافية الشافية) (ص: 113)..
وخلاصة ما سبق أن يقال: أن لازم أقوال المذاهب والعلماء له ثلاث حالات:
♦ الحالة الأولى:
أن يذكر اللازم للقائل، ويلتزم به فهو يعد قولاً له.
♦ الحالة الثانية:
أن يذكر له اللازم، ويمنع التلازم بينه وبين قوله، فهذا ليس قولاً له، بل إن إضافته إليه كذب عليه.
♦ الحالة الثالثة:
أن يكون اللازم مسكوتاً عنه، فلا يذكر بالتزام، ولا منع، فحكمه في هذه الحال أن لا ينسب إلى القائل، لأنه يحتمل لو ذكر له أن يلتزم به أو يمنع التلازم، ويحتمل لو ذكر فتبين له لزومه وبطلانه أن يرجع عن قولهانظر (القواعد المثلى في صفات الله سبحانه وتعالى وأسمائه الحسنى) لمحمد بن عثيمين (ص: 15)..
وبهذا يُعلم أنه لا يصحّ التكفير بلازم المذهب بإطلاق، خاصة إذا كان من تلبّس به ينفي ذلك اللازم ويُنكره، أو كان يجهله، أو يغفل عنه، والله أعلمذكر المقبلي حكايات لبعضهم، تضمّنت التكفير بإلزامات متكلفة، فذكر أن بعض الناس منع أحد هؤلاء المتفقهة، فقال ذلك الفقيه: كفرت، لإنك هونت العلماء، وهو تهوين للشريعة، ثم للرسول، ثم المرسل. وفعل بعضهم شيئاً من منكرات الدولة، فقال المظلوم: هذا ظلم وحاشا السلطان من الأمر والرضى به، فقال: أنا خادم الدولة المنتمية إلى السلطان، فقد نسبت الظلم إلى السلطان، فهوّنت ما عظّمت الشريعة من أمر السلطان فكفرت، فأخذوه وجاؤا به إلى القاضي، وحكم عليه بالردة، ثم جدّد إسلامه وفعل ما يترتب على ذلكّ!! انظر: (العلم الشامخ) (ص: 413). المصدر: نوقض الإيمان القولية والعملية لعبد العزيز بن محمد بن على العبد اللطيف- ص 80.