الخميس 28 مارس 2024 الموافق 18 رمضان 1445 هـ

إضاءات فكرية

منابع التشدد والغلو

منابع التشدد والغلو

10 ربيع ثاني 1438 هـ


عدد الزيارات : 3160
عطية عدلان

 

في البَدْءِ كانت كلمة، وهي: (اعدل يا محمد)، غير أنّها لم تكن كلمة طائشة، وإنما كانت كاشفة لداء عضال يصيب هذه الأمّة، فيربك مسيرتها و(يُدَعْشِن) جهادها، ويجعل السيفَ واللسان مَسْلُولَيْنِ على أولياء الله مَغْمُودَيْنِ على أعدائه.

   كانت لحظة عابرة، تلك التي رمى فيها ذلك الأعرابيّ الجلف رسول الله صلى الله عليه وسلم بشتائم كُسِيَتْ برداء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: "اعْدِلْ يَا مُحَمَّدُ" "واللهِ إنَّ هذه لقِسْمةٌ ما عُدِلَ فيها وما أُرِيدَ فيها وجهُ الله"، كانت لحظة عابرة، لكنها كانت كاشفة ومعبرة، ولقد اجتمع فيها على رسول الله أقوامٌ صدق فيهم بعد ذلك قول أمير المؤمنين عمر: "تَقِلُّونَ عند الفَزَعِ وتَكْثُرون عند الطَّمَع".

   ولم يكن إِمَامُ الخوارجِ (ذو الخويصرة) إلا لساناً ناطقاً باسم تلك الجماعة البائسة التي وُجِدت بذورها الأولى في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والوحي ينزل، مما يدل على أنِّ أسباب نشأتها لا تنحصر فيما ينسب إلى المجتمعات أو الدول من طغيان أو ظلم، وأنَّ هذه الأسباب ترجع قبل كل شيء إلى طبائعَ وبيئاتٍ وتراكيب نفوسٍ، غير أنَّها تمتد بعد ذلك لتشمل عوامل مجتمعية ودعوية وسياسية.

   والموقف الذي قال فيه هذا الجلف ما قاله هو ذات الموقف الذي تكلّم فيه الأنصار بصوت خفيضٍ مُتْرعٍ أدباً وحلماً، فقد روى البخاريّ ومسلم عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ زَيْدٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا فَتَحَ حُنَيْنًا قَسَمَ الْغَنَائِمَ، فَأَعْطَى الْمُؤَلَّفَةَ قُلُوبُهُمْ، فَبَلَغَهُ أَنَّ الْأَنْصَارَ يُحِبُّونَ أَنْ يُصِيبُوا مَا أَصَابَ النَّاسُ، فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَطَبَهُمْ فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: (يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، أَلَمْ أَجِدْكُمْ ضُلَّالًا، فَهَدَاكُمُ اللهُ بِي؟ وَعَالَةً، فَأَغْنَاكُمُ اللهُ بِي؟ وَمُتَفَرِّقِينَ، فَجَمَعَكُمُ اللهُ بِي؟).

   فَهُم - ابتداء  - لم يُنْقَل عنهم إلى رسول الله أدنى إساءة، والأَرْوَعُ من هذا إجابتهم رسولَ الله وهو يَسْتَجْوبُهم: "فَقَالَ: (أَلَا تُجِيبُونِي؟) فَقَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ" أي أنَّنا لا نَمُنُّ على الله ورسوله بجهادنا وإنفاقنا وإنِّما الْمِنَّةُ لله ثم لرسوله صلى الله عليه وسلم، لذلك جاء الجواب على هذا النحو: فَقَالَ: (أَلَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاءِ وَالْإِبِلِ، وَتَذْهَبُونَ بِرَسُولِ اللهِ إِلَى رِحَالِكُمْ؟ الْأَنْصَارُ شِعَارٌ وَالنَّاسُ دِثَارٌ، وَلَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنَ الْأَنْصَارِ، وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا وَشِعْبًا، لَسَلَكْتُ وَادِيَ الْأَنْصَارِ وَشِعْبَهُمْ، إِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً، فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ).

   أمّا أولئك المارقون فجاء الجواب تجاههم على نحو آخر: (إِنَّ هَذَا وَأَصْحَابًا لَهُ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ، كَمَا يَمْرُقُ الْمِرْمَاةُ مِنَ الرَّمِيَّةِ) وفي رواية: (إن من ضئضئ هذا قوما يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم يقتلون أهل الإسلام، ويَدَعُون أهل الأوثان، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرَّمِيَّة، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد).

   ولقد كانت كلمات رسول الله صلى الله عليه وسلم في وصفهم غاية في الدقة إلى حدِّ الإعجاز، فهم قوم دخلوا في الدين بشدة وخشونة وعنف، لذلك لم يتشربوا تعاليمه وتشريعاته، ولم يستمكنوا من فهم مقاصده ومآلات أحكامه، فلم يجاوز القرآن الذي يرتلونه آناء الليل وأطراف النهار قيعان حناجرهم، وإنما جاوزوا هم بشدتهم تلك حدوده فمرقوا منه كما يمرق السهم الذي رُمِيَ بِشِدَّة مُبَالغٍ فيها من الرمية (الغزالة) دون أن يُرَى عليه أَثَرُ شَحْم أو دم.

   وإذا كان التحذير قد ورد ممن ظهروا في أول الإسلام، فإنّه ورد كذلك ممن يظهرون آخر الزمان، فعن عليّ رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:(يَأْتِي فِي آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ حُدَثَاءُ الأَسْنَانِ، سُفَهَاءُ الأَحْلاَمِ، يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ البَرِيَّةِ، يَمْرُقُونَ مِنَ الإِسْلاَمِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، لاَ يُجَاوِزُ إِيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ، فَأَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ، فَإِنَّ قَتْلَهُمْ أَجْرٌ لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ).

   هؤلاء هم الخوارج القدماء والجدد، وهذه هي طبيعتهم التي تُعتبر المبرر الأول لوجودهم، غير أنَّ وجودهم الذي لم يخل منه زمان من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى زماننا هذا وإلى آخر الأزمان ليس بدرجة واحدة من حيث قوته وامتداده ومن حيث عمق أثره على المجتمعات والأمم.

   لذلك يجب بحث العوامل التي تستدعي الظاهرة وتنشر خطرها وتعمق أثرها، فإنّه بالرغم من كثرة العوامل وظهور أثرها نراها لا تحظى بأدنى اهتمام من الأمّة على جميع المستويات العلمية والدعوية والتربوية والسياسية، اللهم إلا الشتم والسب واللعن وغير ذلك مما لا يجدي شيئاً إلا زيادة نفور الشباب عن كل خطاب يواجه هذه الأزمة.

  • أول منبع من منابع الغلوّ والتشدد:

- بعد عامل التركيبة المعقدة لنفوس المتنطّعين - هو الغلو في الجانب المقابل، أي أنّ الغلو بالإفراط والتَّشَدُّد ينشأ كَرَدِّ فعل للغلو بالتفريط والتَّمَيُّع، على قانون: "كل فعل له رد فعل مساوٍ له في المقدار ومضاد له في الاتجاه"، فالتفريط المتمثل في الإرجاء ينشأ عنه إفراط بالتكفير، لذلك كلما تفشى الفكر الإرجائي الذي يُبرئ الكفار والزنادقة من وصف الكفر ينشأ عنه في المقابل الفكر التكفيري الذي يكفر الموحدين ويرميهم بالزندقة تمهيداً لرميهم بالرصاص.

   إنَّ الدهشة التي تتملكنا عندما نسمع وصم الكفر يهب من أفواه الدواعش كما تهب الزوابع بلا مناسبة ولا سبب، يجب أن تتملكنا من أناس على الجانب الآخر قد ذهبوا في الزنادقة الذين يمثلون الاحتلال في بلاد المسلمين، وينكلون بالدعاة إلى الله ويدعمون دعاة الضلالة من كل اتجاه، ذهبوا في الحكم عليهم مذهبا يوشك أن يرفع وصم الكفر عن أبي جهل وأمية بن خلف.

   وإنَّ السخط الذي يسري في أوصالنا عندما نرى شاباً يَقْتُلُ مجاهداً مسلماً وهو يصيح: الله أكبر، يجب أن يسري مثله وبنفس الدرجة عندما نرى المنبطحين الذين استسلموا تحت قناع السلمية، وتركوا دينهم وأوطانهم وأعراضهم نهبة لكل فاجر غادر، وحتى لا يصحو أحد على حقيقتهم المقززة قاموا بتشويه كل الأحكام المتعلقة بالجهاد في سبيل الله تعالى، وبتقزيم دورها في حياة الأمّة.

   وإن الاشمئزاز الذي يصيبنا عندما نطالع الفقه السياسي المنغلق لأولئك المنظرين لما أسموه بالدولة الإسلامية في العراق والشام، يجب أن يصيبنا وبدرجة أشد عندما نجد المنظرين للفكرة الإسلامية العصرانية يتنكرون للنظام الإسلامي جملة، ويمجدون النموذج الغربيّ ويضفون عليه قداسة ما أضفوها على الخلافة الراشدة.

   إنَّ الانحراف لا يقاوم بالانحراف، وإنّ الخطأ لا يعالج بخطأ مثله، وإنَّ الله تعالى قد وصف هذه الأمَّة بوصف يجعلها على الدوام ميزان عدل: {وكذلك جعلناكم أمَّة وسطاً لتكونوا شهداء على النَّاس} فمن لم يتمتّع بهذه الوسطية لن يحظى بالشهادة على الناس ولو ادعاها، فلنستقم نحن قبل أن ندعو الخلق إلى الاستقامة.

  • ثاني هذه المنابع:

غياب دور العلماء في التصدي للمسائل الكبار، وأعني بالمسائل الكبار تلك التي اقتحمها الصغار بحماسة عارية من الفهم، وانبراء لمعالي الأمور بغير أدوات الاجتهاد، بله التفقه، فإنّك لتعجب أشدّ العجب عندما تجد كبار العلماء معنيين بالمسائل التي تسند في الأصل إلى صغار طلبة العلم، بينما المسائل العظام في السياسة الشرعية والجهاد والتغيير مهجورة إلا من أولئك المتهورين الفارغين.

   وإذا كان نورهم في هذه الزاوية خافتاً، فإنّه في ميدان القيادة والتوجيه يكاد يكون  منطفئاً، فلا ريب أنَّ صيحة الشباب من كل اتجاه: أين العلماء ؟ صيحة لها رصيد كبير من الواقع المؤلم للأمة الإسلامية، لأنّ العلماء هم أهل الحل والعقد وهم أولياء الأمر على الحقيقة، وما الأمراء والسلاطين إلا نواباً لهم يسوسون الأمّة بالوكالة عنهم وعن الأمة، ومن تتبّع أقوال العلماء في تفسير أولي الأمر في الموضعين من سورة النساء، ثم طالع شيئاً من الفقه السياسيّ الإسلاميّ في مظانه علم ذلك بيقين.

  • ثالث هذه المنابع:

الضعف العام في فقه السياسة الشرعية وغياب الرؤية والمشروع لدى الإسلاميين أجمعين، والحقيقة أن كل هذه الأمراض المستعصية تعد منبعاً واحداً، لكونها متلازمة، ولو أننا عدنا إلى خبر ذي الخويصرة لوجدنا النازلة متعلقة بالسياسة الشرعية، فرسول الله صلى الله عليه وسلم أجزل العطاء للمؤلفة قلوبهم من أمثال الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن، وفي المقابل لم يعط الأنصار، وهذا تصرف يجري على قواعد السياسة الشرعية، وكذلك واقعة الخروج الأولى كان سببها نازلة في محيط السياسة الشرعية، وهي نازلة التحكيم، وقد أخطأ الخوارج في فهمها إذ اعتبروها من قبيل الأحكام الثابتة بينما هي من قبيل السياسة الشرعية التي لا يشترط النص فيها،  ما دام العمل نفسه محققا للمصلحة وليس مصادما للشرع، فقالوا: "لا حاكم إلا الله" فجاء ردِّ سيدنا علي رضي الله عنه: "حق أريد به باطل"

  • ومن منابع هذا الفكر أيضاً:

الخطأ في الفهم، وهو قد يكون في فهم النص، وقد يكون في تكييف الواقع، وقد يكون في التنزيل، أي  تنزيل الحكم على الواقع، وأحسب أن خطأ ذي الخويصرة كان في فهم الواقع وفي التنزيل أيضاً، أمّا خطأ الحرورية الذين قالوا: "لا حكم إلا لله" فكان في فهم النص وفي تنزيله، وهكذا تأتي الأخطاء في واقع (الدواعش) خوارج العصر في هذه الأمور الثلاثة، فهم ابتداء يخطئون في تكييف واقع الناس، فيسقطون عليهم أحكام التكفير لأسباب لا تقتضي ذلك، ثم يُرتبون على هذا الخطأ أخطاء أخرى تتعلّق بالأحكام وفهم النصوص، وبتنزيل هذه الأحكام على الواقع، لذلك تجد أحكام المرتدين تتنزل عندهم على مجاهدين من أمثال أحرار الشام، وأحكام الكفر تتنزل عندهم على مناضلين مجتهدين في ميدان السياسة الشرعية أمثال أردوغان وحزبه العدالة والتنمية، ثم تأتي الأفعال الشنيعة التي نبأ بها الحديث: (يَدَعُون أهل الأوثان ويقتلون أهل الإسلام).

   وأخيراً فإنَّ من أخطر منابع الغلو ذلك الظلم والقهر الذي يقع من الأنظمة الفاجرة المستبدة، التي تأتي على ظهر الدبابة فتستعبد الشعوب وتحرمها حرية الكلمة وحرية الدعوة بل وحرية العبادة، وتسوقهم عبر مشروعات صهيونية وصليبية ورافضية صفوية ضد الاتجاه الذي يسوقهم فيه كتاب الله تعالى، وأخيراً تقتلهم بلا رحمة ولا هوادة بأسلحة ودعم الدول التي تحتل بلاد الإسلام بأيدي هؤلاء الحكام الفجرة.

   هذه هي أهم منابع الغلو والتشدد، ذكرتها بإيجاز، بما يناسب مقام المقال الصحفيّ، ولعلي في المستقبل القريب أتناول الموضوع بشيء من البسط والإسهاب، والله المستعان، وعليه وحده نتوكل  وبه نعتصم.

 المصدر: الجزيرة مباشر


اقرأ أيضاً.. سلسلة هلك المتنطعون: التكلف والتشدد

إضافة تعليق جديد