الثلاثاء 03 ديسمبر 2024 الموافق 01 جمادي الثاني 1446 هـ

إضاءات فكرية

ضابط الاستطاعة، والعمل عند اشتباه أمرها و حكم السعي لتحقيق الاستطاعة.

ضابط الاستطاعة

08 ربيع اول 1438 هـ


عدد الزيارات : 4379
عبد المنعم حليمة أبو بصير الطرطوسي

مقال يوضح مسألة "الاستطاعة" التي انقسم الناس حولها إلى مُتشدّد لا يعتبر الاستطاعة، فيكلّف نفسه والناس ما لا يطيقون، ومفرّط ترك ما يجب عليه تحت مظلة عدم الاستطاعة وما يزعمه من "فقه التدرج"، وفريق وسط يعتبر الاستطاعة ويسعى سعياً دائباً لتحقيقها.

وقد استدل الكاتب على اعتبار الاستطاعة بأدلة من القرآن والسنة والعقل، ونقل بعض كلام أهل العلم في المسألة، ومثّل لها بأمثلة قريبة من الفهم، فجاء المقال مختصراً مفيداً سهل العبارة. 


 

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد.

الناس مع مفهوم "الاستطاعة"، فريقان: فريق جنح إلى الإفراط والتنطّع والتشدّد، فكلّف نفسه مالا يُطيق، واستشرف بلاء ليس له به طاقة، أراد الأمور كلها في سلة واحدة، ودفعة واحدة، وفي زمن واحد، والويل لمن يخالفه ولا يرى رأيه!

أما الفريق الآخر: فقد جنَح إلى التَّفريط والجفاء والتقصير، فتخلّف عمّا يجب عليه، مما هو قادر عليه، تحت عنوان "فقه التدرج"، و"الاستطاعة"، وفقه العجز. وفي الحقيقة هو قادر ويستطيع لو توفرت لديه العزيمة والإرادة. وهذا والذي قبله، كلاهما على خطأ، وضرر، وخطر.

وفريق ثالث انتهج الوسطية والاعتدال في المسألة من غير جنوح إلى إفراط ولا إلى تفريط، فأقرّ أن مسألة مراعاة القدرة والاستطاعة في التكاليف الشرعية حق وضروري، وأنّ جميع التكاليف الشرعية يُشترط لها الاستطاعة، ومنوطة بانتفاء العجز، إلا أنه لم يجنح في فهمه للاستطاعة وتقديرها إلى الإفراط أو التفريط، فإنْ تحقق العجز يقيناً، وانتفت القدرة والاستطاعة، اعتذر بفقه الاستطاعة، وعمل حينئذٍ على دفع العجز، وتحقيق الاستطاعة قدر طاقته، وإن تحققت الاستطاعة المطلوبة لم يتهرّب، ولم يتخلف عن الواجب المقدور عليه تحت زعم مراعاة فقه الاستطاعة، وفقه العجز.

فإن قيل: أين الدليل الذي يوجب مراعاة فقه الاستطاعة عند القيام بالتكاليف والواجبات، وأنّ العجز يُسقط التكليف إلى حين توفر القدرة أو الاستطاعة؟

أقول: الأدلة على هذا الفقه كثيرة، منها قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}[التغابن:16]. وقوله تعالى:{لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا}[البقرة:286]. وقوله تعالى: {وَلَا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا}[المؤمنون:62].

قال ابن كثير في التفسير: "{لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا}[البقرة:286]. أي لا يُكلَّف أحد فوق طاقته، وهذا من لطفه -تعالى- بخلقه ورأفته بهم وإحسانه إليهم"ا. هـ.

وقال تعالى: {لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ}[التوبة:91]، وفي سورة الفتح: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ}[الفتح:17]. فهذه الأصناف ليس عليهم حرج لو تركوا الجهاد بالنفس إذا نصحوا لله ورسوله، لأنهم مستضعفون لا يستطيعون ولا يقدرون على القيام بواجب الجهاد ومتطلباته، فعُذِروا لأجل ذلك.

وكذلك قوله تعالى: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ}[الأنفال:60]، فالإعداد واجبٌ قدر الاستطاعة، فما زاد عن حدّ القدرة والاستطاعة لا نُسأل عنه، ولكنّ المحاسبة والمؤاخذة تكون لو حصل التقصير فيما هو ضمن القدرة والاستطاعة.

وقوله تعالى: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً}[آل عمران:97]. فشرطُ الحجِّ الاستطاعة، وهي الراحلة والزاد وأمن الطريق، فإذا انتفت الاستطاعة رُفع التكليف والواجب إلى حين توفر وتحقق الاستطاعة.

وفي الحديث: فقد صحّ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (فإذا أمرتُكم بشيٍء -وفي رواية: بأمرٍ- فأتوا منهُ ما استطعتم)متفق عليه.

وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: "كنا إذا بايعنا رسولَ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- على السمعِ والطاعةِ يقول لنا: (فيما استطعتُم)"رواه البخاري.

وقال صلى الله عليه وسلم: (فاكلَفوا من الأعمالِ ما تُطيقونَ). وفي روايةٍ: (فاكلَفوا ما لكمْ به طاقةٌ)رواه مسلم.

وفي حديث، دعاء سيد الاستغفار: (وأَنا على عَهْدِكَ ووعدِكَ ما استطعتُ)متفق عليه، قال الخطابي: "يريد: أنا على ما عاهدتك عليه وواعدتك من الإيمان بك وإخلاص الطاعة لك ما استطعت"ا. هـ. أي بحسب استطاعتي، وقدر طاقتي.

قال الإمام الشافعي رحمه الله: "فإن الله -تعالى- يعلم أن هذا مستطيع يفعل ما استطاعه فيثيبه، وهذا مستطيع لا يفعل ما استطاعه فيعذّبه، فإنما يعذبه لأنه لا يفعل مع القدرة، وقد علم الله ذلك منه، ومن لا يستطيع لا يأمره ولا يعذبه على ما لم يستطعه"ا. هـ.

فإن قيل: ما هو ضابط الاستطاعة؟ كيف يعرف الإنسان أنه يستطيع أو لا يستطيع؟ إذْ من القضايا والحالات ما قد تشكل على المرء، فيتردد بين الإحجام والإقدام، بناء على تردده في تقدير قدراته واستطاعته، أقول: ضابط الاستطاعة يكون بالنظر الصحيح في تقييم القدرة أو الاستطاعة، ومن ثَمّ متطلبات ما يجب القيام به، ويُنظر هل يوجد تناسب وتكافؤ بينهما، أم أن متطلبات ما يجب القيام به -أمراً كان أم نهياً- هي أكبر من قدرات المرء وطاقته.

ثم لو حاول القيام بها، هل يعجز عن القيام بها أم لا، ولو قام بها، فهل ينتج عن محاولته حرج شديد، أو مشقة غير محتملة، أو مفسدة راجحة، أم لا؟.

من خلال النظر الدقيق والمنصف في هذه الجوانب مجتمعة يتحدد ضابط الاستطاعة، ويُعرف ما يمكن القيام به، وما لا يمكن.

ويُقال كذلك: إن الواجبات والحالات التي تواجه المرء، نوعان: نوع محكم صريح، يكون تقدير الاستطاعة فيه سهل -سواء بالنفي أو الإيجاب- بصورة لا يمكن أن يختلف عليها النقل، ولا العقل، وتقديرها لا يحتاج إلى مزيد علم، ولا إلى علماء.  

مثال ذلك: شخص يستطيع أن يحمل عشرين كيلو جرام، فيُطلب منه أن يحمل عشر كيلو جرامات، فالعقل هنا مباشرة يقول: يستطيع، ولو قيل: لا يستطيع، لعُلِمَ عقلاً أنه كذب، يريد أن يتهرب مما يُطلب منه!

أو قيل له مثلاً:  كُلْ بيمينك، فقال: لا أستطيع -من غير علّة في يمينه- لرُدَّ عليه مباشرة اعتذاره بعدم الاستطاعة، وعُلم أنه يتهرب من الواجب، أو يترفّع عنه!  كما في الحديث عن سلمة بن الأكوع، (أنَ رجلًا أكل عند رسولِ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- بشمالِه! فقال: كُلْ بيمينِك. قال : لا أستطيعُ . قال: لا استطعتَ، ما منَعَه إلا الكِبرُ. قال : فما رفعَها إلى فِيه)رواه مسلم. أي فما قدر أن يرفع يده إلى فيه، لدعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- عليه. فعذره بعدم الاستطاعة مردود، لأنه كاذب، وما حمله على نفي الاستطاعة عن نفسه إلا الكبر!

فإن طُلب منه مثلاً أن يحمل مائة كيلو جرام، أو أن ينازل ويُقاتل منفرداً مائة رجل، فالعقل مباشرة يقول: لا يستطيع. ولو قيل: أنه يستطيع، لعُلِم عقلاً -وعند جميع العقلاء- أن ذلك غير صحيح، وهو نوع من التهور والتكلّف، وإلقاء النفس في التهلكة، والتشبع بما لم يُعطَ وما ليس فيه، وفي الحديث: (المتشبِّعُ بما لم يُعْطَ، كلابسِ ثوبيْ زورٍ)رواه مسلم.

وقال تعالى: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}[البقرة:195]. والتهلكة هي كل ما يترتب على فعله أو عدمه ضرر راجح، ومفسدة راجحة، أو تفويت مصلحة راجحة.

قال صلى الله عليه وسلم: (لا يَنبغي للمُؤمنِ أن يُذلَّ نفسَه، قالوا : وكيف يُذلُّ نفسَه؟ قال: يتعرَّضُ مِن البلاءِ لما لا يُطيقُ)صحيح، رواه الترمذي، رقم (2254).

ونوع آخر متشابه، يلتبس أمره على العامة: تقدير الاستطاعة فيه غير واضح، يحتمل الأمرين معاً الاستطاعة، وعدمها، وهذه حالات تحتاج إلى علم ودقة نظر وفقه بما ينبغي تقديمه والقيام به، وبما يملكه الإنسان من طاقة وقدرة، هل يوجد بينهما تناسب؟ ومثل هذه الحالات المتشابهة التي تشكل على العامة، معرفة الاستطاعة فيها يكون بردّها لأهل العلم والاختصاص، الذين يُحسنون تقدير الاستطاعة المطلوبة لما يُراد القيام به أمراً أو نهياً، كما قال تعالى: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}[الأنبياء:7].

وقال تعالى: {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ}، لكثرتهم، ولكن هذا قول وتقدير العامة من المؤمنين، ممن جاوزوا النهر مع طالوت، {قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا}. لكن قول وتقدير علمائهم كان مختلفاً، والقول الفصل في مثل هذا الأمر المتشابه -الذي يحتمل الاستطاعة وعدمها- لهم، وليس لغيرهم {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو اللّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}[البقرة:249]. فجرأوهم على القتال والمواجهة، وكان النصر حليفهم بإذن الله. 

والاختلاف بين أهل العلم والنظر في الأمور المتشابهة التي تحتمل الأمرين معاً: الاستطاعة أو عدمها، مستساغ لا ينبغي أن يُفْسِدَ الودّ بين الإخوان، كما لا يجوز أن يترتب عليه ولاء وبراء، أو جرح وتعديل، فالاختلاف في مثل هذه المواضع إن كان ناتجاً عن اجتهاد، هو بين الأجر والأجرين، إن أخطأ صاحبه فله أجر، وإن أصاب فله أجران.

لكن الاختلاف يضيق، وكذلك الأعذار تضيق أكثر، عندما يحصل خلاف على المقدور عليه يقيناً، مما يجب القيام به بصورة جليّة لا يختلف عليها عاقلان! 

ويُقال أيضاً: إن العجز نوعان: عجز دائم لا يُرجى البرؤ منه، وهذا غالباً يكون عجزاً عضوياً لصيقاً بالأفراد، وهذا يعذر صاحبه أبداً لدوام العجز، واستحالة التخلص منه، كالأعمى، أو الأعرج، ونحو ذلك. وعجز مؤقت يرجى برؤه، ويمكن دفعه، مع المحاولة وبذل الجهد المستطاع على دفعه، وهذا يمكن أن يكون عجزاً عضوياً، ومادياً، أو معنوياً، قد تتصف به الأفراد، والجماعات سواء. وهذا يتعيّن العمل على دفعه وإزالته وفق القدرة والممكن، إذ لا يجوز الاستسلام لخيار العجز ما دام يمكن دفعه. والتقصير في دفعه، والعمل على إزالته، كالتقصير في القيام بأي واجب من الواجبات يمكن القيام به من حيث الوزر، والمساءلة.

فمثلاً لو سقط الجهاد في مرحلة من المراحل، لعجزٍ أو لعدمِ توفرِ القدرة: ينصرف الجهد حينئذٍ إلى دفع العجز، بتحقيق الإعداد الواجب والمطلوب قدر المستطاع، إلى أن تتحقق القدرة على العمل بواجب الجهاد، ويكون الإعداد حينئذٍ هو واجب المرحلة وجهادها، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وما يُقال في الجهاد، يُقال في الحج، وغيره من الواجبات. 

فالعجز أمر نسبي، وكذلك الاستطاعة أمر نسبي، كلما زادت الاستطاعة: زال جزء من العجز على قدر نمو وزيادة الاستطاعة، وزادت التكاليف والواجبات بحسب زيادة ونمو الاستطاعة. فمن كان عاجزاً اليوم فغداً قد يكون قادراً، ومن كان يستطيع اليوم أن يقوم بواجب واحد، فغداً قد يستطيع أن يقوم بأكثر من واجب، وفي أكثر من ميدان، وأكثر من صعيد،  فالواجبات تتعين على المرء كمَّاً ونوعاً على قدر نمو وتطوّر الاستطاعة كمّاً ونوعاً، فهما متلازمان في الزيادة كما أنهما متلازمان في النقصان، وعليه فإن العمل على تنمية الاستطاعة لا يجوز أن يقف عند حدّ يمكن تجاوزه، فهذا من التطور المحمود والواجب، وهو من معاني ودلالات ولوازم العمل بقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}[التغابن:16]. وقوله تعالى: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ}[الأنفال:60].

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.


اقرأ أيضاً.. قواعد في فقه النوازل

1 - ا. هـ
2 - متفق عليه
3 - رواه البخاري
4 - رواه مسلم
5 - متفق عليه
6 - ا. هـ
7 - ا. هـ
8 - رواه مسلم
9 - رواه مسلم
10 - صحيح، رواه الترمذي، رقم (2254)