الأحد 22 ديسمبر 2024 الموافق 20 جمادي الثاني 1446 هـ

منهج وتأصيل

قواعد في فقه النوازل

09 رجب 1439 هـ


عدد الزيارات : 7313
موقع على بصيرة

 

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

ما تزال ساحة الثورة السورية ولّادة بالأحداث والنوازل، والتي تحتاج لتضافر جهود أهل العلم في بحثها ودراستها، لأن الإحاطة بواقع النوازل لا يستطيعه عقل فردي مهما بلغ من الرسوخ بالعلم، فلا بد من عقل جمعي، وتعاون في النظر، لتقليب النازلة من وجوه عديدة، لتصبح واضحة ومفهومة للباحثين من أهل العلم، ليتمكنوا من إعطائها الحكم الصحيح.

ولا يخفى أنّ الفهم للواقع أو دراية النازلة دراية كاملة شاملة جامعة هو ركن مهم وأصيل في بناء الحكم الشرعي للنوازل، وإن فُهم الواقع خطأً فسيتبعه لزامًا تنزيل نصّ لا يتوافق مع الواقع، ويكون الحكم المعطى للنازلة خطأً.

ولقد ابتُليت الثورة السورية بأقوام لم يقصر نظرهم عن فهم الواقع فحسب، بل وقعوا في جهل وتخبّط في فهم النصّ، فجمعوا جهلًا على جهل، فجاءت أحكامهم في نوازل الثورة مدمّرة وكارثيّة، جرَّت التكفير والتفجير وسفك الدماء، والتحزبات والجهالات، وتسببت في إطالة معاناة الناس.

ومن النوازل التي مرت بها الثورة: دخول الفصائل في تحالفات عسكرية مع دول إقليمية أو عالمية في قتال النظام، وأخذت هذه التحالفات أشكالاً كثيرةً، منها: (غرفة الدعم الموم) و(الموك)، ومنها (درع الفرات)، ومنها مشاركة القوّات التركية في دخول إدلب، وتحرير عفرين.

ومن النوازل: الدخول في تحالفات سياسية، كتشكيل الائتلاف وما انبثق عنه من الحكومة المؤقتة، والدخول في مؤتمرات جنيف والأستانة وما بعدهما.

ولقد بحث كثير من أهل العلم والمجامع العلمية بعض هذه النوازل وقالوا رأيهم فيها، وفي هذا البحث سنتناول موضوع النوازل بشكل عام، ونحاول وضع قواعد وأسس تأصيليّة لها، وقد يضطرنا البحث للدخول في بعض الجزئيات، من باب التمثيل وتقريب المسألة، أو من باب ذكر الأمثلة التطبيقية لهذه الأسس والقواعد.

 

  • أولاً: التراث الفقهي بين الجمود والجحود

عندما ننظر في تراثنا الفقهي الكبير، علينا أن نميّز بين نصوص الأحكام من الآيات والأحاديث، وبين آراء أهل العلم واجتهاداتهم في فهم هذه النصوص والقياس عليها.

فالنصّ لا يسع المسلم الخروج عنه، بل إن الانقياد له دليل على صدق الإيمان.

واجتهادات أهل العلم هي منارات يهتدى بها، ويستعان بها في فهم النوازل وغيرها، ولكنها ليست نصًّا لا يجوز الخروج عنه، وفي هذا المعنى يقول ابن تيمية رحمه الله تعالى: "ولفظ الشرع يُقال في عرف الناس على ثلاثة معان:

الأول: الشَّرْعُ الْمُنَزَّلُ: وهو ما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهذا يجب اتباعه، ومن خالفه وجبت عقوبته.

والثاني: الشَّرْعُ الْمُؤَوَّلُ: وهو أراء العلماء المجتهدين فيها، كمذهب مالك ونحوه، فهذا يسوغ اتباعه ولا يجب ولا يحرم، وليس لأحد أن يلزم عموم الناس به، ولا يمنع عموم الناس منه.

والثالث: الشَّرْعُ الْمُبَدَّلُ: وهو الكذب على الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-  أو على الناس بشهادات الزور ونحوها، والظلم البيّن، فمن قال إنّ هذا من شرع الله فقد كفر بلا نزاع"مجموع الفتاوى (3/286)، وذكر هذا في مواضع متفرقة من مجموع الفتاوى وبعبارات متقاربة..

والمتأمل في واقعنا العلمي يجد أنّ الساحة ابتليت بفريقين، فريق الجمود وفريق التفلّت، وكلاهما غلوّ وتطرّف. والاعتدال بينهما.

ففريق الجمود حبس نفسه في قوالب فقهية لفتاوى أهل العلم وآراءهم، وجعلها كالنصوص يقيس عليها ويستخرج علل ومقاصد الفقيه منها، ويحاول أن ينزلها بعينها على نوازل عصرنا، ويُحرّم الخروج عنها، ويُلزم الأخذ بها، مع أنّ كثيرًا من هذه الفتاوى هو خاصّ بزمانه ومكانه وملابساته، لذا فقد جاءت اجتهادات وفتاوى أهل العلم في عصرهم تلبية لحاجاتهم ونوازلهم على حسب واقعهم.

فاستحضار فتاوى لأهل العلم التي قيلت في نوازل عصرهم، وجعلها قالبًا جاهزًا لنوازل عصرنا، بعيد عن الصواب، "فربّ فتوى تصلح لعصر ولا تصلح لآخر، وتصلح لبيئة ولا تصلح لأخرى، وتصلح لشخص ولا تصلح لغيره، وقد تصلح لشخص في حال، ولا تصلح له في نفسه في حال أخرى"الفتوى بين الانضباط والتسيّب، للقرضاوي، ص (94)..

ففي باب المعاملات مثلاً: بيّن أهلُ العلمِ العقودَ وسمَوا أسماءها وكيّفوها على الوصف الذي كانت عليه، وأعطوا أحكامها على ضوء النصوص وقواعدها ومقاصدها. فعندما يظهر في عصرنا نوع جديد من العقود -والساحة ولّادة وثرية بالمعاملات الجديدة- يسعى البعض للبحث عن العقد القديم الذي يناسب الجديد فيعطيه الحكم، ولا يكون ذلك صحيحًا دائمًا، فقد يكون العقد المعاصر لونًا جديدًا لا يشبه شيئًا مما قبله، فيحتاج لتكييفه وتوصيفه تكييفًا وتوصيفًا جديدًا، ثم الحكم عليه على ضوء قواعد ومقاصد ونصوص الشرع، كعقد التكافل الاجتماعي في المؤسسات الحكومية، أو عقد شركة المساهمة المغفلة مثلًا.

وكذا بعض المعاملات التي بنيت فتاواها على العرف، كمفهوم القبض في المعاملات، حيث  صرّح الفقهاء القدامى بأنه يكون بالتخلية في غير المنقول وبالنقل والتناول في المنقول، وعندما تطورت وسائل التسليم في زماننا، وظهرت صور جديدة للقبض: راح يتكلّم عليها البعض من خلال الصور والقوالب التي جاءت في كتب الفقه، مع أنّه لو نظر إلى مقصد الشارع لرأى أنّ القبض تحقق زوال ملكية البائع عن السلعة وثبوت ملكيته للثمن، والعكس للمشتري، ولهذا كثير من أهل العلم المعاصرين أجازوا صور القبض التي يتحقق فيها هذا المعنى، كمجمع الفقه الإسلامي في دورته السادسةانظر قرار المجمع في موقع المجمع http://www.iifa-aifi.org/1792.html ..

وكذلك جريان الربا في العملات الورقية، فكثير من العلماء كالشافعية قديمًا جعلوا علّة المال الربوي الثمن، والثمن في زمانهم كان الدينار الذهبي والدرهم الفضي، ولهذا نصّ الحديث عليهما. فعندما ظهرت العملات الورقية الحديثة، بدأ الحديث عن ثمنية هذه الأوراق، وهل يجري فيها الربا وهل تجب فيها الزكاة إلى غيره من خصائص المال (الثمن)، فأفتى البعض -وما يزال من يردّد هذا الكلام- بأنّ هذه العملات الورقية ليست أثمانًا ولا يجري فيها الربا! لأنّه ساق القوالب الفقهية القديمة في تحديد الثمن بالذهب والفضة، ولو نظر إلى مقصد الشرع وحقيقة مسمّى الثمن وهو أنّه ما يتحقق به الغنى، ويصلح عوضًا للمبيعات، ومهرًا في الزواج ونحوه، لعلم أنّ العملات الورقيّة أثمان، كما قال ابن تيمية: "فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْأَثْمَانِ أَنْ تَكُونَ مِعْيَارًا لِلْأَمْوَالِ يَتَوَسَّلُ بِهَا إلَى مَعْرِفَةِ مَقَادِيرِ الْأَمْوَالِ، وَلَا يَقْصِدُ الِانْتِفَاعَ بِعَيْنِهَا"مجموع الفتاوى ص (29/470-471).، وهذا ما عليه جمهور أهل العلم المعاصرين والمجمّعات الفقهية.

وفي ساحة الجهاد ما أكثر النوازل وما أكثر ملابساتها، ولا نبالغ إن قلنا إنّ كل نازلة في كل ساحة جهادية تحتاج لاجتهاد خاص، وإن شابهت نظائر لها في ساحات قديمة أو سابقة.

فالبعض يتعامل مع نوازل الجهاد والثورة باستجرار فتاوى قديمة ليجعل منها قالبًا يضع النازلة المعاصرة فيه، ويجري عليها كل ما تضمّنته الفتوى القديمة، دون مراعاة لاختلاف ظروف وملابسات النوازل، وكمثال على ذلك: ترى جلّ من تكلم عن حكم المجنّد في جيش بشار الأسد ساق له فتوى ابن تيمية فيمن جمز إلى معسكر التتار، وقال بردته بناء على حكم ابن تيمية بردّة من جمز إلى معسكر التتار، مع أنّ القالب الفقهي لفتوى ابن تيمية -رحمه الله- لا يصلح لكلّ من يقاتل مع بشار، فلم يكن في زمن ابن تيمية تجنيد إجباري، ولا أخذ للناس من بيوتها أو من الحواجز في الشوارع لتقاتل.

وكذلك من تكلّم عن جواسيس النظام ومن يُسمَّون بالعواينية أو المخبرين، تراه يستدعي كلام أهل العلم في حكم الجاسوس، والحقيقة أنّنا بحاجة إلى مناقشة تسمية هؤلاء بالجواسيس قبل إعطائهم حكمه، فإنّ عملهم قد تعدّى الجاسوسية، فلم يعد مقتصرًا على كشف عورات المجاهدين، بل تعدّاه إلى إعطاء إحداثيات الأماكن التي يُراد قصفها واستهدافها، ووضع عبوات متفجّرة، مما يجعله في صفّ المحارب والمقاتل، وكأنه جندي في صفوف العدو.

وعندما نقرأ لمن تكلّم في حكم الدخول في التحالفات العسكرية أو السياسية، كالدخول في غرف الموم أو درع الفرات أو الائتلاف أو الحكومة المؤقتة: نراه من جملة ما أخطأ به أنّه جاء بفتاوى قديمة وأنزلها على النازلة، وجعل منها قالبًا لها، كفتاوى مظاهرة المرتدين، والاستعانة بالكفار على المسلمين، وإعانة الكفار على المسلمين، وهي تنزيلات جامدة، واستدعاءات لفتاوى في غير مكانها وزمانها، بعيدًا عن مقاصد النصوص وقواعد الشريعة، ويقع في الخطأ نفسه من يردّ عليها أيضًا عندما يسير على ذات الطريقة في إثبات رأيه.

وبالمقابل وقع فريق بنقيض ما وقع به الفريق الأول، وربّما نتيجة ردّة فعل تجاوزت الحدّ، فجعل تراث علمائنا الفقهي وفتاواهم قضيّة تاريخية مرّت وانتهت، وكأنّ مكانها في المتاحف الفكرية فقط، وليس لها حضور في ساحة الاجتهاد والحركة العلمية المعاصرة، وصار البعض يصفها بالكتب الصفراء والحمراء، ويسمّي المتّبعين لها بالظاهريين والجامدين، ويمتنع عن ذكر شيء منها بحجّة أنّ العقل الغربي لا يقبلها!

وقد أوصل هذا المنهج أتباعه إلى إهدار كثير من أحكام الشرع المنصوص عليها في القرآن والسنّة، من خلال مناقشة آراء الفقهاء وتعليلاتهم المتعلّقة بها، ثمّ ردّها باعتبار فوات وقتها وتغيّر ظروفها، كاعتبار بعضهم مسألة حجاب المرأة وتحريم الموسيقى من المسائل الدخيلة على الإسلام!

وقول بعضهم إنّ مسألة تحريم الربا مسألة متأثرة بظروفها وتاريخها، حيث كان المرابي غنيًّا جشعًا، والآخذ فقير يأخذ الربا ليعيش، أما اليوم فآخذ الربا يأخذه للقيام بالمشاريع الإنتاجية، ولهذا فرّقوا بين الربا الإنتاجي والربا الاستهلاكيكما يقول معروف الدواليبي، نقله عنه لبيب شقير في كتابه الفكر الاقتصادي ص (81). وكما يدعو له محمد حبش، وانظر رأيه وردّ الدكتور صالح العلي عليه في بحثه: "أثر الربا في القروض الانتاجية"، ص (10).. أو أنّ صورة الربا الآن أصبحت عكس واقع الربا الجاهلينقلاً عن الدكتور القرضاوي، الفتوى بين الانضباط والتسيب، ص (124).!! فآخذ الربا هو الموظف الذي يودع ماله في البنوك، والمعطي للربا هو البنك.

وفي جانب السياسة الشرعية بدأ البعض يؤصل لجواز تولّي الكافر أو تولّي المرأة للحكم، بحجّة أنّ المانع منها والمحرِّم لها هي اجتهادات علماء وفهومهم للنصوص، وهي ليست معصومة، ولسان حاله يقول ما قال سلفه: هم رجال ونحن رجال! وهذا كلّه من الجهل بعلل النصوص ومقاصد الشريعة وطبيعة الفتاوى.

وقد يستند هؤلاء في جلّ آرائهم على أنّ الفتوى تتغير بتغيّر الأحكام، ومع الإقرار بصحة هذه القاعدة إلا أنّ جَعْلَ كل الفتاوى منشؤها العرف وبالتالي فهي قابلة للتغيير، هو تدليس وخطأ.

والصواب: أن يسعى المفتي -بعد فهمه الشامل والدقيق لواقع النازلة- إلى الحكم عليها من خلال نصوص الشريعة وقواعدها ومقاصدها وأصولها، ويجعل ما قاله وأفتى به أهل العلم السابقين معلمًا ونبراسًا يستضيء به ويستفيد منه، ويحاكي طريقتهم في الفهم والاستنباط، لا يجمد عليها ولا يهدرها.

 

  • ثانياً: بين فقه التمكين وفقه الاستضعاف

إنّ حياة الأمم كحياة الأفراد، تمرّ بمراحل مختلفة، تبدأ وليدة ضعيفة ثم تكبر فتشب وتقوى ثم تعتريها عوامل الضعف فتشيخ وتهرم، كما قال -تعالى- عن حياة الإنسان: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ}[الروم: 54].

ويعبّر القرآن عن مرحلة القوة في الأمم بالتمكين، وعن مرحلة الضعف بالاستضعاف، كما قال -تعالى- في وعده للمؤمنين: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ}[النور: 55]، وكما قال -تعالى- في قصة موسى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ مَا كانُوا يَحْذَرُونَ}[القصص: 5-6].

ومن تأمل آيات القرآن الكريم يجد أنّ الله جعل لكل مرحلة أحكامها، فلمرحلة الاستضعاف فقهها، ولمرحلة التمكين فقهها، والخلط بينهما مهلكة ومفسدة للأمة، فمن حمّل الطفل الصغير أو الشيخ الكبير أثقال الرجل القوي، قتلهما وأهلكهما، ومن كلّف الرجل القوي بحمل الطفل أو الشيخ ضيّع قوته وهدر شبابه وكان مهزلة بحقه.

كذلك حال الأمة فعندما تكون في حالة استضعاف تسير في فقه الاستضعاف، وعندما تكون في حال التمكين تسير في فقه التمكين.

وفقه التمكين هو: الأحكام الشرعية التي تختص بالأمة حال قوتها وبناء دولتها وتثبيت سلطانها.

وفقه الاستضعاف: الأحكام الشرعية التي تختص بالأمة حال ضعفها أو عجزها وتسلّط الأعداء عليها.

لقد أمر القرآن الكريم بالصبر والمصابرة على كيد ومكر الكفار في مواضع كثيرة، وأمر بقتالهم في السيف وتشريد من خلفهم بهم، وللوهلة الأولى يظنّ القارئ أنّ بين هذه الآيات تناقض، والكثير ممن يريد الخروج من التناقض يذهب للنسخ، فيجعل من آيات السيف ناسخة لآيات الصبر، ولعلّ الصحيح أنّ لكل آيات زمانها وظروفها وملابساتها، والجمع ممكن بينها، وإذا أمكن الجمع لا يصار إلى النسخ، فآيات الصبر مكيّة، والمرحلة المكية هي مرحلة استضعاف للمسلمين، وآيات السيف مدنية، والمرحلة المدنية مرحلة تمكين للمسلمين، فجاءت الآيات موافقة لزمانها، ففي حال الاستضعاف تسير الأمة على منهج الصبر والمصابرة حتى يأذن الله بالفرج، وفي حال التمكين تقاتل الكفار والمنافقين وتفرض سلطتها.

يقول الزركشي في الحديث عن أنواع النسخ: "الثالث: ما أمر به لسبب ثم يزول السبب كالأمر حين الضعف والقلّة بالصبر وبالمغفرة للذين يرجون لقاء الله، ونحوه من عدم إيجاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد ونحوها، ثم نَسَخَه إيجاب لذلك، وهذا ليس بنسخ في الحقيقة، وإنّما هو نَسْء، كما قال تعالى: {أو ننسئها} فَالْمُنْسَأُ هو الأمر بالقتال إلى أن يقوى المسلمون، وفي حال الضعف يكون الحكم وجوب الصبر على الأذى.

وبهذا التحقيق تبيّن ضعف ما لهج به كثير من المفسرين في الآيات الآمرة بالتخفيف أنّها منسوخة بآية السيف، وليست كذلك، بل هي من الْمُنْسَأِ بمعنى أنّ كل أمر ورد يجب امتثاله في وقت ما لعلة توجب ذلك الحكم، ثم ينتقل بانتقال تلك العلّة إلى حكم آخر، وليس بنسخ، إنّما النسخ الإزالة حتى لا يجوز امتثاله أبدًا"البرهان في علوم القرآن، (2/42)..

وقال ابن تيمية: "فمن كان من المؤمنين بأرض هو فيها مُستَضعف أو في وقت هو فيه مُستَضعف فليعمل بآية الصبر والصفح عمن يؤذي الله ورسوله من الذين أوتوا الكتاب والمشركين، وأمّا أهل القوّة فإنما يعملون بآية قتال أئمة الكفر الذين يطعنون في الدين، وبآية قتال الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون"الصارم المسلول، ص (221)..

ويشبه هذه المسألة: مسألة هدنة العدو، فتجوز حال الاستضعاف ولا تجوز حال القوة، قال ابن العربي في سياق هذه المسألة: "فإذا كان المسلمون على عزّة، وفي قوّة ومَنَعَة، ومَقَانِبَ عديدة، وعُدّة شديدة: فلا صلح حتى تُطعن الخيل بالقَنَا، وتُضرب بالبيض الرِّقاقِ الجماجمُ، وإن كان للمسلمين مصلحة في الصلح لانتفاع يُجلَب به، أو ضُرٍّ يندفع بسببه فلا بأس أن يبتدئ المسلمون به إذا احتاجوا إليه"أحكام القرآن، (2/427)..

وقال ابن كثير عند قوله تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ}[الأنفال: 61]: "وقال ابن عباس ومجاهد وزيد بن أسلم وعطاء الخراساني وعكرمة والحسن وقتادة: إنّ هذه الآية منسوخة بآية السيف في بَرَاءَة: {قاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ}[التوبة: 29] الآية، وفيه نظرٌ أيضًا، لأنّ آية بَرَاءَة فيها الأمر بقتالهم إذا أمكن ذلك، فأمّا إن كان العدو كثيفًا فإنّه يجوز مهادنتهم، كما دلّت عليه هذه الآية الكريمة، وكما فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم الحديبية، فلا مُنَافَاة ولا نسخ ولا تخصيص، والله أعلم"تفسير ابن كثير، (4/74)..

وهذا ما ينسجم مع مقاصد الشرع وما عليه هدي النبي صلى الله عليه وسلم، ففي مكة لم يُفرض الجهاد وكان هدي النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (صَبْرًا يَا آلَ يَاسِرٍ فَإِنَّ مَوْعِدَكُمُ الْجَنَّةُ)أخرجه الحاكم في المستدرك برقم (5646)، وسكت عنه الذهبي، والبيهقي في شعب الإيمان برقم (1515).، وكذلك هديه -صلى الله عليه وسلم- في حديث خَبَّابِ بنِ الأَرَتِّ، قال: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الكَعْبَةِ، قُلْنَا لَهُ: أَلاَ تَسْتَنْصِرُ لَنَا، أَلاَ تَدْعُو اللَّهَ لَنَا؟ قَالَ: (كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ، فَيُجْعَلُ فِيهِ، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرَ، حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ، لاَ يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ، أَوِ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ)أخرجه البخاري برقم (3612)، كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام.. فلم يعلنها حربًا عالمية، كما هو سبيل أهل الجهل والغلوّ.

ولكن عندما ذهب للمدينة وتكوّنت نواة التمكين وظهرت معالمه بعد سنوات، صار يراسل الملوك ويقول لهرقل ملك أكبر دولة في العالم آنذاك: (أَسْلِمْ تَسْلَم)أخرجه البخاري برقم (7)، كتاب الوحي، باب كيف كان بدء الوحي.، وأعلن الجهاد على الكفار والمنافقين، ونزلت آية السيف وأخذ الجزية من النصارى.

إنّ المكية والمدنية ليستا مرحلتين تاريخيتين مرت بهما الدعوة وانتهتا، بل هما حالتان تمرّ بهما حياة الأمة، وكلّ حالة لها أحكاما الثابتة التي لم تنسخها أحكام المرحلة الأخرى.

ومن فقه الاستضعاف والتمكين: مبدأ التلطّف مع العدو في حال الاستضعاف، بحيث لا تذعره عليك ولا تلفت انتباهه لما يثيره فيك، {وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً}[الكهف: 19]. وهذا مبدأ شرعي وسنّة كونية لا يجوز الحياد عنها، لأنّ الحالة التي يكون العدو فيها قويًّا والأمة ضعيفة: واجبُ وقتِها هو الحفاظ على بيضة الأمّة وردّ غائلة العدو قدر المستطاع، وأيّ سياسة تذعره على الأمّة وتستجدي قتاله لها هي حماقة رعناء وجهالة صلعاء، وإن ألبسها أصحابها لبوس الإيمان والجهاد ونحوه.

يدلّ لذلك قول النبي -صلى الله عليه وسلم- لحذيفة يوم الخندق: (اذْهَبْ فَأْتِنِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ، وَلَا تَذْعَرْهُمْ عَلَيَّ) قال حذيفة: "فَرَأَيْتُ أَبَا سُفْيَانَ يَصْلِي ظَهْرَهُ بِالنَّارِ، فَوَضَعْتُ سَهْمًا فِي كَبِدِ الْقَوْسِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَرْمِيَهُ، فَذَكَرْتُ قَوْلَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وَلَا تَذْعَرْهُمْ عَلَيَّ)، وَلَوْ رَمَيْتُهُ لَأَصَبْتُه"أخرجه مسلم برقم (1788)، كتاب الجهاد والسير، باب غزوة الأحزاب. ومعنى (ولا تذعرهم علي) أي لا تفزعهم ولا تحرّكهم عليّ، ومعنى (يصلي ظهره): أي يدفئه ويدنيه من النار، و(كبد القوس): مقبضها وكبد كل شيء وسطه.، فتأمّل فعل الصحابي حيث أتيحت له فرصة لينال مع عدوه لكنّه تركه طاعة للنبي صلى الله عليه وسلم، حتى لا يذعر العدو على المسلمين وهم قلّة مستضعفون، والعدو كثير قوي، وقارن بها فعل الغلاة الذين يضربون بعض مصالح العدو ومراكزه ويجعلون ذلك من الجهاد، فتتوالى على الأمّة المصائب والكوارث.

ومن التلطف وفقه الاستضعاف: أن نفرّق بين الفرد والجماعة أو الأمّة في مسألة الترخّص أو الأخذ بالعزيمة، فللفرد أن يترخّص وله أن يأخذ بالعزيمة ويموت كما مات أصحاب الخدود، أمّا الأمّة فيجب على من تصدّر أمرها وتولى زمامها أن يرحمها، ولا يجوز له أن يزجّ بها في موقف يؤدي إلى هلاكها، ولننظر في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم لتتضح لنا الصورة أكثر.

ففي الهجرة: خرج النبي -صلى الله عليه وسلم- متستّرًا، واتّخذ كل أساليب التخفي والحيطة، أما عمر فقد هاجر جهارًا نهارًا شاهرًا سيفه بعد أن كلّم قريشًا وتحدّاهمأخرج قصّة هجرة عمر -رضي الله عنه- جهرًا: ابن الأثير في أسد الغابة (3/ 324)، وابن عساكر في تاريخه كما ذكر الصَّالحي في سيرته (3/ 225)، وفي سند القصّة مقال، وقيل بل الصواب أنّه هاجر سرًا مثل بقيّة الصحابة، فقد تواعد هو وعياش بن أبي ربيعة، وهشام بن العاص بن وائل السهمي على اللقاء في مكان خارج مكة، قال عمر: "وقلنا: أيّنا لم يصبح عندها فقد حُبس فليمض صاحباه، قال: فأصبحت أنا وعياش بن أبي ربيعة عند التناضب، وحبس عنا هشام". وهذه الرواية صححها ابن حجر في الإصابة (6/423).، فهل كان عمر أشجع من النبي صلى الله عليه وسلم؟ كلا وحاشا، لكنّ عمر فردٌ له أن يعزم ويترك الرخصة وإن أدى ذلك إلى قتله، أما النبيّ -صلى الله عليه وسلم- فهو إمام المسلمين وقدوتهم والمسؤول عنهم، وفضلًا عن كونه نبيّ وفعله تشريع فإنه لو هاجر جهرًا لاقتدى به كثير من أمّته وأخذوا بالعزيمة، وفي ذلك مشقّة كبيرة على ضعفائهم وعامّتهم، لذا فقد راعى النبي -صلى الله عليه وسلم- حالهم فأسرّ بهجرته.

وفي صلح الحديبية: بعد أن أبرم النبي -صلى الله عليه وسلم- الصلح مع قريش وردَّ أبا بصير وأبا جندل وفق أحد بنود الصلحجاء في بنود صلح الحديبية: قول سهيل بن عمرو: (أنه لا يأتيكَ منا رجلٌ وإن كان على دينك إلا رَدَدتَهُ إلينا) ووافق عليه رسول الله صلى الله عليه وسلّم، أخرجه البخاري (2731)، كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب.، قام أبو بصير بتشكيل عصابة ممن حاله كحاله تقطع الطريق على قريش وتسطو على قوافلهم، ولا لوم على المسلمين في هذه الحالة، لأنّهم قد ردّوهم عملًا بشروط الصلح مع المشركين. وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- عن أبي بصير: (وَيْلُ أُمِّهِ مِسْعَرَ حَرْبٍ، لَوْ كَانَ لَهُ أَحَدٌ. فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ عَرَفَ أَنَّهُ سَيَرُدُّهُ إِلَيْهِمْ، فَخَرَجَ حَتَّى أَتَى سِيفَ البَحْرِ قَالَ: وَيَنْفَلِتُ مِنْهُمْ أَبُو جَنْدَلِ بْنُ سُهَيْلٍ، فَلَحِقَ بِأَبِي بَصِيرٍ، فَجَعَلَ لاَ يَخْرُجُ مِنْ قُرَيْشٍ رَجُلٌ قَدْ أَسْلَمَ إِلَّا لَحِقَ بِأَبِي بَصِيرٍ، حَتَّى اجْتَمَعَتْ مِنْهُمْ عِصَابَةٌ، فَوَاللَّهِ مَا يَسْمَعُونَ بِعِيرٍ خَرَجَتْ لِقُرَيْشٍ إِلَى الشَّأْمِ إِلَّا اعْتَرَضُوا لَهَا، فَقَتَلُوهُمْ وَأَخَذُوا أَمْوَالَهُمْ، فَأَرْسَلَتْ قُرَيْشٌ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تُنَاشِدُهُ بِاللَّهِ وَالرَّحِمِ، لَمَّا أَرْسَلَ، فَمَنْ أَتَاهُ فَهُوَ آمِنٌ، فَأَرْسَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ)أخرجه البخاري (2731)، كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب..

فهذا السلوك من أفراد أو (جماعة) صحيح وفق الظروف التي كانت يومها، فالمسلمون كانوا أقوياء، وقد توسّلت قريش بالله والرحم لإلغاء الشرط الذي أدّى إلى تكوين هذه العصابة، وبالفعل: وافق النبي -صلى الله عليه وسلّم- على إلغائه، وأرسل إلى أبي بصير وجماعته ليلتحقوا به في المدينة. لكن في حال استضعاف المسلمين وسطوة الكافرين عليهم لا يجوز أن تخرج جماعات -كما هي عصابات الغلاة اليوم- تفتئت على الأمّة، وتحرف جهادها وفق فقههم ومنطقهم، وتقوم بأعمال لا تجرّ على المسلمين سوى البلاء، والمزيد من الدمار. إنّ هذا سفه في الحلم وضلالة في الرأي.

إنّ الأمّة عامّة والثورة السورية خاصّة في قمة الاستضعاف، فالعدو فاقها في العدّة والعتاد والتنظيم، وهي ضعيفة، ومن يكابر ويرفع شعارات فتح روما وتحرير الأندلس فهو غارق في الوهم والجهل، ولهذا لا بد من السير بالثورة على فقه الاستضعاف من التلطف وكتمان ما يذعر العدو علينا، لأن النتيجة واضحة إن خالفنا، {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً}[الكهف: 20]، فإمّا أن يرجمونا بالقصف وتنتهي الثورة ويمحق أهل السنة كما فعلوا في أفغانستان والعراق، وإمّا أن نعود لدين الملك وملّة النظام.

في الاستضعاف لا مانع من الدخول تحت جوار المطعم بن عدي الكافر، وعقد حلف مع خزاعة الكافرة، والاستعانة بسلاح صفوان الكافر، ونعقد صلحًا مع قريش الكافرة، ولو دعينا الى حلف كحلف الفضول فيه كفرة لكنّه يحقق نصرة المظلوم ويوقف الظالم لأجبنا، ويمكن أن نأوي إلى النجاشي حيث العدل وإن لم يكن الشرع حاكمًا ولا الدولة مسلمة. وعندما يحدث التمكين الحقيقي وليس الوهمي، التمكين الذي تنكسر به شوكة قريش وكيدها، وتخضع فيه يهود المدينة وتكون القوة موجودة لمواجهة فارس والروم، عندها نقول: لا نستعين بمشرك ونأخذ الجزية عن يد وهم صاغرونهذه الكلام فيه إشارة إلى فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- في حالتي الاستضعاف والتمكين، ففي حال الاستضعاف: دخل النبي -صلى الله عليه وسلم- مكة بجوار مطعم بن عدي الكافر، واستعان بسلاح صفوان -رضي الله عنه- وقد كان على الشرك وقتئذ، وعقد صلحًا مع قريش، وقال إنه لو دعي لمثل حلف الفضول _وهو حلف عُقد في الجاهلية لنصرة المظلوم- لأجاب. أمّا في وقت التمكين فإنّه لم يستعن بكافر، وخاطب الملوك يأمرهم بالإسلام، وجهّز لقتال دول الكفر..

أما التمكين الوهمي الذي يُفرض به الرأي بقوة السلاح على شعب أعزل في قرية منسية من ريف لا يعلمها أحد على الخارطة، ويكون صاحبه ملثّمًا خشية أن يعرفه أحد من أهل البلد فيشي به، ويُغيّر اسمه حتى لا يوضع على لوائح الدول، ولا يملك صاحب التمكين هذا أن يغيّر من قضاء محكمة ليست تابعة له، ولا يحقق لمن تحت تمكينه الأمان على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم من اللصوص وقطاع الطريق، فهذا هو تمكين الأوهام، وهو الاستضعاف بعينه.

لكن: مهما كنا مستضعفين فلا يجوز لنا أن نفرّط بثوابتنا التي هي جوهر الجهاد، والتي من أجلها ثار الشعب وقدم الشهداءُ دماءَهم وتضحياتهم، والتي لهجت بها حناجر الشعب، قبل أن يدخل الغلاة فيحرفوا الثورة عن مسارها.

هذه الثوابت التي عبّر عنها ميثاق الشرف الثوري الذي ارتضته جلّ الفصائلينظر: https://syrianoor.net/article/11017، والمبادئ الخمسة التي نصّ عليها المجلس الإسلامي السوريينظر: إعلان وثيقة المبادئ الخمسة للثورة السورية: http://sy-sic.com/?p=2221، فهي حقيقة الثورة وجوهرها، وتركها يعني هدر الدماء والتضحيات، ولا يبرّر الاستضعافُ تركها، فمهما كانت الثورة مستضعفة لا يجوز أن تقبل عرض قريش الذي قدّمه أبو طالب بالتخلي عن الدعوة، ولا شرط بني عامر بن صعصعة المخالف للرسالة، ولا عرض قريش بتقاسم الآلهة بالعبادة، بل هنا تقول الثورة وهي في قمة استضعافها: لكم دينكم ولي دين، لكم ثورتكم ولي ثورتيهذا الكلام فيه إشارة إلى فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو في زمن الاستضعاف، فلم يقبل عرض عمّه أبي طالب بترك الدعوة، ولا عرض قريش بعبادة آلهتهم سنة وهم يعبدون إلهه سنة، ولا شرط بني عامر بن صعصعة الذين طلبوا أن يكون لهم الأمر من بعده؛ لأنّها جميعها تتضمن التخلي عن جوهر الرسالة التي جاء بها من عند الله..

 

  • ثالثاً: السياسة الشرعية مبنية على جلب المصالح ودفع المفاسد

إنّ قيادة الأمّة والسير بها من خلال مؤسساتها المدنية والعسكرية والسياسية هو عين سياسة الرعية التي يقوم بها الحاكم، والسياسة مبنية على تحقيق مصالح الرعية، لذا كانت القاعدة الفقهية عند أهل العلم: "تَصَرُّفُ الْإِمَامِ عَلَى الرَّعِيَّةِ مَنُوطٌ بِالْمَصْلَحَةِ"المنثور في القواعد الفقهية للزركشي ص (1/309)، والأشباه والنظائر للسيوطي ص (121)، والأشباه والنظائر لابن نجيم ص (104) وغيرها من كتب القواعد والأصول..

قال الشيخ علي أمين أفندي في شرح هذه القاعدة: "تَصَرُّفَ الرَّاعِي فِي أُمُورِ الرَّعِيَّةِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَبْنِيًّا عَلَى الْمَصْلَحَةِ، وَمَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَا يَكُونُ صَحِيحًا. وَالرَّعِيَّةُ هُنَا: هِيَ عُمُومُ النَّاسِ الَّذِينَ هُمْ تَحْتَ وِلَايَةِ الْوَلِيِّ"شرح مجلة الأحكام العدلية، (1/57)..

وقال الشيخ الزرقا: "التَّصَرُّف على الرّعية مَنُوط بِالْمَصْلَحَةِ، أَي: إِن نَفاذ تصرف الرَّاعِي على الرّعية ولزومه عَلَيْهِم -شاءوا أَو أَبَوا- مُعَلّق ومتوقف على وجود الثَّمَرَة وَالْمَنْفَعَة فِي ضمن تصرفه، دينية كَانَت أَو دنيوية. فَإِن تضمن مَنْفَعَة مَا وَجب عَلَيْهِم تنفيذه، وَإِلَّا رد، لِأَن الرَّاعِي نَاظر، وتصرفه حينئذٍ مُتَرَدّد بَين الضَّرَر والعبث وَكِلَاهُمَا لَيْسَ من النّظر فِي شَيْء.

وَالْمرَاد بالراعي: كل من ولي أمرًا من أُمُور الْعَامَّة، عَامًّا كَانَ كالسلطان الْأَعْظَم، أَو خَاصًّا كمن دونه من الْعمَّال، فَإِن نَفاذ تَصَرُّفَات كل مِنْهُم على الْعَامَّة مترتب على وجود الْمَنْفَعَة فِي ضمنهَا، لِأَنَّهُ مَأْمُور من قبل الشَّارِع [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أَن يحوطهم بالنصح، ومتوعّد من قبله على ترك ذَلِك بأعظم وَعِيد"شرح القواعد الفقهية للزرقا، ص (309)..

وهذه القاعدة كغيرها من قواعد الفقه هي انتظام معنى جامع تكرّر في جزئيات فقهية حتى صار هذا المعنى الجامع قاعدة فقهية، ومن نصوص الفقهاء التي جاء فيها هذا المعنى قول الشافعي رحمه الله: "مَنْزِلَةُ الْوَالِي مِنْ الرَّعِيَّةِ: مَنْزِلَةُ الْوَلِيُّ مِنْ الْيَتِيمِ"المنثور للزركشي، (1/309).، وهي مستقاة من قول عمر -رضي الله عنه- وهو أصل هذ القاعدة: "إنّي أنزلت نفسي من مال الله بمنزلة والي اليتيم"السنن الكبرى للبيهقي برقم (11001)..

والجزئيّات الفقهية التي جاء فيها معنى هذه القاعدة كثيرة جدًّا، منها ما ذكره الشيخ الزرقا رحمه الله تعالى: "فَلَو عَفا السُّلْطَان عَن قَاتل من لَا ولي لَهُ لَا يَصح عَفوه وَلَا يسْقط الْقصاص، لِأَن الْحق للعامة، وَالْإِمَام نَائِب عَنْهُم فِيمَا هُوَ أنظر لَهُم، وَلَيْسَ من النّظر إِسْقَاط حَقهم مجَّانًا، وَإِنَّمَا لَهُ الْقصاص أَو الصُّلْح.

كَذَلِكَ لَيْسَ لمتولي الْوَقْف وَلَا للْقَاضِي إِحْدَاث وَظِيفَة فِي الْوَقْف بِغَيْر شَرط الْوَاقِف وَإِن كَانَ فِي الْغلَّة فضلَة. فَلَو قرر فراشًا مثلًا لم يَشْتَرِطه الْوَاقِف لَا يحل لَهُ الْأَخْذ، لِإِمْكَان اسْتِئْجَار فرَاش بِلَا تَقْرِير.

وَكَذَا لَو آجر الْمُتَوَلِي عقار الْوَقْف بِغَبن فَاحش لَا يَصح.

وَكَذَا لَو زوّج القَاضِي الصَّغِيرَة من غير كُفْء، أَو قضى بِخِلَاف شَرط الْوَاقِف، أَو أَبْرَأ عَن حقّ من حُقُوق الْعَامَّة، أَو أجّل الدّين على الْغَرِيم بِدُونِ رضَا الدَّائِن لم يجز"شرح القواعد الفقهية للزرقا ص (310)..

والخلاصة أنّ من ولي أمر العامة فعليه أن يحقّق لهم مصالحهم في سياسته، وإلا فتعتبر سياسته لهم غير شرعية.

والمصلحة ليس ما وافق الهوى أو الرغبة، فهناك مصالح وهمية أو غير شرعية، بل المصلحة: "ما جلب منفعة أو دفع مضرة"المستصفى للغزالي (1/174).، أي حقّق غرضًا مشروعًا للأمّة، ولهذا قسم العلماء المصالح إلى ثلاثةينظر: المستصفى للغزالي (1/173).:

مصلحة مشروعة: أي أقرّها الشرع كتحقيق الربح في التجارة المباحة وإشباع الغريزة في الزواج.

مصلحة محرّمة: نصّ الشرع على تحريمها كتحقيق الربح في بيع الخمر أو لحم الخنزير، وإشباع الغريزة في الزنا.

مصلحة مرسلة: وهي التي سكت عنها الشرع، وهي معتبرة بشروط ثلاثةينظر: علم أصول الفقه لعبد الوهاب خلّاف، ص (82).:

  1. أن تكون حقيقية وليست مصلحة وهمية، وذلك بتيقّن وقوع منفعة أو دفع مفسدة بها.

  2. أن تكون عامّة وليس خاصّة، بأن النفع المجلوب بها والضرر المدفوع يشمل أكبر عدد من الناس وليس لفرد أو أفراد قلائل.

  3. ألّا تعارض مبدأً أو حكماً ثبت بالشرع، ويمثلون لها بفتوى يحيى الليثي حيث أفتى لأحد ملوك الأندلس وقد أفطر عمدًا في رمضان بأن يصوم شهريين متتابعين، لأنّ المقصود من الكفارة الزجر، وهو رأى أنّ الزجر يتحقق بصوم الشهرين أكثر من عتق الرقبة، ولكنها فتوى مخالفة للنصّ الذي جعل الصيام بعد العجز عن العتق.

  4. وزاد بعض الشافعية شرط أن تكون ضرورية: أي ما كانت من الضرورات الخمس، الدين والعقل والنفس والمال والنسبالإبهاج شرح المنهاج للسبكي، (3/178)..

وبناء على ما سبق فإنّ تصرفات الحاكم أو من يسوس العامّة يجب أن تكون محقّقة لمصالحهم من جلب النفع لهم ودفع الضرر عنهم، وهذه المصلحة يجب أن تكون منضبطة بالشروط السابقة.

ومتى خرج الحاكم عن هذا فلا طاعة له، كأن يسوسهم بما فيه معصية لله ورسوله، أو ما يجلب على الأمة ضررًا وفسادًا.

وهذا المقصد بلا أدنى شك هو عمل اجتهادي محض، أي يجتهد الحاكم في أنّ هذا الأمر فيه مصلحة للأمّة، وليس بالضرورة أن تكون كذلك في الحقيقة، فعمله اجتهاد يصيب ويخطئ.

ولهذا مبنى السياسة الشرعية كلها على الاجتهادات ومن هنا كانت الشورى العمود للفقري للسياسة الشرعية.

وعليه: فإنّ أيّ خطّة يكون فيها مصلحةٌ للشعب، بتخفيف معاناته، وإنهاء كربته، ووقف عجلة القتل والقصف والدمار بحقّه، يجب قبولها والسير فيها. ولا يجوز تركها -لمخالفتها لمنهج جماعة ما- فإنّ في ذلك ظلم للناس وتقصير في حقّهم.

وكثير من نوازل الثورة ربما كانت دون المأمول أو ليست هي المطلوب، ولكن كان في قبولها نفع للثورة وللناس، ودفع لمفسدة عنهم، أو كانت مفسدة قبولها أهون من مفسدة رفضها.

ولنفرض أنّ مَنْ ساس العامّة أخطأ في تقدير المصلحة ووقع في مفسدة للأمّة، فأقصى ما في الأمر أنّه قد يكون آثمًا في عمله، ولا يمكن أن يُكفّر أو يُحكم عليه بردّةٍ.

ومن أساء فهم طبيعة السياسة الشرعية، أو جعل مسائل الفروع من العقائد -كما سيأتي- فإنّه سيقع بهذا الخطأ الفادح.

 

  • رابعاً: بين المسائل العملية والمسائل العقدية

تنقسم أحكام الشريعة الإسلامية إلى ثلاثة أقسام: أحكام تتعلق بقضايا الإيمان، وتسمّى الأحكام النظرية أو الاعتقادية. وأحكام تتعلّق بالعبادات والمعاملات، وأحكام تتعلّق بالأخلاق والسلوكيات، وهذان القسمان يسميهما أهل العلم: الأحكام العملية.

والبعض يعبّر عن هذه الأقسام بالأصول والفروع، فيجعل الأحكام العقائدية أصول، وما سواها فروع.

والأحكام الاعتقادية يترتب عليها إيمان وكفر، بينما تدور الأحكام العملية بين الحلال والحرام. ونقل المسائل العملية الفرعية إلى حيّز الاعتقاد منزلق خطير للتكفير والغلو، إذ يجعل الخلاف فيها من خلاف مستساغ مقبول إلى خلاف مرفوض مذموم، ويُحَوَّل المخالف من مخالف يُحترم رأيه ويبقى مسلمًا معصوم الدم والمال، إلى مخالف يُذم رأيه وربما يُكفّر ويُستحل دمه وماله.

إنّ من أعظم بلاء الثورة أنّها ابتليت بأناس جعلوا الخلافات في النوازل من باب الكفر والإيمان ومن مسائل الاعتقاد، في حين أنّها من المسائل العملية ومن باب الحلال والحرام، وما استبيحت دماء المجاهدين وأموالهم وأعراضهم، وما ارتفعت عقيرة التكفير والتفجير والاغتيالات إلا من هذا الباب، فتحوّلت مسألة أخذ السلاح من الدول الكافرة إلى ردّة! والجلوس مع الدول لفتح علاقات سياسية ردّة! ورفع علم الثورة واعتماد القانون العربي الموحّد ردّة! والسبب في ذلك: أنّ هذه المسائل قد دُرست في باب الولاء والبراء، وفي النوع المكفّر منه، مع أنّها من المسائل العملية، وهي -إن قيل بخطئها- لا تعدوا أن تكون عملًا محرّمًا، ولربما بعد النظر الدقيق نجد أنّها جائزة، بل واجبة!

إنّ نقل هذه المسائل للاعتقاد وإطلاق أحكام التكفير فيها هو من شعار أهل البدع، قال ابن تيمية رحمه الله: "وأيضًا فقد ثبت بالكتاب والسنة والإجماع أنّ من الخطأ في الدّين ما لا يكفُر مخالفه، بل ولا يَفْسُق، بل ولا يأثم، مثل الخطأ في الفروع العملية، وإن كان بعض المتكلّمة والمتفقّهة يعتقد أنّ المخطئ فيها آثم، وبعض المتكلّمة والمتفقّهة يعتقد أنّ كل مجتهد فيها مصيب، فهذان القولان شاذّان، ومع ذلك فلم يقل أحدٌ بتكفير المجتهدين المتنازعين فيها، ومع ذلك فبعض هذه المسائل قد ثبت خطأ المنازع فيها بالنصوص والإجماع القديم، مثل استحلال بعض السلف والخلف لبعض أنواع الربا، واستحلال آخرين لبعض أنواع الخمر، واستحلال آخرين للقتال في الفتنة. وأهل السنة والجماعة متفقون على أنّ المعروفين بالخير كالصحابة المعروفين وغيرهم من أهل الجمل وصفين من الجانبين لا يفسق أحد منهم فضلًا عن أن يكفر، حتى عَدَّى ذلك من عدّاه من الفقهاء إلى سائر أهل البغي، فإنهم مع إيجابهم لقتالهم منعوا أن يُحكم بفسقهم لأجل التأويل، كما يقول هؤلاء الأئمة: إنّ شارب النبيذ المتنازع فيه متأوّلًا لا يُجلد ولا يَفسُقُ"مجموع الفتاوى، (12/495)..

وأكبر قضية تنازعها الناس فيها في عصرنا وهي قضية تحكيم الشريعة، والتي فُتح منها الباب لتكفير كل الحكّام وكل من يرضى بهم، هي في الحقيقة من باب العمل وليس الاعتقاد، كما قال ابن القيم: "وأمّا الحكم بغير ما أنزل الله وترك الصلاة فهو من الكفر العملي قطعًا"، ثم قال بعدها: "وهذا الكفر لا يخرجه من الدائرة الإسلامية والملّة بالكلية، كما لا يخرج الزاني والسارق والشارب من الملّة، وإن زال عنه اسم الإيمان، وهذا التفصيل هو قول الصحابة الذين هم أعلم الأمة بكتاب الله وبالإسلام والكفر ولوازمهما"الصلاة وأحكامها، ص (85)..

وقال رحمه الله: "والصحيح أنّ الحكم بغير ما أنزل الله يتناول الكفرين: الأصغر والأكبر، بحسب حال الحاكم، فإنّه إن اعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله في هذه الواقعة، وعدل عنه عصيانًا، مع اعترافه بأنّه مستحقّ للعقوبة، فهذا كفر أصغر، وإن اعتقد أنّه غير واجب، وأنّه مخيّر فيه، مع تيقّنه أنّه حكم الله، فهذا كفر أكبر، وإن جَهِلَه وأخطأه فهذا مخطئ، له حكم المخطئين"مدارج السالكين، (1/346)..

ولا شك أنّ قضية تحكيم الشريعة -بل كل أحكام الشريعة- لها بُعد عقدي وبُعد عملي وبُعد أخلاقي، فعلى سبيل المثال الزكاة والصيام، فاعتقاد فرضيتهما من باب الإيمان وجحودهما كفر، والعمل بهما من باب العمل وتركه معصية، وثمرة فعلهما التحقّق بالتقوى والطهارة للنفس والمال وهي من باب الأخلاق، ولكنّ المشكلة فيمن يأتي بالجانب العملي فيجعله جانبًا عقديًا، ويعطيه أحكام تارك الاعتقاد، فهنا جوهر المشكلة ولبّ القضية، ومن ترك الحكم بما أنزل فقد ترك مأمورًا به من أوامر الشريعة، فهو عاصٍ وآثم، ولا يقال كافر ومرتدّ إلا إن اعتقد عدم وجوب تحكيمها أو استهزأ وسخر، كما هو معلوم في باب ضوابط التكفير، وكما جاء في كلام ابن القيم السابق.

فعندما نُقلت مسألة تحكيم الشريعة بكليتها لباب الاعتقاد، وكُفِّر كل من ترك العمل بها: فُتح باب الغلو والتكفير، ودخلت الأمة في صراع دموي من عقود، ومثله ما وقع في الثورة السورية، عندما نُقلت مسائل النوازل إلى العقيدة وهي كلها من باب العمل، وبعضها جائز وليس محرمًا أصلًا.

ولعلّ هذه لمسألة قد دخلت كتب أهل السنة قديمًا، فمن راجع كتب الاعتقاد وجد أنّ علماءنا أدخلوا في مباحثها كثيرًا من المسائل العملية كالتوسل والخروج على الحاكم، ولكن لم يقولوا بالتكفير، ولم يرتّبوا عليه أحكام المسائل الاعتقادية، ولعل السبب في إدخالها لكتب العقيدة أنّها غدت أمارات وعلامات تميّز أهل السنّة عن أهل البدعة. لكن خلف من بعدهم خلف جعلوها محل تمايز بين معسكر الكفر ومعسكر الإيمان، والله المستعان.

 

  • خامساً: الفهم الصحيح للنصوص

سبقت الإشارة إلى أنّ التعامل مع النصّ للوصول للحكم الصحيح له ثلاث مراحل، مرحلة ثبوت النصّ، ثم مرحلة فهم النص، ثم مرحلة تنزيل النصّ.

ومرحلة فهم النصّ خطيرة ومهمّة إذ إنّ تفسير النصوص تفسيرًا خاطئًا سبب من أسباب ظهور الفكر المنحرف بشكل عام والغالي منه بشكل خاص، ولذا كان لا بد لمن تَصَدّرَ لتفسير النصوص من التحقّق بأدوات فهم النصوص، وهي العلوم التي تساعد على تفسيرها التفسيرَ الصحيح، والعلم الجامع لهذه الأدوات هو علم أصول الفقه، إذ إنّ جُلّ مباحث هذا الفن تدور حول الدلالة، وتمكّن دارسها من فهم النصوص على المراد الصحيح.

أما من تسلّق جدار التفسير ولم يميز في الدلالة بين العام والخاص، والمطلق والمقيد، والحقيقة والمجاز، والمفهوم والمنطوق، والناسخ والمنسوخ، وغيرها من مباحث الدلالة، فكيف سيهتدي إلى التفسير الصحيح؟

ولا يعني ذلك أن يتفق الناس على فهم واحد، بل الخلاف في فهم النص وتفسيره وارد، ولكن هناك فرق بين الخلاف المقبول لفهم النص، والخلاف المذموم.

والخلاف المقبول ما كان قائمًا على قواعد صحيحة للتفسير، ومنه اختلاف الأئمة في أحكامهم بسبب الاختلاف في تفسير النصوص، وأمّا الخلاف المذموم فما كان قائمًا على قواعد تفسيرية لا تمتّ للغة ولا لها علاقة بأصول التفسير والاستدلال، ومنشأ هذا الخلاف إمّا الجهل وإمّا الهوى، ولقد بيّن أهل العلم هذا الفيصل الدقيق والتفريق المهم، فيقول الشافعي -رحمه الله- في الرسالة على طريقته الحوارية: "قال: فإني أجد أهل العلم قديمًا وحديثًا مختلفين في بعض أمورهم فهل يسعهم ذلك؟ قال: فقلت له: الاختلاف من وجهين: أحدهما: محرّم ولا أقول ذلك في الآخر، قال: فما الاختلاف المحرّم؟ قلت: كل ما أقام الله به الحجة في كتابه، أو على لسان نبيه منصوصًا بيّنًا لم يحل الاختلاف فيه لمن علمه، وما كان من ذلك يحتمل التأويل ويُدرك قياسًا، فذهب المتأول أو القايس إلى معنى يحتمله الخبر أو القياس وإن خالفه فيه غيره لم أقل: إنه يُضَيَّق عليه ضِيقَ الخلاف في المنصوص"الرسالة ص ( 459-460)..

وهل كان معظم انحراف الخوارج إلا من سوء فهم نصوص التكفير؟ والمعتزلة من سوء فهم نصوص الوعيد والصفات؟ وغلاة الصوفية كذلك، ومقام التمثيل يطول جدًا.

ومن مناظرة ابن عباس للخوارج ورَدّهِ عليهم استدلالاتهم للآيات التي ساقوها، يظهر جهلهم بتفسير النصوص، ومن استمع إلى خوارج عصرنا في بياناتهم وإصداراتهم وتأمّل استدلالاتهم وإطلاقاتهم في تفسير النصوص ظهر له جهلهم في قواعد تفسير النصوص والاستدلال.

وقد يقول قائل: بل فيهم من له دراية بعلم الاستدلال أو أثارة من علم، قلنا: نعم، فنحن لا نقول إن الجهل بالنصوص هو السبب الوحيد لانحراف الخوارج أو المبتدعة بشكل عام، ولكن هذا السبب هو الرئيس والأكثر.

فعلى سبيل المثال:

  1. آية {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ}[الأنعام: 57] فهم منها الخوارج الأوائل أنّ التحكيم كفر، ولا يجوز أن يحكم إلا الله، وكفّروا عليًا -رضي الله عنه- بناء على هذا الفهم، وغاب عنهم ما بيّنه لهم ابن عباس -رضي الله عنهما- من أنّ الله أمر بالتحكيم في مخالفة صيد المحرمفي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَ?لِكَ صِيَامًا لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ} [المائدة: 95].، وفي كلامه إشارة إلى أنّ الآية مخصوصة وليست على عمومها، وأنّ التحكيم المستند على شرع الله هو من حكم الله.

  2. آية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ}[المائدة: 51]، فهم منها خوارج عصرنا أنّ أيّ موالاة كفر، ولم يفرّقوا بين درجات الموالاة ومعانيها، فالموالاة تعني المحبة والمناصرة، وهي مراتب ودرجات، منها الجائز ومنها المحرّم ومنها الكفر، وحتى مرتبة الكفر -وهي مظاهرتهم ومناصرتهم- لم يفرّقوا بين حالاته وأسبابه، فليست كل صور مظاهرة العدو كفر، بل منها ما هو كفر كما لو ظاهرهم لدينهم ولنصرة معتقدهم، ومنها ما هو محرّم كما لو ظاهرهم لدنيا يصيبها، فحصْرُ كل المفاهيم في مفهوم واحد وتكفير الناس كلها بناء عليه هو من الجهل في فهم النصوص.

  3. آية: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ}[المائدة: 44]، فسّرها غلاة عصرنا بأنّ كلّ من ترك تحكيم الشريعة فهو كافر، وبناء عليه كفّروا الحكومات العربية والإسلامية كلها، وكل الجماعات التي تنادي بالديمقراطية على اعتبار أنّ مفهوم الديمقراطية ليس له إلا معنىً واحد وهو ترك تحكيم شرع الله.

وهذا من الفهم الخاطئ للآية، فلو كان كلّ من لم يحكم بما أنزل الله كافرًا لما كان لوصفه بالفسق والظلم في الآيتين السابقتين لهذه الآية معنىً، فليست كل صور ترك تحكيم الشرع كفراً، كما بيّن ذلك أهل العلم، كما أنّ هذه الآية عامّة وما من عامّ وإلا له خصوص، ومعلوم أنّه ليس كل من نادى بالديمقراطية سواء، ولا الديمقراطية نفسها بمعنى واحد. فهذا التفاسير المغلوطة هي مطيّة نقل التكفير إلى عقول الناشئة.

إنّ تفسير النصوص تفسيرًا خاطئًا في التعامل مع النوازل وفي كل أبواب العلم لهو منزلق خطير للزيغ والضلال، وهو من أهمّ أسباب انتشار التكفير عند الغلاة في الثورة السورية.

 

  • سادساً: التثبّت في فهم الواقع

إنّ التثبّت والتبيّن والتحرّي في الأخبار والأدلّة منهج قرآني قبل أن يكون منهجًا بحثيًا، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا}[النساء: 94]، وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى مَا فَعَلْتُمْ نادِمِينَ}[الحجرات: 6].

فالله -تعالى- أمر بالتثبّت من صحة الخبر حتى لا نبني عليه حكمًا ظالـمًا ولا سيما إن ترتّب عليه قتال، فتهدر الدماء وتستباح الأعراض والأموال بالأوهام والأغاليط، وعندما تظهر الحقيقة يقع الندم ولكن بعد فوات الأوان. وساحة الجهاد من أكثر الساحات التي تنتشر فيها الإشاعات والأكاذيب لأن نشر الشائعات من الحرب النفسية التي يقوم بها العدو، ولهذا خصت الآية الأولى التثبت في ساحات القتال.

والتثبّت خطوة مهمّة في مرحلة فهم الواقع للنازلة، وهنا لا بد من فهم الواقع فهمًا صحيحًا، والمنصف من سمع وقرأ وسأل كل الأطراف ووقف بنفسه على الأحداث ودخل البيوت من أبوابها، لأنّ القضية دين ودماء وأعراض وبلاد، فلا يتساهل في هذ الأمور من سكن خوف الله وتعظيمه في قلبه.

ولكن من نظر في نوازل الثورة السورية وتأمّل أحكام الكثيرين -ولا سيما الغلاة- سيجد أنّ براهين وأدلة أعمالهم ومواقفهم مبنية على إشاعات وروايات في الفضاء الإلكتروني، أو قنوات إعلامية لا تعرف معايير المصداقية والمهنية، وبعضهم يعيش خارج الواقع وفي بلاد نائية ويعتمد في الأخبار على جهة واحدة، ويعرض عن سماع الروايات الأخرى أو الأخذ بها، فهؤلاء جمعوا بين جهل الواقع، والتقصير في التثبّت، والتكبر عن سماع الآخرين.

ومن جهل الغلاة بالواقع أو تجاهلهم له: أنّهم صوّروا الجيش الحرّ على أنه علماني ويسعى لتطبيق العلمانية والديمقراطية، وصوّروا بعض قادته بأنّهم عملاء لأمريكا وقد اتفقوا معهم على ضرب الإسلاميين! وكل هذه أكاذيب وأباطيل، بل إنّ قادة الجيش الحرّ قد قبلوا بالقضاء الشرعي بينهم وبين الغلاة ونزلوا لحكم الشريعة في كثير من القضايا، ولكن الغلاة رفضوا وأبوا النزول على حكم الشريعة! وجعلوا من ظنونهم ورواياتهم الساقطة حجّة لقتال الأبرياء والمظلومين، وهي والله حجج لا يعزّر بها صاحبها فكيف بقتاله، ولئن وجدوا بأنفسهم شوكة وقوة للتملص من محكمة الدنيا فمن يمنعهم من محكمة الآخرة وقضاء رب العالمين؟

ومن ذلك: تشويه كثير من الوقائع بالأكاذيب، كالأكاذيب حول مجلس قيادة الثورة السورية الذي تكوّن من نحو 72 فصيلًا، فحاربوه وشوهوه حتى ولد ضعيفًا، وكرواياتهم عن الائتلاف والحكومة المؤقتة، وغيرها.

ومثل هذا ما يقع به البعض عند الحكم على الأشخاص أو الجماعات، فتراه يترك ما يصرّحون به في كتبهم، ويعتمد على روايات وإشاعات بثّها خصومهم، أو على المتشابه من أقوالهم، ولو تثبّت وتحقق ولم يقبل بخبر إلا بضوابطه لما وقع في هذا الظلم، ولكن الحقيقة أنّ القوم على مذهب أهل البدع في المعرفة الذي يقوم على الاعتقاد ثم الاستدلالقال ابن الجوزي -رحمه الله- في نقد هذا المنهج: "فجاء أقوام ... وابتكروا طريقة زيّنها لهم الهوى، ثم تطلّبوا لها الدليل، وإنّما ينبغي للإنسان أن يتبع الدليل، لا أن يتبع طريقًا، ويتطلب دليلها". صيد الخاطر، ص (41).، أي القناعة والاعتقاد أولًا ثم البحث عن الدليل والحجّة ثانيًا، ومن كان هذا منهجه فلا شك أنّه سيقبل من الأدلة ما وافق معتقده وهواه ولو كان أوهى من بيت العنكبوت، وسيترك ما خالفه ولو كان أوضح من الشمس في رابعة النهار، وهذا حال من دمر ساحة الشام في الثورة السورية.

وأحيانًا يتطلب التثبتُ الاستعانةَ بأهل التخصص، فإذا أردنا فهم نازلة طبية أو اقتصادية استعنَّا بأهل التخصص لتتضح الصورة في ذهن الفقيه ثم يعطيها الحكم الشرعي، وجلّ نوازل الثورة السورية تحتاج لمتخصصين من غير أهل العلم الشرعي لأنّها نوازل عسكرية أو سياسية أو قانونية، يستعان بهم لتوصيف الواقع ورسمه بشكل صحيح، ولكن الكثير من الغلاة أقام نفسه بمنزلة أهل التخصص فتراه سياسيًا وعسكريًّا ومدنيًا وقانونيًا وهو في الحقيقة لا يجيد بل لا يلم بتخصص الشريعة التي يزعم علمها.

 

  • سابعاً: الرأي والاجتهاد ليس وحيًا

الحكم الذي يصدر من الفقيه أو الباحث في نازلة من النوازل، إنما هو حكم اجتهادي، وليس لبشر مهما كان راسخًا في العلم أن يقول: هذا حكم الله، وهذا الذي لا يصح في دين الله غيرُه، ولنتأمّل قول النبي -صلى الله عليه وسلم- لأمراء الجيوش والسرايا: (وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللهِ، فَلَا تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللهِ، وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِكَ، فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي أَتُصِيبُ حُكْمَ اللهِ فِيهِمْ أَمْ لَا)أخرجه مسلم برقم (1731)، كتاب الجهاد والسير، باب تأمير الإمام الأمراء على البعوث، ووصيته إياهم بآداب الغزو وغيرها.، ففيه تصريح بأنّه لا يُقطع بأنّ حكم المجتهد هو نفسه حكم الله تعالى.

وعليه: فإنّ من استنبط حكمًا من الدليل ليس له أن يقول هذا حكم الله، وإنّما هو فهمه واجتهاده، فكيف بحكم نازلة يجتهد في فهمها، ثم يجتهد في البحث عن نظائرها مما فيه نص أو حكم، ثم يجتهد في إلحاقها بها، فحكمه اجتهاد باجتهاد، فأنّى له أن يقول هذا حكم الله؟!

فلا يقال هذا حكم الله إلا فيما هو نصّ محكم، فتحريم الخمر والربا والزنا والسرقة حكم الله، ووجوب الصلاة والصيام والزكاة حكم الله، وأمّا المسائل المختلف فيها كاعتبار النبيذ خمرًا، وتحديد علّة الربا وجريانها في الأموال، ونحو ذلك من المسائل فهي محض رأي واجتهاد.

وليس معنى هذا الكلام أنه لا يجب اتباع اجتهاد أهل العلم، بل نحن مأمورون بسؤالهم واتباع ما عليه جماعتهم، ولكنّ المقصود أنّ الحكم الاجتهادي لا يعطى قداسة وحصانة حكم الله، بحيث يُوالى ويُعادى عليه، ويُتهم من يخالفه بالضلال، أو أن يطبّق على المخالف آثار الحكم، فعلى سبيل المثال، لا يجوز للمرأة أن تزوّج نفسها عند الجمهور وإن فعلت فالزواج عندهم باطل، ولكن عند الحنفية: لها أن تزوّج نفسها، فلو أن امرأة حنفية زوجت نفسها بناء على شروط مذهبها، فهل للشافعي أو المالكي أو الحنبلي أن يقول عنها زانية وأن يقيم عليها الحد؟ إنّ غاية ما يمكن قوله إنّها مخطئة، ويعذرها في رأيها ولا يجوز أن يتهمها في دينها وعفّتها.

وفي ساحةٍ ولّادة بالنوازل كساحة الجهاد والثورة في سورية، ونوازلها متشعّبة متشابكة تحتاج لمجمّعات فقهية تفصل فيها، فإنّه لا يصح أن يزعم أحد أنّ اجتهاده في هذه النوازل هو حكم الله، وأنّ هذا الذي وصل إليه باجتهاده لا يصح في دين الله سواه، وأن من خالفه فهو مارق!  كما يفعل رؤوس الغلاة كالمقدسي، وشرعيي القاعدة بفروعها المتعددة، فهذا من التألّي على الله والافتراء عليه.

وكم أضر هؤلاء بنوازل الشام إذ جعلوا من اجتهاداتهم دينًا وعقدوا عليه الولاء والبراء، واستباحوا الدماء والقتل من أجله، فهل رأيهم في (غرف القيادة العسكرية)، و(المفاوضات السياسية) و(العلاقات الدولية) إلا اجتهاد؟ فبأي دين يجزمون بأنّ آراءهم هي دين الله، وأنّ من خالفها فقد خالف الشرع ولم يحكّم الشريعة وارتد عن الإسلام ووقع في العمالة والخيانة؟!

لقد عاقب الله هؤلاء وفضح أمرهم، فما عابوا على أحد أمرًا واتهموه بدينه وقاتلوه عليه إلا وفعلوا مثله بل أكثر. عابوا على بعض الفصائل علاقاتهم الدولية واعتبروها انبطاحًا، ففضح الله لقاءاتهم بالكثير من الدول سرًّا، وعابوا عليهم درع الفرات والعلاقة مع تركيا وجعلوها محل خيانة وردّة، ثم تعاملوا مع الأتراك وساروا معهم، وعابوا على الفصائل قبول مفاوضات الأستانة واعتبروها خيانة وهدرًا للجهاد، ثمّ قبلوا نتائجها، وعابوا عليهم علم الثورة، ثم رفعوه أخيرًا في بعض نشاطاتهم، وعابوا مجلس قيادة الثورة ثمّ دعوا واستماتوا لتأسيس الإدارة المدنية ... والقائمة تطول.

وقد اضطروا للتعليل بأنّ هذا للضرورة أو فيه مصلحة، وهذا سوط الله عليهم وعاجل عقوبته ليلينوا ويتركوا كبرهم وليعلموا أن الضرورة والمصلحة التي اعتمدوا عليها هي هي التي اعتمد عليها غيرهم ممن كفروه وقاتلوه.

وبما أنّ الحكم على النوازل وكذلك استنباط الأحكام بشكل عام هو اجتهاد وليس وحيًا، فمن شأن أهل العلم الصادقين الراسخين أن يقول عن مخالفه: أخطأ فيما قال، وأما التكفير والتخوين فهذا من شأن أهل البدع والجهل.

يقول ابن تيمية رحمه الله: "فمن عيوب أهل البدع تكفير بعضهم بعضًا، ومن ممادح أهل العلم أنّهم يُخَطِّئُونَ ولا يُكَفِّرُونَ. وسبب ذلك أنّ أحدَهم قد يظنّ ما ليس بكفر كفرًا، [وقد يكون كفرًا]، لأنّه تبيّن له أنّه تكذيبٌ للرسول وسبٌّ للخالق، والآخر لم يتبين له ذلك، فلا يلزم إذا كان هذا العالِم بحاله يَكفُرُ إذا قاله، أن يَكفُرَ مَنْ لم يعلم بحاله"منهاج السنة، (5/251)..

فتأمل هذ العبارة ما أروعها، يُخطِّئون ولا يُكفِّرون، ومن لازم التخطئة أن يعذر المخالف، أي أن يظن بأنّه قد يكون على صواب، كما قيل: "رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأيك خطأ يحتمل الصواب".

ومن لازم التكفير: سفك الدم والقتال، وهذا شأن الغلاة ومن ابتليت الثورة بهم، وإلى الله المشتكى.

 

  • ثامناً: أهل العلم صمّام الأمان

إذا وقعت النوازل في الأمة فلا يجوز أن يتصدّر للحديث فيها وتوجيهها آحاد الناس، لأنّهم سيتكلّمون بلا فقه ولا رويّة، فينتشر التخبّط وتعمّ الفوضى، وهذا ما نراه في واقعنا، فكلما وقعت نازلة انبرت قنوات الإعلام لعرضها واستدعت للحديث عنها كل متردية ونطيحة، فيضيع الناس بكلام هؤلاء.

وبما أنّ المجتمع المسلم مجتمعٌ منقادٌ لشرع الله، ويصدر في كل شؤونه عن توجيهات الشريعة، كان صاحب القول والتوجيه في النوازل هم أهل العلم، لأنّ أهل العلم هم الموقّعون عن الله تعالى، وهم نقلة شرعه وحملة رسالته، والوارثون عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهم الأعلم بنصوص الشريعة ومقاصدها وقواعدها، والأعلم بحقيقة المصالح والمفاسد، وغيرهم تبع لهم، والناس بفطرتها وتربيتها تسمع وتطيع لهم، ولا يعني ذلك إقصاء غيرهم من أهل التخصصات الأخرى، بل هؤلاء يستعان بهم ويستأنس برأيهم لتوضيح وتوصيف واقع النازلة وملابساتها، أمّا بيان حكم الشرع وتوجيه في التعامل معه فهو لأهل العلم.

وهذا ما بيّنه الله تعالى في قوله: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ] [النساء: 83]، فالآية تذكر أنّه عندما يحلّ بالمجتمع أمر عام يتعلّق بأمنه، يتكلّم به عامة الناس، وهذا خطأ لما يترتب عليه من المفاسد، ولكن لو تركوا الكلام به وبيان الرأي في التعامل معه للنبي -صلى الله عليه وسلم- ولأهل الرأي والبصيرة لكانوا أعلم وأقدر على التعامل معه بما يحقّق مصالح المجتمع، وهذا ما بيّنه أهل التفسير.

قال البيضاوي: "{وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ} مما يُوجب الأمن أو الخوف. {أَذاعُوا بِهِ} أفشوه كما كان يفعله قوم من ضَعَفَة المسلمين إذا بلغهم خبرٌ عن سرايا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أو أخبرهم الرسول -صلّى الله عليه وسلّم- بما أُوحي إليه من وعد بالظَفَر، أو تخويف من الكفرة، أذاعوا به لعدم حزمهم، فكانت إذاعتهم مفسدة. والباء مزيدة، أو لتضمّن الإِذاعة معنى التحدّث. {وَلَوْ رَدُّوهُ} أي ولو ردّوا ذَلك الخبر. {إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ} إلى رأيه ورأي كبار أصحابه البُصراء بالأمور، أو الأمراء، {لَعَلِمَهُ} لَعلم ما أخبروا به على أي وجه يذكر"تفسير البيضاوي (2/87)..

وقال الشوكاني: "وهؤلاء هم جماعة من ضَعَفَةِ المسلمين كانوا إذا سمعوا شيئًا من أمر المسلمين فيه أمنٌ- نحو ظفر المسلمين وقتل عدوهم، أو فيه خوف نحو هزيمة المسلمين وقتلهم- أَفْشَوْهُ، وهم يظنّون: أنّه لا شيء عليهم في ذلك. قوله: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ} وهم أهل العلم والعقول الراجحة الذين يرجعون إليهم في أمورهم، أو هم الولاة عليهم {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} أي: يستخرجونه بتدبيرهم وصحّة عقولهم. والمعنى: أنّهم لو تركوا الإذاعة للأخبار حتى يكون النبي -صلى الله عليه وسلم- هو الذي يذيعها، أو يكون أولو الأمر منهم هم الذين يتولّون ذلك، لأنّهم يعلمون ما ينبغي أن يُفشى وما ينبغي أن يُكتم"فتح القدير ص (567).، ومثل كلامهما قال كثير من أهل التفسير.

وفي ساحة كالثورة السورية تعصف بها النوازل كل يوم، لو ترك الناس حكمها والحديث عنها لأهل العلم وأهل الرأي والبصيرة، لاستطاعوا التعامل معها بما هو أصوب وأفضل.

 

  • وعندما نقول أهل العلم نقصد بهم:

  1. من طلب العلم من مصادره ودخله من أبوابه، أي قرأ على المشايخ وأجازوه، أو تخرج في الجامعات والمعاهد العلمية، أي عُرف له تاريخ في الطلب، وأمّا من قرأ الكتب بنفسه وهو من يسمى بالصُحُفي، نسبة للصحف، أو حضر دورات محو أمية شرعية، أو تسلّق جدار الدعوة وسماه الناس شيخًا وشرعيًّا فصدّق نفسه، كحال الكثير من شرعيي الغلاة، فهذا ليس الواجب ترك قوله وكلامه فحسب، بل الواجب تعزيره وزجره إذ أقحم نفسه فيما ليس له بأهل ولا هو من تخصّصه، فضلّ وأضلّ به الناس.

ويشير لهذا عمل السلف في البحث عن تلقي الرجال بقاعدة (سمّوا لنا رجالكم) وقاعدة (انظروا عمّن تأخذون دينكم).

  1. من عُرف بين الناس وفي المجتمع بالعدالة والتقوى والخوف من الله والاستقامة، ووضع له القبول بين الناس. وتزكية المجتمع والناس لا تكون كاذبة بل تنطق بلسان الحق، وأمّا من عرفه الناس بالأهواء والنفاق والتجارة بدين الله، فليس من أهل العلم وإن كان أكثرهم علمًا وأعلاهم شهادة.

ويشير لهذا عمل السلف في البحث عن العدالة في الرواية والفتوى والتلقي والقضاء وغيره.

  1. من ملك من الحكمة ما يستطيع أن يفاضل بين المصالح نفسها عند ازدحامها، فيترك الأدنى ليحقق الأعلى، ويفاضل بين المفاسد نفسها عند ازدحامها فيفعل الأدنى ليدفع الأعلى، لأنّ الفقيه من يعرف خير الخيرين وشرّ الشرّين، كما قال ابن تيمية: "ليسَ العَاقِلُ الذِي يَعلمُ الخَيرَ مِن الشرِّ، وإنَّما العاقلُ الذي يَعلمُ خيرَ الخَيْرَيْنِ وشرَّ الشرَّيْنِ، وينشد:

إنَّ اللَّبِيبَ إذَا بَدَا مِنْ جِسْمِهِ مَرَضَانِ مُخْتَلِفَانِ دَاوَى الْأَخْطَرَا"مجموع الفتاوى، (20/54)..

وليس سجن الرجل أو إيذاؤه دليلًا على الفضل والعلم والأهلية للتصدّر بين الناس، فقد أوذي وسجن من هو من عامة الناس، بل من هو من أهل الضلال.

وليست الشهرة وحدها دليلًا صحيحًا على الفضل، فكم من مشتهر بين الناس ولكن النفوس تنفر منه.

وليست المشاركة في الجهاد دليلًا على العلم، بل هي في أحسن أحوالها تزكية لسيرته، وأما العلم فلا علاقة له بهذا، فقد خاض المعارك وشهد الساحات وأبلى في العدو من لا يفقه مسألةً في الوضوء أو الصلاة.

ولو تأمّلنا حال الغلاة لرأينا بُعدَهم عن أهل العلم المشهود لهم بالعلم والفضل، واتخاذهم مجاهيل لا يُعرف لهم اسم ولا نسب ولا علم ولا حال، يأخذون عنهم أمور دينهم، ويستفتونهم في الدماء والأموال والأعراض ومصير شعب بأكمله!!

وقد يكون لبعض رؤوسهم علم، لكنّه فردٌ في ساحة تعج بأقرانه ومن هو أعلم منه، فكيف يؤخذ بتفرّداته وشذوذاته؟

لقد عرفت الساحة في سورية مجامعَ علمية عديدة، على رأسها المجلس الإسلامي السوري، وهو تجمّع من هيئات ومجمّعات علمية ودعوية، كل واحدة منها منفردة تصلح لتكون موجّهًا للساحة، لكنّ الغلاة قابلوها بالرفض والانتقاص والإسقاط، ليبقى ضلال وجهل شرعييهم هو السائد والمنتشر بين أتباعهم السذّج.

 

  • الخاتمة:

ما سبق بيانه من القواعد تصلح أن تكون أساسًا ومنطلقًا للتعامل مع النوازل التي تمرّ بها الثورة السورية خاصة، والأمّة عامة، وملخّصها في البنود التالية:

  1. قيادة الثورة والسير بها وما يتخذ من خطوات فيها هو من قبيل السياسية الشرعية، وهي مبنية على تحقيق المصالح للناس من جلب منفعة أو دفع مفسدة.

  2. التعامل مع النوازل وبيان سياستها وحكمها هو من اختصاص أهل العلم الراسخين وأهل البصيرة والحكمة.

  3. الحكم على أي نازلة لا بد أن يقوم على فهم صحيح لواقعها من كل الأطراف والجوانب، ويتشارك فيه عدد من أهل الرأي ويستعان لمعرفتها بأهل الاختصاص، ويقوم أيضًا على فهم صحيح للدليل ومعرفة مناطاته وأحواله.

  4. الحكم على النازلة هو اجتهاد، يحتمل الصواب والخطأ، ولا يجوز أن يعتبر دينًا يُعقد عليه الولاء والبراء ويُحارب ويُقاتل عليه.

  5. نقل الخلاف من دائرة الأحكام العملية والتي تدور بين الحلال والحرام، إلى دائرة الاعتقاد لتدور بين الكفر والإيمان هو خطأ قاتل وفادح، وأولّ باب وُلِجَ منه للتكفير والتفجير والتدمير.

  6. لا بد من مراعاة حال الأمة وواقعها، فهي في زمن استضعاف، وتمكين وتسلط العدوّ، والعالم اليوم قرية صغيرة لا يجوز النظر لسياسة أي دولة -فضلًا عن إقليم أو مدينة- بمعزل عن سياسة وواقع العالم كله.

  7. النوازل تحتاج لاجتهاد جماعي وبحث فقهي جديد، وإنّ مجرد استجرار فتاوى قديمة في نوازل عصرها، وتطبيقها على نوازل عصرنا حَيْدَة عن الصواب ومدعاة للزلل.

  8. كل النوازل التي مرت بها الثورة السورية هي من المسائل العلمية الفرعية، والتي يَسَع فيها الخلاف، كالتحالفات العسكرية والسياسية ونحوها، ولا يصحّ اعتبارها من مسائل الأصول التي يُكفّر ويُخوّن من خالف فيها رأي غيره.

  9. التمسّك بغرز أهل العلم المعروفين بعلمهم وتاريخهم ومواقفهم، ولهم القبول بين الناس، ونبذ كلام المجاهيل نسبًا وعلمًا وحالًا، والأصل في المجهول ردّ روايته وحُكمه.

 


 

1 - مجموع الفتاوى (3/286)، وذكر هذا في مواضع متفرقة من مجموع الفتاوى وبعبارات متقاربة.
2 - الفتوى بين الانضباط والتسيّب، للقرضاوي، ص (94).
3 - انظر قرار المجمع في موقع المجمع http://www.iifa-aifi.org/1792.html .
4 - مجموع الفتاوى ص (29/470-471).
5 - كما يقول معروف الدواليبي، نقله عنه لبيب شقير في كتابه الفكر الاقتصادي ص (81). وكما يدعو له محمد حبش، وانظر رأيه وردّ الدكتور صالح العلي عليه في بحثه: "أثر الربا في القروض الانتاجية"، ص (10).
6 - نقلاً عن الدكتور القرضاوي، الفتوى بين الانضباط والتسيب، ص (124).
7 - البرهان في علوم القرآن، (2/42).
8 - الصارم المسلول، ص (221).
9 - أحكام القرآن، (2/427).
10 - تفسير ابن كثير، (4/74).
11 - أخرجه الحاكم في المستدرك برقم (5646)، وسكت عنه الذهبي، والبيهقي في شعب الإيمان برقم (1515).
12 - أخرجه البخاري برقم (3612)، كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام.
13 - أخرجه البخاري برقم (7)، كتاب الوحي، باب كيف كان بدء الوحي.
14 - أخرجه مسلم برقم (1788)، كتاب الجهاد والسير، باب غزوة الأحزاب. ومعنى (ولا تذعرهم علي) أي لا تفزعهم ولا تحرّكهم عليّ، ومعنى (يصلي ظهره): أي يدفئه ويدنيه من النار، و(كبد القوس): مقبضها وكبد كل شيء وسطه.
15 - أخرج قصّة هجرة عمر -رضي الله عنه- جهرًا: ابن الأثير في أسد الغابة (3/ 324)، وابن عساكر في تاريخه كما ذكر الصَّالحي في سيرته (3/ 225)، وفي سند القصّة مقال، وقيل بل الصواب أنّه هاجر سرًا مثل بقيّة الصحابة، فقد تواعد هو وعياش بن أبي ربيعة، وهشام بن العاص بن وائل السهمي على اللقاء في مكان خارج مكة، قال عمر: "وقلنا: أيّنا لم يصبح عندها فقد حُبس فليمض صاحباه، قال: فأصبحت أنا وعياش بن أبي ربيعة عند التناضب، وحبس عنا هشام". وهذه الرواية صححها ابن حجر في الإصابة (6/423).
16 - جاء في بنود صلح الحديبية: قول سهيل بن عمرو: (أنه لا يأتيكَ منا رجلٌ وإن كان على دينك إلا رَدَدتَهُ إلينا) ووافق عليه رسول الله صلى الله عليه وسلّم، أخرجه البخاري (2731)، كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب.
17 - أخرجه البخاري (2731)، كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب.
18 - هذه الكلام فيه إشارة إلى فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- في حالتي الاستضعاف والتمكين، ففي حال الاستضعاف: دخل النبي -صلى الله عليه وسلم- مكة بجوار مطعم بن عدي الكافر، واستعان بسلاح صفوان -رضي الله عنه- وقد كان على الشرك وقتئذ، وعقد صلحًا مع قريش، وقال إنه لو دعي لمثل حلف الفضول _وهو حلف عُقد في الجاهلية لنصرة المظلوم- لأجاب. أمّا في وقت التمكين فإنّه لم يستعن بكافر، وخاطب الملوك يأمرهم بالإسلام، وجهّز لقتال دول الكفر.
19 - ينظر: https://syrianoor.net/article/11017
20 - ينظر: إعلان وثيقة المبادئ الخمسة للثورة السورية: http://sy-sic.com/?p=2221
21 - هذا الكلام فيه إشارة إلى فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو في زمن الاستضعاف، فلم يقبل عرض عمّه أبي طالب بترك الدعوة، ولا عرض قريش بعبادة آلهتهم سنة وهم يعبدون إلهه سنة، ولا شرط بني عامر بن صعصعة الذين طلبوا أن يكون لهم الأمر من بعده؛ لأنّها جميعها تتضمن التخلي عن جوهر الرسالة التي جاء بها من عند الله.
22 - المنثور في القواعد الفقهية للزركشي ص (1/309)، والأشباه والنظائر للسيوطي ص (121)، والأشباه والنظائر لابن نجيم ص (104) وغيرها من كتب القواعد والأصول.
23 - شرح مجلة الأحكام العدلية، (1/57).
24 - شرح القواعد الفقهية للزرقا، ص (309).
25 - المنثور للزركشي، (1/309).
26 - السنن الكبرى للبيهقي برقم (11001).
27 - شرح القواعد الفقهية للزرقا ص (310).
28 - المستصفى للغزالي (1/174).
29 - ينظر: المستصفى للغزالي (1/173).
30 - ينظر: علم أصول الفقه لعبد الوهاب خلّاف، ص (82).
31 - الإبهاج شرح المنهاج للسبكي، (3/178).
32 - مجموع الفتاوى، (12/495).
33 - الصلاة وأحكامها، ص (85).
34 - مدارج السالكين، (1/346).
35 - الرسالة ص ( 459-460).
36 - في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَ?لِكَ صِيَامًا لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ} [المائدة: 95].
37 - قال ابن الجوزي -رحمه الله- في نقد هذا المنهج: "فجاء أقوام ... وابتكروا طريقة زيّنها لهم الهوى، ثم تطلّبوا لها الدليل، وإنّما ينبغي للإنسان أن يتبع الدليل، لا أن يتبع طريقًا، ويتطلب دليلها". صيد الخاطر، ص (41).
38 - أخرجه مسلم برقم (1731)، كتاب الجهاد والسير، باب تأمير الإمام الأمراء على البعوث، ووصيته إياهم بآداب الغزو وغيرها.
39 - منهاج السنة، (5/251).
40 - تفسير البيضاوي (2/87).
41 - فتح القدير ص (567).
42 - مجموع الفتاوى، (20/54).

إضافة تعليق جديد