الأحد 24 نوفمبر 2024 الموافق 22 جمادي اول 1446 هـ

الجهاد: تعريفه ومراتبه - سلسلة فقه الجهاد 1

06 جمادي اول 1437 هـ


عدد الزيارات : 27212
موقع على بصيرة

  • الجهاد لغة: 

مصدر رباعي مِن جاهد يجاهد جِهادًا، ومادته: (جَهَدَ) الجيم والهاء والدال هي أصل هذا المصدر، وله عدة معان منها: الطاقة، والمشقة، والوسع، والقتال، والمبالغة.

قال ابن فارس رحمه الله: "الجيم والهاء والدال أصله المشقة، ثمَّ يُحمل عليه ما يقاربه، يُقال: جهدت نفسي وأجهدت، والجهد: الطاقة، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ}[التوبة 79]"[معجم مقايس اللغة (1/486-487)]

وقال الراغب الأصفهاني رحمه الله: "الجَهد والجُهد: الطاقة والمشقة، وقيل: الجَهد بالفتح: المشقة، والجُهد بالضم: الوسع"[المفردات في غريب القرآن: ص208]، ينظر أيضاً:[بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز للفيروزأبادي (2/401)].

وقال الفراء رحمه الله: "بلغت به الجهد: أي الغاية، واجهد جهدك في هذا الأمر، أي: ابلغ فيه غايتك، وأما الجهد: فالطاقة: يقال: اجهد جهدك"[اصلاح المنطق: ابن السكيت ص114].

وقال ابن الأثير رحمه الله: "الجهاد: محاربة الكفار، وهو المبالغة واستفراغ ما في الوسع والطاقة مِن قول أو فعل، يقال: جهد الرجل في الشيء: أي جد فيه وبالغ, وجاهد في الحرب مجاهدة وجهادًا"[ النهاية في غريب الحديث لابن الأثير: (1/848)].

وقال ابن منظور رحمه الله: "والاجتهاد والتجاهد، بذل الوسع والمجهود...وجاهد العدو مجاهدة وجهادًا: قاتله، وجاهد في سبيل الله، وفي الحديث: (لا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ)[البخاري:1834، ومسلم: 1353] الجهاد لمحاربة الأعداء، وهو المبالغة واستفراغ ما في الوسع والطاقة مِن قول أو فعل...وهو المبالغة واستفراغ الوسع في الحرب، أو اللسان"[ لسان العرب: (3/133)].

  • الجهاد شرعًا:

للجهاد في الشرع معنيان: معنى خاص ومعنى عام، وكلاهما راجع للمعنى اللغوي المتضمن بذل الوسع والطاقة في سبيل الله تعالى.

المعنى الخاص للجهاد هو: القتال في سبيل الله.

قال الراغب الأصفهاني رحمه الله: "الجهاد هو: استفراغ الوسع في مدافعة العدو"[المفردات في غريب القرآن: (ص: 208)].

وقال الكاساني رحمه الله: "الجهاد في عرف الشرع يستعمل في بذل الوسع والطاقة بالقتال في سبيل الله عز وجل بالنَّفس والمال واللسان، أو غير ذلك"([ بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع: (7/97)]).

وقال ابن عرفة رحمه الله الجهاد هو: "قتال مسلم كافرًا غير ذي عهد لإعلاء كلمة الله"[الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني: (2/879)].

وقال البهوتي رحمه الله: "الجهاد قتال الكفار خاصًّة"[ شرح منتهى الإرادات المسمى دقائق أولي النهى لشرح المنتهى: (1/716)].

وقال الحصكفي رحمه الله: "الدعاء إلى الدين الحق وقتال من لم يقبله"[الدر المختار (1/329)].

المعنى العام للجهاد: ويراد به عموم أنواع الجهاد، من جهاد النفس والهوى والشيطان والمنافقين والكفار وغيرهم.

قال ابن حجر رحمه الله: "الجهاد شرعًا: بذل الجهد في قتال الكفار، ويطلق أيضاً على مجاهدة النفس والشيطان والفساق"[ فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر: (6/3)].

وقال القسطلاني رحمه الله: "قتال الكفار لنصرة الإسلام وإعلاء كلمة الله، ويطلق أيضًا على جهاد النفس والشيطان"[إرشاد الساري شرح صحيح البخاري للقسطلاني: (5/31)].

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "الجهاد في سبيل الله تعالى مِن الجهد، وهي المغالبة في سبيل الله بكمال القدرة والطاقة، فيتضمن شيئين:

أحدهما: استفراغ الوسع والطاقة.

والثاني: أنْ يكون ذلك في تحصيل محبوبات الله، ودفع مكروهاته، والقدرة والإرادة بهما يتم الأمر"[جامع الرسائل: (2/281)].

وقال: "وذلك لأن الجهاد حقيقته الاجتهاد في حصول ما يحبه الله من الإيمان والعمل الصالح، ومن دفع ما يبغضه الله من الكفر والفسوق والعصيان"[مجموع الفتاوى (10/191، 192)].

ومما ورد من الأحاديث في الجهاد بمعناه العام قوله صلى الله عليه وسلم (المجاهد من جاهد نفسه‎)[الترمذي: 1621].

وقوله صلى الله عليه وسلم للذي استأذنه في الجهاد: (أحي والداك ؟ قال نعم، قال ففهيما فجاهد)[البخاري: 2842، مسلم: 2549].

  • الجهاد عند الإطلاق:

إذا أطلق لفظ الجهاد فالمراد به القتال في سبيل الله تعالى، وهو محل نظر الأحكام الفقهية المتعلقة به مِن معاهدات، أو عقود هدنة، وصلح،... ونحو ذلك.

يقول ابن رشد: "فكل من أتعب نفسه في ذات الله فقد جاهد في سبيله إلا أن الجهاد إذا أطلق لا يقع إلا على مجاهدة الكفار بالسيف"[التاج والإكليل لمختصر خليل (4/536)].

ومما يدل على أن الجهاد إذا أطلق ينصرف إلى قتال الكفار ما يلي: 

  1. عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: (دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يَعْدِلُ الْجِهَادَ. قَالَ صلى الله عليه وسلم: لا أَجِدُهُ، قَالَ صلى الله عليه وسلم: هَلْ تَسْتَطِيعُ إِذَا خَرَجَ الْمُجَاهِدُ أَنْ تَدْخُلَ مَسْجِدَكَ فَتَقُومَ وَلا تَفْتُرَ وَتَصُومَ وَلا تُفْطِرَ. قَالَ: وَمَنْ يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ؟!) قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: (إِنَّ فَرَسَ الْمُجَاهِدِ لَيَسْتَنُّ فِي طِوَلِهِ فَيُكْتَبُ لَهُ حَسَنَاتٍ)[البخاري: 2633]. ودلالة هذا الحديث على المراد ظاهرة، فالصيام والقيام هما من جهاد النفس، ومع هذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم (لا أجد ما يعدل الجهاد) فدل على أن المراد بالجهاد إذا أطلق هو جهاد الكفار لا مجاهدة النفس.

  2. عن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مُؤْمِنٌ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ) قالُوا: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: (مُؤْمِنٌ فِي شِعْبٍ مِنْ الشِّعَابِ يَتَّقِي اللَّهَ وَيَدَعُ النَّاسَ مِنْ شَرِّهِ)[البخاري: 2634]. فالذي يتقي الله في شعب من الشعاب مجاهد لنفسه، ومع هذا صرف النبي صلى الله عليه وسلم معنى الجهاد إلى قتال الكفار.

  3. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَصَامَ رَمَضَانَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ جَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ جَلَسَ فِي أَرْضِهِ الَّتِي وُلِدَ فِيهَا. فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلا نُبَشِّرُ النَّاسَ ؟ قَالَ: إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَأَعْلَى الْجَنَّةِ و فَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ)[البخاري: 2637].

فمن جلس في أرضه ولم يقاتل في سبيل الله لا يعتبر مجاهداً، مع أنه يجاهد نفسه على الصلاة والصيام ونحو ذلك من أنواع الجهاد.

وكل الآيات والأحاديث التي تدل على فضائل الجهاد فالمراد بها الجهاد الحقيقي وهو قتال الكفار لإعلاء كلمة الله تعالى، ولا تحمل على جهاد النفس أو غيره من أنواع الجهاد. وكذلك علماء الإسلام من محدثين وفقهاء إذا بوبوا في كتبهم للجهاد فالمراد به جهاد الكفار القتالي لا مجاهدة النفس.

  • أقسام الجهاد ومراتبه:

تعددت تقسيمات العلماء للجهاد، فتارة يقسمونه بحسب من يقع عليه الجهاد، فيقسمونه إلى: جهاد النفس، وجهاد الشيطان، وجهاد الكفار، وجهاد المنافقين، وجهاد أهل البدع والمنكرات. وتارة يقسمونه باعتبار الآلة التي يكون بها الجهاد فيقسمونه إلى: جهاد القلب، وجهاد اليد، وجهاد اللسان، وجهاد المال.

قال الراغب الأصفهاني رحمه الله: "والجهاد ثلاثة أضرب: مجاهدة العدو الظاهر، ومجاهدة الشيطان، ومجاهدة النَّفس، وتدخل ثلاثتها في قوله تعالى:{وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ}[الحج: 78]، {وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}[التوبة: 41]، {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}[الأنفال: 72]... والمجاهدة تكون باليد واللسان، قال صلى الله عليه وسلم: (جَاهِدُوا الْمُشْرِكِينَ بِأَيْدِيكُمْ، وَأَلْسِنَتِكُمْ)[أخرجه ابن حبان في صحيحه: 4708]).[المفردات في غريب القرآن: ص:208].

وقال ابن رشد رحمه الله: "الجهاد المبالغة في إتعاب الأنفس في ذات الله وهو على أربعة أقسام: جهاد بالقلب أن يجاهد الشيطان والنفس عن الشهوات المحرمات، وجهاد باللسان أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر. وجهاد باليد أن يزجر ذوو الأمر أهل المناكر عن المنكر بالأدب والضرب على ما يؤدي إليه الاجتهاد في ذلك، ومن ذلك إقامتهم الحدود، وجهاد بالسيف قتال المشركين على الدين"[التاج والإكليل لمختصر خليل (4/536)].

وقال ابن القيم  رحمه الله: "الجهاد أربع مراتب: جهاد النَّفس، وجهاد الشيطان، وجهاد الكفار، وجهاد المنافقين"[ زاد المعاد في هدي خير العباد: (3/9)].

وهنا سنكتفي بذكر مراتب الجهاد باعتبار من يقع عليهم الجهاد، وما يكون به الجهاد فهو داخل فيه ضمناً. 

  • أولاً: جهاد النفس

أقسم الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم بالنفس الإنسانية، لأنها من أعظم ما خلق جل جلاله وأبدع، فقال سبحانه: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا ♦ وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا ♦ وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا ♦ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا ♦ وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا ♦ وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا ♦ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا}، ثم ذكر سبحانه أنه بيّن للنفس طريق الخير والشر {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا}، وترك لها حرية الاختيار بينهما، ثم بيّن عاقبة كل طريق فقال: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا ♦ وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} فبإمكان الإنسان أن يزكي نفسه ويرقى بها، وبإمكانه أن ينحطّ بها ويدنسها!

وسبيل الأخير يسير، لا يتطلب سوى ترك النفس وما تهوى، من تتبع ملذاتها، وترك ما يشق عليها.

أما تزكية النفس فتحتاج إلى مجاهدة، وصبر، واستعانة بالله تعالى، لذا كان النبي صلى الله عليه وسلّم يُكثر من قول: (اللَّهُمَّ آتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا، وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا، أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلَاهَا)[مسلم 2722]

والنفوس ثلاثة، ذكرها الله عزوجل في القرآن الكريم:

أولها: النّفس الأمّارة بالسّوء: {إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ}[يوسف: 53]، فهي توجّه صاحبها بما تهواه من شهوات وغرائز، حتى يصبح ميلها للشر، والانسياق وراء الشهوات والرذائل عادة فيها، وهذه النفس لا يجاهدها صاحبها أبداً، بل يطلق لها العنان لتفعل ما تشاء، ولا يحاسب نفسه على شيء مما يفعل.

وثانيها: النفس اللوّامة: {وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ}[القيامة: 2] وهي النفس المتيقّظة الخائفة، التي تندم بعد ارتكاب المعاصي والذنوب فتلوم وتحاسب نفسها أولاً بأوّل، وهذا اللوم والمحاسبة من الجهاد، لما فيه من مشقة لإرجاع النفس إلى طريق الصواب.

أما ثالث النفوس فهي التي نجح صاحبها في مجاهدتها، حتى زكّاها، وسلك بها طريق طاعة ربها، فأصبحت مؤمنة بخالقها، راضية بقدره، مجتهدة في طاعته، وهي النفس المطمئنة.

قَالَ الْقُشَيْرِيُّ رحمه الله: "أَصْلُ مُجَاهَدَةِ النَّفْسِ فَطْمُهَا عَنْ الْمَأْلُوفَاتِ وَحَمْلُهَا عَلَى غَيْر هَوَاهَا وَلِلنَّفْسِ صِفَتَانِ: اِنْهِمَاكٌ فِي الشَّهَوَاتِ، وَامْتِنَاعٌ عَنْ الطَّاعَاتِ، فَالْمُجَاهَدَةُ تَقَعُ بِحَسَبِ ذَلِكَ".[فتح الباري (11/338)]

وقال ابن القيم رحمه: "جهاد النفس أربع مراتب أيضًا:

إحداها: أن يجاهدها على تعلم الهدى ودين الحق الذي لا فلاح لها ولا سعادة في معاشها ومعادها إلا به، ومتى فاتها علمه شقيت في الدارين.

الثانية: أن يجاهدها على العمل به بعد علمه، وإلا فمجرد العلم بلا عمل إن لم يضرها لم ينفعها.

الثالثة: أن يجاهدها على الدعوة إليه، وتعليمه من لا يعلمه، وإلا كان من الذين يكتمون ما أنزل الله من الهدى والبينات، ولا ينفعه علمه، ولا ينجيه من عذاب الله.

الرابعة: أن يجاهدها على الصبر على مشاق الدعوة إلى الله وأذى الخلق، ويتحمل ذلك كله لله.

فإذا استكمل هذه المراتب الأربع صار من الربانيين، فإن السلف مجمعون على أن العالم لا يستحق أن يسمى ربانياً حتى يعرف الحق ويعمل به ويعلمه، فمن علم وعمل وعلم فذاك يدعى عظيمًا في ملكوت السماوات"[زاد المعاد في هدي خير العباد: 3/9].

"ذكر تعالى المراتب الأربعة في هذه السورة، وأقسم سبحانه في هذه السورة بالعصر إن كل أحد في خسر {إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات} وهم الذين عرفوا الحق وصدقوا به فهذه مرتبة، {وعملوا الصالحات} وهم الذين عملوا بما علموه من الحق فهذه مرتبة أخرى، {وتواصوا بالحق} وصى به بعضهم بعضاً تعليماً وإرشاداً فهذه مرتبة ثالثة، {وتواصوا بالصبر} صبروا على الحق ووصى بعضهم بعضاً بالصبر عليه والثبات فهذه مرتبة رابعة"[مفتاح دار السعادة:1/ 56].

ومن أخص جهاد النفس: نهيها عن هواها، أي حملها على مخالفة ما تهواه النفس، من فعل المحرمات والشهوات،  قال الله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى ♦ فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى}[النازعات:40-41]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئْتُ بِهِ)[أَخْرَجَهُ الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ وَغَيْرُهُ، قال ابن حجر: وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ وَقَدْ صَحَّحَهُ النَّوَوِيُّ فِي آخِرِ الْأَرْبَعِينَ]

وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يُعلِّم أصحابه مجاهدة النفس بقوله وبِفعله، فمن ذلك:

ما رواه أبو هريرة رضي الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ألا أدلّكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط)[مسلم: 251].

وعَنْ رَبِيعَةَ بْنِ كَعْبٍ الْأَسْلَمِيِّ رضي الله عنه قَالَ: (كُنْتُ أَبِيتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَيْتُهُ بِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ فَقَالَ لِي: (سَلْ) فَقُلْتُ: أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ، قَالَ: (أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ؟). قُلْتُ: هُوَ ذَاكَ، قَالَ: (فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ)[ مسلم: 489].

وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ليس الشديد بِالصُّرَعَةِ، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب)[البخاري: 5763، مسلم:2609].

وعن معقل بن يسار رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (العبادة في الهرج كهجرة إليَّ)[مسلم: 2948].

وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقوم من الليل حتى تنفطِر قدماه، فقلت: "لم تصنع هذا وقد غُفِرَ لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخَّر؟ قال: (أفلا أحب أن أكون عبدًا شكورًا)"[البخاري: 4556، ومسلم: 2820].

• أما الحديث المنسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر) يعني جهاد النفس، فإنه لا يصح، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: هو من كلام إبراهيم بن أبي عبلة، وليس بحديث.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "أما الحديث الذي يرويه بعضهم أنه قال في غزوة تبوك: "رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر" فلا أصل له، ولم يروه أحد من أهل المعرفة بأقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله"[مجموع الفتاوى 11/ 197].

ثم إن معناه غير دقيق، فإن قتال الأعداء هو ذروة سنام الإسلام، وإليه تنصرف عشرات النصوص من الكتاب والسنة في فضله وفضل من يقتل في سبيل الله، وهو يمثّل أعلى درجات الجهاد ومراتبه، فلا يصله إلا من جاهد نفسه حقيقة حتى تغلّب عليها، فسارع إلى امتثال أمر الله عز وجل بقتال الكفار، ومن تأخر عن قتال الكفار مع قدرته وزوال الموانع دونه فإنه ضعيف أمام نفسه، لم يستطع مجاهدتها، وانهزم في معركته مع هواه!

  • ثانياً: جهاد الشيطان: 

الشيطان عدو للإنسان، قال تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ}[فاطر: 6]، وقد أقسم على إغواء بني آدم، قال تعالى: {وَإِن يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَّرِيدًا ♦ لَّعَنَهُ اللَّهُ ۘ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا ♦ وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا}[النساء: 117-119].

وهو قريب من الإنسان جداً، وملازم له في كل أحواله، يلقي في قلبه الوساوس حتى يضلّه، قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِى مِنَ الإِنْسَانِ مَجْرى الدم)[البخاري: 3281].

والتصدي لوساوس الشيطان، وعصيانه: جهاد.

عَنْ سَبْرَةَ بْنِ أَبِي فَاكِهٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِنَّ الشَّيْطَانَ قَعَدَ لِابْنِ آدَمَ بِأَطْرُقِهِ، فَقَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ: تُسْلِمُ وَتَذَرُ دِينَكَ وَدِينَ آبَائِكَ وَآبَاءِ أَبِيكَ، فَعَصَاهُ فَأَسْلَمَ، ثُمَّ قَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْهِجْرَةِ، فَقَالَ: تُهَاجِرُ وَتَدَعُ أَرْضَكَ وَسَمَاءَكَ، وَإِنَّمَا مَثَلُ الْمُهَاجِرِ كَمَثَلِ الْفَرَسِ فِي الطِّوَلِ، فَعَصَاهُ فَهَاجَرَ، ثُمَّ قَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْجِهَادِ، فَقَالَ: تُجَاهِدُ فَهُوَ جَهْدُ النَّفْسِ وَالْمَالِ، فَتُقَاتِلُ فَتُقْتَلُ، فَتُنْكَحُ الْمَرْأَةُ، وَيُقْسَمُ الْمَالُ، فَعَصَاهُ فَجَاهَدَ،" فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَمَنْ قُتِلَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَإِنْ غَرِقَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، أَوْ وَقَصَتْهُ دَابَّتُهُ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ)[النسائي: 3134].

مراتب جهاد الشيطان:

قال ابن القيم رحمه الله: أما جهاد الشيطان فمرتبتان: 

إحداهما: جهاده على دفع ما يلقي إلى العبد من الشبهات والشكوك القادحة في الإيمان.

الثانية: جهاده على دفع ما يلقي إليه من الإرادات الفاسدة والشهوات، فالجهاد الأول يكون بعده اليقين، والثاني: يكون بعده الصبر. قال تعالى: {وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون}[السجدة: 24] فأخبر أن إمامة الدين إنما تنال بالصبر واليقين، فالصبر يدفع الشهوات والإرادات الفاسدة، واليقين يدفع الشكوك والشبهات.

طرق جهاد الشيطان:

  • 1. إدراك أنه عدو وإدامة الحذر منه:

فقد بين لنا ربنا سبحانه وتعالى أن الشيطان لنا عدو، وأمرنا باتخاذه عدواً، وبالحذر منه أشد الحذر، قال تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ}[فاطر: 6]. وقال سبحانه: {وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ}[الزخرف: 62] وقال في موضع آخر: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ}[البقرة: 168]. 

ومما يدعو الإنسان إلى الحذر من الشيطان وترك سبيله: علمه بأنه سيتخلى عمن يتبعه ويعمل بوساوسه، سواء في الدنيا كما في معركة بدر حيث زين للمشركين المقام على قتال النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه فلما رأى جيش الملائكة ولى مدبراً، قال تعالى: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَاءتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّيَ أَخَافُ اللّهَ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ}[الأنفال: 48].

أو في الآخرة، حين يقف خطيباً في جهنم ليعلن براءته ممن اتبعه !  {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي  فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُم بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[إبراهيم: 22].

  • 2. التنبه إلى خطوات الشيطان ومكائده:

فإن له طرقاً عجيبة في ذلك، فإنه يسعى لإضلال الإنسان وتحويله إلى الكفر بالله، فإن لم يستطع أوقعه في البدعة، فإن لم يستطع أوقعه في الكبائر، فإن فشل في ذلك أوقعه في الصغائر، فإن رآه ممتنعاً عن الذنوب أمره بالتوسع في المباحات حتى يشغله عن ذكر الله وعبادته، فإن لم يستطع أشغله بالمفضول من العمل عن الفاضل، وهكذا، وقد سمى الله تعالى هذه الطرق: خطوات، وحذرنا منها فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ}[البقرة: 208].

  • 3. العودة إلى دين الله والاعتصام بحبله، ولزوم السنة والجماعة:

قال تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}[آل عمران: 103].

وعن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ وَإِيَّاكُمْ وَالْفُرْقَةَ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْوَاحِدِ وَهُوَ مِنْ الِاثْنَيْنِ أَبْعَدُ مَنْ أَرَادَ بُحْبُوحَةَ الْجَنَّةِ فَلْيَلْزَمْ الْجَمَاعَةَ)[الترمذي 2165، أحمد 178]

  • 4. الاستعاذة بالله والاحتماء به من الشيطان:

قال تعالى: {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}[فصلت: 36]، وقال تعال: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}[النحل: 98]، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ}[الأعراف: 201].

وقد علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الأذكار والأعمال التي تقينا بإذن الله من الشيطان، فمن ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ، كَانَتْ لَهُ عَدْلَ عَشْرِ رِقَابٍ، وَكُتِبَتْ لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ، وَمُحِيَتْ عَنْهُ مِائَةُ سَيِّئَةٍ، وَكَانَتْ لَهُ حِرْزاً مِنَ الشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذَلِكَ حَتَّى يُمْسِىَ، وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ، إِلاَّ أَحَدٌ عَمِلَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ)[البخاري: 3293].

  • ثالثاً: جهاد الكفار: 

ومن جهاد الشيطان جهاد أوليائه وحزبه، فقد أمرنا الله تعالى بقتالهم، قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا}[النساء: 76]

قال ابن القيم رحمه الله: "وَأَمّا جِهَادُ الْكُفّارِ... فَأَرْبَعُ مَرَاتِبَ: بِالْقَلْبِ وَاللّسَانِ وَالْمَالِ وَالنّفْسِ... وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ جِنْسَ الْجِهَادِ فَرْضُ عَيْنٍ إِمَّا بِالْقَلْبِ، وَإِمَّا بِاللِّسَانِ، وَإِمَّا بِالْمَالِ، وَإِمَّا بِالْيَدِ، فَعَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يُجَاهِدَ بِنَوْعٍ مِنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ"[زاد المعاد:3/64].

فجهادهم بالقلب: بغضهم وبغض ما هم عليه من الكفر والمعصية.

وجهادهم باللسان: دعوتهم للإسلام، والرد على حججهم وشبهاتهم، والتنفير منهم ومن أعمالهم.

وجهادهم بالمال: بذله في سبيل دعوتهم، أو تأليف قلوبهم، أو لإعداد القوة لقتالهم ورد عدوانهم.

وجهادهم بالنفس: قتالهم، وهو ذروة سنام الإسلام.

  • رابعاً: جهاد المنافقين.

المنافق هو الذي يظهر الإسلام من صلاة وزكاة وصيام وغيرها من الشعائر، ويبطن الكفر، قال تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ}[البقرة:14], وقال تعالى: {يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ}[آل عمران:154]، ويُعرف المنافق في فلتات لسانه، قال الله تعالى: {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ}[محمد:30]، والأفعال الدالة على النفاق كثيرة، كمولاة الكفار وغيرها، وقد أنزل الله تعالى تفصيلاً لأفعالهم وأحوالهم في سورة "التوبة"، فبيَّن فيها فضائحهم، قال تعالى: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِئُواْ إِنَّ اللّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ}[التوبة:64].

وقد وصف الله تعالى المنافقين بأنهم عدو للمسلمين، بل هم "العدو"، قال تعالى: {هُمُ العَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}[المنافقون: 4]، قال ابن عاشور رحمه الله: "والتعريف في (العدو) تعريف الجنس الدال على معين، لكمال حقيقة العدو فيهم، لأن أعدى الأعادي: العدو المتظاهر بالموالاة وهو مدَّاح، وتحت ضلوعه الداء الدوي، وعلى هذا المعنى رُتب عليه الأمر بالحذر منهم"[تفسير التحرير والتنوير (13/241)].

فعداؤهم أشد من عداء المشركين الظاهرين المعلنين بمحاربتهم، قال الطبري رحمه الله: "هم العدو يا محمد فاحذرهم ، فإن ألسنتهم إذا لقوكم معكم وقلوبهم عليكم مع أعدائكم، فهم أعين لأعدائكم عليكم[تفسير جامع البيان للطبري (30/70)].

كيفية جهاد المنافقين:

وقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بجهاد المنافقين والكافرين فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}[التوبة: 73] قال الطبري رحمه الله: "وأولى الأقوال في تأويل ذلك عندي بالصواب: ما قال ابن مسعود من أن الله أمر نبيه صلى الله عليه وسلم من جهاد المنافقين بنحو الذي أمره من جهاد المشركين، فإن قال قائل: فكيف تركهم صلى الله عليه وسلم مقيمين بين أظهر أصحابه مع علمه بهم ؟ قيل: إن الله تعالى ذِكره إنما أمر بقتال من أظهر منهم كلمة الكفر، ثم أقام على إظهاره ما أظهر من ذلك، وأما من إذا اطُّلع عليه منهم أنه تكلم بكلمة الكفر وأُخذ بها أنكرها ورجع عنها وقال إني مسلم، فإن حكم الله في كل من أظهر الإسلام بلسانه أنه يحقن بذلك دمه وماله وإن كان معتقداً غير ذلك"[تفسير الطبري (30/71)].

فجهاد المنافقين إذن إذا أظهروا الكفر الجلي بقول أو فعل أن يجاهدوا مثل جهاد الكفار. قال ابن كثير رحمه الله: "روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربعة أسياف: سيف للمشركين: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الحُرُمُ فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ}[التوبة: 5]، وسيف لكفار أهل الكتاب: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ}[التوبة: 29 ]، وسيف للمنافقين: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ}[التوبة: 73]، وسيف للبغاة {قَاتِلُوا الَتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ}[الحجرات: 9]، قال ابن كثير: "وهذا يقتضي أن يجاهدوا بالسيف إذا أظهروا النفاق، وهو اختيار ابن جرير"[تفسير القرآن العظيم لابن كثير (2/408)].

وقال ابن القيم رحمه الله: "وأما جهاد الكفار والمنافقين فأربع مراتب: بالقلب، واللسان، والمال، والنفس، وجهاد الكفار أخص باليد، وجهاد المنافقين أخص باللسان".[زاد المعاد: 3/10].

وقال ابن القيم أيضا: وكذلك جهاد المنافقين إنما هو بتبليغ الحجة وإلا فهم تحت قهر أهل الإسلام قال تعالى {يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير} فجهاد المنافقين أصعب من جهاد الكفار، وهو جهاد خواص الأمة وورثة الرسل والقائمون به أفراد في العالم والمشاركون فيه والمعاونون عليه وإن كانوا هم الأقلين عددًا فهم الأعظمون عند الله قدرًا، ولما كان من أفضل الجهاد قول الحق مع شدة المعارض مثل أن تتكلم به عند من تخاف سطوته وأذاه كان للرسل صلوات الله عليهم وسلامه من ذلك الحظ الأوفر وكان لنبينا صلوات الله وسلامه عليه من ذلك أكمل الجهاد وأتمه[زاد المعاد: 3/6].

وقال ابن القيم أيضا: "الجهاد نوعان: جهاد بالسيف والسنان، وهو جهاد العامة، وأنصاره كثير، وجهاد بالحجة والبيان وهو جهاد الخاصة من أتباع الرسل وهو جهاد الأئمة، وأنصاره قليل، وهو أفضل النوعين، لعظم منفعته، وشدة مؤنته، وكثرة أعدائه"[مفتاح دار السعادة: 1/70].

  • خامساً: جهاد أهل البدع والمنكرات:

هذا النوع من الجهاد يكون باليد، واللسان، والقلب، حسب المراتب التي بينها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ)[مسلم: 49]. وحديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (مَا مِنْ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللهُ فِي أُمَّةٍ قَبْلِي إِلَّا كَانَ لَهُ مِنْ أُمَّتِهِ حَوَارِيُّونَ، وَأَصْحَابٌ يَأْخُذُونَ بِسُنَّتِهِ وَيَقْتَدُونَ بِأَمْرِهِ، ثُمَّ إِنَّهَا تَخْلُفُ مِنْ بَعْدِهِمْ خُلُوفٌ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ، وَيَفْعَلُونَ مَا لَا يُؤْمَرُونَ، فَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِيَدِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِلِسَانِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِقَلْبِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الْإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ)[مسلم:50]. وقال تعالى: {ولتكُنْ منكم أمَّةٌ يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر}[ آل عمران: 104]. وقال تعالى: {الذين إن مكَّنّاهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتَوا الزكاة وأَمَروا بالمعروف ونَهَوا عن المنكر}[الحج: 41].

وهذه النصوص تدل على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو الفريضة المقصودة بجهاد الفاسقين والمبتدعين والظالمين الذين يَظهَرون في الأمّة أو يتمكَّنون فيها، والمقصود من هذه الفريضة هو حفظ الأمة في دينها وأعرافها وسلوك أفرادها، وقد يكون ذلك بمنع هؤلاء من إفسادهم، أو بإصلاح الخلل الذي تؤدي إليه دعواتُهم المفسدة.

قال ابن القيم رحمه الله: "وأما جهاد أرباب الظلم والبدع والمنكرات فثلاث مراتب، الأولى: باليد إذا قدر، فإن عجز انتقل إلى اللسان، فإن عجز جاهد بقلبه"[زاد المعاد: 3/10].


اقرأ أيضاً : القتال في سبيل الله، أقسامه وأسبابه وأنواعه - سلسلة فقه الجهاد 2


 

1 - [معجم مقايس اللغة (1/486-487)]
2 - [المفردات في غريب القرآن: ص208]، ينظر أيضاً:[بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز للفيروزأبادي (2/401)].
3 - [اصلاح المنطق: ابن السكيت ص114]
4 - [ النهاية في غريب الحديث لابن الأثير: (1/848)]
5 - [البخاري:1834، ومسلم: 1353]
6 - [ لسان العرب: (3/133)]
7 - [المفردات في غريب القرآن: (ص: 208)]
8 - ([ بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع: (7/97)])
9 - [الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني: (2/879)]
10 - [ شرح منتهى الإرادات المسمى دقائق أولي النهى لشرح المنتهى: (1/716)]
11 - [الدر المختار (1/329)]
12 - [ فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر: (6/3)]
13 - [إرشاد الساري شرح صحيح البخاري للقسطلاني: (5/31)]
14 - [جامع الرسائل: (2/281)]
15 - [مجموع الفتاوى (10/191، 192)]
16 - [الترمذي: 1621]
17 - [البخاري: 2842، مسلم: 2549]
18 - [التاج والإكليل لمختصر خليل (4/536)]
19 - [البخاري: 2633]
20 - [البخاري: 2634]
21 - [البخاري: 2637]
22 - [أخرجه ابن حبان في صحيحه: 4708]).[المفردات في غريب القرآن: ص:208]
23 - [التاج والإكليل لمختصر خليل (4/536)]
24 - [ زاد المعاد في هدي خير العباد: (3/9)]
25 - [مسلم 2722]
26 - [فتح الباري (11/338)]
27 - [زاد المعاد في هدي خير العباد: 3/9]
28 - [مفتاح دار السعادة:1/ 56]
29 - [أَخْرَجَهُ الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ وَغَيْرُهُ، قال ابن حجر: وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ وَقَدْ صَحَّحَهُ النَّوَوِيُّ فِي آخِرِ الْأَرْبَعِينَ]
30 - [مسلم: 251]
31 - [ مسلم: 489]
32 - [البخاري: 5763، مسلم:2609]
33 - [مسلم: 2948]
34 - [البخاري: 4556، ومسلم: 2820]
35 - [مجموع الفتاوى 11/ 197]
36 - [البخاري: 3281]
37 - [النسائي: 3134]
38 - [الترمذي 2165، أحمد 178]
39 - [البخاري: 3293]
40 - [زاد المعاد:3/64]
41 - [تفسير التحرير والتنوير (13/241)]
42 - [تفسير جامع البيان للطبري (30/70)]
43 - [تفسير الطبري (30/71)]
44 - [تفسير القرآن العظيم لابن كثير (2/408)]
45 - [زاد المعاد: 3/10]
46 - [زاد المعاد: 3/6]
47 - [مفتاح دار السعادة: 1/70]
48 - [مسلم: 49]
49 - [مسلم:50]
50 - [زاد المعاد: 3/10]