شرك الأولين وشرك الديمقراطيين
من طريقة القرآن في بيان بطلان صرف العبادة لغير الله الذي كان عليه المشركون: أن يسألهم عمّن خلقهم ورزقهم ومن يدبّر أمرهم ومن بيده ملكوت السماوات والأرض، فإذا ما أقرّوا أنّه الله جل جلاله: ألزمهم بأنّه هو المستحقّ وحده للعبادة، فكيف لهم أن يصرفوها لغيره أو أن يخضعوا في حوائجهم لسواه؟
{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ المُتَوَكِّلُونَ} [الزُّمر: 38].
ونظائر هذه الآية في القرآن كثيرة جدًا، كلّها تبيّن اقتضاء إقرارهم لربوبية الله وتدبيره أن يتوجّهوا له وحده بالعبادة والخضوع والتألّه، فأفعاله وصفاته سبحانه مقتضية لاستحقاقه العبودية من أفعال المخلوقين وإراداتهم.
فالمعرفة التي انطوت عليها قلوبهم (أنّ الله هو المالك المدبّر) تقتضي عملًا حتى تكون معرفة صادقة، هو عبادتهم لله وحده. وحينما يدّعون هذه المعرفة ويخالفونها بعملهم فجواب القرآن عليهم {فَأَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ}، {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}.
اليوم -وفي غفلةٍ عن هذا الاقتضاء شبيهةٍ بغفلة المشركين الأوائل- ظهر في المسلمين من ينادي بنوعٍ من أنواع الشرك تقتضيه الديمقراطية الغربية (صنم العصر) ألا وهو شرك الطاعة والحاكمية، فتجد أحدهم يقرّ بلسانه أنّ الله هو الحاكم المشرع وحده وأنّ له الخلق والأمر، لكنه في ذات الوقت يبرّر طاعة الجماهير وتقديم أهوائها ولو خالفت أمر الله، وبعضهم تخطّى مرحلة التبرير إلى مرحلة الإيجاب والتحتيم وأنّه لا يسوغ العدول عما تشرّعه الجماهير وتقرّه ولو خالف شريعة الله!
فجعلوا حكم الله وتشريعه معرفة قلبية محضة، وأمّا العمل فهو على ما يشرّعه الناس، وسمّو المعرفةَ الأولى: (مشروعية دينية)، والعمل الثاني: (مشروعية سياسية).
لقد كان المشركون الذين يصرفون الطقوس العبادية للأصنام والأولياء يقولون: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلا الله زلفى، فهم يؤمنون أنّ الله هو المالك المدبّر وأنّه هو من بيده الأمر أولًا وأخيرًا، لكنّهم يتأوّلون أنَّ أوثانهم هي واسطة إلى الله، وفضاء يقرّب إليه، واليوم نسمع ذات التأويل الفاسد من الديمقراطيين الذين يقولون: ما نطيع الجماهير إلا ليوصلونا لشريعة الله، وأنّ طاعة الجماهير هي الفضاء الذي يُزدلف به إلى الشريعة.
إنّه لا فرق بين الخضوع لغير الله بالسجود وبين الخضوع له بطاعة أمره وتشريعه، ولذا قال الله عن مشركي أهل الكتاب: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ} [التوبة: 31]، ولما سمعها عدي بن حاتم رضي الله عنه -وكان نصرانيًا في الجاهلية- قال: لسنا نعبدهم يا رسول الله، وكان جواب الرسول صلى الله عليه وسلم: (أَلَيْسَ يُحَرِّمُونَ مَا أَحَلَّ اللهُ فَتُحَرِّمُونُهُ، ويُحِلُّونَ مَا حَرَّمَ اللهُ فَتَسْتَحِلُّونَهُ؟ قال: بلى، قال: فَتِلْكَ عِبَادَتُهُمْ).
واليوم يبرّر بعضُ المنتسبين للإسلام عبادةَ غير الله عبر الديمقراطية، فالحلال ما أحلّه الجمهور والحرام ما حرّمه الجمهور ولو جاوز ذلك حدود الشريعة الربانية، وإذا كان أهل الكتاب اتخذوا ربًّا نخبويًّا يخضعون له ويدبّر لهم شرائعهم فلقد جاءت الديمقراطية لتوسّع قليلًا من دائرة الربوبية المزيّفة، وتضم إليها العامّةَ والغوغاءَ!
ولما سمع أهل الكتاب هذه الآية أخبت كثيرٌ منهم، وأقرَّ بضلاله وضلال قومه، وعاد مسلمًا لله لا يطيع غيره ولا يخضع لشرع سواه، وتأثّر كثير منهم بهذه الآية القرآنية فنادوا بتصحيحات متمرّدة على الخضوع لشرائع الكهان، ونكص آخرون فأصمّوا آذانهم وأعموا أبصارهم، مستكبرين عن الهدى ودين الحق، لكنّ هؤلاء المستكبرين من أهل الكتاب لم يحتجّوا يومًا في تبرير شركهم بـ (أن الله ليس موجودًا على الأرض، وشريعته ليست كائنًا حيًّا له أرجل ويمشي في الأسواق، وإنّما يقوم بالشريعة هؤلاء الأحبار والرهبان)، لم يردّدوا هذه السفسطة الساقطة في وجه من ينتقد تقديمهم أوامر الرهبان والأحبار على أوامر الله وشريعته، لأنّهم كانوا أعقل وأكثر جدّية في معتقدهم من (متمقرطة) متأخّرين ينتسبون للإسلاميين ويبرّرُون عبادتهم للجماهير وتقديمهم لمرادها على شريعة الله (بأنّ الشريعة لا تقوم بنفسها)!
فهو تبرير ساذج يفتقر لبدهيات البناء العقلي ويتغافل عن أساسيات الحقائق، فإنّ الشريعة لا تقوم بنفسها في التطبيق، لكنّها قائمة بنفسها ومستقلّة كشرع، مستعلية عن التشريعات البشرية القاصرة ومستغنية عنها، حاكمة على الأهواء والرغبات لا محكومة بها ومقيدة من خلالها.
فهذا الاعتراض: (الشريعة لا تقوم بنفسها) لا وجه له ولا مدخل في تبرير طاعة الجماهير في التشريع؛ لأنّه عبارة عن مكنتهم في الامتثال المادي للشريعة وتحقيقها كواقع ملموس، وهذه المكنة التطبيقية لا تعني حقّهم في التشريع ولا تقتضيه، بل يكون الواجب عليهم القيام بالشرع، ومكافحة الخروج عنه ولو كان الخارج عنه جمهورًا غفيرًا.
ألم ترَ أنّ العدل كقيمة أساسية لا يقوم في الناس إلا بقيامهم به، ولكن هذه البدهيّة في الوجود الخارجي لا تصلح بأيّ حالٍ مستقيم لتبرّر أمرًا خارجًا عن العدل من الظلم والطغيان حينما تريده سطوة جماهيرية ضالّة، فالانسياق لرغبة الجماهير الموبوءة في هذه الحالة: انسياق لظلم فهو ظلم، ولا يقال: إنّ العدل لا يقوم بنفسه ولا يقوم به إلا الناس، فإذا ما اختار الناس الظلم فهو المختار.
وكذلك الحرية كقيمة ينشدها كثير من الديمقراطيين وهي لا تتحقق في الخارج إلا بتحقيق الناس لها، ولكنّ ذلك لا يبرّر أجواء القمع والاستبداد حينما يتقاعس الناس عن الحرية، بدعوى أنّ الحرية (لا تقوم بنفسها ولا تمشي على رجلها وإنّما يقوم بها الناس) فإذا ما تركوها فالأمر على ما تركوا!
والديمقراطيون لا يسلّمون للناس والجماهير ما يقترفونه بحقّ الحرية من خرم وإهمال، وإنْ بدعوى أنّهم هم القيّمون بالحرية والمسؤولون عنها، لأنّهم تشرّبوها كمرجعية مستعلية، حاكمة لا محكومة، وأمّا الشريعة فقد أشركوا معها غيرها، وصارت مفتقرة لشريكها (صندوق الاقتراع) حتى يقرّوا بها ويجعلوها مستعلية حاكمة على الأهواء والرغبات.
فمن يقول: (الشريعة لا تقوم بنفسها وإنّما يقوم بها الناس) مبرّرًا بذلك حالة عرضها لتصويتهم فإذا ما صوّت غالبيتهم لتنحيتها نُحيت، فهو كمن يقول: (الحرية لا تقوم بنفسها وإنّما يقوم بها الناس) مبرّرًا بذلك قمع الحريات إذا قررته الجماهير أو تركت الدعوة للحرية، وهو كمن يقول: (الدين لا يقوم بنفسه وإنّما يقوم به الناس) مبرّرًا بذلك طاعة ثلّة من الأحبار والرهبان في تشريع الحلال والحرام.
وقول الديمقراطيين اليوم إنّ منح الناس حقّ التشريع يوصل لفضاءٍ أمثَلَ للشريعة، هو كقول المشركين الأوائل إنّ منح معبوداتهم حقّ العبادة يوصل نحو قربى إلى الله وزلفى إليه، تعالى الله عما يشركون جميعًا.
المصدر: صيد الفوائد
إضافة تعليق جديد