الجهاديون .. والزيادة في الجهاد
مدخل :
من أعظم كوارث الأمة اليوم: إعراضها عن الجهاد في سبيل الله .. ركون رجالها إلى الدنيا وكراهيتهم للموت في سبيل الله، وغنّي عن القول ما جرّه هذا البلاء من ضعف وتخلّف حتى كادت أن تكون حمىً مستباحًا وغنيمة لعساكر الشرق والغرب.
هذا الموقف السلبي تجاه فريضة الجهاد لم يقف ضرره على المستوى المادّي نقصًا في الأعداد والأسلحة والمؤن، بل شمل المستوى المعنوي نقصًا في الكوادر العلمية والخبراء في مختلف المجالات المهمة لإنجاح مسيرة الجهاد في سبيل الله، وعلى رأسها العلم الشرعي.
ورغم أنّ التنوع في الاهتمام بشرائع الدين من قِبَل رجال الأمّة أمر مشروع من حيث الأصل، إلا أنّ الذي حدث مع الجهاد في ظل الإعراض عنه لم يكن من هذا القبيل، بل أصبح التحزّب بالجهاد من قِبَل المهتمّين به تعتوره إشكالات إمّا من جهتهم وإمّا من جهة غيرهم، حتى غدا تحزّبًا مذمومًا في بعض جوانبه، وأصبح مثارًا لاصطراع الأهواء بدل أن يكون تنوّعًا متكاملًا مع غيره من أنواع العمل الإسلامي.
وفي هذه الوقفة المختصرة نحاول تسليط الضوء على (الفكر الجهادي) من حيث هو نوع من أنواع العمل الإسلامي المعاصر المشروع والمتحتّم، والهدف أن نميّز ولو بشكل متواضع بين صورتين في واحدة منهما يكون نوعًا محمودًا وفي الأخرى يخرج إلى سياق الذمّ بقدرٍ ما.
وتتأكّد مثل هذه المحاولة في ظل صحوة جهادية تولّدت مع الأحداث، من مكمّلات الفرح بها والولاء لها في الله تعالى: نقدُ ما يخالف الشرع فيها، وأمّا الانسياق الباتّ وراءها والموافقة العمياء لما فيها من فرائض واجتهادات وأخطاء فهو يخرج بقدر أو بآخر من كونه ولاء في الله ودينه إلى كونه ولاء تعصبيًا جاهليًا .
الجهاديون من الخارطة :
قبل أن نسلّط الضوء على بعض الشطط الجهادي، والأخطاء في هذا الفكر، نحتاج أن نفهم موقع الجهاديين في الخارطة الإسلامية، ومدى صحة هذا النوع من أساسه.
فإنّ التنوع في مسالك العمل الإسلامي ما بين علمي وجهادي ودعوي وغيرهما تنوعٌ قديم، لا يترتب عليه ذمّ لذاته، بل له شواهد في الشرع وفي سيرة السلف والصحابة، فأبواب الجنة -التي هي غاية العباد بعد رضى الله سبحانه- مقسّمة على شرائع الدين، وكذلك كان صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مختلفون في أعمالهم الإسلامية، فمنهم من برع في الرواية، ومنهم من برع في قراءة القرآن، ومنهم من برع في الجهاد، ومنهم من برع في الفقه والقضاء وهكذا، وهذا الاختلاف من حيث النظرة المعيارية سائغٌ، ما دام في حدود الشرع، وما دامت علاقة التكامل هي ما تحكم المختلفين.
وفي واقعنا ومشكلاته: لا يزال الإسلام الكامل متعاليًا عن جميع الإسلاميين، ولا يزالون يتطلّعون إليه ويأخذون منه، منهم المكثر ومنهم المقلّ، وشرائح الإسلاميين في محاولة اقتدائها بالإسلام الكامل: تختلف في نهلها من جوانبه، ويبرز بعضها على الآخرين بوفرة من جانب، وتوسع في شعبة من شعبه (علم، جهاد، دعوة، حسبة، إغاثة ..إلخ).
وإدراك هذا المعنى مهمٌ في تأسيس قاعدة سليمة لفهم العلاقات بين المدارس الإسلامية، وقبل ذلك: فهم العلاقة بينها وبين الحقّ المطلق (الوحي).
ففهم العلاقات بين مدارس العمل الإسلامي: أن يدركوا أنّهم متكاملون في أداء رسالة الإسلام، لا أنّهم متنافرون أو متضادّون، فالكل يقوم بشعبة من شُعب الدين، والكلّ على ثغر من ثغوره، وقد بيّن الإمام مالك بن أنس -رحمه الله- هذا المعنى لبعض مَنْ جهله في زمنه، كما جاء في سير أعلام النبلاء "أنّ عبدالله العمري العابد كتب إلى مالك يحضّه على الانفراد والعمل، فكتب إليه مالك: إنّ الله قسم الأعمال كما قسم الأرزاق، فرُبَّ رجل فُتح له في الصلاة ولم يفتح له في الصوم، وآخر فُتح له في الصدقة ولم يفتح له في الصوم، وآخر فُتح له في الجهاد. فنشر العلم من أفضل البر، وقد رضيت بما فُتح لي فيه، ما أظن ما أنا فيه بدون ما أنت فيه، وأرجو أن يكون كلانا على خير وبرّ"سير أعلام النبلاء (8/114)..
وفهمُ العلاقة مع الحقّ المطلق: ألّا يتوهّموا رحابة الإسلام في رسالتهم الجزئية، واهتماماتهم النسبية، فضلًا عن محاولاتهم القاصرة المحدودة، وألّا يتوهّموا أنّهم في عصمة عن الخطأ، وفي غُنية عن نقد إخوانهم ونصحهم لهم.
وجهلُ هذا المعنى وغيابُه عند كثير من العاملين للإسلام يُورث أن تتحول هذه الأنواع التكاملية المحبوبة (جهادية وعلمية ودعوية) إلى أنواع مختلفة متنافرة، يصطرع أتباعها فيما بينهم بالأهواء، وينظرون لغيرهم بلا تكامل إن لم يكن بتضادّ محض، وتصبح قناعتهم بكونهم على حقّ وشُعبَة من الدين تدفعهم إلى تخطئة ما عليه غيرهم، بدل أن يعلموا أنّه حق هو الآخر، يقول ابن تيمية : "واعلم أنّ أكثر الاختلاف بين الأمّة الذي يورث الأهواء تجده من هذا الضرب، وهو: أن يكون كل واحد من المختلفين مصيبًا فيما يثبته، أو في بعضه، مخطئًا في نفي ما عليه الآخر"اقتضاء الصراط المستقيم (1/145)..
ويؤدي جهل هذا المعنى أيضًا إلى: أن تصير كلّ طائفة منغلقة عن أختها، تنفر منها، وترفض نقد نفسها فضلًا عن نقد غيرها لها، ولا تعترف بالقصور عندها، كما لا تقبل الكمال والصواب الذي عند غيرها، وهذه شُعبة يهودية، يشرحها ابن تيمية تعليقًا على قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الكَافِرِينَ} [البقرة: 89]، فيقول: "فوصف اليهود أنّهم كانوا يعرفون الحق قبل ظهور الناطق به، فلما جاءهم الناطق به من غير طائفة يَهْوَونها لم ينقادوا له، وأنّهم لا يقبلون الحق إلا من الطائفة التي هم منتسبون إليها، مع أنّهم لا يتبعون ما لزمهم في اعتقادهم، وهذا يُبتلى به كثير من المنتسبين إلى طائفة معيّنة في العلم أو الدين من المتفقهة أو المتصوفة أو غيرهم ... فإنّهم لا يقبلون من الدين رأيًا أو رواية إلا ما جاءت به طائفتهم، ثمّ إنّهم لا يعملون ما تُوجبه طائفتهم، مع أنّ دين الإسلام يوجب اتباع الحق مطلقًا رواية ورأيًا من غير تعيين شخص أو طائفة غير الرسول صلى الله عليه وسلم"اقتضاء الصراط المستقيم (1/86-78)..
وهكذا فإنّ هذا التفرّق المحمود من حيث الأصل، قابل أن يتحوّل إلى تفرّق مذموم في الامتثالات البشرية، خصوصًا كلّما قلّ العلم وابتعد الناس عن الوحي، وعلامة الذمّ في هذا التفرق ومظاهرها يلخصها شيخ الإسلام في إحدى توصيفاته الدقيقة الرائعة، فيقول: "طال الأمد وتفرّقت الأمّة وتمسّك كل قوم بشُعبة من الدين بزيادات زادوها فأعرضوا عن شعبة منه أخرى"الفتاوى (35/40)..
الغلو الجهادي:
في ضوء التوصيف التيمي السابق، فإنّ أخذ شريعة من شرائع الإسلام ينقلب من كونه مَحْمَدَة وحراسة ثغر، إلى نوع من الذمّ، حينما يعتوره إشكالان رئيسان:
- أولهما: الزيادة في هذه الشعبة الدينية.
- ثانيهما: الإعراض عن الشعب الأخرى.
فبالأول: يكون الغلو والتنطّع فيها، وإخراجها عن الحدود الشرعية إلى حدود أهواء البشر.
وبالثاني: يكون التنافر مع غيرها من الدين، وبعده التنافر مع من يقوم بهذا الغير من المسلمين، فتصبح العلاقة بين شُعَب الدين علاقة التنافس والصدام بدل أن تكون علاقة التكامل والتمام .
والمتأمّلُ في واقعنا اليوم لا يكاد يخفى عليه أنّ غلو الفكر الجهادي وأخطاءه عائدةٌ إلى واحد من هاتين الشعبتين.
مظاهر الزيادة في الجهاد والغلو فيه:
من المظاهر المعاصرة في الفكر الجهادي التي تندرج في الزيادة والغلو: المرادفة بين الجهاد الذي هو شريعة الله وبين المجاهدين البشر الذين يخطئون ويصيبون، ويطرأ عليهم الفسق والبدعة وغيرها مما يطرأ على المسلمين، وهذه المرادَفة تجعلُ من نقد المجاهدين جريمةً تنفّر الجهادي من ذلك الناقد، حتى إنّه يحسّ بمفاصلة شعورية معه، لا تفلح رابطة الإسلام في التخفيف من حدّتها، وربما وصل الأمر إلى التبديع والتكفير واعتقاد النفاق .. إلخ، رغم أنّ الخلاف لم يكن في دين الله عز وجل، وإنّما كان خلافًا في تطبيق معيّن لرجال معيّنين هم بالإجماع غير معصومين!
ومنها: الغلو في القتال، ورفع شعار (القتال هو الحل في كل آن) رغم أنّ في سيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- ما ينافي ذلك، ففي عنفوان العدوان على الدين وأهله في مكة لم يكن يترك القتال فحسب بل كان يحرّمه وينهى عنه؛ لأنّه قتال يجرّ مفاسدَ على الدعوة ولا ينصرها، وأمّا في المرحلة المدنية فقد أمر بالقتال لما صار من جملة وسائل نصرة الدين، ومع ذلك كان يتركه حينما يطمع أن تحقّق الهدنة نشرًا للدعوة بصورة أكبر كما فعل في صلح الحديبية، هذه الأمور وسواها من مناطق واسعة في السياسة الشرعية تكاد تكون مغيّبة في الفكر الجهادي لصالح مبدأ القتال والغلوّ فيه وانتهاجه في كل اللحظات والمواضع ولو كان يضر ولا ينفع.
ومن المظاهر المعاصرة في الفكر الجهادي التي تندرج في الإعراض عن شعب أخرى من الدين غير الجهاد: القول بأنّه (لا عزّ للأمّة إلا بالجهاد) وهذه العبارة لها معنى صحيح، حينما ترمي إلى أنّ ترك الجهاد يصاحبه الذلّ، ولكن كثير من الجهاديين يستخدمونها في معنىً وسياقٍ خاطئ حينما يحصرون طرق العمل الإسلامي في الجهاد، فيصير معناها: (لا حل إلا في الجهاد) وينتج حينَ ذلك: ازدراء وسائل أخرى دعوية وعلمية وإغاثية في نشر الإسلام والعناية بشأن المسلمين.
ومنها: الاستعلاء على غير المجاهدين، ووصمهم بالقاعدين، واعتبارهم (مسلمون من الدرجة الثانية)، والنظر لهم بعين التوجّس في دينهم، والتوجّس من نقدهم ولو كان باعثه التدين لله، وكأنّ رابطة الإسلام لم تفلح في إزالة العوائق بين الإخوان، وكأنّ أخوّة الدين لا تتم إلا بالمشاركة في شُعبة معيّنة منه وهي الجهاد !
ومنها: اعتبار شؤون الإسلام كلّها من شأن المقاتلين لا غيرهم، وتجاهل الخبراء في مجالاتهم إن لم يكونوا من أهل القتال.
الزيادة في الجهاد في أية دائرة؟
والزيادة في شعيرة الجهاد وفق الشرح السابق تدخل في دائرة الإحداث في دين الله عز وجل باعتبار، كما تدخل في دائرة الغلو في الدين باعتبار آخر، وكلاهما وردت النصوص بالنهي عنهما، ففي الإحداث : يقول تعالى: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ) متفق عليه، وفي رواية عند مسلم: (مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا، فَهُوَ رَدٌّ).
وفي الغلو يقول تعالى: {يَا أَهْلَ الكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [النساء: 171]، {قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الحَقِّ} [المائدة: 77]، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ هَذَا الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ) رواه البخاري، وفي الحديث: (إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ، فَإِنَّما أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ).
وهذا ما يحتّم العناية بصيانة الجهاد وتفقّده من هذه الزيادات الخطيرة والمحدثات التي ليست من كتاب الله ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
الغلو الجهادي وخطأ ردّات الفعل :
وليس بالخفيّ في واقع الأمة اليوم: مناهج وطرائق تزعم أنّها تواجه الزيادة في الجهاد ونفي الغلو فيه، وهي تخطئ بحقّه أو بحقّ المجاهدين من وجه آخر، فتقابل الخطأ بخطأ مثله أو أشد، ومن ذلك:
- التساهل في الجهاد، ومواجهة الإفراط بالتفريط فيه.
- عدم الإنصاف حين التعامل مع الأخطاء، وبخس المجاهدين حقوقهم، وتجاهل تضحياتهم وأعمالهم الصالحة الجليلة، فهو مسلَك خاطئ يقابل مَنْ يجعلُ من تضحيات المجاهدين سياجَ عصمةٍ، بجعلِ أخطائهم مُهدِرَة لحسناتهم، وكلا طرفي قصد الأمور ذميم.
ولقد كان أئمة الإسلام -كابن تيمية- يجاهدون مع الناس، ويصححون لهم أخطاءهم، التي ربما وصلت للاستغاثة بغير الله في مواجهة العدو، في حين يُبطِل بعضُ المنتسبين للعلم في زماننا الجهادَ أو يمنعه بزعم تشدّد بعض المجاهدين أو غلوهم!
نهاية المطاف:
ما أحوج الأمة إلى أن تراجع حساباتها مع هذه الفريضة العظيمة ومع القائمين بها، وما أحوجنا إلى تخليص هذا الميدان الشريف من أن تفتك به أعراض المرض الذي أصاب الأمة، بجعله جزءًا من العلاج، يكون الجهادُ وأهله في ظلّه أصحابَ رسالة رحيمة بالأمّة التي لن يفلح جهادهم دونها، تمامًا كما أنّ الأمّة لن تفلح دون جهادهم، مما يحتم قيام العلاقة بين الجميع على الرفق والعفو وقبول النصح والنقد، وحماية آصرة الإسلام العظيمة أن تغيب في ظل خلافات دقيقة التفاصيل.
والله أعلم .
إضافة تعليق جديد