السبت 21 ديسمبر 2024 الموافق 19 جمادي الثاني 1446 هـ

منهج وتأصيل

عشر قواعد في فهم النصوص الشرعية

02 شعبان 1440 هـ


عدد الزيارات : 21590
فايز الصلاح

من أهم الصفات الواردة في أهل الغلوّ وبخاصّة الخوارج: جهلهُم بالنصوص الشرعية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: (يقرؤون الْقُرْآنَ لا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ)، فعلاقتهم بالقرآن محصورة في قراءته دون فهم مُراده وفقه أحكامه، وهم مع ذلك يردّون السنّة! وأوّلُ الخوارج ظهورًا ردَّ على النبي صلى الله عليه وسلّم، واتّهمه بعدم العدل!!

لهذا: فإنّ من أهمّ ما يجب على المسلم المؤهّل للتعامل مع نصوص الوحي وتفسيرها والاستنباط منها: أن يفقه القواعد التي تُفهم من خلالها هذه النصوص، حتى لا يقع في الخطأ ويتّبع غير سبيل أهل الهدى والرشاد.

وهذا المقال فيه جملة وافرة من هذه القواعد، مؤيدة بالأدلّة وأقوال أئمة الإسلام.

 

 

كيف نفهم النصوص الشرعية؟

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:

فإنّ فهم النصوص الشرعية من المسائل الكبيرة التي حصل فيها الاختلاف والافتراق والاضطراب منذ القديم كما حصل في الملل السابقة، مما أدَّى إلى تحريف كلام الأنبياء وتعطيله، والتقوّل عليهم، كما هو الأمر عند أهل الكتاب من اليهود والنصارى.

وقد وقع مثل ذلك في هذه الأمّة، فقد أخبر المعصوم -صلى الله عليه وسلّم- أنَّ هذه الأمّة ستتّبع سَنن الذين من قبل، ولكن يأبى الله إلا أن يحفظ دينه وكتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، من خلال المنهج الصحيح لفهم النصوص الشرعية والتعامل معها.

فقد تميّز منهج أهل السنّة عن باقي الفرق في التلقي والاستدلال، والذي بُني على صحيح المنقول وصريح المعقول، ولهم منهجٌ واضحٌ في فهم النصوص الشرعية: (الكتاب والسنة) يمكن توضيحه في بعض القواعد:

 

القاعدة الأولى: تعظيم النصوص الشرعية والتسليم لها

فالنصوص الشرعية حقُّها التعظيم والامتثال، وهذا هو حقيقة الإسلام الذي هو الاستسلام والخضوع والانقياد لله بالتوحيد وللنبي -صلى الله عليه وسلم- بالطاعة والاتباع.

قال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } [النساء: 65].

وقال أيضًا: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب: 36].

قال الإمام الطحاوي -رحمه الله- في "عقيدته": "ولا تثبت قدم الإسلام إلا على ظهر التسليم والاستسلام، فمن رامَ عِلمَ ما حُظِر عنه علمه، ولم يقنع بالتسليم فَهمُه، حَجَبه مَرامُه عن خالص التوحيد، وصافي المعرفة، وصحيح الإيمان".

فهذا التعظيم للنصوص مقتضاه الحذر مِن ردّها بالكلية، أو ردّ بعض دلالتها ولو بأدنى نوع من التأويل، والسعي لفهمها على مراد منزلها على قَدْر الاستطاعة.

 

القاعدة الثانية: كمال الدين

ينبغي أن يوقن الناظر في النصوص الشرعية كمالَ الشرع، فلا نقص فيه ولا زيادة إليه تُضاف.

فإنّه ما انتقل النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى الرفيق الأعلى إلا وبلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، وأكمل الله به الدين، وأتمَّ به النعمة ،كما قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3].

فكلُّ زيادة تُستَدرك على الدين، ويُقصد بها التعبد لله -عزّ وجلّ- فهي مِن المحدثات التي حذّر منها النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله فيما صحَّ عند أبي داود والترمذي وابن ماجه: (...فإنه من يَعِشْ منكم بعدي فسيَرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنّتي وسنّةِ الخلفَاءِ الراشِدينَ المهديِّينَ، تمسكوا بها، وعَضُّوا عليها بالنواجِذِ، وإياكم ومُحدثاتِ الأمورِ، فإنَّ كلَّ مُحدثَةٍ بدْعةٌ، وكل بدْعَةٍ ضَلاَلَة).

وفي الصحيحين عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ أحْدَثَ في أمرنا هذا ما لَيْسَ منهُ فهو رَدٌّ)، وفي رواية: (منْ عَمِلَ عملاً ليس عليه أمرُنا، فَهو ردٌّ).

وهذا الكمال مقتضاه الاكتفاء بالوحي تلقّيًا واستدلالًا، فإنّه قد جاء بالمسائل والدلائل، العلمية والعملية.

 

القاعدة الثالثة: عدم التناقض

ويجب على الناظر في النصوص الشرعية أن يوقن إيقانًا جازمًا أنّه لا تضادّ بينها البتّة، قرآنًا وسنة، لأنَّ النبع واحد، قال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82].

وقال أيضًا: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 1-2].

وقال أيضًا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا * قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا} [الكهف: 1-2].

فالقرآن فيه وصفان: وصفٌ ذاتيٌ، ووصفٌ متعدي.

فأمّا الذاتي: فهو لاريب فيه ولا عوج له، وأمّا المتعدي: فهو هُدىً للناس، ولا ينتفع به إلا المتقون.

وهذه القاعدة مقتضاها: عدم المسارعة إلى ضرب النصوص بعضها ببعض لتوهّم المعارضة الظاهرية، بل ينبغي السعي إلى التأليف بينها قدْر الإمكان على وفق القواعد الشرعية المقرّرة.

 

القاعدة الرابعة: لا يتعارض صحيح المنقول مع صريح المعقول

وهي قاعدةٌ مهمّةٌ للناظر في النصوص الشرعية، فالعقلُ الصريح موافق للنقل الصحيح، ولا يتعارض قطعيان منهما أبدًا، وعند توهّم التعارض يُقدّم النقلُ.

فالنقل هو أمرُ الله ووحيُه سواء كان قرآنُا أو سنّة، والعقل من خلق الله، فلا يمكن أن يتعارض أمره وخلقه، قال تعالى: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54].

قال ابن أبي العزّ الحنفي -رحمه الله- في "شرح العقيدة الطحاوية": "وهذا [أي تعارض العقل مع النقل] لا يكون قطّ. لكن إذا جاء ما يوهم مثل ذلك: فإن كان النقل صحيحًا فذلك الذي يُدعى أنّه معقول إنّما هو مجهول، ولو حقّق النظر لظهر ذلك. وإن كان النقل غير صحيح فلا يصلح للمعارضة، فلا يتصور أن يتعارض عقل صريح ونقل صحيح أبدًا".

وفائدة هذه القاعدة: أن لا يسارع الناظر في النصوص إلى الحكم عليها أنّها تخالف العقل، فقد يكون النقل ليس بصحيح، أو العقل ليس بصريح، وينبغي أن يعودَ الناظرُ إلى أسباب توهُّم التعارض وكيفية التعامل معها قبل التسرّع بالحكم على النصوص أنها تناقض العقل.

 

القاعدة الخامسة: لا تُعارَض النصوصُ بالرأي

لا يجوز معارضة النصوص بالرأي المجرّد، مهما كان قائله، وخاصّة حين التنازع، فالردُّ حينئذ للوحي المعصوم، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59].

وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات: 1].

وقد أجمع أئمة المذاهب وغيرهم على تقديم النص على أقوالهم، ودعوا أتباعهم إلى ترك أقوالهم إذا عارضت النصوص.

قال الإمام أبو حنيفة رحمه الله: "إذا قلتُ قولًا يخالف كتابَ الله تعالى وخبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- فاتركوا قولي"ذكره الفلاني في "الإيقاظ" ص (50)..

وقال الإمام مالك بن أنس رحمه الله: "إنّما أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا في رأيي فكلُّ ما وافق الكتاب والسنة فخذوه، وكلُّ ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه"ذكره ابن عبد البر في "الجامع" (2/32)..

ومِن هنا ردَّ الصحابةُ ومَن بعدهم مِن العلماء على كلّ من خالف سنّة صحيحة، وربما أغلظوا في الردّ لا بُغضًا له بل هو محبوب عندهم، مُعَظّم في نفوسهم، لكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحبّ إليهم، وأمرُه فوق كلِّ أمر مخلوق، فإذا تعارض أمر الرسول وأمر غيره فأمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- أولى أن يقدّم ويتّبع، ولا يمنع من ذلك تعظيم من خالف أمره وإن كان مغفورًا له، بل ذلك المخالف المغفور له لا يكره أن يخالف أمره إذا ظهر أمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- بخلافه، بل يرضى بمخالفة أمره ومتابعة أمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- إذا ظهر أمره بخلافه.

 

القاعدة السادسةُ: تفسيرُ النصوص بالنصوص

المرجع الأول في فهم الكتاب والسنة: هو النصوص المبيّنة لها، فالقرآن يفسّرُه القرآن والسنّة، والسنّة تُفَسّر بالقرآن والسنة.

والآيات تُخصَّص وتُقيَّد وتُبَين بآيات أخرى.

فمثلًا في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234]. تدلّ هذه الآية على أنّ كل زوجة مات عنها زوجُها عليها عدّة مدتها أربعةُ أشهر وعشرةُ أيام، سواء كانت حاملًا أو غير حامل، لكن جاءت الآية الأخرى تخصّ الحامل بحكم خاص، وهو أنّ عدّتها تنتهي بوضع حملها، سواء وضعته بعد ساعة مِن وفاة زوجها أو بعد تسعة أشهر، كما قال تعالى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4].

والسنّة تفسّر القرآن، كما قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44].

والسنّة وحيٌ كالقرآن، والرسول -صلى الله عليه وسلم- له طاعة مطلقة كطاعة الله سبحانه وتعالى، لأنّ طاعته من طاعته، قال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} [النساء: 80]، وقال أيضًا: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر: 7]

وثبت في سنن أبي داود وغيرها: عن المقدام بن مَعْدي كَرِبَ رضي الله عنه: أنّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (ألا إني أوتيتُ الكتابَ ومثلَه معه)، فكلُّ ما ثبت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فهو حقٌّ وصدقٌ لاريب فيه، قال الله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3-4].

قال الحافظ ابن عبد البر رحمه الله: "والبيان منه -صلى الله عليه وسلّم-على ضربين:

بيانٌ المجمل في الكتاب: كبيانه للصلوات الخمس في مواقيتها وسجودها وركوعها وسائر أحكامها، وكبيانه لمقدار الزكاة ووقتها وما الذي يؤخذ منه من الأموال، وبيانه لمناسك الحج، قال -صلى الله عليه وسلّم- إذْ حج بالناس: (خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ).

وبيانٌ آخر: وهو زيادةٌ على حكم الكتاب، كتحريم نكاح المرأة على عمتها وخالتها، وكتحريم الحمر الأهلية، وكل ذي ناب من السباع، إلى أشياء يطول ذكرها.

وقد أمر الله -عزّ وجلّ- بطاعته -أي: بطاعة نبيه- واتباعه أمرًا مطلقًا مجملًا لم يقيّد بشيء، ولم يقل: ما وافق كتاب الله كما قال بعض أهل الزيغ"جامع بيان العلم وفضله (2/ 1189)..

 

القاعدة السابعة: فهم النصوص بفهم الصحابة والتابعين والأئمة المتبوعين

ومن الأصول النافعة والواجبة في فهم النصوص: فهمها والتعامل معها على طريقة السلف الأولين من الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان من الأئمة المتبوعين، وهذا أصل عظيم في التعامل مع النصوص الشرعية.

وقد جاءت النصوص المتواترة المتكاثرة في الكتاب والسنّة والآثار والتي تدعو إلى الالتزام بمنهج الصحابة عِلْمًا وعَمَلًا.

فقد جعل النبي -صلى الله عليه وسلم- النجاةَ في اتّباع منهج الصحابة رضي الله عنهم، فقال -صلى الله عليه وسلم- في بيان المنهج الواجب الاتباع: (ما أنا عليه وأصحابي) رواه الترمذي وغيره.

والله -سبحانه وتعالى- قد رضي عن الصحابة وعمّن اتبع سبيلهم عندما قال: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 100].

كما أنّه قد غضب على من انحرف عن سبيلهم عندما قال: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115].

قال ابن مسعود رضي الله عنه: "من كان منكم مُسْتَـنًّا فليستنَّ بمن قد مات، فإنّ الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، كانوا أفضل هذه الأمّة، وأبرّها قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلّها تكلّفًا، قومٌ اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضْلَهم، واتبعوهم في آثارهم، وتمسّكوا بما استطعتم مِن أخلاقهم ودينهم، فإنّـهم كانوا على الهدى المستقيم"أخرجه ابن عبد البر في كتاب "جامع بيان العلم وفضله" (1810)..

وقال الإمام أبو حنيفة رحمه الله: "إذا صحّ عندنا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- شيء لَزِمَنَا الأخذُ به، فإن لم نجد عنه، ووجدنا عن الصحابة فكذلك، فإذا جاء قول التابعين زاحمناهم"ذكره في "الحجة في بيان المحجة" ص (402)..

وقال الإمام الشافعي رحمه الله: "قد أثنى الله -تبارك وتعالى- على أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في القرآن والتوراة والإنجيل، وسبق لهم على لسان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الفضل ما ليس لأحد بعدهم، فرحمهم الله وهنّأهم بما آتاهم من ذلك ببلوغ أعلى منازل الصديقين والشهداء والصالحين، أدَّوا إلينا سنن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عامًّا وخاصًّا وعزمًا وإرشادًا، وعرفوا من سننه ما عرفنا وجهلنا، وهم فوقنا في كلّ علم واجتهاد وورع وعقل، وأمر استدرك به علم واستنبط به، وآراؤهم لنا أحمدُ وأولى بنا من رأينا لأنفسنا، ومن أدركنا ممن يرضى أو حكى لنا عنه ببلدنا صاروا فيما لم يعلموا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيه سنّة إلى قولهم إن اجتمعوا، أو قول بعضهم إن تفرقوا، وهكذا نقول ولم نخرج من أقاويلهم، وإن قال أحدهم ولم يخالفه غيره أخذنا بقوله"ذكره البيهقي في "مناقب الشافعي" (1/442)..

وقال الإمام أحمد رحمه الله: "أصول السنة عندنا التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والاقتداء بـهم".

وقال الشاطبي رحمه الله: "ولهذا فإنَّ السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن يليهم  كانوا أعرف بالقرآن وبعلومه وما أودع فيه"الموافقات (2/127)..

وليس المقصود الأخذ باختيارات أفراد الصحابة العلمية أو العملية لا سيما مع وقوع الخلاف بينهم فيها، وإنّما الحديث عن منهجهم في التعامل مع النصوص الشرعية، وتعظيمها، والاستدلال بها، والأخذ بما اتفقوا عليه، أو شاع مِن أقوالهم ولم يُعلم بينهم فيه خلافٌ مِن المسائل.

أما اختيارات أفرادهم الفقهية فتُبحث عادةً تحت مسألة "هل قول الصحابي حجّة" في علم أصول الفقه.

وكذا ينبغي الأخذ بما سار عليه أئمة المسلمين وعلماؤهم، وارتضوه من مذاهب، وعدم الخروج عن طريقتهم ورفضها، فما وراء ذلك إلا الزيغ والضلال.

 

القاعدة الثامنة: النصوص تفهم بلغة العرب

أنزل الله -سبحانه وتعالى- القرآن عربيًّا، والنبي -صلى الله عليه وسلم- هو أفصح مَن نطق بالضاد، ولا يمكن أن تفهم النصوص إلا بمعرفة لغة العرب على حقيقتها.

قال الشاطبي رحمه الله: "وإنّما البحثُ المقصود هنا أنّ القرآن نزل بلسان العرب على الجملة، فطلبُ فَهمِه إنّما يكون مِن هذا الطريق خاصة، لأنّ الله تعالى يقول: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [يوسف: 2]، وقال: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 195]، وقال: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل: 103]، وقال: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} [فصلت: 44]، إلى غير ذلك مما يدلُّ على أنّه عربيٌّ وبلسان العرب، لا أنّه أعجمي ولا بلسان العجم، فمَن أراد تفهّمَه فمِن جهة لسان العرب يُفهم، ولا سبيل إلى تطلُّب فهمِه مِن غير هذه الجهة، هذا هو المقصود مِن المسألة"الموافقات (2/ 102)..

وقال شيخ الإسلام رحمه الله: "ولا بدَّ في تفسير القرآن والحديث مِن أن يعرف ما يدلُّ على مراد الله ورسوله مِن الألفاظ وكيف يُفهم كلامه، فمعرفةُ العربية التي خوطبنا بها مما يعين على أن نفقه مرادَ الله ورسوله بكلامه، وكذلك معرفة دلالة الألفاظ على المعاني، فإنَّ عامّة ضلال أهل البدع كان بهذا السبب، فإنّهم صاروا يحملون كلام الله ورسوله على ما يدّعون أنّه دالٌّ عليه ولا يكون الأمرُ كذلك"مجموع الفتاوى (7/ 116)..

وفهم النصوص باللغة العربية لا يكون بمعزل عن فهمِها بالنصوص الأخرى وفهم السلف، وذلك لأنَّ اللسان العربي واسع، وجاءت النصوص الشرعية وخصت اللغة وقيّدتها.

قال شيخ الإسلام رحمه الله: "ومما ينبغي أن يُعلم أنّ الألفاظَ الموجودة في القرآن والحديث إذا عُرف تفسيرها وما أُريد بها مِن جهة النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يُحتج في ذلك إلى الاستدلال بأقوال أهل اللغة ولا غيرهم، ولهذا قال الفقهاء: الأسماء ثلاثةُ أنواع: نوعٌ يعرف حدُّه بالشرع، كالصلاة والزكاة، ونوعٌ يُعرف حدُّه باللغة كالشمس والقمر، ونوع يعرف حدُّه بالعُرف كلفظ القبض"مجموع الفتاوى (7/ 286)..

 

القاعدة التاسعة: جمع النصوص الواردة في الباب الواحد

ومن الأمور المهمة في فهم النصوص والوصول إلى مقصود الشارع في الأحكام جمع النصوص في المسألة الواحدة من القرآن والسنة وآثار سلف الأمة، فإنّ النصوص كلَّها هي بمنزلة النصّ الواحد الذي لا يتجزأ.

وهذا مما تميّز به منهج أهل السنة في الاستدلال، بخلاف أهل البدع الذين يحتجّون ببعض النصوص، ويتركون الأخرى ويضربون النصوص بعضها ببعض.

قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: "الحديث إذا لم تُجمع طرقه لم تفهمه، والحديث يُفسِّر بعضُه بعضًا.

فقد ورد في نفي الرؤية في الدنيا قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 143].

وفي نفي الإدراك بالبصر قوله تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 103].

بينما ورد في إثبات الرؤية قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22، 23]، وما تواتر في السنة الصحيحة في إثبات رؤية الله للمؤمنين في الجنة.

فبجمع النصوص مع بعضها يتّضح أنّ النصوص التي تنفي الرؤية إنّما تنفيها في الدنيا دون الآخرة، وأمّا نفي الإدراك فلا يقتضي نفي الرؤية، لأنّ الإدراك يتضمّن معنى الإحاطة، ونقاش هذه المسألة ليس في هذا الموضع، وإنّما المقصود هنا التفريق بين منهج الجمع بين النصوص في مختلف المسائل الشرعية سواء كانت علميةً أو عمليةً، وبين منهج الأخذ ببعضها مما يؤدي لفهمها على غير وجهها.

ويدخل في هذا الباب معرفة أسباب ورود الأحاديث، لأنَّ ذلك يعين على فهم مراد الشارع، لأنَّ بعض النصوص سيقت لأسباب خاصة أو ارتبط بعلّة معيّنة منصوص عليها في الحديث، أو مستنبطة منه، أو مفهومة من الواقع الذي سيق فيه النص.

ومن ذلك معرفة الناسخ من المنسوخ مِن النصوص، ولا يجوز التعجّل في هذا الباب والقول بالنسخ إلا بعد معرفة الأدلة والقرائن الدالة على النسخ .

 

القاعدة العاشرة: معرفة المقاصد الشرعية

ولا يتم فهم النصوص على الكمال والتمام إلا بمعرفة مقاصد الشريعة والحذق فيها.

والمقاصدُ هي روح النصوص وسرّها، فإنّه مِن المتفق عليه عند العلماء أنّ أحكام الشريعة في مجموعها معلَّلة، وشُرعت لغايات حميدة، خلاصتها في تحقيق المصالح ودفع المفاسد في العاجل والآجل.

وإعمال المقاصد في فهم النصوص مِن أدقّ المسائل وأخطرِها، إذ هو سلاحٌ ذو حدين.

والناسُ في هذا الباب طرفان ووسط:

طرفٌ بالغ في الوقوف عند ألفاظ النصوص وظواهرها من غير إعمال للمقاصد والحكم والمعاني وهؤلاء هم الظاهرية.

وطرفٌ بالغ في المقاصد وأوغل فيها على حساب النصوص حتى أسقطها، زاعمًا أنّها تتعارض مع المقاصد الشرعية، وهؤلاء هم الحداثيون على اختلاف طبقاتهم، من ملحدٍ منكرٍ للشريعة إلى ضالٍّ عن سواء السبيل.

والوسطُ هو التحاكم إلى النصوص مع إعمال المقاصد الشرعية، وذلك بمراعاة مقاصد النصوص وهداياتها، إلى جانب مراعاة ألفاظها.

وذلك من خلال الغوص في مقاصد الشريعة، ومعرفة أسرارها وعللها، وربط بعضها ببعض، وردّ فروعها إلى أصولها، وجزئياتها إلى كلياتها، وعدم الاكتفاء بالوقوف عند ظواهرها.

وقد أدرك الشاطبي أهمية الكلام في المقاصد، فاشترط للمتكلم فيها أن يكون عالمًا مجتهدًا غيرَ مقلِّد، ريّان من علوم الشريعة!!

ولاشكّ أنَّ هذا الشرط لا يتحقق في كثير من الشرعيين، فضلًا عن العلمانيين والحداثيين المتكلّمين بالزور والباطل.

قال الشاطبي رحمه الله: "ومن هنا لا يسمح للناظر في هذا الكتاب أن ينظر فيه نظر مفيد أو مستفيد، حتى يكون ريّانَ من علم الشريعة، أصولِها وفروعِها، منقولِها ومعقولِها، غير مخْلِد إلى التقليد والتعصّب للمذهب، فإنّه إن كان هكذا، خِيْفَ عليه أن ينقلب عليه ما أُودِع فيه فتنةً بالعَرَض، وإن كان حكمةً بالذات، والله الموفق للصواب"الموافقات (1/ 124)..

فمِن أجل ذلك وللأسف أصبحت مقاصد الشريعة عند كثير من هؤلاء فتنةً لهم ولغيرهم، إذْ تكلموا في شرع الله بالظن والتخمين والهوى.

والحمد لله رب العالمين

 

المصدر: هيئة الشام الإسلامية

1 - ذكره الفلاني في "الإيقاظ" ص (50).
2 - ذكره ابن عبد البر في "الجامع" (2/32).
3 - جامع بيان العلم وفضله (2/ 1189).
4 - أخرجه ابن عبد البر في كتاب "جامع بيان العلم وفضله" (1810).
5 - ذكره في "الحجة في بيان المحجة" ص (402).
6 - ذكره البيهقي في "مناقب الشافعي" (1/442).
7 - الموافقات (2/127).
8 - الموافقات (2/ 102).
9 - مجموع الفتاوى (7/ 116).
10 - مجموع الفتاوى (7/ 286).
11 - الموافقات (1/ 124).

التعليقات

لبنى (لم يتم التحقق)

جزاكم الله خيرا


Rrf (لم يتم التحقق)


إضافة تعليق جديد