السبت 21 ديسمبر 2024 الموافق 19 جمادي الثاني 1446 هـ

فتوى: حكم الفصائل التي تقاتل لأجل الوطنية

22 جمادي الثاني 1440 هـ


عدد الزيارات : 11223

 

السؤال:

بعض الفصائل تقاتل وتدافع لأجل الوطن ولديها مخالفاتٌ بعدم تبنّيها تطبيق الشريعة الإسلامية، وعندها خللٌ في التوحيد حيث استبدلت التوحيدَ بالوطنية، فما حكم هذه الفصائل التي منهجها الوطنية؟ وهل جهادها صحيح؟ 

 

الجواب:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله..أما بعد:

فالدفاع عن بلاد المسلمين من الجهاد في سبيل الله، ولا يشترط فيه التبرؤ من الوطن، أو إعلان الحرب على جميع الأعداء، والولاء والمفاضلة بين الناس يجب أن تكون بالتقوى لا بالانتماء للوطن، وتفصيل ذلك فيما يلي:

 

أولاً: الدفاع عن النفس والمال والعرض والبلد مما اتفقت الشرائع السماوية والأنظمة الأرضية على مشروعيته، وردُّ المعتدين عن البلاد الإسلامية من الجهاد في سبيل الله، وقد أجمع العلماء على أنّ العدو إذا داهم أو هاجم البلد المسلم فإنه يجب على أهلها دفعه بحسب الوسع والطاقة.

وقد ثبت في الصحيحين عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قتل دون ماله فهو شهيد). وفي حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم  قال: (من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد) رواه أهل السنن الأربعة.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأما قتال الدفع فهو أشدُّ أنواع دفع الصائل عن الحرمة والدين واجبٌ إجماعًا، فالعدو الصائل الذي يفسد الدين والدنيا لا شيء أوجب بعد الإيمان من دفعه، فلا يشترط له شرط -كالزاد والراحلة- بل يدفع بحسب الإمكان، وقد نص على ذلك العلماء أصحابنا وغيرهم"

وقال ابن عابدين: "وفرضُ عينٍ إن هجم العدو على ثغر من ثغور الإسلام فيصير فرضَ عين على مَن قرُب منه، فأما مَن وراءهم ببعد من العدو فهو فرض كفاية إذا لم يُحتج إليهم، فإن احتيج إليهم بأن عجز مَن كان بقرب العدو عن المقاومة مع العدو أو لم يعجزوا عنها ولكنهم تكاسلوا ولم يجاهدوا فإنه يفترض على مَن يليهم فرض عين كالصلاة والصوم لا يسعهم تركه، وثم إلى أن يفترض على جميع أهل الإسلام شرقًا وغربًا على هذا التدريج".

 

ثانياً: ينبغي أن يُعلم أنّ رد المعتدين، ودفع الصائلين، والدفاع عن الأنفس المعصومة والأموال والأعراض والبلاد هو في نفسه مِن أعظم الجهاد في سبيل الله، وليس من شروط القتال حتى يكون جهادًا في سبيل الله أن يعم الأرض كلها، أو يستعدي أمم الدنيا، أو يدعو إلى إقامة الخلافة، فإن هذا مما لا يجب شرعًا ولا عقلاً.

دفاع المسلم عن بلده ووطنه لا يعني أنه استبدل الوطنية بالتوحيد، فليس في هذا إخلال بالتوحيد، ولا بمشروعية الجهاد، إذ يكفي في مشروعيه أن يقصد المسلم الدفاع عن المسلمين وبلادهم وأعراضهم.

وغزوات النبي صلى الله عليه وسلم الأولى كبدر وأحد والخندق إنما كانت للدفاع عن المدينة وأهلها، ولم يعلن الجهاد على جميع الكفار، بل سعى للتصالح مع بعض الكفار كغطفان، لتقليل الأعداء، والتحالف مع بعضهم كخزاعة.

فالواجب التعاون مع كل مَن يدافع عن بلاد المسلمين، ويرد الصائلين عليها، وعدم إلزامه بالتبرؤ من وطنه، أو بإعلان جهاد جميع الكفار، أو ربط جهاد الدفع بإقامة الدولة أو الخلافة الإسلامية.

 

ثالثاً: معيار المفاضلة عند الله سبحانه وتعالى هو التقوى، كما قال سبحانه وتعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يا أيها الناس، ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا أحمر على أسود، ولا أسود على أحمر، إلا بالتقوى) رواه الإمام أحمد.

ومعقد الموالاة والمعاداة والحب والبغض إنّما هو تحقيق الإيمان والتقوى، فالواجبُ موالاةُ كلِّ مؤمنٍ تقي، ومعاداةُ كلِّ كافر وفاجر مِن أي جنس أو عرق أو لغة كان، قال تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} [المائدة: 55]، وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا} [النساء: 144].

وعليه فإنّ إحلالَ رابطة الوطن أو الدم أو اللغة أو التاريخ، مقام رابطة الدين هو من الفكر الجاهلي الذي قد يصل بالمرء إلى مفارقة دين الله ومعاداته وأهله، وقد حاول أعداء الإسلام تفتيت الوحدة الإسلامية وتقسيمها إلى قوميات وأجناس تتصارع فيما بينها، تحت شعار "الوطنية" أو "القومية" أو غير ذلك من الشعارات.

ولذلك ينبغي الحذر أشدَّ الحذر من جعل هذه الشعارات مناطاً للولاء والبراء، فيحصل التنازع والشقاق بين المسلمين لأجل ذلك، فإنّ ذلك من مخالفة الشريعة، والواجب على المسلم أن يعقد الولاء والبراء على الإسلام فقط، لا على غيره من الشعارات والحدود والأعراق وغيرها، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: كنا في غزاة فكسع رجلٌ من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال الأنصاري: يا لَلأنصار، وقال المهاجري: يا لَلمهاجرين، فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (ما بال دعوى الجاهلية) قالوا: يا رسول الله، كسع رجلٌ مِن المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال: (دعوها فإنها منتنة) متفق عليه. والكسعُ ضربُ الدُّبُر بالقدم.

ولا يعني ذلك عدمَ جواز حبّ الوطن والأرض التي نشأ وعاش فيها الإنسان، أو وجوب التبري منه وعدم الدفاع عنه، فالتشديد في  هذه المسائل، وجعلها من قوادح التوحيد من آثار ورواسب فكر الغلاة المعاصرين الذي بنى تصورات وأحكامًا على شبه وتوهمات لم ترد في كتاب ولا سنة، ولم يقل بها أهل العلم، وقد سبق بيان أحكام هذه المسائل والرد عليها بالتفصيل، ويمكن مراجعة التالي للوقوف على أحكامها:

 

والله أعلم.

والله الموفق.  

إضافة تعليق جديد