مناط الكفر بموالاة الكفار
لا خلاف بين العلماء في أنّ موالاة الكفار بمحبّتهم أو نصرتهم لأجل دينهم كفرٌ مخرجٌ من الملّة، لكن حصل الإشكال لدى البعض في حكم موالاة الكفار لغرض دنيوي؛ فألحقوه بحكم موالاتهم على دينهم، ولم يفرّقوا بين الحالين.
وقد ترتّب على ذلك عدد من الإشكالات، مثل: الوقوع في الغلو، والتكفير بما تدل النصوص الشرعية على عدم التكفير به، وتأويل النصوص الدالّة على عدم الكفر بمظاهرة الكفار لغرض دنيوي بما يناقض دلالتها الظاهرة، والتجاوز في ذلك بالحكم على دول وجماعات بالكفر بمجرّد الظن واتباع المتشابه، مع وجود النصوص المحكمة الواضحة الدلالة في الفرق بين الحالين.
وفي هذا البحث القيّم: بيانٌ للأسس التي يقوم عليها التفريق بين الحالين، مع نقل أقوال العلماء المحققين في بيان وجه دلالة النصوص عليها، والردّ على شبهات من يدّعون دلالة النصوص على التكفير بمطلق موالاة الكفار، مع الحرص في ذلك كلّه على الاعتدال والتوسط، والبراءة من الغلو والجفاء في هذا الباب العظيم.
• تقرؤون في هذا البحث:
- حقيقة أصل الولاء والبراء.
- أقوال العلماء في تفسير وفقه الآيات الواردة في التكفير بموالاة الكفار.
- أدلّة وأقوال العلماء في حكم موالاة الكفار لغرض دنيوي.
- دلالة قصة حاطب رضي الله عنه على عدم التكفير بالموالاة لغرض دنيوي.
- الردّ على كافّة الإشكالات المتعلّقة بقصة حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه.
- ما يلزم على التكفير بمطلق الموالاة للكفار.
لتحميل البحث بصيغة PDF .. اضغط هنا
مـقـدّمـة:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فقد أوجب الله الموالاة بين المؤمنين، والبراءة من الكافرين، وجاءت نصوص كثيرة في تقرير هذا الأصل، وتحذير المؤمنين مما وقع فيه المنافقون من موالاة الكافرين.
ومن الأصول التي لا تحتمل الخلاف أنّ موالاة الكفار بمحبتهم أو نصرتهم لأجل دينهم كفر مخرج من الملة، وأنّه يستحيل ثبوت الإيمان وأصل البراءة من الكفار مع حصول الموالاة للكفار بهذا المعنى، إذ لا يتصور اجتماع الإيمان مع محبّة دين الكفار أو نصرتهم لأجل دينهم، لكون ذلك من اجتماع النقيضين. وهذا الأصل لا إشكال فيه.
لكن حصل الإشكال في أصل آخر، وهو ما يتعلّق بحكم موالاة الكفار لمجرّد غرض دنيوي، حين ظنّ من ظنّ أنّه يلزم أن يكون حكم موالاة الكفار لغرض دنيوي كحكم موالاتهم على دينهم، وأنّه لا فرق بين الحالين.
وأصل الإشكال في عدم التفريق بين موالاة الكفار بهذين المعنيين ما يُظنّ من دلالة الآيات الواردة في التكفير بموالاة الكفار على التكفير بمطلق الموالاة لهم، وأنّ النصرة إذا كانت داخلة في مطلق الموالاة فيلزم أن تكون تلك الآيات دالة على التكفير بمطلق مظاهرة الكفار على المسلمين، دون نظر إلى الحامل على نصرة الكفار، بحيث لا يفرّق بين أن تكون نصرة الكفار لأجل دينهم أو لمجرد غرض دنيوي.
وقد ترتّب على الخلط في هذا الباب الوقوع في الغلو، والتكفير بما تدل النصوص الشرعية على عدم التكفير به، وتأويل النصوص الدالة على عدم الكفر بمظاهرة الكفار لغرض دنيوي بما يناقض دلالتها الظاهرة، والتجاوز في ذلك بالحكم على دول وجماعات بالكفر بمجرد الظن واتباع المتشابه، مع وجود النصوص المحكمة الواضحة الدلالة في الفرق بين الحالين.
ويستند التفريق بين موالاة الكفار على دينهم وبين موالاتهم لغرض دنيوي إلى أساسين:
أحدهما: حقيقة أصل الولاء والبراء، وما يقتضيه بيان تلك الحقيقة من التفريق بين ما ينافي أصل الولاء والبراء وما ينافي كماله، وأنّه كما لا يلزم من مطلق معاداة المؤمن للمؤمن انتفاء أصل الموالاة بينهما، فإنّه لا يلزم من مطلق موالاة المؤمن للكفار انتفاء أصل البراءة منهم، وأنّه إذا كانت موالاة المؤمن للمؤمنين لا تنتفي إلا بما ينافي أصلها، بحيث تكون عداوة المؤمن للمؤمن لأجل إيمانه، فإنّ البراءة من الكفار لا تنتفي أيضًا إلا بما ينافي أصلها، بحيث تكون موالاة المؤمن للكفار لأجل دينهم، وجميع الآيات الواردة في التكفير بموالاة الكفار فإنّما تفهم وفق هذا الأصل، فلا يصح الاستناد إلى دعوى دلالة تلك الآيات على التكفير بمطلق الموالاة مع ذلك.
وأما الأساس الثاني للدلالة على التفريق بين موالاة الكفار على دينهم وموالاتهم لمجرد غرض دنيوي: فيستند إلى دلالة النصوص على أنّ موالاة الكفار لغرض دنيوي ليست كفرًا لذاتها، ويكفي في الدلالة على ذلك ما جاء في قصة حاطب رضي الله عنه، وما حصل منه من مكاتبة المشركين، ومظاهرتهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعدم تكفير النبي -صلى الله عليه وسلم- له، لـمّا بيّن أنّ الحامل له على مظاهرتهم كان هو حماية أهله وماله بمكة، لا رضىً بالكفر وردّةً عن الإسلام.
وقد كان هذا البحث في تقرير الدلالة في هذين الأساسين، وبيان اتفاق نصوص الكتاب والسنة في الدلالة عليهما، ونقل أقوال العلماء المحققين في بيان وجه دلالة النصوص عليهما، والردّ على شبهات من يدعون دلالة النصوص على التكفير بمطلق موالاة الكفار. والحرص في ذلك كله على الاعتدال والتوسط، والبراءة من الغلو والجفاء في هذا الباب العظيم.
والله أسأل أن يجعل هذا البحث خالصًا لوجهه الكريم، وأن ينفع به إنه سميع مجيب.
المبحث الأول: حقيقة أصل الولاء والبراء
الوَلْيُ في اللغة يأتي على أصل واحد هو القرب. قال ابن فارس: "الواو واللام والياء أصل صحيح يدلّ على قرب. من ذلك الوَلْيُ: القرب. يقال: تباعد بعد ولي أي قرب. وجلس مما يليني، أي: يقاربني"معجم مقاييس اللغة لابن فارس (6/141).. وذكر بعض المعاني التي تعود إلى هذا الأصل، والشواهد عليها، ثم قال: "والباب كلّه راجع إلى قرب"نفس المرجع (6/142)..
وجاء في الصحاح: "الوَلْيُ: القرب والدنو، يقال: تباعد بعد وَلْيٍ"الصحاح للجوهري (6/2528).. "والوليّ ضد العدو"نفس المرجع (6/2529).. "والموالاة ضد المعاداة"نفس المرجع (6/2530).. "والمولى الحليفُ"نفس المرجع (6/2529).. "والوِلاية بالكسر: السلطان. والوَلاية: النصرة. يقال: هم عليَّ وِلاية أي: مجتمعون في النصرة"نفس المرجع (6/2530)..
وأمّا "برأ" فيأتي في اللغة على أصلين: "أحدهما: الخلق... والأصل الآخر: التباعد من الشيء ومزايلته"معجم مقاييس اللغة لابن فارس (1/236)..
وحاصل ما سبق من معنى الولاية والموالاة في اللغة: أنّ القربَ هو الأصل الجامع لمعناها. وأنّ نقيض ذلك من التباعد والمعاداة هو براء وبراءة. والقرب إذا كان في الدّين فمنشؤه المحبّة بين المتواليين، لما بينهما من الاتفاق في الدين، وضدّ ذلك ما يكون من البراء في الدّين، فمنشؤه البغض والكراهية. وعلى هذا يكون أصل الموالاة المحبة، وأصل البراءة البغض والكراهية، وإنّما يوالي المؤمن المؤمنين لمحبته لهم لإيمانهم، كما أنّه إنّما يبرأ من الكفار لبغضه لهم لكفرهم، فمن حقّق المحبة للمؤمنين لما هم عليه من الإيمان فقد حقّق أصل الموالاة لهم، ومن حقّق الكراهية والبغض للكفار لما هم عليه من الكفر فقد حقّق أصل البراءة منهم.
وفي تقرير أصل الولاء والبراء وما يلزم عنه، وبيان الصلة بين المعنى اللغوي والحقيقة الشرعية للولاء والبراء يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "أصل الموالاة هي المحبة، كما أنّ أصل المعاداة البغض، فإنّ التحاب يوجب التقارب والاتفاق، والتباغض يوجب التباعد والاختلاف، وقد قيل: المولى من الولي، وهو القرب، وهذا يلي هذا، أي يقرب منه. والعدو من العدواء، وهو البعد، ومنه العدوة، والشيء إذا ولي الشيء ودنا منه وقرب إليه اتصل به، كما أنه إذا عدي عنه ونأى عنه وبعد منه كان ماضيًا عنه.
فأولياء الله ضد أعدائه، يقربهم منه ويدنيهم إليه ويتولاهم ويتولونه ويحبهم ويرحمهم، ويكون عليهم منه صلاة، وأعداؤه يبعدهم ويلعنهم، وهو إبعاد منه ومن رحمته، ويبغضهم ويغضب عليهم، وهذا شأن المتوالين والمتعادين"قاعدة في المحبة (ضمن جامع الرسائل) لابن تيمية (2/384)، وانظر أيضًا: مجموع فتاوى ابن تيمية (6/478) (11/160-161)..
وفي نفس المعنى يقول الإمام الشوكاني: "أصل الولاية المحبة والتقرب، كما ذكره أهل اللغة، وأصل العداوة البغض والبعد"قطر الولي على حديث الولي للشوكاني، تحقيق: إبراهيم هلال ص(223)..
وفي نفس المعنى أيضًا يقول الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ: "وأصل الموالاة الحب، وأصل المعاداة البغض، وينشأ عنهما من أعمال القلوب والجوارح ما يدخل في حقيقة الموالاة والمعاداة، كالنصرة والأنس والمعاونة، وكالجهاد والهجرة، ونحو ذلك من الأعمال"الدرر السنية في الأجوبة النجدية (2/157)..
وعلى قدر تحقيق الولاء والبراء في الباطن يكون أثره في الظاهر، وحقوق المسلم على المسلم إنّما ترجع إلى تحقيق الموالاة بينهم، والنهي عن مشايعة الكفار وموافقتهم ونصرتهم إنما ترجع إلى تحقيق البراءة منهم، فمن أخلّ بشيء مما يجب عليه من حقوق إخوانه المسلمين فقد نقص ولاؤه لهم بقدر ما أخلّ به من حقوقهم، ومن فعل شيئًا مما نهي عنه من موالاة الكفار في الظاهر فقد نقصت براءته من الكفار بقدر ذلك، وما لم يكن الإخلال بالولاء والبراء متعلّقًا بأصل الولاء والبراء فإنّ الإيمان ينقص بحسب ذلك، حتى إذا حصل الإخلال بأصل الولاء والبراء فإنّ الإيمان حينئذٍ ينتفي بالكلية، ولا يبقى منه شيء.
وإذا كانت المحبة هي أصل الموالاة، والنصرة تابعة لها، فإنّه لا يلزم من مجرد القدح في النصرة انتفاء المحبة التي هي أصلها. فلا يلزم من مجرّد النقص في النصرة الواجبة للمؤمن على المؤمن، أو من مجرّد المعاداة الظاهرة من المؤمن للمؤمن انتفاء أصل الموالاة بينهما، وكذلك ما قد يكون من المؤمن من مجرد مظاهرة الكفار وإعانتهم على المسلمين، فإنّه لا يلزم منه لذاته انتفاء أصل البراءة من الكفار.
وأما أصل الولاء والبراء فلازم للإيمان، بحيث لا يتصور الإيمان إلا مع ثبوت أصل الولاء والبراء، وذلك أنّ المؤمن لا يكون مؤمنًا إلا مع رضاه بإيمانه ومحبته له، وكراهيته لكل ما يناقضه وينافيه.
واتفاق المؤمنين في إيمانهم يستلزم لذاته تحقق الموالاة بينهم، بحيث يستحيل ألا تكون عند المؤمن المحبة للمؤمنين لإيمانهم، كما أنّ ما عليه الكفار من الكفر يناقض إيمان المؤمن، فيستحيل أيضاً ألا تكون عند المؤمن الكراهية والبغض لما يناقض إيمانه. وعلى هذا يكون تصوّر ثبوت الإيمان مع عدم الولاء للمؤمنين والبراءة من الكافرين من قبيل تصوّر اجتماع النقيضين.
وإنّما قيل إنّ الإيمان لا يثبت إلا مع ثبوت أصل الولاء والبراء خاصة دون مطلق الولاء والبراء، لأنّه لا يلزم من منافاة مطلق الولاء والبراء منافاة أصل الولاء والبراء. والإيمان لا ينتفي إلا بما ينافي أصل الولاء والبراء، وأما ما ينافي مطلق الولاء والبراء مما يدخل في عموم المعاداة للمؤمنين والموالاة للكفار، دون أن ينافي أصل الولاء والبراء فإنّه وإن نقص به الإيمان إلا أنّه لا ينافيه بالكلية.
وإذا كان قتل المؤمن للمؤمن لا ينافي لذاته أصل الموالاة والأخوّة الإيمانية بينهما، فما دون ذلك من العداوة أحرى ألا ينافي أصل الموالاة بين المؤمنين، وإن كانت تلك العداوة منافية لمطلق الموالاة بينهم، فما ينافي مطلق الموالاة بين المؤمنين لا يلزم أن ينافي الموالاة المطلقة لهم، وإنّما تنتفي موالاة المؤمن للمؤمنين بعداوتهم وكراهتهم لأجل إيمانهم، لاستحالة حصول ذلك مع ثبوت الإيمان للمؤمن.
وكما أنّ موالاة المؤمن للمؤمنين لا تنتفي إلا إذا كانت عداوته وكراهيته لهم لأجل إيمانهم، فإنّ براءة المؤمن من الكفار لا تنتفي إلا إذا كانت محبته لهم ونصرته لهم لأجل كفرهم. فثبوت أصل البراءة من الكفار مع ما قد يكون من الموالاة الظاهرة لهم لمجرد غرض دنيوي هو من قبيل ثبوت أصل الولاء للمؤمنين مع ما قد يحصل بين المؤمنين من العداوة الظاهرة. وإذا لم تكن عداوة المؤمن للمؤمن في الظاهر كفرًا لذاتها ما لم تتضمن أن تكون عداوته لأجل إيمانه، فكذلك موالاة المؤمن للكافر في الظاهر، لا تكون كفراً لذاتها، ما لم تتضمن أن تكون تلك الموالاة للكافر لأجل دينه، لا لمجرد غرض دنيوي.
وكما أنّه لا دليل على أنّ شيئًا مما قد يحصل من المؤمن من العداوة الظاهرة للمؤمنين تكون كفرًا لذاتها، فكذلك لا دليل أيضًا على أنّ شيئًا مما قد يحصل من المؤمن من الموالاة الظاهرة للكفار تكون كفرًا لذاتها، بل إعانة الكفار ومظاهرتهم على المسلمين هي في ذاتها من قبيل العداوة المباشرة من المؤمن للمؤمن، من حيث إنّه لا فرق بينهما من جهة انتفاء حكم الكفر عنهما لذاتهما، وإنّما يلزم الكفر فيهما بأن تكون عداوة المؤمن للمؤمن لأجل إيمانه، ومظاهرة المؤمن للكفار لأجل دينهم. ومن تأمّل هذا المعنى حقّ التأمل اتضح له أصل المسألة وحقيقة مناط الكفر بموالاة الكفار.
وحاصل الأمر أنّ من التزم التكفير بمطلق الموالاة للكفار لزمه التكفير بمطلق المعاداة للمؤمنين، وأمّا التكفير بمطلق الموالاة للكفار دون مطلق المعاداة للمؤمنين، مع منافاتها لمطلق الموالاة لهم فتناقض محض.
وحينئذٍ يمكن أن تجتمع للمؤمن شعبة من شعب الموالاة للكفار مع ثبوت أصل البراءة منهم، حتى إذا أحب المؤمن الكفار أو أعانهم ونصرهم على المسلمين لأجل دينهم انتفى أصل البراءة من الكفار فانتفى إيمانه.
وعلى هذا المعنى تحمل الآيات الواردة في التكفير بموالاة الكفار، وأنّ المقصود بها التكفير بموالاة الكفار لأجل دينهم لا التكفير بمطلق الموالاة لهم، وأنّ هذه الآيات لا تحتاج في بيان دلالتها على هذا المعنى إلى نصوص أخرى تقيدها، لأنّ دلالتها عليه محكمة، فمن ادعى في هذه الآيات الدلالة على التكفير بمطلق الموالاة فقد خالف دلالتها.
وبناءً على هذا، نصّ الشيخ الشنقيطي رحمه الله: "على أنّ ظواهر الآيات الواردة في التكفير بموالاة الكفار إنّما تدل على التكفير بموالاة الكفار رغبة فيهم وفي دينهم"، وقد أورد جملة من الآيات في حكم موالاة الكفار، ثم نصّ على ما تتفق عليه تلك الآيات فقال: "يفهم من ظواهر هذه الآيات أنّ من تولى الكفار عمدًا واختيارًا، رغبة فيهم، أنّه كافر مثلهم"أضواء البيان للشنقيطي (2/111)..
وقال في موطن آخر في نفس المعنى: إنّ الله تعالى قد بيّن "أنّ الذي يتولى الكفار اختيارًا، رغبة فيهم وفي دينهم، أنّه منهم"العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير (5/2089)..
والمهم فيما ذكره الشيخ الشنقيطي هنا أنّه لم يقصد تفسير آية بعينها، وإنّما أراد بيان قاعدة ترجع إليها الآيات في حكم موالاة الكفار، وحاصل ما قرره هنا من اشتراط الرغبة في الكفار وفي دينهم للحكم بموالاة الكفار يقتضي أنّ من كانت موالاته للكفار دون ذلك، بحيث لم تكن موالاته للكفار لأجل دينهم، وإنّما كانت لمجرد غرض دنيوي فإنّه لا يكفر، لأنّ من يوالي الكفار لغرض دنيوي مع ثبوت أصل البراءة من الكفار عنده لا يقال إنّ حاله كحال من والاهم رغبة فيهم وفي دينهم، وإذا كان الحكم بالكفر بموالاة الكفار مقيدًا بمن والاهم رغبة في دينهم لم يكن من والاهم لمجرد رغبة في الدنيا مع يقينه بدينه وعدم رغبته عنه كذلك.
وقد قرّر شيخ الإسلام ابن تيمية الفرق بين ما ينافي أصل الولاء والبراء وما ينافي مطلق الولاء والبراء، وبيّن أنّ الكفر بموالاة الكفار إنّما يكون بما يستحيل معه ثبوت أصل الولاء والبراء، وأنّ ما دون ذلك مما قد يحصل من المؤمن من معاداة المؤمنين وموالاة الكفار لا يكون حكمه كذلك.
وفي تقرير الاستدلال للتنافي بين الإيمان وموالاة الكفار يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "وقال تعالى: فيما يذم به أهل الكتاب … {تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [المائدة:80-81]. فبيّن -سبحانه وتعالى- أنّ الإيمان بالله والنبي وما أنزل إليه مستلزم لعدم ولايتهم، فثبوت ولايتهم يوجب عدم الإيمان، لأنّ عدم اللازم يقتضي عدم الملزوم. وقال سبحانه: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} [المجادلة:22]. فأخبر سبحانه أنّه لا يوجد مؤمن يوادّ كافرًا، فمن وادّ الكفار فليس بمؤمن"اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية (1/550-551)..
ومع ما قرره هنا شيخ الإسلام من التنافي بين الإيمان وبين موادّة الكفار وموالاتهم إلا أنّه قد نصّ على أنّ تلك الموالاة إذا كانت لغرض دنيوي فإنّها لا تكون كفرًا. وفي ذلك يقول: "إذا قوي ما في القلب من التصديق والمعرفة والمحبة لله ورسوله: أوجبَ بغضَ أعداء الله، كما قال تعالى: {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ}[المائدة:81]. وقال: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} [المجادلة:22].
وقد تحصل للرجل موادتهم لرحم أو حاجة فتكون ذنبًا ينقص به إيمانه، ولا يكون به كافرًا، كما حصل من حاطب بن أبي بلتعة لما كاتب المشركين ببعض أخبار النبي صلى الله عليه وسلم، وأنزل الله فيه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} [الممتحنة:1]"مجموع فتاوي ابن تيمية (7/522-523)..
وإذا كانت الآيات التي استند إليها شيخ الإسلام ابن تيمية في الحكم باستحالة ثبوت الإيمان مع موالاة الكفار هي نفسها الآيات التي ذكر أنّه لا يلزم منها التكفير بموالاة الكفار لمجرد غرض دنيوي، فلا بد أن يكون مراده بالموالاة المكفّرة ما تكون لأجل دين الكفار، لا لمجرد غرض دنيوي، لأنّه إذا لم يصح التكفير بالموالاة التي لا تكون على الدين لم يبق في التكفير بالموالاة إلا ما تكون على الدين.
وعلى هذا الأساس فرّق الشيخ عبد الرحمن بن سعدي في تفسيره للآيات الواردة في حكم موالاة الكفار بين الموالاة التامة وما دونها، وبيّن أنّ الكفر بموالاة الكفار لا يكون إلا بالموالاة التامة، وأنّ ما دون ذلك من الموالاة للكفار لا تكون كفرًا، وإن دخلت في عموم موالاة الكفار.
ومن ذلك قوله عند تفسير قول الله تعالى: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة:9]، "ذلك الظلم يكون بحسب التولي، فإن كان توليًا تامًا كان ذلك كفرًا مخرجًا عن دائرة الإسلام، وتحت ذلك من المراتب، ما هو غليظ وما هو دونه"تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان لابن سعدي (7/357)..
وقال أيضًا في تعليل الحكم بالكفر في موالاة اليهود والنصارى في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51]: "لأن التولي التام يوجب الانتقال إلى دينهم، والتولي القليل يدعو إلى الكثير، ثم يتدرج شيئًا فشيئًا حتى يكون العبد منهم"المرجع السابق (2/304)..
وتأمّل كيف فرّق بين التولّي التام الذي يوجب الكفر المخرج من الملة، وبين ما دونه من التولي، وأنّه ليس بكفر، وإن كان داخلًا في عموم تولي الكفار، فعلم أنّ الكفر بموالاة الكفار لا يكون بمطلق الموالاة لهم، وإنّما هو مقيد بالموالاة التامة المطلقة، وإنّما تكون الموالاة تامّة إذا كانت لأجل دين الكفار، لا لمجرد غرض دنيوي، مع ثبوت أصل الولاء والبراء.
وتكرار الشيخ ابن سعدي -رحمه الله- لنفس الحكم في الآيتين السابقتين، وتأكيده على التفريق بين الموالاة التامة وما دونها دليل على أنّ هذا التفريق أصل عنده في حكم موالاة الكفار، وأنّ ما جاء من النصوص في هذا الباب فإنّما يفهم وفق ذلك الأصل.
وقد حكى الإمام ابن الجوزي عن أهل التفسير التفريق بين موالاة الكفار لأجل دينهم وبين موالاتهم فيما دون ذلك فقال: "قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51] فيه قولان:
أحدهما: من يتولهم في الدين فإنّه منهم في الكفر، والثاني: من يتولهم في العهد فإنّه منهم في مخالفة الأمر"زاد المسير لابن الجوزي ص(390)..
وما ذكره ابن الجوزي عن أهل التفسير في معنى الآية يقتضي التفريق بين موالاة الكفار على دينهم وأنّها كفر، وبين الموالاة في مجرد العهد مع الكفار وأنّها مخالفة للأمر، أي فلا تكون كفرًا. وبذلك يكون قد جمع فيما حكاه في هذين القولين بين بيان الحكم وبيان علة الحكم.
فذكر أنّ الكفر بموالاة الكفار مقيّد بموالاتهم في الدين، وأنّ موالاة الكفار في مجرد العهد والتحالف لا تعدو أن تكون معصية ومخالفة للأمر، فلا تكون كفرًا لذاتها، لكونها ليست موالاة للكفار على دينهم، ومعلوم أنّ موالاة الكفار في العهد والتحالف داخلة في عموم نصرتهم، ولو لم تكن كذلك ما حرص الكفار على أن يكون بينهم وبين المسلمين موالاة بهذا المعنى، فعلم أنّ عدم التكفير في هذه الحال منوط بكون هذه الموالاة مع الكفار مما يكون من المسلمين لأجل غرض دنيوي، وأنّها وإن كانت مخالفة للأمر إلا أنّها لا تكون كفرًا لذاتها، لعدم تحقق مناط الكفر بموالاة الكفار فيها، وهو موالاتهم لأجل دينهم.
وبذا: لا يكون للعهد والتحالف مع الكفار حكمٌ مطلقٌ في جميع الأحوال، بل يختلف حكمه بحسب الحامل عليه، فيكون كفرًا إذا كان الحامل عليه نصرة الكفار لأجل دينهم، ويكون مخالفة للأمر وذنبًا عظيمًا دون أن يصل إلى حدّ الكفر إذا كان لمجرّد غرض دنيوي، وقد يكون جائزًا أو متعيّنًا بحسب ما يكون فيه من المصلحة للمسلمين، وقد عاهد النبي -صلى الله عليه وسلم- الكفار، وقَبِلَ حلفهم في بعض الأحوال، كقبوله حلف خزاعة، ومعاهدته لقريش في صلح الحديبية.
ووجه الأهمية في نصّ الإمام ابن الجوزي على الحكم وعلّته في الآية هو ما يقتضيه ذلك من بيان أنّ هذه العلّة عامة في حكم موالاة الكفار، لأنّ الحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا، فلا يكون ما ذكره خاصًا بمعنى هذه الآية، وإنما يكون تقريرًا للتفريق في حكم موالاة الكفار بين ما يكون لأجل دينهم وبين ما يكون لغير ذلك.
وقد نصّ الشيخ صالح الفوزان على أنّ مناط الكفر بمظاهرة الكفار هو مظاهرتهم لأجل دينهم، وأنّ مظاهرتهم على غير الدين لا تكون كفرًا، وذكر أقسام مظاهرة الكفار فقال: "ومظاهرة الكفار على المسلمين تحتها أقسام:
القسم الأول: مظاهرتهم ومعاونتهم على المسلمين، مع محبة ما هم عليه من الكفر والشرك والضلال، فهذا القسم لا شكّ أنّه كفر أكبر مخرج من الملة، فمن ظاهرهم وأعانهم وساعدهم على المسلمين مع محبة دينهم، وما هم عليه، والرضى عنهم، وهو مختار، غير مكره، فإنّه يكون كفراً مخرجًا من الملة، على ظاهر قوله تعالى: {فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51].
القسم الثاني: أن يعاونهم على المسلمين، لا مختارًا، بل يكرهونه على ذلك بسبب إقامته بينهم، فهذا عليه وعيد، ويخشى عليه من الكفر المخرج من الملة …
القسم الثالث: من يعين الكفار على المسلمين، وهو مختار غير مكره، مع بغضه لدين الكفار، وعدم الرضا عنه، فهذا لا شك أنّه فاعل لكبيرة من كبائر الذنوب، ويخشى عليه من الكفر"دروس في شرح نواقض الإسلام لصالح الفوزان (159-160).. وذكر أقساما أخرى.
والحاصل مما تقدم: أنّ تقييد الكفر بموالاة الكفار بأن تكون الموالاة لأجل دين الكفار إنما يستند إلى حقيقة الولاء والبراء، وأنّ له أصلًا وكمالًا، وأنّه لا ينتفي إلا بما ينافي أصله، وأنّ أصل الولاء والبراء لا ينتفي إلا بمعاداة المؤمنين لإيمانهم، أو موالاة الكفار لكفرهم، وأنّ ما دون ذلك من معاداة المؤمنين أو موالاة الكفار لا يكون كفرًا مخرجًا من الملة، وإن كان قادحًا في كمال الولاء والبراء.
وهذا معنى ما قرره العلماء في النقول السابقة عنهم، على اختلاف عباراتهم، ويبين استنادهم إلى هذا الوجه، وكونه كافيًا عندهم في الدلالة على تقييد الكفر بموالاة الكفار لأجل دينهم أنهم لم يذكروا في مستند تقييدهم للموالاة أنه قد وردت نصوص أخرى تقيد الإطلاق في الآيات الواردة في الحكم بالكفر بموالاة الكفار، وأهمية ذلك أن يعلم أنه ولو لم يستدل بالنصوص الدالة على عدم الكفر بموالاة الكفار لمجرد غرض دنيوي فإن مجرد العلم بحقيقة الولاء والبراء، والتفريق بين ما ينافي أصله وبين ما ينافي كماله فيه الدلالة الكافية على أن الكفر بموالاة الكفار ليس مطلقًا، بحيث يشمل كل موالاة لهم، وإنما هو مقيد بموالاتهم لأجل دينهم.
وعلى هذا الوجه يفهم اشتراط الإمام ابن جرير للكفر بموالاة الكفار أن تكون موالاتهم على دينهم، ونقله عن جماعة من السلف، وذلك عند تفسيره لقول الله تعالى: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران:28]. وفي تفسيره للآية يقول: "معنى ذلك لا تتخذوا أيها المؤمنون الكفار ظهرًا وأنصارًا توالونهم على دينهم، وتظاهرونهم على المسلمين من دون المؤمنين، وتدلّونهم على عوراتهم، فإنّه من يفعل ذلك {فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ} [آل عمران:28] يعني بذلك: فقد برئ من الله، وبرئ الله منه، بارتداده عن دينه، ودخوله في الكفر"تفسير ابن جرير (5/315)..
وهذا الذي ذكره الإمام ابن جرير من اشتراط الموالاة في الدين للكفر بموالاة الكفار قد ذكره عن جماعة من السلف في تفسير الآية، فقد ذكر بسنده إلى ابن عباس -رضي الله عنهما- أنّه قال في تفسير الآية، "نهى الله سبحانه المؤمنين أن يلاطفوا الكفار أو يتخذونهم وليجة من دون المؤمنين، إلا أن يكون الكفار عليهم ظاهرين، فيظهروا لهم اللطف ويخالفونهم في الدين"المرجع السابق (5/316)..
ونقل عن قتادة أنّه قال في تفسيرها: "نهى الله المؤمنين أن يوادوا الكفار، أو يتولوهم من دون المؤمنين، وقال الله: {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران:28] الرحم من المشركين، من غير أن يتولوهم في دينهم، إلا أن يصل رحمًا من المشركين"المرجع السابق (5/319)..
ونقل عن الحسن البصري في معنى قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً}[آل عمران:28] أنّ معناها: "صاحبهم في الدنيا معروفًا، الرحم وغيره، فأما في الدين فلا"المرجع السابق (5/319)..
ونقل عن السدّي أنّه قال في معنى قوله تعالى: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ} [آل عمران:28] أي "فيواليهم في دينهم، ويظهرهم على عورة المؤمنين، فمن فعل هذا فهو مشرك، فقد برئ الله منه، إلا أن يتقي منهم تقاة، فهو يظهر الولاية لهم في دينهم والبراءة من المؤمنين"المرجع السابق (5/317)..
والذي ذكره الإمام ابن جرير في تفسير الآية إنّما أخذه من مجموع هذه الأقوال، وعبارته قريبة من عباراتهم، ونصّ على اشتراط الموالاة في الدين في تفسير الآية كما نصّوا.
وهذا يدلّ على أنّ الإمام ابن جرير يرى التلازم بين التكفير بموالاة الكفار وبين أن تكون موالاتهم لأجل دينهم، فحين جاء في الآية قوله تعالى:{وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ} [آل عمران:28] وهو ظاهر الدلالة على الكفر بالموالاة، اشترط في الموالاة في الآية أن تكون لأجل الدين، وإذا كان اشتراط الموالاة على الدين في التكفير بموالاة الكفار غير منصوص عليه في الآية، وإنّما غاية ما فيها التكفير بموالاة الكفار من دون المؤمنين، فلا بد أن يكون ما اشترط الإمام ابن جرير من الموالاة على الدين معلومًا عنده بالنظر إلى حقيقة الولاء والبراء، والفرق بين أصله وكماله، وأنّه لا يلزم من مطلق موالاة الكفار منافاة أصل البراءة منهم، ما لم تكن موالاتهم لأجل دينهم، وكما أن هذا هو ظاهر هذه الآية عند الإمام ابن جرير فهو أيضًا مقتضى اعتبار دلالة النصوص الأخرى في المسألة.
ولهذا ذكر الإمام ابن جرير في فقه قصة حاطب -رضي الله عنه- وما حصل منه من مظاهرة المشركين على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنّ فيها الدلالة على أنّ من دلّ الكفار على عورات المسلمين ولم يتكرر منه، كالذي حصل من حاطب رضي الله عنه، فإنّه لا يقتل، وإنّما يقتل عنده من تكرر منه ذلك، دفعًا لشره، وهذا لا يقال فيما يكون به الكفر، وإنما يكون فيما هو معصية"انظر: عمدة القاري للعيني (12/75)، وانظر ما سيأتي عن ذلك ص(46)..
والإمام ابن جرير أبعد من أن يقرّر في معنى آية ما يعلم أنّ في نصوص أخرى ما يناقض ذلك المعنى، وإنمّا يقرر ما تتفق عليه النصوص عنده وإن لم يذكرها.
ويؤكّد ما سبق بيانه من أنّ الكفر بموالاة الكفار مقيّد بموالاتهم لأجل دينهم أنّ أكثر الآيات التي قد يظن أنّ فيها الدلالة على التكفير بمطلق الموالاة للكفار إنّما جاءت في الحكم على المنافقين وبيان حالهم، وتحذير المؤمنين من مشابهة أولئك المنافقين حيث اتخذوا الكفار أولياء من دون المؤمنين.
فدلّ سياق هذه الآيات على تقييد الكفر بموالاة الكفار بأمر باطن، وهو موالاة الكفار على دينهم، لا بمطلق موالاتهم، لأنّ المنافقين لو أظهروا من موالاة الكفار ما يكون كفرًا لذاته لحكم بردتهم في الظاهر، كحال من يظهر أي ناقض من نواقض الإسلام الظاهرة، ولما لم يكن ذلك علم أن الحكم بكفرهم مقيد بما تحقق من كفرهم في الباطن، لا بمجرد ما يكون من موالاتهم للكفار في الظاهر.
ومن تلك الآيات التي يدل سياقها على معناها، وأن الكفر فيها مقيد بموالاة الكفار على دينهم قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة:51] فقد جاء الحكم بالكفر بموالاة الكفار في قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51] في سياق نهي المؤمنين عن موالاة اليهود والنصارى وبيان حال المنافقين في موالاتهم لليهود والنصارى. حيث وصفهم الله تعالى بقوله: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} [المائدة:52] "أي: يبادرون إلى موالاتهم ومودتهم في الباطن والظاهر، {يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} [المائدة:52] أي: يتأولون في مودتهم وموالاتهم أنهم يخشون أن يقع أمر من ظفر الكفار بالمسلمين، فتكون لهم أياد عند اليهود والنصارى، فينفعهم ذلك"تفسير ابن كثير (3/132).. وهذا من سوء ظنهم بالله تعالى ودينه، ثم قال تعالى: {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} [المائدة:52]. وقد كان ذلك، حيث جعل الله الدائرة للمسلمين، فأصبح أولئك المنافقون على ما أسروا في أنفسهم من غش للإسلام وأهله نادمين.
ثم كان السياق بعد ذلك في بيان تعجب المؤمنين من حال أولئك المنافقين، وكيف أنهم قد أقسموا بالله الأيمان المغلظة أنهم مع المؤمنين، مع أنهم في الحقيقة موالون لأهل الكتاب من دون المؤمنين، وأنه بسبب ذلك حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين.
ثم حذر الله المؤمنين عن مشابهة المنافقين وأنه من يرتد من المؤمنين كما فعل أولئك المنافقون فسوف يأتي الله بخير منهم، ثم ختم السياق بالتأكيد على أنه ينبغي أن تكون ولاية المؤمن لله ورسوله والمؤمنين، والتحضيض على البراءة من الكفار.
والمقصود أنّ سياق هذه الآيات هو في نهي المؤمنين عن مشابهة المنافقين في موالاتهم لليهود والنصارى. فيكون غاية ما يدل عليه قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51] أن من حصلت منه الموالاة التي دلت الآيات على حصولها من المنافقين فإنه يكفر بذلك، والمنافقون لم يكفروا بمطلق الموالاة لأهل الكتاب، وإنما كفروا لأنهم رضوا بدين الكفار، وتمنوا علو الكافرين لكفرهم على المؤمنين لإيمانهم.
وقد فسّر الإمام ابن جرير هذه الآية بما يدل على أن المراد بالموالاة فيها ما كان لأجل الدين، بحيث لا يمكن أن تكون الموالاة من مؤمن، وإنّما تكون من منافق يرضى بدين من والاهم، ويتولاهم على دينهم.
وفي ذلك يقول الإمام ابن جرير: "يعني تعالى ذكره بقوله: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51] ومن يتول اليهود والنصارى دون المؤمنين {فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51] يقول: فإن من تولاهم ونصرهم على المؤمنين فهو من أهل دينهم وملتهم، فإنه لا يتولى متولٍ أحدًا إلا وهو به وبدينه وما هو عليه راض، وإذا رضيه ورضي دينه فقد عادى ما خالفه وسخطه، وصار حكمه حكمه، ولذلك حكم من حكم من أهل العلم لنصارى بني تغلب في ذبائحهم ونكاح نسائهم وغير ذلك من أمورهم بأحكام نصارى بني إسرائيل، لموالاتهم إياهم، ورضاهم بملتهم، ونصرتهم لهم عليها، وإن كانت أنسابهم لأنسابهم مخالفة …، وأصل دينهم لأصل دينهم مفارقًا"تفسير ابن جرير (8/508)..
وتأمّل ما ذكره الإمام ابن جرير عن نصارى بني تغلب، وأنّ العلماء الذين أباحوا نكاح نسائهم، وحل ذبائحهم، لموالاتهم للنصارى، ورضاهم بملتهم، ونصرتهم لهم عليها، وإن كان أصل دينهم لأصل دين النصارى مفارقاً كما قال، فتبيّن بذلك أنّ الإمام ابن جرير لا يعتبر الموالاة التي حكم فيها على الموالي بما يحكم به على من والاه إلا إذا كانت مع الرضى بدين من والاه، أو أن ينصره لأجل دينه، ومعنى ذلك أنّ الموالاة لا تكون تامة عند الإمام ابن جرير إلا إذا كانت لأجل الدين.
وهذا يفسّر ما ذكره الإمام ابن جرير في أول كلامه، حيث قال: "فإنه لا يتولى متول أحدًا إلا وهو به وبدينه وما هو عليه راض"، فإنّه إنما أراد الموالاة التامة، لا مطلق الموالاة، فيكون مراده إنه لا تتم الموالاة التي يكون بها الكفر إلا من هذا الوجه، وهو أن يرضى المتولي بدين من والاه، لا أنّ كل ولاية لكافر لا بد أن تتضمن الرضى بدينه، فإنّ هذا كما أنّه مخالف للواقع فهو مخالف أيضًا لكلامه السابق.
وقد استند الإمام ابن جرير في تفسيره للموالاة بهذا المعنى إلى سياق الآية، وأنّها نزلت في بيان حال المنافقين. وبيان ذلك أنّ الإمام ابن جرير ابتدأ تفسيره للآية بحكاية الاختلاف في المعني بها، وفيمن نزلت، وذكر في ذلك ثلاثة أقوال، لكنّه حكم بعد حكايتها بأنّه لم يصح بواحد من هذه الأقوال الثلاثة خبر تثبت بمثله حجة"المرجع السابق (8/507).، ثم قال بعدما ذكر أنّ العبرة بعموم الآية: "غير أنّه لا شك أن الآية نزلت في منافق كان يوالي يهودًا أو نصارى، خوفًا على نفسه من دوائر الدهر، لأنّ الآية التي بعد هذه الآية تدل على ذلك، وذلك قوله تعالى: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} [المائدة:52]"تفسير ابن جرير (8/507)..
وإذا كان الإمام ابن جرير يخصّ الموالاة في الآية بما يكون من المنافقين فلا بد أن تكون الموالاة عنده مقيدة بموالاة الكفار لأجل دينهم، لأنّ تلك هي حقيقة حال المنافقين. ولهذا عقّب محمد رشيد رضا على قول الإمام ابن جرير في تفسير هذه الآية، بقوله: "وقد قيّد ابن جرير الولاية بكونها لأجل الدين، كما كانت الحال في ذلك العصر، إذ قام المشركون وأهل الكتاب يعادون المسلمين ويقاتلونهم لأجل دينهم"تفسير المنار لمحمد رشيد رضا (6/430)..
وتقدّمت حكاية ابن الجوزي لأقوال المفسرين للآيةانظر: ص(12).، وأنّ الموالاة فيها تحتمل الموالاة في الدين والموالاة في مجرد العهد، وأنّ الكفر بموالاة الكفار مقيد بموالاة الكفار لأجل دينهم، وأنّ موالاة الكفار فيما دون ذلك مما يكون مخالفة للأمر مع ثبوت البراءة منهم ليست كفرًا لذاتها، وأنّ ما حكاه ابن الجوزي عن أهل التفسير من التفريق بين هذين الحالين، وبيان حكم كل حالة، وبيان مناط حكمها، يقتضي اطّراد الحكم، بحيث لا تكون موالاة الكفار كفرًا إلا إذا كانت لأجل دينهم، والمهم هنا أنّ حمل الموالاة في الآية على الموالاة المكفّرة مقيد بموالاة الكفار في دينهم، لا على مطلق الموالاة لهم، وأنّ من موالاة الكفار ما ليس بكفر لذاته.
وعلى هذا يكون الإطلاق في قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51] أشبه بالإطلاق في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من تشبه بقوم فهو منهم)أخرجه أبو داود، كتاب اللباس (4031)، وأحمد في المسند (5114) (5115) (5667)، وقال ابن تيمية في مجموع الفتاوى (25/331): هذا حديث جيد. وقال في اقتضاء الصراط المستقيم (1/269): هذا الإسناد جيد. وصححه الألباني في إرواء الغليل (2384).. وإذا كان معلومًا أنّ مطلق التشبه بالكفار ليس كفرًا ما لم يكن التشبه بما هم عليه من الكفر، فكذلك مطلق الموالاة لا تكون كفرًا ما لم تكن على ما عليه الكفار من الدين، ومن التزم الإطلاق في الآية لزمه الإطلاق في الحديث، وإلا كان متناقضًا.
ومن الآيات التي يدلّ سياقها على أنّ المراد بموالاة الكفار فيها موالاتهم على دينهم قول الله تعالى: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً}[النساء:138-139].
ففي هاتين الآيتين بيان حال المنافقين، وأنّهم يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين لما يظنون أن تكون لهم به العزة.
وقد ذكر الله بعد ذلك بعض صفات المنافقين، كمجالستهم للكفار، ورضاهم بما يسمعونه منهم من الاستهزاء بآيات الله، وحكم الله بأنّ من فعل ذلك فهو مثل الكفار في كفرهم، وأنّ الله يجمعهم معهم في جهنم.
ثم ذكر الله من صفاتهم أيضًا ما جاء في قوله تعالى: {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 141] ومعنى ذلك "أنهم يتربصون بالمؤمنين دوائر السوء، بمعنى ينتظرون زوال دولتهم وظهور الكفر عليهم وذهاب ملتهم"تفسير ابن كثير (2/437).، وأنّهم يظهرون الميل إلى الكافرين أو المؤمنين بحسب ما يرونه من مصلحتهم العاجلة.
ثم نهى الله عن اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين، لأنّ ذلك لا يفعله إلا أهل النفاق، وعاقبة أهل النفاق في الآخرة أنّهم في الدرك الأسفل من النار، إلا من تاب منهم توبة نصوحًا، فهو مع المؤمنين في الجنة.
والمقصود هنا أنّ النهي عن موالاة الكافرين جاء في سياق أنّه من صفات المنافقين، الذين لم يحققوا الإيمان الباطن وإن أظهروا الإسلام، ومع أنّ كفر المنافقين باطن فقد ذكر الله من موالاتهم للكفار ما هو من الموالاة الظاهرة لهم، كقعودهم معهم وهم يستهزئون بآيات الله، ونصرتهم للكافرين، حتى أمكن أن يقولوا لهم ما ذكره الله عنهم أنّهم قالوا للكفار {أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء:141]، وجاء في وصفهم كما في السياق السابق من سورة المائدة قوله تعالى: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ} [المائدة:52] قال الإمام ابن جرير: "يعني بمسارعتهم فيهم مسارعتهم في موالاتهم ومصانعتهم"تفسير ابن جرير (8/512)..
ومقتضى ذلك ألّا يكون في مجرّد ما يظهرونه من موالاة الكفار ما يدل لذاته على كفرهم في الظاهر، ولذا كان كفرهم باطنًا لا ظاهرًا، وإذا كان الكفر بما يظهره المنافقون من موالاة الكفار مقيدًا بالباطن أمكن أن تحصل الموالاة للكفار في الظاهر ممن يضعف إيمانه من المؤمنين، دون أن يلزم من ذلك الكفر، لا في الظاهر ولا في الباطن، فيمكن على هذا أن تحصل من المؤمن المظاهرة للمشركين وإعانتهم على المسلمين، لمجرد غرض دنيوي، مع ثبوت أصل البراءة من الكفار.
وإذا كان الكفر قد يكون باطنًا دون أن يكون عليه دليل في الظاهر، كحال المنافقين، وقد يكون ظاهرًا، بحيث يمكن العلم به من حال المعين، مما يظهر منه من قول أو فعل، فإنّه لا يجوز الحكم على معيّن بالكفر لمجرد ما يظن أنّه حقيقة حاله في الباطن، وإنّما يحكم عليه بالكفر استنادًا إلى ما يقتضي الحكم عليه بذلك في الظاهر، وإنّما حصل اللبس على كثير ممن خالف في هذا الباب لعدم تفريقهم بين الكفر الباطن والظاهر، وأنّ الكفر الظاهر لا بد فيه من قول أو فعل ظاهر دل النصّ على أنّه كفر.
وإنّما لزم التنبيه على هذا الأصل هنا لأنّ بعض من يحصل منهم التجاوز في الحكم بالكفر في هذا الباب إنّما يستندون إلى نصوص تدل على الكفر الباطن خاصة، وتبين حال المنافقين، وما يكون منهم من موالاة الكفار على دينهم، فيأتي من يدخل في ذلك ما هو من قبيل المخالفة في مطلق الولاء والبراء، وليس مخالفًا لأصل الولاء والبراء، فيحكم بأنّه كفر مطلقًا، ثم يحكم على المعين بالكفر استنادًا إلى ما ظنّه حكمًا عامًا على الظاهر والباطن.
المبحث الثاني: حكم موالاة الكفار لغرض دنيوي
موالاة الكفار لا تخلو إما أن تكون لأجل دينهم أو لمجرد غرض دنيوي. وقد تقدّم في تقرير حقيقة أصل الولاء والبراء بيان أنّ موالاة الكفار بمحبتهم أو نصرتهم لأجل دينهم كفر، لأنّه ينافي أصل الولاء والبراء، لاستحالة ثبوت الإيمان مع الرضى بالكفر أو إعانتهم ونصرتهم لأجل دينهم. كما تقدّم أنّ موالاة الكفار لمجرد غرض دنيوي لا ينافي لذاته ثبوت أصل البراءة منهم، فلا يلزم من موالاتهم بهذا المعنى ما لزم من موالاتهم على دينهم.
والمقصود هنا الاستدلال على أنّ ما يقتضيه النظر في حقيقة الولاء والبراء من أنّ موالاة الكفار لمجرد غرض دنيوي ليست من الكفر المخرج من الملة هو مقتضى دلالة النصوص الشرعية. فيكون هذا من التأكيد والبيان بأنّ الآيات الواردة في التكفير بموالاة الكفار مقيّدة بموالاتهم على دينهم، لأنّه إذا انتفى أن تكون موالاتهم لمجرد غرض دنيوي من الكفر لزم أن يكون الكفر بموالاتهم مقيدًا بالموالاة على دينهم.
وأظهر الأدلة على ذلك ما ثبت من قصة حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه، ومكاتبته لقريش بشأن عزم النبي -صلى الله عليه وسلم- على غزوهم لفتح مكة، لكنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- علم بشأن الكتاب، وأرسل في طلبه، وسأل حاطبًا عما حمله على ما فعله، فأخبر حاطب الرسول -صلى الله عليه وسلم- أنّه لم يفعل ذلك رضىً بالكفر وردّةً عن الدين، فصدّقه النبي صلى الله عليه وسلم، وأخبر عمر -رضي الله عنه- حين حكم بنفاق حاطب -رضي الله عنه- واستأذن النبي -صلى الله عليه وسلم- في قتله: أنّ ما فعله حاطب من مكاتبة قريش قد كفّره شهودُه بدرًا، وقد ورد حديث حاطب –رضي الله عنه- بروايات كثيرة، كلها تتفق على هذا المعنى.
وقد أخبر علي -رضي الله عنه- بقصة حاطب -رضي الله عنه- فقال: (بعثني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنا والزبير والمقداد بن الأسود، وقال: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإنّ بها ظعينة، ومعها كتاب، فخذوه منها، فانطلقنا تعادى بنا خيلنا، حتى انتهينا إلى الروضة، فإذا نحن بالظعينة، فقلنا: أخرجي الكتاب، فقالت: ما معي من كتاب. فقلنا: لتخرجن الكتاب أو لنلقين الثياب، فأخرجته من عقاصها، فأتينا به رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فإذا فيه: من حاطب بن أبي بلتعة إلى أناس من أهل مكة، يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا حاطب، ما هذا؟ قال: يا رسول الله لا تعجل علي، إنّي كنت امرأً ملصقًا في قريش، ولم أكن من أنفسها، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات بمكة يحمون بها أهليهم وأموالهم، فأحببت إذا فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ عندهم يدًا يحمون بها قرابتي، وما فعلت ذلك كفرًا ولا ارتدادًا ولا رضًا بالكفر بعد الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد صدقكم. فقال عمر: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق، قال: إنّه قد شهد بدرًا، وما يدريك لعل الله أن يكون قد أطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير (3007) (3081)، وكتاب المغازي (3982) (4274)، وكتاب التفسير (4890)، وكتاب الاستئذان (6259)، وكتاب استتابة المرتدين (6939). ومسلم، كتاب فضائل الصحابة (2494). وأبو داود، كتاب الجهاد، باب حكم الجاسوس إذا كان مسلمًا (2650). والترمذي، كتاب تفسير القرآن (3305)..
وفي هذا الحديث الدلالة على أصلين، هما قوام الاستدلال على أنّ موالاة الكفار لمجرد غرض دنيوي ليست كفرًا.
فأما الأصل الأول: فما دلّ عليه الحديث من أنّ ما فعله حاطب -رضي الله عنه- من مكاتبة قريش وإفشاء سرّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- داخل في عموم موالاة الكفار ومظاهرتهم على المسلمين.
وأما الأصل الثاني: فما دلّ عليه الحديث من أن حاطبًا -رضي الله عنه- لم يكفر بتلك الموالاة، لأنّها لم تكن موالاة للمشركين على دينهم، وإنّما كانت لمجرد غرض دنيوي وهو حماية أهله وماله بمكة.
فأمّا دلالة القصة على أنّ ما فعله حاطب -رضي الله عنه- كان مظاهرة للمشركين: ففي غاية الظهور، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد أراد مباغتة قريش بالغزو، وأسرّ ذلك، وورّى عنه حتى لا تعلم به قريش، وإنّما أرسل حاطب -رضي الله عنه- بالرسالة مع الظعينة على جهة التستر والتكتم لما يعلمه من شناعة فعله وخطره على المسلمين، وأنّ قريشًا تفرح به، فتكون له بذلك اليد عندهم، وإنّما تكون له اليد عندهم بأمرٍ تكون فيه المصلحة لهم، والنكاية بالمسلمين، كيف والرسول -صلى الله عليه وسلم- هو رأسهم، حتى قال الإمام الشافعي في بيان شناعة ما فعل حاطب رضي الله عنه: "لا أعلم أحدًا أتى في مثل هذا أعظم في الظاهر من هذا، لأنّ أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مباين في عظمته لجميع الآدميين بعده"الأم للإمام الشافعي (5/610)..
ثم إنّ الوحي قد نزل على النبي -صلى الله عليه وسلم- بخبر الكتاب، وبعث النبي -صلى الله عليه وسلم- في طلبه، وحرص ألا يبلغ قريشًا، ولما أدرك الصحابة الذين أرسلهم النبي -صلى الله عليه وسلم- المرأة ومعها الكتاب بالغت في الإنكار لما تعلمه من خطره، لكنهم شدّدوا عليها، حتى ألزموها بأن تخرج الكتاب أو ينزعوا عنها ثيابها لإخراجه! ثم إنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- طلب حاطبًا -رضي الله عنه- وسأله عمّا حمله على ما فعل، وكان عذر حاطب -رضي الله عنه- أنّه لم يفعل ذلك ردّةً عن الدين، فعلم أنّ فعله يحتمل ذلك، وإنّما شدّد عمر -رضي الله عنه- في أمر حاطب -رضي الله عنه- واستأذن النبي -صلى الله عليه وسلم- في قتله، لعلمه بشناعة ما فعله حاطب، حتى حمل فعله على الكفر، ولم يجد له عذرًا، حتى بين له النبي -صلى الله عليه وسلم- أنّه مع شناعة فعله لم يكفر، لأنّه إنما أراد مصانعة قريش لحماية أهله وماله بمكة، لا أنّه بذلك قد والاهم على دينهم، وفي كل هذا الدلالة على أنّ ما حصل من حاطب -رضي الله عنه- موالاة للمشركين.
وقد جاء في بعض روايات الحديث أنّ قصة حاطب -رضي الله عنه- هي سبب نزول قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة:1]. لكن ذكر الإمام مسلم عن إسحاق بن راهويه أنّ ذلك مدرج من كلام سفيان بن عيينةصحيح مسلم (4/1942).، وأمّا الإمام البخاري فذكر عن سفيان قوله عن الآية: "لا أدري الآية في الحديث أو قول عمرو"فتح الباري لابن حجر (8/634). يعني: ابن دينار، وهو الذي روى سفيان الحديث عنه.
ومع ذلك فالعلماء إذا ذكروا الآية ذكروا قصة حاطب، ونصّوا على أنّ قصة حاطب هي سبب نزولهاانظر مثلًا: تفسير ابن كثير (8/85-86)، وفتح القدير للشوكاني (5/210)، ومجموع فتاوى ابن تيمية (7/523).. ونسب الواحدي ذلك في أسباب النزول إلى جماعة المفسرينانظر: أسباب النزول للواحدي (485)..
وسواء قيل إنّ القصة هي سبب نزول الآية، فيكون في ذلك النصّ على أنّ ما فعله حاطب موالاة للكفار، لكون الآية قد نصّت عليه، أو قيل إنّ ما حصل من حاطب داخل في عموم موالاة الكفار، وإن لم تكن الآية قد نزلت بسببه، فالنتيجة في الحالين ثبوت تحقق موالاة الكفار من حاطب رضي الله عنه.
ولولا أنّ هذا الأمر قد خالف فيه من خالف بلا بينة، ورأى أنّ ما فعله حاطب -رضي الله عنه- لا يدخل في عموم موالاة الكفار لما احتاج الأمر إلى بيان.
ومن ذلك ما ذكره صاحب كتاب "حدّ الإسلام وحقيقة الإيمان"، حيث ادعى أنّ ما فعله حاطب لا يدخل في عموم موالاة الكفار، وأصل الإشكال في قوله أنّه قد حكم بأنّ موالاة الكفار كفر مطلقًا، فكان يلزمه إذا اعتبر ما فعله حاطب موالاة للكفار أن يحكم بكفره، فذهب فرارًا من هذا اللازم إلى إخراج فعله من عموم الموالاة للكفار.
وفي تحديده لمعنى موالاة الكفار يقول: "وحددت الموالاة بأنّها المظاهرة والمناصرة والدلّ على عورات المسلمين"حدّ الإسلام وحقيقة الإيمان عبد المجيد الشاذلي (529)..
وادعى أنّ الإمام ابن جرير قد كرّر هذا المعنى في تفسيره، وجعله مناطًا للكفر، فقال: "وتكرر في التفسير دخول الدلّ على عورات المسلمين في معنى موالاة الكافرين، وواضح من هذا أنّه كفر لهذا الدخول في مناط حكم الله عليه بالكفر"المرجع السابق (526)..
ولما كان يلزمه بناء على هذا التحديد لمفهوم الموالاة المكفرة أن يكون حاطب -رضي الله عنه- قد وقع في موالاة الكفار، فيلزم أن يكون كافرًا، أخرج فعل حاطب -رضي الله عنه- عن مفهوم الموالاة للكفار، وادّعى أنّه ليس من مظاهرة المشركين فقال: "واضح من فعل حاطب أنّه رأى أنّه يمكن أن يفيد من أمر لن يضر المسلمين، بل كتب للكفار بذلك قائلًا: "إنّه لو قاتلكم وحده لانتصر عليكم، فإنّ الله وعده النصر، وهو لا بد لاقيه، ومع ذلك فقد جاءكم بما لا قبل لكم به، فسارعوا إلى الإسلام". سقطة في لحظة ضعف، افتقد فيها التوكل، ووقع في سوء التأويل، ولكن لم يذهب القصد إلى المظاهرة لتغليبهم على المسلمين، أو دلّهم على عورات المسلمين ومقاتلهم التي لا نجاة للمسلمين منهم بعدها، وقد تبيّن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قصده، وقال: إنّه قد صدق، فهو لم يتركه مع وقوع فعل الموالاة منه، إنّما تبيّن له صدقه، فخرج فعله عن وصف موالاة الكافرين إلى مجرد وصف التجسس أو خيانة سرّ الرسول صلى الله عليه وسلم"المرجع السابق (528)..
وواضح أنّ ما ذكره في معنى الموالاة لازم له في فعل حاطب، وأنّ قوله إنّ حاطبًا ظنّ أنّه يفيد من أمر لن يضر المسلمين مجرد دعوى، إذ كيف يخفي الكتاب، ويأمل أن تكون له يد عند كفار قريش لو لم يكن لهم فيه مصلحة ويكون فيه الضرر على المسلمين؟ وكيف لم يعتذر بذلك حين سأله النبي -صلى الله عليه وسلم- عمّا حمله على ما فعل؟ ثم كيف يكون الأمر على هذا المعنى ثم يقال مع ذلك إنّ ما فعله حاطب هو سقطة في لحظة ضعف، افتقد فيها التوكل، ووقع في سوء التأويل، ووصف فعل حاطب بأنّه خيانة لسرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ثم ما معنى وصف فعل حاطب بالتجسس وإخراجه مع ذلك عن كونه موالاة للكفار، مع أنّ التجسس على المسلمين قد يكون أخطر من كثير من مظاهر الموالاة للكفار؟ ولا دليل له على ما ذكر إلا مجرّد التحكّم الذي أوقعه في التناقض.
وأما ما استند إليه في تبرير إخراج فعل حاطب عن كونه موالاة للكفار من أنّ حاطبًا قد كتب إلى المشركين يتوعدهم، ويدعوهم إلى الإسلام، فلم يذكر لقوله إسنادًا يحكم عليه، وقد ذكر الإمام القرطبي نحو ما ذكره، وقال بعده: "ذكره بعض المفسرين"الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (18/50).. وذكره الحافظ ابن حجر ونسبه إلى بعض أهل المغازي، ولم يحكم عليهانظر: فتح الباري لابن حجر (7/521).، وحكاه الشوكاني عن السهيلي، ولم يحكم عليه أيضًاانظر: نيل الأوطار للشوكاني (8/156).، فأي حجة في مثل هذا.
ومن تأمّل الروايات الثابتة في قصة حاطب -رضي الله عنه- علم أنّه لا يمكن أن يقال فيما فعله إنه مما لا يتضرر به المسلمون، فكيف تترك الروايات الثابتة، وتنفى دلالتها على أنّ ما فعله حاطب -رضي الله عنه- داخل في عموم مظاهرة المشركين، لمجرّد هذه الحكاية التي يذكرها أهل المغازي بلا إسناد، بل إنّه على فرض التسليم بها وأنّها ثابتة فإنّ فيها إفشاء سرّ الرسول صلى الله عليه وسلم، سواء توعدهم فيها أو لم يتوعدهم.
وأما دلالة قصة حاطب رضي الله عنه- على أنّه لا يلزم الكفر من موالاة الكفار ومظاهرتهم وإعانتهم على المسلمين لمجرد غرض دنيوي: فظاهرة أيضًا، فإنّ في سؤال النبي -صلى الله عليه وسلم- لحاطب عن الحامل له على ما فعل، وفي جواب حاطب رضي الله عنه، وتصديق النبي -صلى الله عليه وسلم- له، وردّه على عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- حين حكم بنفاق حاطب ما يدل على أنّ ما فعله حاطب -رضي الله عنه- ليس كفرًا لذاته، بل هو معصية كفَّرها شهوده بدرًا.
ووجه دلالة سؤال النبي -صلى الله عليه وسلم- لحاطب -رضي الله عنه- على ذلك: أنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- ابتدأ بسؤال حاطب عن الحامل له على ما فعل، لأنّ حكم الفعل لا يتبين في مثل حال حاطب إلا إذا تبين الحامل عليه، فإنّه وإن كان موالاة للكفار في الظاهر لكن قد يكون الحامل على تلك الموالاة الشك في الدين وموالاة الكفار على دينهم، فتكون كفرًا، وقد تكون لمجرد غرض دنيوي مع ثبوت أصل البراءة من الكفار فتكون معصية دون الكفر، وإذا احتمل الفعل الكفر وعدمه لم يجز إطلاق الحكم على من فعله قبل التثبت بمعرفة مناط الحكم، وهذا هو الذي فعله النبي -صلى الله عليه وسلم- مع حاطب رضي الله عنه.
وقد نصّ الإمام الشافعي على دلالة الاحتمال في فعل حاطب رضي الله عنه، ونقل ذلك عنه الربيع في الأم فقال: "قيل للشافعي رحمة الله عليه: أرأيت المسلم يكتب إلى المشركين من أهل الحرب بأنّ المسلمين يريدون غزوهم، أو بالعورة من عوراتهم، هل يحلّ ذلك دمه، ويكون ذلك دلالة على ممالأة المشركين على المسلمين؟
قال الشافعي رحمه الله تعالى: لا يحل دم من ثبتت له حرمة الإسلام إلا أن يقتل، أو يزني بعد إحصان، أو يكفر كفرًا بيّنًا بعد إيمان، ثم يثبت على الكفر، وليس الدلالة على عورة مسلم، ولا تأييد كافر بأن يحذّر أنّ المسلمين يريدون منه غِرّة ليحذرها، أو يتقدم في نكاية المسلمين بكفرِ بيّـنِ.
فقلت للشافعي رحمه الله: أقلت هذا خبرًا أم قياسًا؟ قال: قلته بما لا يسع مسلمًا علمه عندي أن يخالفه بالسنة المنصوصة، بعد الاستدلال بالكتاب، فقيل للشافعي رحمة الله عليه: فاذكر السنة فيه، فذكر حديث حاطب، ثم قال في وجه بيان وجه دلالة الاحتمال فيه على أنّ ما فعله حاطب ليس بكفر: "في هذا الحديث مع ما وصفنا لك طرح الحكم باستعمال الظنون، لأنّه لما كان الكتاب يحتمل أن يكون ما قال حاطب كما قال من أنّه لم يفعله شاكًا في الإسلام، وأنّه فعله ليمنع أهله، ويحتمل أن يكون زلّة، لا رغبة عن الإسلام، واحتمل المعنى الأقبح، كان القول قوله فيما احتمل فعله، وحكم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأن لم يقتله، ولم يستعمل عليه الأغلب، ولا أعلم أحدًا أتى في مثل هذا أعظم في الظاهر من هذا، لأنّ أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مباين في عظمته لجميع الآدميين بعده، فإذا كان من خابر المشركين بأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يريد غرتهم فصدّقه على ما عاب عليه من ذلك، غير مستعمل الأغلب مما يقع في النفوس، فيكون لذلك مقبولًا، كان مَن بعده في أقل من حاله، وأولى أن يقبل منه مثل ما قبل منه.
قيل للشافعي رضي الله عنه: أفرأيت إن قال قائل: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (قد صدق) إنّما تركه لمعرفته بصدقه، لا بأنّ فعله كان يحتمل الصدق وغيره، فيقال له: قد علم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنّ المنافقين كاذبون، وحقن دماءهم بالظاهر، فلو كان حكم النبي -صلى الله عليه وسلم- في حاطب بالعلم بصدقه كان حكمه على المنافقين بالعلم بكذبهم، ولكنّه إنّما حكم في كلٍ بالظاهر، وتولى الله -عز وجل- منهم السرائر، ولئلا يكون لحاكم بعده أن يدع حكمًا له مثل ما وصفت من علل أهل الجاهلية، وكل ما حكم به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فهو عامّ حتى تأتي عنه دلالة على أنّه أراد به خاصًّا، أو عن جماعة المسلمين الذين لا يمكن فيهم أن يجهلوا له سنة، أو يكون ذلك في كتاب الله جل وعزّ "الأم للإمام الشافعي (5/609-611)..
وما ذكره الإمام الشافعي في دلالة قصة حاطب -رضي الله عنه- على الاحتمال في فعله، وأنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يكفّر حاطبًا، لأنّ فعله يحتمل الكفر وما دونه فقه متين، والدلالة فيه واضحة، لا ينكرها إلا جاهل بما بيّنه الإمام الشافعي أو جاحد معاند.
وقد سئل الإمام الشافعي عن أمرين يدخلان في عموم موالاة الكفار ومظاهرتهم على المسلمين، وهي مكاتبة المشركين من أهل الحرب بأنّ المسلمين يريدون غزوهم، أو دلالة المشركين على عورة المسلمين التي يتضرر المسلمون بكشفها لأعدائهم من الكفار، وهل يحل دم من حصل منه ذلك.
وكان جواب الإمام الشافعي بأنّ ما ذكر مما هو من مظاهرة المشركين، وما هو أبلغ منه في المظاهرة، وهو التقدم في نكاية المسلمين، بأن يقاتل المسلمين مع المشركين ليس من الكفر البيِّن. وإنّما قال الإمام الشافعي إنّ التقدم في نكاية المسلمين ليس بكفر بيّن، لأنّ مجرّد قتل المسلم للمسلم ليس في ذاته كفرًا، لا فرق بين أن يكون قتل المسلم للمسلم من غير إعانة للكفار على المسلمين، أو مع إعانتهم على قتال المسلمين، وليس مع من فرق بين الحالين من جهة اقتضاء الحكم بالكفر بيّنة، وهذا يدل على أنّ كل ما يكون في الظاهر من موالاة الكفار ومظاهرتهم على المسلمين ليست لذاتها من الكفر البين، لأنّه لم يدل نص على أنّ شيئًا منها يكون من الكفر، وإنّما دل الدليل من الكتاب والسنة على أنّها ليست لذاتها من الكفر، وهذا معنى قول الإمام الشافعي في بيان مستنده في الدلالة على ما قال: "قلته بما لا يسع مسلمًا علمه عندي أن يخالفه بالسنّة المنصوصة، بعد الاستدلال بالكتاب".
ومقتضى قول الإمام الشافعي هذا أنّه يجزم بالإحكام في دلالة حديث حاطب على عدم التكفير بمظاهرة المشركين لغرض دنيوي، وإذا كانت دلالة الحديث محكمة في ذلك فلا يمكن وجود دليلٍ من الكتاب أو السنة يخالف دلالته، وعلى هذا فلا يكون في الآيات الدالة على التكفير بموالاة الكفار ما يعارض دلالة الحديث عند الإمام الشافعي، كيف وقد صرّح بأنّ ما هو معلوم بالسنة في هذه المسألة هو معلوم أيضًا بدلالة الكتاب. لكن لما لم يطلب من الإمام الشافعي إلا دلالة السنة على ما قال ذكرها، واكتفى في ذلك بدلالة قصة حاطب رضي الله عنه، وليت أنّه قد طُلب منه أن يبيّن دلالة الكتاب على أنّ مظاهرة الكفار ليست كفرًا لذاتها، ليتبيّن عند من يستدل بالآيات الدالة على التكفير بموالاة الكفار على التكفير بمطلق الموالاة أنّه ليس في تلك الآيات ما يدل على ذلك.
والإمام الشافعي أعلم وأجلّ من أن يجهل دلالة الآيات الواردة في التكفير بموالاة الكفار على كثرتها، أو أن ينصّ على الإحكام في دلالة حديث حاطب مع علمه بما يعارض دلالة الحديث في تلك الآيات، بل لا يمكن أن تدلّ عنده على ما يناقض ما بيّنه من الدلالة المحكمة في حديث حاطب، فعلى من يدّعي الإحكام في دلالة الآيات على التكفير بمطلق الموالاة للكفار، ويدّعي في حديث حاطب التشابه، ويسلك في بيان دلالته التأويل ليوافق ما يدعيه من دلالة تلك الآيات أن يتأمّل هذا الموطن، ويتجرّد للحقّ، ليعلم أنّ ما بيّنه الإمام الشافعي في هذه المسألة هو الحقّ الذي لا تختلف الأدلة من الكتاب والسنّة في الدلالة عليه.
ومستند الإمام الشافعي في قصة حاطب -رضي الله عنه- على أنّ مظاهرة المشركين ليست من الكفر البيّن: أنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يحكم بكفر حاطب بمجرد ما حصل منه من مظاهرة المشركين، مع أنّه لا أحد يمكن أن يأتي في مظاهرة المشركين بأعظم مما فعل حاطب رضي الله عنه، لأنّ حاطبًا قد ظاهر المشركين على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أحد بعد حاطب يمكن أن تبلغ به المظاهرة إلى هذا الحدّ، لأنّ "أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مباين في عظمته لجميع الآدميين".
ومع تشديد الإمام الشافعي في شأن ما حصل من حاطب من مظاهرة المشركين إلا أن ذلك عنده ليس من الكفر البيّـن، لأنّ فعل حاطب يحتمل "أنّه لم يفعله شاكًا في الإسلام، وأنّه فعله ليمنع أهله"، كما يحتمل فعله "المعنى الأقبح" وهو الكفر، وإذا ورد الاحتمال في فعل حاطب "كان القول قوله فيما احتمل فعله"، لأنّه لا بيّنة من نفس الفعل مع شناعته على أنّه لا يحتمل إلا الكفر، وإذا انتفت دلالة الفعل لذاته على الحكم بالكفر لم يبق إلا دلالة القول على ما يحتمله الفعل، وإذا لم يكن ما فعله حاطب كفرًا لذاته، مع كونه أظهر ما يمكن أن يكون من مظاهرة المشركين عند الإمام الشافعي، فمن باب أولى ألا يكون ما دون ذلك من مظاهرة المشركين كفرًا لذاته.
ثم نبّه الإمام الشافعي بعد ذلك على أمر مهم، وهو أنّه قد يقع في النفس ترجيح الاحتمال بالكفر بمجرّد الموالاة الظاهرة للمشركين، ويحذر الإمام الشافعي من الاستناد إلى مجرّد دلالة الفعل في ذلك، وإن غلب على النفوس من ذلك ما يغلب، والاكتفاء بدلالة القول، لكونه وحده المنبئ عن الاعتقاد الباطن في حال مظاهرة المشركين لأجل دينهم.
وما ذكره الإمام الشافعي هنا عام في التفريق بين ما هو كفر لذاته وبين ما يكون الكفر به متعلقًا بالباطن، بحيث لا يحكم على فاعله بالكفر إلا من جهة دلالة القول على الكفر الباطن، فما كان كفرًا لذاته لم يشترط في تكفير المعين به التثبت من اعتقاده الباطن بدلالة القول عليه، وإنّما يكتفى بالتثبت من تحقق شروط التكفير وانتفاء موانعه في حقه، بخلاف الذنوب التي دون الكفر، فإنّها لا تكون كفرًا لذاتها، وإنّما يكون الكفر بما يكون في الباطن من الاعتقاد الذي هو كفر، كاستحلال المعصية، فمن تقرّب لغير الله بعبادةٍ من العبادات مثلًا فإنّه يكفر بذلك، ولا ينظر في دلالة قوله على اعتقاده الباطن، وإنّما يتثبت معه من تحقّق شروط التكفير وانتفاء موانعه، بخلاف من فعل معصية دون الكفر، كالزاني والسارق وشارب الخمر، فإنّه لا يكفر بها، ولا دلالة في مجرّد تكرارها والإصرار عليها والمجاهرة بها على استحلالها، لكن إن دلّ قوله على استحلالها حكم بكفره حينئذ.
وعلى هذا يكون الاحتمال الذي يقصده الإمام الشافعي في فعل حاطب هو من قبيل الاحتمال في حكم الفعل من جهة ما قد يتحقق في الباطن من الكفر، مما لا دلالة عليه إلا بالقول، وليس من قبيل الاحتمال في حكم من فعل ما هو كفر، وهل تحقّقت فيه شروط التكفير وانتفت موانعه أم لا. فيكون مستند الاحتمال على المعنى الأول عدم اليقين بالكفر الباطن الذي لا دليل عليه بمجرد الفعل الذي هو معصية، وإنّما لابد فيه من دلالة القول، وأمّا مستند الاحتمال على المعنى الثاني فهو عدم اليقين بكفر من فعل ما هو كفر لاحتمال أن يكون معذورًا بشيء من موانع التكفير.
والذي أشكل على بعض من أخطأ في فهم فقه هذه القصة أنّهم لم يفرقوا بين هذين الاحتمالين، وظنّوا أنّه يمكن القول إنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قد سأل حاطبًا بقوله: (ما حملك على ما صنعت) ليعلم منه هل له شبهة تدرأ عنه الحكم بالكفر أم لا؟ وليس الأمر كذلك، وإنّما سأله النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الحامل له على ما فعل، لأنّه قد وقع في مخالفة شنيعة هي على ما سبق من قول الإمام الشافعي أظهر ما يمكن أن يكون من مظاهرة المشركين، وأنّ مثل ما فعل حاطب لا يفعله في الغالب إلا أهل النفاق، وأنّه كيف يكون ذلك من حاطب مع مكانته وعلم النبي -صلى الله عليه وسلم- بفضله وسابقته، فهذا يستدعي معرفة الدافع له على ما صنع، ولهذا كان في جواب حاطب نفي أن يكون قد فعل ذلك نفاقًا وشكًّا في الإسلام، والاعتراف بأنّه قد فعل ذلك لغرض دنيوي هو حماية أهله وماله بمكة، فلم يُجِب النبي -صلى الله عليه وسلم- بما يدل على اعتذاره بما هو من موانع التكفير، من جهل أو شبهة أو إكراه، وإنّما اعتذر ببيان أنّ ما حصل منه من مظاهرة المشركين ليس الحامل عليه محبتهم أو إعانتهم على المسلمين لأجل دينهم، وهذا هو مناط الكفر بمظاهرة المشركين، وإنّما حمله على ذلك حماية أهله وماله، ولو كان فعل حاطب كفرًا لذاته ما جاز له أن يعتذر بأنّ فعله لذلك الكفر كان لغرض دنيوي، ولما قبل منه النبي -صلى الله عليه وسلم- عذره. ولو أمكن قبول اعتذاره بالغرض الدنيوي مع كون فعله من الكفر لأمكن أن يكون الغرض الدنيوي عذرًا في فعل كل ما هو كفر.
ومن تأمّل الفرق بين هذين الاحتمالين، وعرف على أيّ معنى منهما يحمل فعل حاطب: انحلّ عنده الإشكال في هذا الباب.
وحين تبيّن للسائل الذي سأل الإمام الشافعيَّ أنّ الأمر في حكم مظاهرة المشركين محسوم عند الإمام الشافعي، وأنّ الفعل فيها لا يمكن أن يكون كفرًا لذاته، انتقل السائل إلى اعتراض يمكن به -لو سلم- تخصيص الحكم في قصة حاطب بحاطبٍ وحده، بحيث لا تكون قصته دليلًا على نفي الكفر عن مظاهرة المشركين مطلقًا، وإنّما تكون دليلًا على نفي الكفر عن حاطب استنادًا إلى أنّه يمكن أن يكون النبي -صلى الله عليه وسلم- قد حكم بصدق حاطب ولم يحكم بكفره لأنّه قد علم ذلك بالوحي، لا لأنّ فعل حاطب كان يحتمل الصدق وغيره.
وهنا أجاب الإمام الشافعي عن هذا الاعتراض باعتراض ينقضه من أصله، وهو أنّه لو سلم هذا الاعتراض في حال حاطب فكيف يكون الأمر في حكم المنافقين، وقد علم النبي -صلى الله عليه وسلم- كذبهم بالوحي، ولم يحكم عليهم بالكفر في الظاهر، بل اكتفى منهم بالظاهر من حالهم، فكذلك الأمر في حال حاطب، إنّما حكم عليه بمقتضى الظاهر، لا بأمر باطن لا يعلمه إلا الله، وحاصل ذلك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- "إنما حكم في كل بالظاهر"، فلا بد أن يكون النبي -صلى الله عليه وسلم- في تصديقه لحاطب قد اكتفى منه بقوله، ولم يحكم بصدقه لكونه قد علم ذلك بوحي من الله تعالى.
والذي يستنتج من كلام الإمام الشافعي أنّ الكفر بموالاة الكفار عنده هو من الكفر الباطن، الذي يكون به النفاق وإن لم يدل عليه دليل في الظاهر، وأنّ ما يكون في الظاهر من موالاة الكفار لا يكفي لذاته عند الإمام الشافعي دليلًا على الكفر الباطن، وأنّه لا سبيل إلى ذلك إلّا بدلالة القول، فإنّه إذا كان ما فعله حاطب من مظاهرة المشركين هو أظهر ما يكون من موالاة الكفار في الظاهر، ولم يمكن الحكم على حاطب بالكفر لعدم إمكان دلالة الفعل لذاته على ذلك لم يمكن الحكم على شيء من الموالاة الظاهرة للكفار أنّها كفر لذاتها، لأنّها دون ما حصل من حاطب من مظاهرة المشركين على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذه النتيجة المستنبطة من قصة حاطب عند الإمام الشافعي تتفق مع ما سبق تقريره في بيان دلالة الآيات الواردة في الحكم بالكفر بموالاة الكفار، وأنّها مقيدة بموالاة الكفار على دينهم، على ما سبق تفصيله.
وبهذا يُعلم أنّه لا دلالة في مجرّد مظاهرة المشركين في الظاهر على الكفر الباطن، لأنّ مجرد الموالاة الظاهرة للكفار -وإن تكررت- لا تدلّ لذاتها على أنّها لأجل دينهم، لاحتمال أن تكون لغرض دنيوي، فلا يجوز الحكم بكفر المعيّن في الظاهر مع احتمال أن لا يكون فعله كفرًا، ولا يلزم من ذلك الجزم بعدم كفره في الباطن، بل قد يكون كافرًا في الباطن، كشأن غيره من المنافقين الذين يُحكم بإسلامهم في الظاهر، مع كونهم كفارًا في الباطن.
وأما دلالة جواب حاطب للنبي -صلى الله عليه وسلم- على عدم التكفير بمظاهرة المشركين لمجرد غرض دنيوي، فلِما تقرّر من أنّ ما فعله حاطب كان مظاهرة للمشركين، فإذا اعتذر حاطب عن مظاهرته للمشركين بحماية أهله وماله بمكة، ولم يحكم عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- بالكفر لأجل ذلك، دلّ ذلك على أنّ مظاهرة المشركين لمجرد غرض دنيوي ليست كفرًا.
وتأمّل بإنصاف جواب حاطب -رضي الله عنه- للنبي صلى الله عليه وسلم، وأنّه قد فرّق بين موالاة الكفار لأجل دينهم وبين موالاتهم لمجرد غرض دنيوي، حيث نفى عن نفسه أن يكون قد ظاهر المشركين عن شكٍّ في الإسلام وردّةٍ عنه، لكنّه أقرَّ بأنّه قد فعل ما فعل لحماية أهله وماله بمكة، ومع علمه أنّ موالاة الكفار لغرض دنيوي معصية شنيعة إلا أنّه يعلم أيضًا أنّها ليست كفرًا، ولو كان حكمهما عنده واحدًا ما كان لاعتذاره وتفريقه بين الحالين معنى، وقد أقرّه النبي -صلى الله عليه وسلم- على هذا التفريق، وأخبر بصدقه في نفي النفاق عن نفسه، وأخبر بأنّ ما حصل منه من المعصية التي دون الكفر قد غفرها الله له بشهوده بدرًا، فأيّ حجّة لمن يدّعي المساواة بين موالاة الكفار على دينهم وبين موالاتهم لمجرّد غرض دنيوي بعد هذا؟!
وقد تقدّم أنّه لا يمكن أن يكون ما فعله حاطب من مظاهرة المشركين كفرًا ثم يعتذر عنه بحماية أهله وماله، فيكون في ذلك ما يمنع من تكفيره، لأنّه لا يمنع من الحكم بالكفر أن يراد به الدنيا، بل أكثر ما يكون الكفر لإرادة الدنيا، فكيف يكون هو العذر المانع من كفر حاطب رضي الله عنه.
وقد استند العلماء إلى اعتذار حاطب رضي الله عنه- في هذا الحديث في التفريق بين موالاة الكفار على دينهم وموالاتهم لمجرد غرض دنيوي، وأنّ الكفر إنّما يكون بموالاة الكفار على دينهم، لا بمجرد موالاتهم لغرض دنيوي.
ومن ذلك ما سبق ذكره عن الإمام الشافعي في التفريق بين الأمرين حيث قال: "في هذا الحديث مع ما وصفنا لك طرح الحكم باستعمال الظنون، لأنّه لما كان الكتاب يحتمل أن يكون ما قال حاطب كما قال، من أنّه لم يفعله شاكًا في الإسلام، وأنّه فعله ليمنع أهله، ويحتمل أن يكون زلّة لا رغبة عن الإسلام، واحتمل المعنى الأقبح، كان القول قوله فيما احتمل فعله"الأم للإمام الشافعي (5/610)..
فالإمام الشافعي قابل بين مظاهرة المشركين إذا كانت عن شك في الإسلام ورغبة عنه، وهو المقصود بالمعنى الأقبح، وبين أن يكون حاطب غير شاكّ في الإسلام ولا راغب عنه، وإنّما فعل ما فعل ليمنع أهله وماله، فلا يكون ما فعله حاطب من مظاهرة المشركين كفرًا لذاته عند الإمام الشافعي، وإنّما يكون معصية دون الكفر، ولو أمكن أن تكون مظاهرة المشركين كفرًا في ذاتها عنده ما أطلق تقييد الكفر بها بالشك في الإسلام، فيكون اعتذار حاطب عن فعله بأنّه إنّما أراد أن يمنع أهله وماله بمكة هو المانع من تكفيره، لأنّه قد اعتذر بما هو معصية، فلا يحكم عليه بالكفر لأجلها، وعلى هذا لا يكون الكفر بالموالاة عند الإمام الشافعي إلا إذا كانت موالاة الكفار على جهة الشك في الإسلام المقتضي لموالاة الكفار على دينهم.
وممّن نصّ على أنّ موالاة الكفار لمجرد غرض دنيوي ليست كفرًا: شيخ الإسلام ابن تيمية، حيث ذكر بعض الآيات التي استدل بها على التكفير بموالاة الكفار، ثم قال بعدها: "وقد تحصل للرجل موادّتهم لرحم أو حاجة، فتكون ذنبًا ينقص به إيمانه، ولا يكون به كافرًا، كما حصل من حاطب بن أبي بلتعة، لما كاتب المشركين ببعض أخبار النبي صلى الله عليه وسلم، وأنزل الله فيه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} [الممتحنة:1]مجموع فتاوى ابن تيمية (7/522-523)..
وإذا كان قد سبق بيان ما في كلام شيخ الإسلام هذا من أنّ الحكم بالكفر في الآيات الواردة في التكفير بموالاة الكفار مقيد بموالاتهم على دينهم، فإنّ في كلامه ما يدل أيضًا على أنّ موالاة الكفار لمجرد غرض دنيوي كالذي حصل من حاطب ليست كفرًا عنده، بل يكون كما قرّر شيخ الإسلام مما ينقص به الإيمان ولا يكون به الكفر، وإذا كان ما فعله حاطب –رضي الله عنه- مما ينقص به الإيمان ولا يكون من الكفر كان حكم ما فعل حاطب كحكم غيره من المعاصي التي دون الكفر، من حيث أنّها لا تحتمل الكفر لذاتها، وإنّما تكون كفرًا من جهة ما يكون في الباطن من الاعتقاد الذي هو كفر، والذي لا يمكن الاطلاع عليه والحكم عليه بمجرد الفعل الظاهر، وإنّما يدل عليه القول فقط، كالذي يستحل المعصية مثلًا، فإنّ الاستحلال وإن كان كفرًا إلا أنّه لا يمكن الحكم على معين به بمجرد فعله الظاهر، لكن إذا أعلنه بلسانه وأقرّ به حكم عليه به.
وقد نصّ شيخ الإسلام ابن تيمية على أنّ ما حصل من حاطب مجرد معصية، حيث قال في التعليق على بعض ما حصل من الصحابة من ذنوب: "فهذه أمور صدرت عن شهوة وعجلة، لا عن شك في الدين، كما صدر من حاطب التجسس لقريش، مع أنّها ذنوب ومعاصي يجب على صاحبها أن يتوب"الصارم المسلول لابن تيمية (2/372)..
وهذا نصّ في التفريق بين ما يكون به الكفر في الموالاة وما لا يكون به الكفر عند شيخ الإسلام ابن تيمية، فالذي يكون به الكفر في الموالاة عنده هو ما يكون عن شكّ في الدين، وهو الذي نفاه حاطب عن نفسه، والذي لا يكون به الكفر عنده ما لم يكن كذلك، كالذي حصل من حاطب من موالاة الكفار لمجرد غرض دنيوي، فيكون معصية لكون الحامل عليه الشهوة لا الشك في الدين.
وممن استدل بفعل حاطب -رضي الله عنه- على أنّ مظاهرة المشركين لغرض دنيوي ليست كفرًا الإمام ابن كثير، حيث ذكر بعض الآيات الدالة على التكفير بموالاة الكفار، ثم قال بعدها: "ولهذا قبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عذر حاطب لما ذكر أنّه إنّما فعل ذلك مصانعة لقريش لأجل ما كان له عندهم من الأموال والأولاد"تفسير ابن كثير (8/86)..
وإنّما أراد الإمام ابن كثير بقبول الرسول -صلى الله عليه وسلم- عذر حاطب أنّه لم يكفره، لأنّه قد ذكر عذرًا يمنع من تكفيره، وهو حماية أهله وماله بمكة، وعلى هذا يكون حكم كل من حصلت منه الموالاة للكفار لمجرد غرض دنيوي كحكم حاطب رضي الله عنه، فلا يكفر بذلك.
وممن نصّ على أن مظاهرة المشركين لمجرد غرض دنيوي ليست كفرًا استنادًا إلى قصة حاطب الإمام القرطبي، حيث قال: "من كثر تطلعه على عورات المسلمين، وينبه عليهم، ويعرف عدوهم بأخبارهم، لم يكن بذلك كافرًا، إذا كان فعله لغرض دنيوي، واعتقاده على ذلك سليم، كما فعل حاطب حين قصد بذلك اتخاذ اليد، ولم ينو الردّة عن الدين"الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (18/52)..
واستدلال الإمام القرطبي بقصة حاطب على عدم التكفير بموالاة الكفار لمجرد غرض دنيوي ظاهر، حيث ذكر بعض مظاهر الموالاة للكفار، وهي مما يكفر به من يكفر بمطلق الموالاة للكفار، ثم نصّ على أنّها لا تكون كفرًا إذا كانت لمجرد غرض دنيوي، ودليله على ذلك فعل حاطب، حيث حصلت منه الموالاة للكفار، ثم لم يحكم النبي -صلى الله عليه وسلم- بكفره، لما جاء في قصته من اعتذاره بما هو من الغرض الدنيوي.
وللشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن آل الشيخ رسالة مفردة في حكم موالاة الكفار وبعض مسائل التكفير، ذكر في أوّلها أنّ الباعث له على كتابتها أنّ بعض أهل زمانه ممّن يدعي العلم غلوا في التكفير، حيث كفّروا حكّام زمانهم، بحجّة أنّهم يكاتبون من يعتقد أولئك الغلاة كفرهم، بل إنّهم كفّروا من خالط من كاتبهم من مشايخ المسلمين، وذكر عنهم أنّهم خاضوا في مسائل من هذا الباب، كالكلام في الموالاة والمعاداة، والمصالحة، والمكاتبات، وبذل الأموال والهداياانظر: الدرر السنية في الأجوبة النجدية (1/233)..
وقد ذكر في الردّ عليهم دلالة قصة حاطب -رضي الله عنه- على عدم التكفير بمطلق الموالاة، وأنّ ما فعله حاطب -رضي الله عنه- لم يكن من الكفر، لأنّه "إنّما فعل ذلك لغرض دنيوي"، ثم بيّن أنّ الآيات الواردة في التكفير بموالاة الكفار لا تعارض ذلك، لأنّها مقيدة بالموالاة المطلقة العامة.
وقد ذكر الحديث في قصة حاطب رضي الله عنه، وذكر قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة:1]. ثم قال: "فدخل حاطب في المخاطبة باسم الإيمان، ووصفه به، وتناوله النهي بعمومه، وله خصوص السبب الدال على إرادته، مع أنّ ما في الآية الكريمة ما يشعر أنّ فعل حاطب نوع موالاة، وأنّه أبلغ إليهم بالمودة، وأنّ فاعل ذلك قد ضلّ سواء السبيل، لكن قوله: (صدقكم، خلوا سبيله) ظاهر في أنّه لا يكفر بذلك إذا كان مؤمنًا بالله ورسوله، غير شاكّ ولا مرتاب، وإنّما فعل ذلك لغرض دنيوي، ولو كفر لما قال: (خلوا سبيله) … وأمّا قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ} [المائدة:51]، وقوله تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة:22]، وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة:57]، فقد فسّرته السنّة وقيّدته وخصّته بالموالاة المطلقة العامة"المرجع السابق (1/235-236)..
ومقصوده بتفسير السنّة وتقييدها وتخصيصها لتلك الآيات ما دلت عليه قصة حاطب –رضي الله عنه- من أنّ موالاة الكفار إذا كانت لمجرّد غرض دنيوي لم تكن كفرًا، إذ لا يمكن أن تدل تلك الآيات على التكفير بمطلق الموالاة للكفار مع دلالة الحديث على عدم التكفير بموالاتهم لغرض دنيوي.
ومما سبق من تقريرات العلماء وما حرّروه في مستند التفريق بين الموالاة المكفرة وغير المكفرة يعلم أنّ موالاة الكفار لا تكون كفرًا إذا كانت لمجرد غرض دنيوي، وأنّ قصة حاطب قاطعة في الدلالة على ذلك.
ومن الدلائل في قصة حاطب -رضي الله عنه- على أنّ موالاة الكفار إذا كانت لمجرّد غرض دنيوي لا تكون كفرًا: عدم إقرار النبي -صلى الله عليه وسلم- عمرَ بن الخطاب -رضي الله عنه- في تكفيره لحاطب رضي الله عنه، والذي حمل عمر -رضي الله عنه- على الحكم بكفر حاطب -رضي الله عنه- أنّه ظن أنّ ما فعله حاطب من مظاهرة المشركين على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يحتمل لشناعته إلا الكفر، وأنّه لا يمكن أن يكون له عذر يمنع من تكفيره.
وقد جاء في أكثر روايات حديث حاطب أنّ عمر قد حكم بكفر حاطب واستأذن النبي –صلى الله عليه وسلم- في قتله مرة واحدة، بعد أن سأل النبي –صلى الله عليه وسلم- حاطبًا عن عذره، وما حمله على ما فعل، وبعد اعتذار حاطب، وتصديق النبي -صلى الله عليه وسلم- له.
لكنّه قد ورد في روايات صحيحة أنّ عمر قد كفر حاطبًا واستأذن النبي -صلى الله عليه وسلم- في قتله مرتين، مرّة قبل سؤال النبي -صلى الله عليه وسلم- لحاطب عن الحامل له على ما فعل، ومرة بعد تصديق النبي -صلى الله عليه وسلم- لحاطب رضي الله عنه، وأمر الصحابة ألّا يقولوا له إلا خيرًا.
وقد أخرج الإمام البخاري حديث حاطب في ثمانية مواضع من الجامع الصحيح، إحداها تعليقًا، وجاء في روايتين منها تكرار عمر -رضي الله عنه- تكفيره لحاطب -رضي الله عنه- واستئذانه النبي -صلى الله عليه وسلم- في قتله.
فأما الرواية الأولى فجاء فيها بعد ذكر القصة إلى أن أُتي بالصحيفة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فقال عمر: يا رسول الله، قد خان الله ورسوله والمؤمنين، فدعني فلأضرب عنقه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما حملك على ما صنعت؟) قال حاطب: والله ما بي أن لا أكون مؤمنًا بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم، أردت أن تكون لي عند القوم يدٌ يدفع الله بها عن أهلي ومالي، وليس أحد من أصحابك إلا له هناك من عشيرته من يدفع الله به عن أهله وماله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (صدق، ولا تقولوا له إلا خيرًا)، فقال عمر: إنّه قد خان الله والمؤمنين، فدعني فلأضرب عنقه، فقال: (أليس من أهل بدر؟ فقال: لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة، أو فقد غفرت لكم)، فدمعت عينا عمر، وقال: الله ورسوله أعلم"أخرجه البخاري، كتاب المغازي. (3983)..
وأما الرواية الثانية فجاءت بنحو الرواية السابقة، إلى أن جاء ذكر تكرار عمر -رضي الله عنه- ما قاله في المرة الأولى، وفيها: "فعاد عمر فقال: يا رسول الله، قد خان الله ورسوله والمؤمنين، فدعني فلأضرب عنقه، قال: (أوليس من أهل بدر؟ وما يدريك لعل الله اطلع عليهم فقال: اعملوا ما شئتم فقد أوجبت لكم الجنة)، فاغرورقت عيناه، فقال: الله ورسوله أعلم"أخرجه البخاري، كتاب استتابة المرتدين (6939)..
والمقصود هنا بيان أنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يقرّ عمر -رضي الله عنه- في تكفيره لحاطب رضي الله عنه، لا في المرة الأولى قبل أن يسمع عمر عذر حاطب، وتصديق النبي صلى الله عليه وسلم، ولا في المرة الثانية، بعد أن سمع عذر حاطب وتصديق النبي صلى الله عليه وسلم.
فأما في المرة الأولى فقد دلّت الروايتان السابقتان على أنّ عمر قد بادر بتكفير حاطب قبل أن يسمع عذره، وحكم النبي -صلى الله عليه وسلم- فيه، ولم يرد عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- حينها، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم- سأل حاطباً عمّا حمله على ما صنع، فلمّا بين حاطب عذره، وأنّه لم يكاتب المشركين عن شك في الإسلام، وإنّما كاتبهم حماية لأهله وماله صدّقه النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: لا تقولوا له إلا خيراً.
وإنما سكت النبي -صلى الله عليه وسلم-عن عمر لما حكم بنفاق حاطب ابتداء قبل سماع عذره، لأنّ حكم النبي -صلى الله عليه وسلم- في شأن حاطب إنّما يكون بعد معرفة ما حمله على ما صنع، لأنّ فعل حاطب لا يقتضي لذاته الجزم بنفاقه كما جزم عمر، لكنه لا يقتضي أيضًا الجزم ببراءته من النفاق، فلما كان فعل حاطب محتملًا، كان القول قوله فيما احتمل فعله كما قال الإمام الشافعي.
ولو كان ما فعله حاطب لا يحتمل الكفر، لردّ النبي -صلى الله عليه وسلم- على عمر، كما ردّ على من قال عن مالك بن الدخشم إنّه منافق، لا يحب الله ورسوله، فقال الرسول -صلى الله عليه وسلم- لمن قال ذلك: (لا تقل ذاك، ألا تراه قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله؟ فقال: الله ورسوله أعلم، أما نحن فوالله ما نرى ودّه ولا حديثه إلّا إلى المنافقين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإنّ الله قد حرّم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله)أخرجه البخاري كتاب الصلاة (452). وكتاب التهجد (1186) ومسلم كتاب الإيمان (33)..
فلما كانت شبهة من اتهم مالك بن الدخشم بالنفاق ما رآه فيه "من نوع معاشرة ومودّة للمنافقين"مجموع فتاوى ابن تيمية (21/523). حكم بأنّه منافق، لكن لما كان ذلك لا يحتمل الكفر: ردّ النبي -صلى الله عليه وسلم- على من حكم بنفاقه. بخلاف ما حصل من حاطب فإنّه يحتمل النفاق، وعلى هذا لا يكون النبي -صلى الله عليه وسلم- قد أقرّ عمر على تكفيره لحاطب بمجرّد سكوته عنه في المرّة الأولى.
ثم إنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قد بيّن بعد سؤاله لحاطب وبيان حاطب لعذره أنّه قد صدق فيما قال، وإذا كان حاطب قد نفى عن نفسه النفاق فصدّقه النبي -صلى الله عليه وسلم- وأمر الصحابة ألا يقولوا له إلا خيرًا، فيكون في ذلك ولا بدّ الردّ على عمر في حكمه بنفاق حاطب، كما يكون في ذلك الدلالة على أنّ ما فعله حاطب من مظاهرة المشركين ليس بكفر، وإن كان ذنبًا عظيمًا.
وكان ينبغي أن يقف عمر -رضي الله عنه- عند خبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بصدق حاطب رضي الله عنه، وأمره الصحابة ألا يقولوا لحاطب إلا خيرًا، لكن عمر -رضي الله عنه- عاد في المرة الثانية فكرّر ما قاله في المرة الأولى من تكفيره لحاطب، واستئذان النبي -صلى الله عليه وسلم- في قتله، وهذا محل إشكال، لمعارضته لخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- وأمره في شأن حاطب.
ويبين الحافظ ابن حجر وجه الإشكال في تكرار عمر لما قاله في المرة الأولى فيقول: "قوله: (فعاد عمر) أي عاد إلى الكلام الأول في حاطب، وفيه تصريح بأنّه قال ذلك مرتين، فأمّا المرة الأولى فكان فيها معذورًا، لأنّه لم يتضح له عذره في ذلك، وأمّا الثانية فكان اتضح عذره، وصدّقه النبي -صلى الله عليه وسلم- فيه، ونهى أن يقولوا له إلا خيرًا، ففي إعادة عمر ذلك الكلام إشكال، وأجيب عنه: بأنّه ظنّ أنّ صِدْقه في عذره لا يدفع ما وجب عليه من القتل"فتح الباري لابن حجر (12/308-309)..
وما ذكره الحافظ من الجواب على إشكال إعادة عمر لما قاله عن حاطب من أنّه إنّما أراد أنّ حاطبًا وإن لم يكن قد كفر بفعله لكنه يستحق القتل فيه بعد، فإنّ ما جاء في هاتين الروايتين مما قاله عمر في المرة الثانية هو نفس ما نصّت عليه عامة الروايات في قصة حاطب من أنّ عمر قد حكم بنفاق حاطب واستأذن النبي -صلى الله عليه وسلم- في قتله لظنّه بأنّه قد ارتد، لأنّها قد جاءت بالنصّ على أنّ عمر إنّما قال ما قال في حاطب بعد تصديق النبي -صلى الله عليه وسلم- لحاطب وأمره الصحابة ألا يقولوا فيه إلا خيرًا، وهذا إنّما كان في المرة الثانية، وأمّا المرة الأولى فلم يكن حاطب قد اعتذر، ولم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد صدّقه بعد. وعلى هذا: فالرواة الذين لم يذكروا تكرار عمر لما قاله في حاطب إنّما ذكروا ما قاله في المرة الثانية ولم يذكروا ما قاله في المرة الأولى. والإشكال وإن كان واردًا على تكرار عمر لما قاله في حاطب إلا أنّه وارد أيضًا على ما جاء عن عمر في عامة الروايات، لأنّه قد ورد قول عمر فيها بعد تصديق النبي صلى الله عليه وسلم- لحاطب.
ولهذا لما روى الإمام البخاري حديث حاطب في كتاب الأدب تعليقًا قال: "باب من لم ير إكفار من قال ذلك متأولًا أو جاهلاً، وقال عمر لحاطب بن أبي بلتعة إنّه نافق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (وما يدريك لعلّ الله قد اطلع إلى أهل بدر فقال قد غفرت لكم)فتح الباري لابن حجر (10/515).. وكان الإمام البخاري قد بوّب للباب السابق على هذا الباب بقوله: "باب من أكفر أخاه بغير تأويل فهو كما قال"المرجع السابق (10/514)..
فيكون مقصود الإمام البخاري على هذا: أنّ عمر -رضي الله عنه- وإن كان قد كفّر حاطبًا -رضي الله عنه- إلا أنّ عمر لم يكفر بذلك، لأنّه قد قال ذلك متأوّلًا. فيكون فيما ذكره الإمام البخاري الدلالة على أنّ عمر قد كفّر حاطبًا في المرة الثانية، لأنّها التي جاء فيها جواب النبي -صلى الله عليه وسلم- لعمر بقوله: (وما يدريك لعل الله قد اطلع إلى أهل بدر فقال قد غفرت لكم)، كما أنّ فيما ذكره الإمام البخاري الدلالة على خطأ عمر في تكفيره لحاطب، واعتذر له بأنّه قد قال ذلك متأولًا.
وقد ذكر الإمام الخطّابي في فوائد حديث حاطب -رضي الله عنه- ما يتعلّق بخطأ عمر -رضي الله عنه- فقال: "فيه دليل على أنّ من كفّر مسلمًا أو نفَّقَه على سبيل التأويل وكان من أهل الاجتهاد لم تلزمه عقوبة"معالم السنن للخطابي (3/109-110)..
وقد أشار شيخ الإسلام ابن تيمية إلى هذا المعنى، وذكر أنّ مِن "الخطأ المغفور في الاجتهاد"مجموع الفتاوى لابن تيمية (20/30). مَن "اعتقد أنّ من جسّ للعدو، وأعلمهم بغزو النبي -صلى الله عليه وسلم- فهو منافق، كما اعتقد ذلك عمر في حاطب، وقال دعني أضرب عنق هذا المنافق"المرجع السابق (20/34-35)..
وكما أنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يقرّ عمر في المرة الأولى، بل أخبر بصدق حاطب، وأمر الصحابة ألّا يقولوا له إلا خيرًا، فإنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يقرّ عمر أيضًا حين أعاد مقالته في حاطب، بل قال لعمر: (وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم). وفي هذا بيان خطأ عمر رضي الله عنه، والتنبيه على ما لأهل بدر من المنزلة العظيمة التي يتجاوز الله لهم بها ما فعلوه من السيئات، وعندها علم عمر -رضي الله عنه- أنّه قد أخطأ في حكمه على حاطب فدمعت عيناه.
وفي جواب النبي -صلى الله عليه وسلم- لعمر وردِّه عليه، وبيان مكانة أهل بدر: الدلالة القاطعة على أنّ ما فعله حاطب -رضي الله عنه- من مكاتبة المشركين بسرّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- وإن كان ذنباً عظيماً لكنه ليس بكفر. ووجه الدلالة من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لعلّ الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) على أنّ ما فعله حاطب ليس من الكفر، وأنّ الكفر لا يكفّره إلا التوبة منه، وأمّا الذنوب التي دون الكفر فكما تكفّر بالتوبة فإنّها تكفر بالحسنات الماحية.
وفي تقرير وجه دلالة الحديث على هذا المعنى يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "قوله لأهل بدر ونحوهم (اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) إن حُمل على الصغائر، أو على المغفرة مع التوبة لم يكن فرق بينهم وبين غيرهم، فكما لا يجوز حمل الحديث على الكفر لما قد علم أن الكفر لا يغفر إلا بالتوبة، لا يجوز حمله على الصغائر المكفرة باجتناب الكبائر"المرجع السابق (7/490)..
وفي نفس المعنى يقول الشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن آل الشيخ: "لا يقال قوله: (وما يدريك، لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) هو المانع من تكفيره، لأنّا نقول: لو كفر لما بقي من حسناته ما يمنع من لحاق الكفر وأحكامه، فإنّ الكفر يهدم ما قبله، لقوله تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْأِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} [المائدة: 5] وقوله: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 88]. والكفر محبط للحسنات والإيمان بالإجماع، فلا يُظن هذا"الدرر السنية في الأجوبة النجدية (1/235)..
وفي بيان دلالة الموازنة في الحديث بين حسنة شهود حاطب بدرًا وبين سيئة مظاهرته للمشركين على أنّ ما فعله حاطب كان كبيرةً، ولم يكن كفرًا، يقول الإمام ابن القيم: "إنّ الكبيرة العظيمة مما دون الشرك قد تُكفّر بالحسنة الكبيرة الماحية، كما وقع الجس من حاطب مُكَفَّرًا بشهوده بدرًا، فإنّ ما اشتملت عليه هذه الحسنة العظيمة من المصلحة، وتضمنته من محبة الله لها، ورضاه بها، وفرحه بها، ومباهاته للملائكة بفاعلها، أعظم مما اشتملت عليه سيئة الجسّ من المفسدة، وتضمنته من بغض الله لها، فغلب الأقوى على الأضعف، فأزاله وأبطل مقتضاه"زاد المعاد لابن القيم (3/423-424)..
والمقصود: أنّ ما ردّ به النبي -صلى الله عليه وسلم- على عمر -رضي الله عنه- وقوله له: (وما يدريك لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) فيه الدلالة على عدم إقرار عمر في تكفيره لحاطب، وما رتّبه على ذلك من استحقاقه القتل، لأنّه لا يستحق القتل إلا إذا كان كافرًا بمظاهرته للمشركين، فيكون النبي -صلى الله عليه وسلم- قد نفى بهذه الكلمة الكفر عن حاطب -رضي الله عنه- وحكم بناءً على ذلك بعصمة دمه، وبيّن مع ذلك ما لحاطب -رضي الله عنه- من الفضل والمكانة، وأنّ الله قد غفر له ما حصل منه من مظاهرة المشركين، وإن كان ذنبًا عظيمًا.
وبناءً على ما في الحديث من الدلالة على ثبوت الإسلام لحاطب رضي الله عنه، وأنّه لم يكفر بما حصل منه من الجس على المسلمين، وإفشاء سر الرسول صلى الله عليه وسلم، اختلف العلماء في حكم الجاسوس المسلم، هل يقتل لأنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- جعل المانع من قتل حاطب شهوده بدرًا لا مجرّد إسلامه، أم أنّ الجاسوس لا يقتل مطلقًا لأنّه لم يَكْفُر بجسّه على المسلمين، فيقتل ردة، وليس في الحديث ما يدل على أنّ القتل حدّ للجس فيقتل به. لكن العلماء مع اختلافهم في دلالة حديث حاطب على قتل الجاسوس لم يختلفوا في دلالته على أنّ مجرّد الجسّ على المسلمين ليس مما تكون به الردّةوانظر: المرجع السابق (3/422-423)..
فالذين لا يرون في الحديث الدلالة على قتل الجاسوس مطلقًا يقولون: إنّ قتل المسلم لا يكون إلا بحدّ، وحاطب لم يُقتل لكونه لم يرتدّ، وليس في الحديث الدلالة على أنّ الجاسوس يُقتل وإن كان مسلمًا، بل لم يمنع من قتله إلا كونه معصوم الدم لإسلامه.
وفي تقرير دلالة الحديث على هذا المعنى، وحكاية أقوال أئمة المذاهب وغيرهم في حكم الجاسوس يقول الإمام الخطابي: "فيه دليل على أنّ الجاسوس إذا كان مسلمًا لم يقتل، واختلفوا فيما يفعل به من العقوبة، فقال أصحاب الرأي في المسلم إذا كتب إلى العدو، ودلّه على عورات المسلمين: يوجع عقوبةً ويطال حبسه، وقال الأوزاعي: إن كان مسلمًا عاقبه الإمام عقوبة مثقّلة وغرّبه إلى بعض الآفاق في وثاق، وإن كان ذمّيًا فقد نقض عهده، وقال مالك: لم أسمع فيه شيئًا، وأرى فيه اجتهاد الإمام، وقال الشافعي: إذا كان هذا من الرجل ذي الهيئة بجهالة، كما كان من حاطب بجهالة، وكان غير متّهم أحببت أن يتجافى عنه، وإن كان من غير ذي الهيئة كان للإمام تعزيره"معالم السنن للخطابي (3/109-110). وانظر: شرح مسلم للنووي (16/55)..
والذين يستدلّون بالحديث على قتل الجاسوس مع ثبوت وصف الإسلام له يقولون: إنّ عدم الإذن في قتل حاطب ليس لعدم قيام مقتضى القتل في حقّه، وإنّما لوجود المانع من قتله، وهو شهوده بدرًا.
وفي تقرير دلالة حديث حاطب على قتل الجاسوس وإن كان مسلمًا يقول الإمام ابن القيم: "تأمّل قول الرسول -صلى الله عليه وسلم- لعمر وقد استأذنه في قتل حاطب، فقال: (وما يدريك أن الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) كيف تجده متضمّنًا لحكم القاعدة التي اختلف فيها أرباب الجدل والأصوليون، وهي أنّ التعليل بالمانع هل يفتقر إلى قيام المقتضي، فعلل النبي -صلى الله عليه وسلم- عصمة دمه بشهوده بدرًا، دون الإسلام العام، فدلّ على أنّ مقتضي قتله كان قد وُجِد، وعارض سبب العصمة، وهو الجس على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن عارض هذا المقتضي مانع منع من تأثيره، وهو شهوده بدرًا، وقد سبق من الله مغفرته لمن شهدها، وعلى هذا فإنّ هذا الحديث حجّة لمن رأى قتل الجاسوس، لأنّه ليس ممن شهد بدرًا، وإنّما امتنع قتل حاطب لشهوده بدرًا"بدائع الفوائد لابن القيم (4/128). وانظر فتح الباري لابن حجر (8/635)..
فما سمّاه الإمام ابن القيم الإسلام العام هو ثابت عنده لمن جس على المسلمين، وليس لأجله امتنع قتل حاطب وعصم دمه، وإنّما لعلّة أخصّ من الإسلام العام، وهي شهوده بدرًا، لأنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا كان قد علّل عدم الإذن في قتل حاطب بشهوده بدرًا فعند انتفاء هذه العلّة يكون الحديث عنده دليلًا على الإذن في قتل الجاسوس، مع بقاء وصف الإسلام ثابتاً له.
وذهب بعض العلماء في حكم الجاسوس إلى التفريق بين من تكرّر منه فيقتل دفعًا لشره، وبين من لم يكن منه ذلك فلا يقتل، وحملوا حديث حاطب على ذلك، وعندهم أنّه مسلم في الحالين.
وممن ذكر ذلك الإمام الطبري حيث يقول: "إذا ظهر للإمام رجل من أهل الستر أنّه قد كاتب عدوًا من المشركين، ينذره مما أسره المسلمون فيهم من عزم، ولم يكن معروفًا بالغش للإسلام وأهله، وكان ذلك من فعله هفوة وزلة -من غير أن يكون لها أخوات- يجوز العفو عنه، كما فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بحاطب من عفوه على جرمه بعدما اطلع عليه من فعله"عمدة القاري للعيني (12/75). وانظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (18/53)، وشرح صحيح مسلم للنووي (2/67)..
وفي قول الإمام ابن جرير هذا الدلالة على ما سبق بيانه من قوله في معنى الآيات الواردة في التكفير بموالاة الكفار، وأنّها لا تكون كفرًا عنده إلا إذا كانت لأجل الدين، لأنّه لم يحكم في فعل حاطب بالكفر، مع كونه موالاة للكفار، ومظاهرة لهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنّما جعل المانع من قتله أنّ الجس لم يتكرر منه، ولو كان قد فعل ما هو كفر عنده ما اشترط التكرار فيه.
وليس المقصود هنا التفصيل بذكر ما لكل قول من الأدلة والتوجيهات، وإنّما المقصود: اتفاق هذه الأقوال على عدم كفر الجاسوس، وقد تكرّر بيان أنّ فعل الجاسوس مظاهرة للمشركين، فيكون اتفاق العلماء على عدم كفر الجاسوس -وإن اختلفوا في قتله- اتفاقًا على عدم التكفير بمطلق الموالاة للكفار.
والذي يظهر أنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قد أراد بقوله لعمر رضي الله عنه: (لعلّ الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) بيان عصمة دم حاطب، بذكر ما يقتضي ذلك بدلالة الأولى، فحين ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- مكانة حاطب ومنزلته، وأنّ الله قد غفر له ما حصل منه، تضمّن ذلك الدلالة على إسلامه من باب أولى، وعلى هذا لا يكون في الحديث حجّة على قتل الجاسوس، إلا إذا كان على سبيل التعزير، على ما سبقت إليه الإشارة من أقوال أهل العلم في ذلك.
وقد بيّن شيخ الإسلام ابن تيمية دلالة عدم إقرار النبي -صلى الله عليه وسلم- لعمر حين استأذن في قتل حاطب على ثبوت إسلام حاطب فقال: "بيّن -صلى الله عليه وسلم- أنّه باق على إيمانه، وأنّه صدر منه ما يُغفر له به الذنوب، فعُلِمَ أنّ دمه معصوم"الصارم المسلول لابن تيمية (2/341)..
ولهذا المعنى بوّب الإمام أبو داود في سننه لقصة حاطب بقوله: "باب حكم الجاسوس إذا كان مسلمًا"سنن أبي داود (3/109).، وبوّب الإمام البيهقي في سننه لقصة حاطب رضي الله عنه- بقوله: "باب المسلم يدلّ المشركين على عورة المسلمينالسنن الكبرى للبيهقي (9/146)..
والنتيجة العامة لما سبق من الدلائل على أنّ ما فعله حاطب كان معصية دون الكفر، أنّ كل مظاهرة للمشركين لا يمكن أن تكون كفرًا لذاتها، ما لم تكن المظاهرة للمشركين لأجل دينهم. وأنّ ذلك لا يختص بمجرّد ما حصل من حاطب من الجس للعدو، والدل على عورات المسلمين.
وتدل قصة حاطب على ذلك من جهة دلالة الأَوْلى، ومن جهة دلالة القياس على ما فعل حاطب.
ويبين وجه دلالة الأولى في قصة حاطب: ما ذكره الإمام الشافعي من أنّه إذا لم يمكن أن يأتي أحد من مظاهرة المشركين بأعظم مما فعل حاطب، لكونه قد ظاهر المشركين على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيلزم من ذلك أنّ كل مظاهرة للمشركين دون مظاهرة حاطب للمشركين، فلا تكون كفرًا من باب أولى.
ومن لم يسلّم بهذا الوجه من الدلالة، بدعوى أنّ ما حصل من حاطب ليس هو أعظم ما يمكن أن يكون من مظاهرة المشركين لزمه التسليم بالوجه الثاني ولابد، وهو أنّ ما فعله حاطب داخل في عموم مظاهرة المشركين، وفرد من أفرادها، وإذا لم يكن ما فعله حاطب كفرًا مع كونه مظاهرة للمشركين لم يصحّ التفريق بين ما فعله حاطب وبين غيره مما يدخل في عموم المظاهرة، من جهة اقتضاء الكفر وعدمه، لأنّه إذا لم تكن علّة المظاهرة للمشركين مقتضية لذاتها الكفرَ في فعل حاطب لم يصح أن تكون مقتضية للكفر في كلّ ما يدخل في عموم المظاهرة للمشركين، من حيث كونه مظاهرة، وإلا لزم التناقض، حيث تكون المظاهرة للمشركين كفرًا لذاتها، وليست كفرًا لذاتها.
ولا بدّ هنا من التذكير بما سبق تفصيل القول فيه عند بيان حقيقة أصل الولاء والبراء، وخلاصته: أنّه كما لا يمكن أن تكون معاداة المؤمن للمؤمن منافية لأصل الموالاة بينهما، ما لم تكن المعاداة لأجل الدين، فكذلك لا تكون موالاة المؤمن للكافر منافية لأصل البراءة من الكفار، ما لم تكن تلك الموالاة من المؤمن للكافر لأجل دينه.
وبذلك يُعلم أنّ كل ما دخل في عموم مظاهرة المشركين فإنّه لا يكون كفرًا لمجرد المظاهرة والموالاة الظاهرة للكفار، وأنّنا لا نحتاج إلى دليل خاص بكل فرد من أفراد المظاهرة للمشركين أنّه ليس بكفر، لأنّ هذا هو الذي تقتضيه الأصول السابقة، وأنّ من خالف في شيء من أفراد المظاهرة للمشركين وادّعى فيها الكفر لذاتها فإنّه هو الذي يحتاج إلى إقامة الدليل على دعواه، ولا يمكن وجود دليل في مخالفة ما سبق تقريره من أصول.
نتائج البحث:
1- إنّ أصلَ الموالاةِ المحبّةُ، وأصلَ البراءةِ البغضُ والكراهيةُ، فلا ينتفي الإيمان إلا بما ينافي هذا الأصل.
2- إنّه كما لا يلزم من مطلق معاداة المؤمن للمؤمن انتفاء أصل الموالاة بينهما، فكذلك لا يلزم من مطلق موالاة المؤمن للكفار انتفاء أصل البراءة منهم، وأنّ التفريق بين هذين الأمرين مخالفة للنصوص الشرعية، وتناقض محض.
3- إنّ التفريق بين أصل الولاء والبراء وكماله كافٍ في الدلالة على تقييد الآيات الواردة في التكفير بموالاة الكفار بموالاتهم على دينهم.
4- إنّ سياق الآيات الدالة على التكفير بموالاة الكفار يدلّ على تقييدها بموالاتهم على دينهم.
5- إنّ ما حصل من حاطب -رضي الله عنه- من مكاتبة المشركين بسرّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل فتح مكة مظاهرةٌ للمشركين.
6- إنّ ما حصل من حاطب -رضي الله عنه- من مظاهرة المشركين ليس كفرًا لذاته، لأنّ ما حصل منه كان لمجرّد غرض دنيوي هو حماية أهله وماله بمكة، لا موالاة للكفار على دينهم.
7- إنّ سؤال النبي -صلى الله عليه وسلم- لحاطب -رضي الله عنه- عمّا حمله على ما صنع دليلٌ على أنّ فعله ليس كفرًا لذاته.
8- إنّ اعتذار حاطب -رضي الله عنه- عمّا فعل بالغرض الدنيوي ونفيه عن نفسه الرضى بالكفر والردّة عن الإسلام دليلٌ على أنّ مظاهرة الكفار لمجرّد غرض دنيوي ليست لذاتها كفرًا وإن كانت ذنبًا عظيمًا. ودليلٌ على مناط الكفر بموالاة الكفار، وهو موالاتهم على دينهم.
9- إنّ عمر -رضي الله عنه- قد حكم بنفاق حاطب رضي الله عنه، واستأذن النبي -صلى الله عليه وسلم- في قتله مرتين. ولم يقرّه النبي -صلى الله عليه وسلم- فيهما، بل أخبر في المرة الأولى بصدق حاطب -رضي الله عنه- وأمر الصحابة ألّا يقولوا له إلا خيرًا، وأخبر في المرة الثانية أنّه قد غفر لحاطب -رضي الله عنه- ما فعل من مكاتبة المشركين بشهوده بدرًا، وذلك لا يكون فيما هو كفر، لأنّ الكفر لا يمحوه إلا التوبة منه.
10- إنّ عدم إقرار النبي -صلى الله عليه وسلم- لعمر -رضي الله عنه- في حكمه على حاطب -رضي الله عنه- بالنفاق واستئذانه في قتله دليلٌ على أنّ ما فعله حاطب -رضي الله عنه- ليس كفرًا لذاته، وأنّ عمر رضي الله عنه قد أخطأ في حكمه على حاطب رضي الله عنه، وأنّه كان في ذلك متأوّلًا.
11- إنّ مجرّد تكرار مظاهرة الكفار على المسلمين لا يكفي لذاته دليلًا على الحكم بالكفر في الظاهر على من حصل منه ذلك، لأنّ مجرّد تكرار المعصية التي دون الكفر، والمجاهرة بها، والإصرار عليها، ليس لذاته دليلًا على استحلالها.
12- إنّه لا يلزم من عدم الحكم في الظاهر بكفر من حصلت منه المظاهرة للكفار -لانتفاء ما يدلّ على أنّ مظاهرته لهم لأجل دينهم- ألّا يكون كافرًا في الباطن، بل قد يكون كافرًا في الباطن، وإن حكم بإسلامه في الظاهر، كشأن غيره من المنافقين الذين يحكم بإسلامهم في الظاهر مع كونهم كفارًا في الباطن.
المصدر: موقع الإسلام اليوم
إضافة تعليق جديد