الغلاة وتعظيم موافقيهم: وسيلة في ترويج الغلو
لتحميل المادة بصيغة PDF .. اضغط هنا
-1-
من كان عنده نقصٌ في خصلةٍ يُكثر من التشبّع فيها بما لم يُعط، مِن هنا تعلم سرَّ كثرة ما ترى من صور: العائل المستكبر، والوضيع المتكبّر، والجاهل المتعالم!
ولِما في ذلك من الكذب والزور ما لا يناسب وصفَ المؤمن: ورَدَ الوعيدُ على فاعله، كما في البخاري من حديث أسماء بنت أبي بكر -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلّم- أنّه قال: (المُتَشَبِّعُ بِمَا لَمْ يُعْطَ كَلاَبِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ) فيلْبس المتشبِّع لباسًا غير لباسه، كبليدٍ يتذاكى، وتافهٍ يتعالم!
ورضي الله عن أبي الحسن علي بن أبي طالب حيث قال: "عَجِبتُ لِمَن يُقالُ: إنَّ فيهِ الشَّرَّ الّذي يَعلَمُ أنَّهُ فيهِ كَيفَ يَسخَطُ! وعَجِبتُ لِمَن يُوصَفُ بِالخَيرِ الَّذي يَعلَمُ أنَّهُ لَيسَ فيهِ كَيفَ يَرضى!"
ويعظُم الخطب إذا كانت الدعوى في جانب العلم، لعظيم الجناية بذلك، وهو ما أبكى الإمام ربيعة الرأي، فعن الإمام مالك -رحمه الله- قال: "أخبرني رجلٌ أنه دخل على ربيعة فوجده يبكي، فقال ما يبكيك؟ أمصيبةٌ دخلت عليك؟ وارتاع لبكائه، فقال: لا، ولكن استُفتي من لا علم له، وظهر في الإسلام أمر عظيم، فقال ربيعة: ولَبَعضُ من يفتي ههنا أحقُّ بالحبس من السُّراق".
بل هذا الذي استشرفه -صلى الله عليه وسلم- مما يكون آخر الزمان، ويكون بسببه فسادٌ في الأرض عريض، كما في البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَقْبِضُ العِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ العِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ العِلْمَ بِقَبْضِ العُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا).
يقول العلامة بكر بن عبد الله أبو زيد -رحمه الله- في كتابه النفيس "التعالم": "فهؤلاء المنازِلون في ساحة العلم وليس لهم من عُدَّة سوى القلم والدواة، هم الصَّحْفية المتعالمون، مِن كل مَن يدعي العلم وليس بعالم، شخصيةٌ مؤذيةٌ تتابعت الشكوى منهم على مدى العصور، وتوالي النذر سلفًا وخلفًا.. إنّهم زيادة على أنصباء أهل العلم كواو عمرو ونون الإلحاق ... فهذا القطيع حقًّا، هم غول العلم، بل دودة لزجة، متلبِّدةٌ أسرابُها في سماء العلم، قاصرةً عن سمو أهله، وامتداد ظله، معثِّرةً دواليبَ حركته، حتى ينطوي الحق، ويمتد ظل الباطل وضلاله، فما هو إلا فجر كاذب، وسهمٌ كابٍ حسير".
-2-
كان هذا الأسلوب الرخيص مستعملًا عند عامّة الأفراد ممن استشعر نقصًا وعيبًا في نفسه مستعيضًا به عمّا يعلمه من قصوره وعيبه، دافِعُه في ذلك حبُّ الظهور والاشتهار، لكنّه اليوم رَكوبٌ للغلاة لمّا رأوا قلّة بضاعتهم من العلم، وعدم وجود علماء بينهم أو ممن يوافقهم، أو طلبة علم معتبرين فيهم، فتجدهم يكيلون بالألقاب على من به مسحةُ علمٍ أو جلس يومًا إلى صاحب علمٍ، أو كان يومًا مدمنًا جثوَ الرقاب على الأشرطة! أو عنده قطعة ورقٍ من أي معهد أو مدرسة شرعية أو أكاديمية .. ودافعُهم في ذلك حرفُ الناس وتضليلهم.
يذكر لي أحد الثقات أنّه كان في منطقته رجلٌ عامّي كان قبل الثورة يعمل بلّاطًا طوال نهاره، وبعد العشاء يواصل العمل إلى الفجر عند من يبني بشكل غير نظامي -حيث الليل أستر عن عيون القانون- ولا يُعرف عنه طلبٌ للعلم قطّ، ومنذ انضم إلى الغلاة بدأت تُنسج حوله الأساطير في العلم والفقه والفهم، وصار يقضي في الدماء والأعراض!
هذا نموذج بسيط عن كذبهم وتدليسهم والتجمُّل بأثواب الزور.
فصرتَ ترى في وصفهم لهؤلاء القاصرين ما يخيِّل إليك وأنت تقرأ سيرة أحدهم كأنّ بين يديك سيرة ربيعة الرأي أو الليث بن سعد أو الأوزاعي أو مالك!!
لذا نجد أتباع دولة البغدادي "داعش" ينسجون هالاتٍ من التقديس لزعمائهم تتجاوز الحدّ الشرعي، فضلًا عن الكذب في ذاتها، من ذلك قول العدناني، المتحدّث الرسمي باسم دولة البغدادي: "وما أدراكم من أبو بكر؟! إن كنتم تتساءلون عنه فإنه حُسينيّ قرشيّ من سلالة آل البيت الأطهار, عالمٌ عاملٌ عابدٌ مجاهد، ... حريّ به أن يُتقرّب إلى الله بالغسل عن قدميه، وتقبيلها، ودعوته أمير المؤمنين, وفدائِه بالمال والنفس والولد, واللهُ على ما شهدت شهيد" وقد تتابع أنصار التنظيم على تكرار هذه العبارة في بياناتهم، حتى غدت كلمةً سائرة في خطبهم وبياناتهم!
وفي البيان الرسمي لدولة البغدادي ذُكر فيه في موضع واحد فقط أكثر (17) صفة ومنقبة عظيمة تفخيمية للبغدادي وهي: (العلم، العمل، العبادة، الجهاد، العقيدة، الجَلَد، الإقدام، الطموح، الحلم، العدل، الرشد، التواضع، الذكاء، الدهاء، الإصرار، الصبر، النسب القرشي)، كما جاء في البيان الرسمي للتنظيم: "وما أدراكم من أبو بكر؟! إن كنتم تتساءلون عنه فإنه: حسيني قرشي من سلالة آل البيت الأطهار, عالمٌ عاملٌ عابدٌ مجاهد, رأيت فيه عقيدةَ وجَلَدَ وإقدامَ وطموحَ أبي مصعب, مع حِلمِ وعدلِ ورشدِ وتواضع أبي عمر, مع ذكاء ودهاء وإصرار وصبر أبي حمزة, وقد عَرَكته المحن وصقلته الفتن، في ثماني سنين جهادٍ يستقي من تلك البحار، حتى غدا جذيلها المحكّك وعذيقها المرجّب, حريّ به أن يُتقرّب إلى الله بالغسل عن قدميه وتقبيلها، ودعوته أمير المؤمنين, وفدائِه بالمال والنفس والولد, والله على ما شهدت شهيد ... وإني لأحسب أنّ الله عز وجل قد اختاره وحفظه وادّخره لهذه الأيام العصيبة, فهنيئًا لكم يا أبناء الدولة بأبي بكر"أبو محمد العدناني، بيان بعنوان: "إنّ دولة الإسلام باقية"، مؤسسة الفرقان، الدقيقة: (49).. تلاحظ هنا كيف سرد صفات الكمال التي تتجاوز سبع عشرة منقبة، وأنّها تفرّقت في غيره وتكاملت فيه، كلّ ذلك تمهيدًا ليقول: "حريّ أن يُتقرّب لله بغسل قدميه وتقبيلها"!!
يقول إبراهيم بن عمر السكران في مقال قيّم بعنوان: "التعبد لله بتقبيل أقدام الولاة": "هكذا إذن: التقرب إلى الله بغسل قدمي البغدادي من الأقذار ثم تقبيلها! ... أي أنّ أتباع تنظيم البغدادي يُوَجّهون إلى اعتقاد التقرّب إلى الله بفداء البغدادي بأنفسهم وأولادهم، فيُوجّهون لاعتقاد التعبّد لله بتعريض أولادهم للقتل صيانةً لسلامة البغدادي".
ويقول أيضًا: "ولا يزال السؤال هاهنا قائمًا وهو: كيف يتمكّن تنظيم الدولة من صناعة الإذعان في أتباعه؟ وما تفسير هذا الانصياع لدى جنوده المقاتلين ومحاميه الشَّبَكيين؟
والجواب أنّ علماء السلوك الإسلامي قدّموا تحليلات مُعمّقة لكيفية تخلُّق الاستسلام في البشر، وخلاصته: "أنّ الإذعان في جوهره حال قلبي للتابع، وهو فرع عن اعتقاد الكمال في المتبوع، سواءً كان كمالاً حقيقياً أم وهمياً".
كما يشرح ذلك أبو حامد الغزالي بعبارات خلّابة يستكشف بها مجاهل النفوس فيقول: "ولا تصير القلوب مُسَخَّرةً إلا بالمعارف والاعتقادات، فكلّ من اعتقد القلب فيه وصفًا من أوصاف الكمال انقاد له وتَسخَّر له بحسب قوّة اعتقاد القلب، وبحسب درجة ذلك الكمال عنده، وليس يشترط أن يكون الوصف كمالًا في نفسه، بل يكفي أن يكون كمالًا عنده وفي اعتقاده، وقد يعتقد ما ليس كمالًا كمالًا، فإنّ انقياد القلب حال للقلب، وأحوال القلوب تابعة لاعتقادات القلوب وعلومها وتخيّلاتها"، ثم تظهر آثار هذا الإذعان والتسخير على التابع كما يشرح ذلك أبو حامد أيضًا: "وله ثمرات: كالمدح والإطراء، فإنّ المُعتقِد للكمال لا يسكت عن ذكر ما يعتقده فيثني عليه، وكالخدمة والإعانة فإنّه لا يبخل ببذل نفسه في طاعته بقدر اعتقاده فيكون سُخْرةً له مثل العبد في أغراضه، وترك المنازعة والتعظيم...".
ولأجل تحقيق ذلك فإنّك تجد تنظيم الدولة يشحن أفراده بذكر صفات الكمال في أبي بكر البغدادي لصناعة الهالة في نفوسهم بحيث تنتهي إلى إذعانهم وتسخيرهم.
يقول د.عماد خيتي أثابه الله: "لكنّ الغلاةَ عمومًا ابتدعوا في ذلك طريقةً تقوم على تزكيةِ كلِّ مَن تصدّر منهم للعلم والفتوى، فيأخذون عنه في كلّ العلوم، ويجعلون له حق الاجتهاد في أدقّ المسائل وأخطرها، ويُضفون عليه مِن الألقاب التي لا تُطلق على الكبار مِن العلماء الصادقين، لمجرّد موافقته لهم، وشهادتهم له. ثمّ إنْ أخطأ أو ظهر عوار فتياه ورأيه في أمرٍ عظيم كأمور الدّماء والأعراض، قيل إنّه مجتهدٌ، ونرجو له الأجر الواحد! فتسلَّط بذلك الجهلةُ والسّفهاء على دين الله -تعالى- يحلّلون ويحرّمون ويعبثون، دون رادعٍ أو رقيبٍ، بحجّة الاجتهاد"كتاب شبهات تنظيم "الدولة الإسلامية" وأنصاره والرد عليها، ص (30). ينظر: http://alabasirah.com/node/230..
ومن صور الغلوّ والانحراف المنهجي عند هؤلاء في هذا الباب:
- تقديمهم لمن هو في ساحات الجهاد أو مناطق الصراع ولو كان جاهلًا، ومن هنا اشتهر قولهم وتأصيلهم لقاعدة فاسدة (لايفتي قاعد لمجاهد!).
يقول د. عماد خيتي في مقال مفيد بعنوان "لا يفتي قاعدٌ لمجاهد!": "هذه العبارة (لا يفتي قاعد لمجاهد) ليست من الأصول الشرعية، ولا القواعد المعتبرة، وليس لها أصلُ من نصوص القرآن أو السنة، أو أقوال أهل العلم، بل هي من البدع المُحدثة، التي تخالف جميع ذلك. فقد وضع أهل العلم شروطًا للفتوى مستمدةً من الكتاب والسُّنَّة, ولم يذكروا أنَّ من شروط المفتي أن يكون مقاتلاً أو مجاهدًا، أو أن يقيم بمناطق الثغور، بل إنَّ العالمِ يُؤخذ بقوله أيًا كان موقعه، والجاهل يُترك قوله أياً كان موقعه وعمله، فالإصابة في الفتوى ليست منوطةً بالجهاد، وإنما بالاستدلال وطرائقه، والكثير من الأئمة وأهل العلم لم يكونوا من أهل الغزو، كالأئمة الأربعة، إلا أنَّ ما كتبوه، وأفتوا به في باب الجهاد كان وما يزال عمدةً في الفقه الإسلامي، ومرجع العلماء في كل العصور. وإنّما يجب على الفقيه أن يعرف حقيقة ما يفتي به معرفة حقيقية تُمكنه من تصور المسألة تصورًا صحيحًا، يبني عليها الحكم الشرعي"مفاهيم لترشيد الجهاد (1): لا يفتي قاعد لمجاهد! https://syrianoor.net/article/15268.
- التزكية بمجرّدِ الحضور عند المشايخ، والجلوس في حلقاتهم، وأخذ بعض العلم عنهم، أو لمجرد الحفظ لبعض متون العلم، أو الدّراسة في الجامعات أو المعاهد لا تجعل الشّخص من أهل العلم أو الفتوى، وسيأتي بيان التلبيس في ذلك في الفقرة التالية، في الضابط الرابع من ضوابط التمييز بين العالم والجاهل.
- تعظيمهم لجانب العبادة على جانب العلم، ومثلُه أن يحتجّوا بشجاعةِ شخصٍ في مقام تزكيته لأخذ العلم عنه! وهذا خلطٌ وتلبيسٌ، فإنّه لم يذكر أحدٌ من أهل العلم شجاعة المرء وإقدامه مسوّغًا له للتصدّر في الفتيا، وقد حذّر النبي -صلى الله عليه وسلم- من الخوارج رغم ما وصفهم به من حسن العبادة، حيث قال: (تَحْقِرُونَ صَلاَتَكُمْ مَعَ صَلاَتِهِمْ، وَصِيَامَكُمْ مَعَ صِيَامِهِمْ، وَعَمَلَكُمْ مَعَ عَمَلِهِمْ، وَيَقْرَءُونَ القُرْآنَ لاَ يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ) متفق عليه، ومع ذلك أمر بقتالهم فضلًا عن السماع لهم. وسيأتي مزيد بيان لهذا في الفقرة التالية.
وليس تعظيمُهم البالغ درجة الكذب لموافقيهم إلا لاعتلالهم بنفس العلّة وتوافقهم في الزيغ والانحراف، فأخذوا بحظٍ وافر من حديث المصطفى -صلى الله عليه وسلم- في ذمّ لابس ثوبي زور:
ثوب الزور الأوّل: كذبهم على أنفسهم وتزكيتها بما ليس فيها، والله يقول {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُم بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا * انظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَىٰ بِهِ إِثْمًا مُّبِينًا} [النساء: 49-50]
الثوب الثاني: كذبهم وتلبيسهم على الناس.
ولعظيم استدراج الله لهم وشؤمِ عملهم زادوا ثالثاً: أنْ حملوا بذلك على الناس لإفساد دينهم وحرفهم في معتقدهم إيهامًا لهم أنّ الذي هم عليه هو دين الله إذ إنّ حمَلَته والمنافحين عنه مَن عَلمتُم من المكانة في العلم والفهم في الدين!
فقلبوا بذلك الحقائق والقواعد المتقررة عند أهل العلم الراسخين في الحد الفاصل بين الجاهل والعالم، وكذا هو الضلال لا يزال في انحراف.
وسأبيّن مداخل الفساد والانحراف في هذه المسألة في ثلاثة مقامات:
المقام الأول: بيان عظيم الجرم بالتشبع بما لم يعط في ميدان العلم، وقد سبق.
المقام الثاني: بيان الضابط في تمييز الجاهل من العالم.
المقام الثالث: في توضيح أهمية النصح في هذا الباب، وما يجلبه تركه من كوارث على الأمة.
-3-
المقام الثاني: بيان الضابط في تمييز الجاهل من العالم:
يتأكّد بحث هذه المسألة في هذه الوقت لكثرة ما يحصل من الانحراف في كثير من المسائل –والتي صار ثمن بعضها استباحة دماء وأموال وأعراض معصومة- وما يرافق ذلك من تطاول الجهلة لمقامات أهل العلم، يتصدرون مقامات العلماء في المسائل الكبار! فصار لازمًا بيان حدّ العالم من الجاهل.
ومن هنا نعلم سرَّ تشديدِ علماء السلف في بيان حدِّ العالم والجاهل، وتحذيرهم مِن تصدُّر الجهلة، ذلك عندما ظهرت البدع في زمانهم، حيث أنّ مظنّة ذلك الانحراف الجهلُ وتصدّر الجهلة. مِن هذا قول أبي الزّناد رحمه الله: "أدركتُ بالمدينة مائةً، كلُّهم مأمونٌ [أي مِن الكذب]، ما يؤخذ عنهم الحديثُ، يُقال: ليس مِن أهله". وقال ابنُ سيرين رحمه الله: "لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلمّا وقعت الفتنةُ، قالوا: سَمُّوا لنا رجالكم، فَيُنْظَرُ إلى أهل السّنّة فَيُؤْخَذُ حديثهم، وَيُنْظَرُ إلى أهل البدع فلا يُؤْخَذُ حديثهم". وكتب مالك بن أنس إلى محمد بن مطرّف: "سلامٌ عليك، فإنّي أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أمّا بعدُ: فإنّي أوصيك بتقوى الله -فذكره بطوله- ... خذه -يعني العلمَ- مِن أهله الذين ورثوه ممّن كان قبلهم يقينًا بذلك، ولا تأخذ كلّما تسمع قائلًا بقوله، فإنّه ليس ينبغي أنْ يؤخذ مِن كلِّ مُحْدِثٍ، ولا مِن كلِّ مَن قال".
والضابط في حد العالم والجاهل ثلاثة أمور:
الأول: استكمال الأهلية وشهادة أهل العلم بذلك: ونجد في هذه نصوصاً كثيرة عند الأئمة يحذرون مِن تصدُّر من لم تكتمل أهليته.
ومعرفة ذلك ليس بادعاء الشخص ذلك لنفسه، وإنما بشهادة أهل العلم الراسخين. مِن ذلك قول الإمام مالك رحمه الله: "ليس كلُّ مَن أحبَّ أن يجلس في المسجد للحديث والفتيا جلس، حتى يُشاوَر فيه أهلُ الصّلاح والفضل وأهلُ الجهة مِن المسجد، فإنْ رأوه لذلك أهلًا جلس، وما جلستُ حتى شهد لي سبعون شيخًا مِن أهل العلم إنّي لموضعٌ لذلك".
ويقول الشاطبي في بيان مثال الزلل في هذا: "والثّاني: أن لا يكون مِن أهل الاجتهاد، وإنّما أدخل نفسَه فيه غلطًا أو مغالطةً، إذ لم يشهد له بالاستحقاق أهلُ الرّتبة، ولا رأوه أهلًا للدّخول معهم، فهذا مذمومٌ. وقلّما تقع المخالفةُ لعمل المتقدّمين إلا مِن أهل هذا القسم"، فالعلم ليس بالادّعاء, وإنما هو شهادة من أهل الاختصاص, فكما أنّ الطبيب لا يكون طبيبًا إلا إذا شهد له الأطباء بذلك، كذلك العالم لا يكون عالمًا إلا إذا شهد له أهل الشأن بذلك. قال الشاطبـي رحمه الله: "والعالم إذا لم يشهد له العلماء، فهو في الحكـم باقٍ على الأصل من عدم العلم، حتى يشهد فيه غيره، ويعلم هو من نفسه ما شهد له به، وإلّا فهو على يقين من عدم العلم".
هذا كلام العلماء في اشتراط اكتمال الأهلية ليشهد للشخص بالعلم، لكن هل يكفي هذا؟ بل لا بدّ أن يَجمع مع اكتمال الأهلية في نفسه حُسنَ تقريره، وهو الجانب الواقعي التطبيقي لاكتمال الأهلية، وهذا يجرّنا للحديث على الضابط الثاني.
الثاني: ضبط المسائل وتقريرها على وجهها، وفق القواعد المتقررة، وعدم الشذوذ عن الراسخين من أهل العلم، فيشهد أهل العلم بصحّة مآخذه وتقريراته ونتائجه. قال النووي رحمه الله: "ولا يُتعلَّم إلا ممن تكمَّلت أهليتُه، وظهرت ديانتُه، وتحقَّقت معرفتُه، واشتهرت صيانتُه". وتأملوا قوله: "واشتهرت صيانته" إذ يشير إلى اشتهار صحة تقريراته العلمية وصيانته.
الثالث: الأخذ عن أشياخ العلم مشافهةً، وطول الملازمة لهم.
وهذا فيه فوائد، منها: إتقان العلم وضبطه بحضرة من يقوّم ويصحح، اكتساب الأدب وحسن السمت، وجود القدوة في الهدي، وهو عاصمٌ من الزيغ والبدعة.
وقد أحسن الشاطبي -رحمه الله- حيث أفصح عن ذلك كله بقوله: "الثّانية: أنْ يكون ممّن ربّاه الشّيوخ في ذلك العلم لأخذه عنهم وملازمته لهم، فهو الجديرُ بأنْ يتّصف بما اتّصفوا به مِن ذلك، وهكذا كان شأن السّلف الصالح، فأوّلُ ذلك ملازمةُ الصّحابة -رضي الله عنهم- لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأخذُهم بأقواله وأفعاله ... وحسبُك مِن صحّة هذه القاعدة أنّك لا تجد عالـمًا اشتهر في النّاسِ الأخذُ عنه إلا وله قدوةٌ اشتهر في قرنه بمثل ذلك، وقلّما وُجدت فرقةٌ زائغةٌ، ولا أحدٌ مخالفٌ للسّنّة إلا وهو مفارقٌ لهذا الوصف".
الرابع: "الاقتداءُ بمَن أخذ عنه، والتأدّبُ بأدبه، كما علمتَ مِن اقتداء الصّحابة بالنّبي، واقتداء التّابعين بالصّحابة، وهكذا في كلِّ قرن ... فلمّا تُرك هذا الوصفُ رَفعت البدعُ رؤوسَها، لأنَّ تركَ الاقتداء دليلٌ على أمرٍ حدث عند التّارك أصْلُه اتّباعُ الهوى".
الخامس: موافقة الحق، فالمسألة ليست بالاستكثار من الحفظ وتقميش العلم، إنّما هي موافقة الحق، وسرُّ ذلك أنّ هذا العلم مصدره إلهي، والمقصد منه هداية الناس إلى الحق، والعلماء ورثة الأنبياء في هذا المقام، فمن جمع علمًا ثم خالف الحقّ الذي أنزله الله فهذا ليس علمًا ولا يسمّى صاحبه عالمًا، من هنا ندرك تأكيد العلماء على أنّ العالم من وافق الحق، وهذا نظرٌ ثاقب وفهم دقيق وتفريق عزيز في حدّ العالم والجاهل.
وههنا أمرٌ يقع اللبس فيه، وهو ما قد يتصف به الشخص من الزهد أو كثرة العبادة، أو الشجاعة والإقدام، فكما سبق لم يذكر أحدٌ من أهل العلم أنَ شجاعة المرء وإقدامه مسوِّغاً له للتصدُّر في الفتيا، وقد حذر النبي -صلى الله عليه وسلم- من الخوارج رغم ما وصفهم به من حسن العبادة، حيث قال: (تَحقِرونَ صلاتَكم معَ صلاتِهم، وصيامَكم معَ صيامِهم، وعملَكم معَ عملِهم، ويقرَؤونَ القرآنَ لا يُجاوِزُ حناجِرَهم، يَمرُقونَ منَ الدينِ كما يَمرُقُ السهمُ منَ الرمِيَّةِ) رواه البخاري، مع ذلك أمر بقتالهم فضلًا عن السماع لهم.
وهذا اللَّبسُ إن دلّ فهو يدلُّ على اختلال الميزان في تقييم الرجال، وقد استشرف -صلى الله عليه وسلم- ذلك وأنّه كائنٌ آخر الزمان، حيث ترُفع الأمانة وتختلُّ الموازين، فيُمدح المرء على شجاعته وظرافته وهو لا يساوي عند الله شيئًا. ففي البخاري من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: (... فلا يكاد أحدُهم يؤدي الأمانةَ، فيقال: إنَّ في بني فلان رجلًا أمينًا، ويقال للرجلِ ما أعقلَه وما أظرفَهُ وما أجلدَهُ، وما في قلبهِ مثقالُ حبةٍ خردلٍ من إيمانٍ)
-4-
المقام الثالث: النصح الواجبٌ في هذا الباب، وما يجلب تركه من كوارث على الأمة.
واجب النصح اليوم في مثل هذا أوجبُ من التحذير من بعض المعاصي، فهذه مقطوعٌ في حكمها لدى العامة والخاصة، ولا يقع التلبيس فيها مثل ما يقع في الانحراف في مسائل الشرع، هذا إضافةً إلى ما يجرُّ ذلك على حاضر سوريا ومستقبلها من تشكيل عقليةٍ متطرفة تستبيح الدماء، وتكفّر المسلمين بغير حق، وتوهن منزلة العلماء، وتخرُج من سعة الأمة إلى ضيق الجماعة والمنهج، وتُمزِّق عباءة الولاء والبراء بتشويهها بمقاسات حسب ما يسمح به ما اخترعوه من أصول وقواعد!
لاسيما واليوم يقوم بعض منظِّري هذا المنهج المنحرف كالمحيسني ومن وافقهم من شيوخه -كأبي محمد المقدسي وأبي قتادة الفلسطيني- على تعليم شريحة كبيرة من الشباب والنساء على هذا المنهج المنحرف، كلُّ هذا وبعدُ لم تجفّ دماء المجاهدين من سيوف المارقين من دولة البغدادي المزعومة.
وليُعلم أنّ المنظِّر لهؤلاء وخوارج البغدادي واحدٌ، وأنَّ قواعدَهم وأصولهم في المنهج واحدة، إنما اختلفوا في أمرٍ رأى بعضُهم أن لو أخّرتموه لكنا معكم ... وإلا فهم متفقون في الغاية، وتحكمهم أصولٌ واحدة، ومرجعيتُهم واحدة، بل وكانوا على بيعةٍ واحدة!
لكنه حالُ الخلافِ بين أهل البدع والزيغ، يرون السيف على مخالفهم، ويستحلّون دماء وأعراض وأموال بعضهم.
فيا أهل الجهاد في الشام ... أيها الدعاة وطلبة العلم: إنه ليُرجى ويُؤمّل منكم أن تدفعوا الخبث من هذا الفكر والمنهج، وتا الله لفي رقابكم مسؤولية عظيمة.
وكما قال صلى الله عليه وسلم: (إِذَا فَسَدَ أَهْلُ الشَّامِ فَلاَ خَيْرَ فِيكُمْ) إنّه ليرجى بإذن الله أن ينكسر ويندحر هذا المنهج الغالي، الذي يقوم على تجهيل علماء الأمة، وتضليل عامتها، واستباحة دماء وأعراض خيرتها.
-------------------
إضافة تعليق جديد