نظرات في تاريخ الخوارج
كم في تاريخ الخوارج وأحوالهم قديمًا من العبرات والنظرات التي تستوقف الباحث، وتلفت القارئ، وتعين على فهم واستيعاب وعلاج آراء الغلاة في هذا العصر!
ونسوق طرفًا من تلك النظرات والمشاهد على النحو التالي:
أصل بدعة الخوارج ومنشؤها: الجهل بدين الله تعالى، والإعراض عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وما كان عليه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم. ويضاف إلى ذلك ما كان عليه الخوارج من البغي والظلم لعموم المسلمين، الذي عجّل بزوالهم، وسارع في انهزامهم.
والناظر فيما دوّنه المؤرخون وكتّاب الفرق والمقالاتمقالات الخوارج تُعرف من كتب التاريخ والمقالات وكما قال ابن تيمية: «أقوال الخوارج إنّما عرفناها من نقل الناس عنهم، لم نقف لهم على كتاب مصنف» الفتاوى (13/49).يلحظ أنّ النفوس الخارجية مضطربة، ومولعة بالتفرق والانقسام، ومتحفّزة للبراءة من كل من خالفها وإن كان مخالفهم من سائر الخوارج وفي مسائل ليست ذات بال! فإن خمائر "البراءة" مستحوذة على تفكيرهم، حاضرة في أذهانهم، راسخة في عقولهم، وعندما تُطالع كتب التاريخ والمقالات فلا تكاد تخطئ عينك تكرار التبرّي من مخالفيهم من الخوارج فضلًا عن عموم أهل الإسلام، والإغراق والتكثّر في تصنيف الدور! فإنّ دارهم يسمونها "دار المهاجرين"! وأما المخالفون لهم فقد تكون "دار البغي" أو "دار التوقّف" أو "دار التقيّة" أو "دار الكفر"! ثم إنّ هذا الاندفاع في التبري عند طوائف من الخوارج يعقبه "توقّف" عن التبرّي لدى آخرين، ثم يستحيل إلى انقسام لا ينتهي ومسلسل لا يتوقف. وهاك مثالًا على ذلك من خلال الإباضية الذين يُعدّون أقلّ طوائف الخوارج غلوًا!:
"كان رجل من الإباضية يقال له (إبراهيم)، أفتى بأنّ بيعَ الإماء من مخالفيهم جائزٌ، فبرئ منه رجلٌ يقال له (ميمون) وممن استحل ذلك، ووقف قوم منهم، فلم يقولوا بتحليل ولا تحريم، وكتبوا يستفتون العلماء منهم في ذلك، فأفتوا بأنّ بيعهن حلال، وهِبتهن حلال في دار التقيّة، ويستتاب أهل الوقف من وقفهم في ولاية (إبراهيم) ومَن أجاز ذلك، وأن يستتاب (ميمون) من قوله، وأن يبرؤوا من امرأة كانت معهم وقفت فماتت قبل ورود الفتوى، وأن يُستتاب (إبراهيم) من عذره لأهل الوقف في جحد الولاية عنه وهو مسلم يظهر إسلامه، وأن يستتاب أهل الوقف من جحدهم البراءة عن (ميمون) وهو كافر يظهر كفره ..."مقالات الإسلاميين للأشعري (1/ 188-189)، وينظر: الفرق لعبد القاهر البغدادي ص (107-108).!!!
فإنّ مسألة بيع جارية خارجية لمخالفيهم من مسائل الفقه والفروع، لكنّ القوم انقسموا بسببها إلى ثلاث فرق متناحرة: إبراهيمية، وميمونية، وواقفة، ثم إنّ الواقفة صاروا فرقتين: ضحّاكية تميل إلى مذهب الإبراهيمية، وفرقة تنسب إلى عبد الجبار بن سليمانينظر: مقالات الإسلاميين (1/189)، والفرق ص (108)، وظاهرة الإرجاء لسفر الحوالي (1/292).إلخ، وهكذا يتفاقم الانقسام ومعه التكفير والتبرّي والتوقف.
هذه الدوامة من التبرّي والتوقّف، يتبعها ما لا يحصى من استتابة مكرُورَة، ومتناقضة في الحال نفسه، وبأسلوب الوصاية والامتحان، ومن ذلك هذه الحادثة العجيبة لخوارج طالبوا بالتوبة من التوبة:
"لما كاتب نجدةُ بن عامر [من رؤوس الخوارج] عبدَ الملك بن مروان وأعطاه الرضا، نقم عليه أصحابه فيه، فاستتابوه فأظهر التوبة، فتركوا النقمة عليه والتعرّض له، وندمت طائفة على هذه الاستتابة وقالوا: أخطأنا، وما كان لنا أن نستتيب الإمام، وما كان له أن يتوب باستتابنا إياه، فتابوا من ذلك، وأظهروا الخطأ، وقالوا له: تبْ من توبتك، وإلا نبذناك، فتاب من توبته.
وفارق نجدةً أبو فديك وعطيةُأبو فديك وعطيّة من فرقة النجدات، إحدى فرق الخوارج.، ووثب على نجدة أبو فديك فقتله، ثم برئ أبو فديك من عطية"الملل والنحل للشهرستاني (1/124)، بتصرّف يسير..
وإن تعجب فاعجب من هذه النقمة والاستتابة التي تولّاها أصحاب نجدة، وألزموه بها بلا موجب، ثم أعقب ذلك الاندفاع الندم على ما حصل من توبة، وأوجبوا على نجدة التوبة من التوبة وإلا نابذوه بالسيف! ومع أنّ نجدة كان إمامًا مطواعًا لهم في ذلك كلّه إلا أنّه لم يسلم من حماقات أصحابه، إذ وثب عليه أبو فديك فقتله.
وهذه البراءات المكرورة لدى فئام من الخوارج وما يصحبها من توقّف وتردّد واستتابة وندم تكشف عن تناقض القوم واضطرابهم، ولئن كان الخوارج قد أُشربوا في قلوبهم الغلوّ والإصرار على أقاويلهم إلا أن الترنحَ بين الآراء المتقابلة والتنقّل بين الأقوال المتضادة خصلةٌ لا تغادرهم كما في الوقائع التالية:
- ألزم الخوارجُ عليَّ بن أبي طالب -رضي الله عنه- بالتحكيم في صِفّين، وقالوا: عليك أن تتقبله وإلا فأنت كافر، فلما وقع التحكيم قالوا: حكّمت الرجال في دين الله فأنت كافر! فأنكر عليّ صنيعهم، وبيّن لهم أنّه حكّم كتاب الله، فخرجوا على عليّ ونابذوه، ورغبوا أن يكون أمير المؤمنين مثل عمر بن الخطاب رضي الله عنه!ينظر: تاريخ الطبري (5/83-85)..
وأعرضوا عن مبايعة جميع الصحابة، واختاروا "عبد الله بن وهب الراسبي: أعرابي بوّال على عقبيه لا سابقة له، ولا صحبة، ولا فقه، ولا شهد الله له بخير"!الفصل لابن حزم (4/138)..
- ومن تناقضات القوم أنّ النجدات (فرقة من الخوارج) قالت: لا يلزم الناس فرض الإمامة وإنّما عليهم أن يتعاطوا الحق بينهمينظر: الفصل لابن حزم (4/149)..
ثم إنّك تجد الخوارج بمن فيهم النجدات من أحرص الناس على إثبات الإمامة لرؤسائهم وتسميتهم بأمير المؤمنين كما هو ظاهر في شواهد تاريخية عديدةينظر: مقالات الإسلاميين (1/170)، الملل والنحل للشهرستاني (1/123)، الفرق لعبد القاهر ص(85، 87، 98، 100)..
وتمادى بعضهم فأجازوا إمامة المرأة منهم إذا قامت بأمورهم وخرجت على مخالفيهم، وزعموا أنّ أم شبيبأم شبيب بن يزيد الخارجي، وتنسب إلى شبيب طائفة الشبيبية من الخوارج. ينظر: مقالات الإسلاميين (1/202)، والفرق ص (109).كانت الإمام بعد قتل شبيبينظر: الفرق ص (110-111)..
بل أفضى بهم الغلوّ في الإيمان والإمامة أنّ طائفة العوفية (من فرقة البيهسية) قالت: إذا كفر الإمامُ كفرت الرعية الغائب منهم والشاهد! قال ابن حزم: "قالت العوفية: إنّ الإمام إذا قضى قضيةَ جَورٍ وهو بخراسان أو بغيرها حيث كان من البلاد، ففي ذلك الحين نفسه يكفر هو وجميع رعيته حيث كانوا من شرق الأرض وغربها"الفصل (5/54)، وينظر: الملل والنحل للشهرستاني (1/126)، والفرق ص (109)..
- ومن أشدّ تناقضات طوائف من الخوارج أنّهم مجمعون على تكفير مرتكب الكبيرة وتخليده في نار جهنمخالف هذا الإجماع: النجدات، ينظر: مقالات الإسلاميين (1/168).، ثم إنّ منهم طوائف يسلكون مسلك الإرجاء حتى سمّوا بـ"مرجئة الخوارج"هم فرقة الشبيبة، ينظر: الملل والنحل للشهرستاني (1/126)، والفرق ص (109)..
ومن أسوأ الإرجاء لدى إحدى طوائف الخوارجهم طائفة الفضلية من فرقة الصفرية من الخوارج. ينظر: مقالات الإسلاميين (1/197)، والفصل (5/58).أنّها قالت: من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله بلسانه ولم يعتقد ذلك بقلبه بل اعتقد الكفر أو الدهرية أو اليهودية أو النصرانية فهو مسلم عند الله مؤمن، ولا يضرّه إذا قال الحق بلسانه ما اعتقد بقلبهينظر: الفصل (5/58)، ومقالات الإسلاميين (1/197)..
وهذا الإرجاء أشنع بمراحل من مقالة الكرّامية المرجئة القائلين بأنّ الإيمان مجرّد قول اللسان، وأنّ المنافق مؤمن في الدنيا لكن حكمه في الآخرة أنّه كافر مخلد في النار.
ومع تلك التناقضات فلا غرابة أن ينتقلوا بين قولين متضادين، أو يجمعوا بين رأيين متنافرين، فالمختار بن أبي عبيد الثقفي كان خارجيًّا ثم صار رافضيًّاينظر: الكامل للمبرد (3/194).، وعبد الله بن الكوّاء كان غاليًا في الرفض ثم صار من رؤوس الخوارجينظر: فتح الباري (12/310)، (13/93).!
ومهما يكن في المذهب الخارجي من جهالات وتناقضات، إلا أنّ له -عبر حقب تاريخية- تأثيرًا كثيرًا، وانتشارًا خطيرًا، ويشهد لذلك أنّ خارجيًّا جيء به إلى عبد الملك بن مروان، فجعل يبسط له من قول الخوارج، ويزيّن له من مذهبهم بلسانٍ طلق وألفاظٍ بيّنة ومعانٍ قريبة، فقال عبد الملك بعد ذلك على معرفته: لقد كاد يوقع في خاطري، أنّ الجنة خُلقت لهم! ثمّ أمر عبد الملك بحبسه قائلًا له: لولا أن تُفسد بألفاظك أكثر رعيتي ما حبستك، ثم قال عبد الملك: من شككني ووهّمني حتى مالت بي عصمةُ الله، فغير بعيد أن يستهوي مَن بعديالكامل للمبرد (3/171)، باختصار..
فهذا الخليفة عبد الملك بن مروان وصاحب الرأي الحصيف والدهاء الكبير يشهد بفداحة تأثير هذا الخارجي وشدّة تأثيره.
وكان لعبيد الله بن زياد صولات وجولات مع الخوارج، ودرايات بأحوالهم، وكشف شدّة استمالة الخوارج للقلوب بقوله: "لَكلام هؤلاء أسرع إلى القلوب من النار إلى اليَرَاعاليَرَاع: القصب."الكامل للمبرد (3/182)..
ثمّ إنّ أحوال الزهد ومشاهد التقشف لدى الخوارج لها أبلغ التأثير وأعظم الافتتان بهم، وقد أشار الإمام الأوزاعي إلى ذلك بقوله: "بلغني أنّ من ابتدع بدعةً خلّاه الشيطان والعبادة، وألقى عليه الخشوع والبكاء لكي يصطاد به"الحوادث والبدع للطرطوشي ص (138)، وينظر: الاعتصام (ت: مشهور) (1/216)..
وأخيرًا، ففي بعض تراجعات الخوارج ما يوافق حقًا ودليلًا، ويؤيّده العقل والاعتبار، فيمكن الاحتجاج بتلك التراجعات على سائر الخوارج، فكل فرقة تصادم الإسلام والسنّة بغلوّ أو جفاء، فإنّه يوجد فيها طائفة تعارض تلك الضلالات، وهذا أصل كبير حرّره ابن تيمية وحقّقه واقعًا وتطبيقًاينظر: الدرء (1/376)، (7/77)، (10/317)، والفتوى الحموية..
ثمّ إنّ مدافعة ضلال الغلاة وكشف زيف إفراطهم لا يتعارضان مع رحمتهم، فإنّ أهل السنّة يعلمون الحقّ وينصرونه ويرحمون الخلق ويشفقون عليهم، فها هو الصحابي الجليل أبو أمامة الباهلي -رضي الله عنه- يجمع بين الأمرين، فإنّه لما رأى سبعين رأسًا من الخوارج قد جُزّت ونصبت في دمشق ذكر حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- بأنّهم كلاب أهل النار، ثم بكى قائلًا: "بكيت رحمةً حين رأيتهم كانوا من أهل الإسلام"ينظر: الاعتصام (ت: مشهور) (1/70-71)..
المصدر: مجلة البيان العدد 345 جمادى الأولى 1437هـ.
إضافة تعليق جديد