قراءة في كتاب: ظاهرة الغلو والتكفير: الأصول، والأسباب، والعلاج
الغلو لغة:
هو: مجاوزة الحد، يقال: غلا فلان في الأمر: أي تجاوز الحد فيه.
الغلو شرعاً:
التشدد والخروج عن حد الاعتدال في الدين اعتقاداً أو عملاً، أو هما معاً.
الخلفيات والأصول (الجذور العلمية والتاريخية) للغلو في الدين والتكفير:
ترجع بذور الغلو في الدين إلى رؤوس الثوار على عثمان رضي الله عنه، وبعض العجم والأعراب الذين لم يتفقهوا في الدين، وبعض العباد الجهلة الأوائل، وأصحاب الأهواء، وأهل النفاق والزندقة، وكان من ضحيتهم بعض الغيورين والمندفعين إلى التدين بعاطفتهم بلا حكمة، ومن هذه الأصناف تكونت فرق الخوارج الأولى.
وأصول الغلو باقية، وتنبعث كلما توافرت أسبابها في أي زمان وأي مكان وبيئة، لا سيما مع الأحداث الجسام والفتن، فنزعة الغلو والتشدد التي قد تنشأ عنها ظواهر التكفير والعنف قد تصاحب كل نهضة أو دعوة وتشذ عنها.
من قواعد الحكم بالكفر وضوابطه:
1. أن الحكم بالكفر من الأحكام الخطيرة والحساسة، ولا تكون إلا بتثبّت وبيّنات، وقد جاء فيه الوعيد كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِأَخِيهِ: يَا كَافِرُ، فَقَدْ بَاءَ بِهِ أَحَدُهُمَا) أخرجه البخاري.
ويجب أن يحرص المسلم على دفع الكفر ودرئه عن المسلم قدر الإمكان، كان الإمام مالك رحمه الله يقول: "لو احتمل المرء الكفر من تسعة وتسعين وجهاً واحتمل الإيمان من وجه لحملته على الإيمان تحسينا للظن بالمسلم".
2. الذي يحكم ويتولى الحكم بالكفر ولوازمه على الأعيان من الأفراد والفرق والهيئات والدول هم العلماء الراسخون، لا سيما عند الفتن قـال الله تعـالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83].
3. لا يجوز تكفير المعيّن إذا قال كفراً، أو فعل كفراً، إلا بعد إزالة الشبهة وقيام الحجّة عليه، من قبل من يملك ذلك من أهل العلم.
4. حدثت في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- كفريات مخرجة من الملة في ظاهرها، ولم يكفّر أعيان فاعليها، لعارض الجهل، أو الإكراه، أو التأول، أو نحو ذلك.
5. حين نستعرض أقوال السلف وآثارهم وأفعالهم وأحوالهم -من الصحابة والتابعين وأئمة السنة والجماعة وعلمائهم- نجد بيانهم للكفر وتحذيرهم منه في العقائد والأحكام وغيرها كثيراً جداً لكن تكفيرهم للأعيان من الأفراد والفرق والهيئات نادر جداً.
شــروط الحكم بالكفر:
لا يحكم بالكفر على من فعل أو قال بالكفر إلا إذا كان:
1. بالغاً 2. عاقلاً 3. عالماً 4. متعمداً 5. غير متأول 6. ولا مكره.
وعلى هذا فلا يحكم بالكفر المخرج من الملة في الأحوال التالية:
1. فاقد العقل بجنون أو مرض أو نحوهما.
2. الصغير الذي لم يبلغ سن التميز أو التكليف كما في الحديث السابق.
3. الجاهل: أي مَنْ وقع منه الكفر قولاً أو فعلاً وهو لا يعلم أن قوله أو فعله كفرٌ مخرجٌ من الملة.
4. العمد: أن يقصد فعل الكفر أو قوله غير جاهل، ولا متأوّل، ولا مكره.
5. غير متأوِّل - والتأول صوره كثيرة: كأن يفسِّر الدليل بما يسوِّغ به الفعل، أو يدفع الدليل أو دلالته بما يظن به أنه يجوز له به الفعل، أو يترخَّص بما يظن أنه عذر عاذر له في ارتكاب ما فعله، أو يخطئ في فهم النص، أو الحكم الشرعي المفهوم من النص.
6. الإكراه: فالمسلم إذا وقع في أمر مكفّر بطريق الضرورة والإكراه فإنه لا يَكْفُرُ بعينه، فرداً كان أو جماعة، أو هيئة، أو دولة، لقوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل: 106].
وقوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16].
ومن صور الإكراه في ما أصاب المسلمين اليوم من حالة الذلة والهوان -حين تنازعوا وأعرضوا عن شرع الله- ظاهرة على كثير من الأفراد والشعوب والدول، والله حسبنا ونعم الوكيل.
واعتبار هذه الشروط والموانع هو الذي دلت عليه النصوص، وعليه السلف الصالح من الصحابة والتابعين وأئمة الهدى والأعلام، وعلماؤنا إلى اليوم، وإلى قيام الساعة. ولذلك تجدهم مع كثرة ذكرهم لمقالات الكفر، وأفعال الكفر، وتحذيرهم منها، يندر تكفيرهم للأعيان من الأفراد والفرق والجماعات والسلاطين.
أســباب الغلو في التكفير:
الأسباب العامة في ظهور الغلو والتشدد والتكفير:
1. شيوع البدع والمنكرات والفساد والظلم في المجتمعات، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو التقصير فيه، كما في كثير من البلاد الإسلامية.
2. قلة الفقه في الدين، أو أخذ العلم عن غير أهله أو على غير نهج سليم، أو تلقيه عن غير أهلية ولا جدارة.
3. ظهور نزعات الأهواء والعصبيات والتحزبات والشعارات.
4. الابتعاد عن العلماء وجفوتهم، وترك التلقي عنهم، وعدم الاقتداء بهم، وما نتج عن ذلك من التلقي عن دعاة السوء والفتنة والأهواء والالتفاف حولهم.
5. التعالم والغرور، والتعالي على العلماء وعلى الناس، واحتقار الآخرين وآرائهم.
6. حداثة السن، وقلة التجارب، والغيرة غير المتزنة، (عواطف بلا علم ولا حكمة).
7. النقمة على الواقع وأهله، بسبب سوء الأوضاع الدينية والاقتصادية والسياسية في كثير من بلاد المسلمين، وما يترتب على ذلك من ردود الأفعال التي لا تقدر عواقب الأمور.
8. تحدي الخصوم (في الداخل والخارج)، واستفزازهم للغيورين، وللشباب وللدعاة، وهو ما يمكن أن يطلق عليه: (المكر الكبَّار)، وكذلك كيدهم للدين وأهله، وطعنهم في السلف الصالح.
9. قلة الصبر، وضعف الحكمة في الدعوة لدى كثير من الغيورين، ولا سيما بعض الشباب المتدين، ومن ذلك ضعف إدراك الكثيرين لسنن الله تعالى الكونية والشرعية، في الصراع والتدافع بين الحق والباطل، والقواعد الشرعية التي تحكم ذلك.
إذا توافرت هذه الأسباب ونحوها أو أكثرها، مهَّد هذا لظهور الغلو والتنطع، ثم التكفير واستحلال الدماء والفساد في الأرض في أي زمان وأي مكان وأي مجتمع، وبخاصة إذا انضاف إلى هذه الأسباب تقصير الولاة، وغفلة العلماء وطلاب العلم والدعاة والمربين والآباء والمتصدِّرين، عن معالجة هذه السمات وأسبابها في وقت مبكر.
أما الأسباب التي هيأت لظهور الغلو والعنف في العصر الحديث بين المسلمين في شتى بلاد العالم فهي:
أولاً: إعراض أكثر المسلمين عن دينهم، عقيدة وشريعة وأخلاقاً، إعراضاً لم يحدث مثله في تاريخ الإسلام، ويتجلى هذا الإعراض بأمور كثيرة، من كثرة البدع والعقائد الفاسدة، والعلمنة الصريحة في أكثر بلاد المسلمين، والتي أدت إلى الإعراض عن شرع الله، وإلى الحكم بغير ما أنزل الله، وظهور الزندقة والتيارات الضالة، وضعف مظاهر التقوى والورع والخشوع في حياة المسلمين اليوم.
وكل هذه الأمور تثير غيرة الشباب المتدين، وحين لا يظهر له السعي الجاد لتغيير الحال وإنكار المنكر، يلجأ بعضهم إلى التصدي لهذه الانحرافات بلا علم ولا حكمة.
ثانياً: شيوع الظلم بشتى صوره وأشكاله: ظلم الأفراد، وظلم الشعوب، وظلم الولاة وجــورهم، وظلم الناس بعضهم لبعض، مما يُنمِّي مظاهر السخط والتذمر والحقد والتشفي في النفوس.
ثالثاً: تحكم الكافرين: من اليهود والنصارى والملحدين والوثنيين في مصالح المسلمين وبلادهم، مما أدى إلى تذمر المسلمين، وشعور طوائف منهم بالضيم والإذلال والإحباط، وما ينتج عن ذلك من ردود الأفعال والسخط والعنف.
رابعاً: محاربة التمسك بالدين والعمل بالسنن، والتضييق على الصالحين، وبالمقابل التمكين لأهل الفسق والفجور والإلحاد، مما يعد أعظم استفزاز لذوي الغيرة والاستقامة.
خامساً: الجهل بالعلم الشرعي، وقلة الفقه في الدين: فحين يتصدون للأمور الكبار والمصالح العظمى يكثر منهم التخبط والخلط والأحكام المتسرعة والمواقف المتشنجة، والحكم بالأهواء والعواطف، والحدّة تجاه المخالفين.
وجماع ذلك أن أصحاب الغلو والتكفير يجمعون بين الجهل والهوى والظلم، وقلة البصيرة في قواعد الشرع وعواقب الأمور.
سادساً: الجفوة بين العلماء والشباب وبين الشباب والمسؤولين:
ففي أكثر بلاد المسلمين تجد العلماء -بعلمهم وحكمتهم وفقههم وتجاربهم- في معزل عن أكثر الشباب، وربما يسيؤون الظن بالكثير منهم، وفي المقابل تجد الشباب بحيويتهم ونشاطهم وهمتهم بمعزل عن العلماء، وكذلك يوجد حاجز نفسي كبير بين النخبة من الشباب، وبين العلماء والمسؤولين، تجعل كلاً منهم يسيء الظن بالآخر، ولا يفهم حقيقة ما عليه الآخر إلا عبر وسائط غير أمينة غالباً، ومن هنا يفقد الحوار الجاد وحسن الظن الذي هو أساس التفاهم والإصلاح.
سابعاً: الخلل في مناهج بعض الدعوات المعاصرة:
فأغلبها تعتمد في مناهجها على الشحن العاطفي، وتربي أتباعها على أمور عاطفية غير منضبطة بضوابط الشرع وقواعد الدين، أو غايات دنيوية: سياسية واقتصادية ونحوها، وهي في الوقت نفسه قد تقصِّر في أعظم الواجبات، فتنسى الغايات الكبرى في الدعوة، من غرس العقيدة السليمة، والفقه في دين الله تعالى، والحرص على الجماعة وجمع الكلمة على العلماء وأهل الحل والعقد، وتحقيق الأمن، والتجرد من الهوى والعصبية، وفقه التعامل مع العلماء والولاة والعامة، ومع المخالفين ومع الأحداث، وفق قواعد الشرع، والتورع عن القول على الله بغير علم، وعن الخوض في أعراض الآخرين.
ثامناً: ضيق العطن وقصر النظر وقلة الصبر وضعف الحكمة:
ونحو ذلك مما هو موجود لدى بعض الشباب، فإذا انضاف إلى هذه الخصال ما سبق، أدى ذلك إلى الغلو في الأحكام والمواقف.
تاسعاً: تصدُّر حدثاء الأسنان وسفهاء الأحلام:
للدعوة وتوجيه الشباب بلا علم ولا فقه، فاتخذ بعض الشباب منهم رؤساء جهالاً، فأفتوا بغير علم، وحكموا في الأمور بلا فقه، وواجهوا الأحداث الجسام بلا تجربة ولا رأي ولا رجوع إلى أهل العلم والفقه والتجربة والرأي، مع تنقُّص العلماء والمشايخ، ولمزهم إما بالقصور أو التقصير، أو بالجبن أو المداهنة أو العمالة، أو بالسذاجة وقلة الوعي والإدراك!
عاشرًا: التعالم والغرور:
فمن أسباب ظهور الغلو والعنف في بعض فئات الأمة اليوم ادعاء العلم من الكثيرين، في حين أنك تجد أحدهم لا يعرف بدهيات العلم الشرعي، والأحكام، وقواعد الدين، ونصوصه، أو قد يكون عنده علم قليل بلا أصول ولا ضوابط ولا فقه ولا رأي سديد، ويظن أنه بعلمه القليل وفهمه السقيم قد حاز علوم الأولين والآخرين، فيستقل بغروره عن العلماء، وينأى بنفسه عن مواصلة طلب العلم، فَيَهْلكُ ويُهْلِكُ.
حادي عشر: التشدد فـي الدين والتنطع:
والخروج عن منهج الاعتدال في الدين الذي كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم.
والتشدد في الدين كثيراً ما ينشأ عن قلة الفقه في الدين، وهما من أبرز سمات أهل الأهواء عموماً والخوارج بخاصة.
ثاني عشر: شدة الغيرة وقوة العاطفة لدى فئات من الشباب والمثقفين وغيرهم:
بلا علم ولا فقه ولا حكمة، مع أن الغيرة على محارم الله وعلى دين الله أمر محمود شرعاً، لكن ذلك مشروط بالحكمة والفقه والبصيرة، ومراعاة المصالح، ودرء المفاسد.
من أهم خصائص منهج الغلاة التكفيريين:
1. ضعف جانب التبيّن والتثّبت في كثير من الأحوال التي حكموا بسببها بالكفر على الدولة أو الأفراد، وعلى هذا فإن بعض القضايا والأحوال التي زعموا أنها مكفرة إما أنها لا تثبت، أو أنها تثبت على غير ما توهموا، أو أنها تثبت فعلاً لكنهم أخطأوا في تطبيق القواعد والمنهج في الحكم بالكفر على المعيّن،.
2. يقوم منهجهم -غالباً- على التأويل المتكلف، وحمل أفعال من يحكمون عليهم على أسوأ المحامل.
3. يجهلون قواعد الاستدلال، وبعضهم يدفعه الهوى والتهور إلى التغافل عن إعمال القواعد الضرورية في الاستدلال.
4. وكذلك يجهلون (وبعضهم يحمله الهوى على تجاهل) قواعد التكفير، وشروط تكفير المعيّن .
5. لا يراعون الفوارق الشرعية والطبيعية، ولا السنن الإلهية في تقدير الأمور وعواقبها، بسبب الاندفاع العاطفي غير المتزن، والغيرة غير المنضبطة بضوابط الشرع.
6. لا يستفيدون -بسبب انغلاقهم- من الحوادث والتجارب والدروس والعبر التاريخية التي حدثت من أسلافهم سواء من أهل الأهواء أو الجماعات المتهورة.
7. يجهلون (وقد يتجاهل الكثير منهم) الأصول الكبرى والقواعد العظمى التي قررها الشرع، واتفق عليها سلف الأمة، مثل: درء المفاسد مقـدم عـلى جلب المصالح، والمشقة تجلب التيسير، و(سددوا وقاربوا)، ونحوها.
الـعــــلاج:
1. أهمية الوضوح والشفافية والصراحة في طرح قضايا التكفير والعنف والغلو وأسبابها، والاعتراف بوجودها وآثارها.
2. عدم الخلط بين القضايا التي لها أصول شرعية وبين ما فيه مخالفة للشرع، فالجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والولاء والبراء ونحوها، كلها أصول عقدية وثوابت شرعية معتبرة شرعاً بشروطها، فيجب بيان الخطأ في تفسيرها وفهمها، لا إنكارها والتشكيك فيها، وعدم الخلط بينها وبين التكفير المذموم والعنف والإرهاب.
3. كشف مواطن الإشكال واللبس والغموض في القضايا الحساسة، فتُحرَّر جميع المسائل المشكلة شرعاً، وتربطها بأصولها وقواعدها وأدلتها وفتاوى العلماء.
4. ثم يتبع ذلك أهمية استقراء شبهات الغلاة ودعاويهم وتلبيساتهم، أو الأمور الملتبسة عليهم، وتتبع مقالاتهم ومؤلفاتهم وسائر مزاعمهم والتعرف على أساليب رؤوسهم ومرجعياتهم، ثم الرد عليهم بالحجة والدليل والبرهان الشرعي والعقلي، والأسلوب العلمي الرزين، والحوار الجاد مع المنظرين والمتبوعين منهم.
5. وضع آلية واضحة وشاملة للعلاج مع المختصين وأهل العلم.
إضافة تعليق جديد