المشروع الإسلامي والمشروع الوطني
قال لي صاحبي ونحن نتحاور في أحوال الثورة السورية وما آلت إليه، وفي الواجب في هذه المرحلة: الثورة الآن بحاجة إلى مشروع وطني لا مشروع إسلامي.
وعبارته بالنسبة لي واضحة جليّة، فالمشروع الوطني: هو المشروع الجامع الذي تتفق عليه جميعُ المكوّناتِ الوطنية المؤثّرة أو جلُّها، ويُشَكِّل القاسمَ المشتركَ لمطالبها، ويكونُ عادةً دون طموحِ جميعهم، لكنّهم يتوافقون عليه، لأنَّه الأمر الـمُمكن، ويحققُ لهم مصلحة مشتركة.
بينما المشروع الإسلامي: هو الذي يكون فيه السلطان للشريعة في كل شؤون الحياة، في الحكم والاقتصاد وشؤون المجتمع والعقوبات وعلاقة المسلمين بغيرهم، كما هو الشأن في الخلافة الإسلامية الراشدة، وليس معنى هذا أن يَظلمَ المشروعُ الإسلامي بعضَ مواطنيه أو يغمطَهم حقوقهم، بل لا يكون المشروع إسلاميًّا حقًّا حتى يحكمَ بالعدل بين الجميع، ويعطي كلَّ ذي حقٍّ حقَّه.
كلُّ هذا مفهومٌ وجليّ، لكن هذا التقابل والتضادّ في الإشارة إلى المشروعين "مشروع وطني لا مشروع إسلامي" ربما كان السببَ وراء رفض البعض لفكرةِ المشروع الوطني ومحاربته، ومحاولات الغلاة لتشويه صورة الـمُطالِبينَ به وتخوينِهم والطعنِ في ديانتهم.
ذلك أنّ العبارة قد توحي لبعض البسطاء ولمن يريد أن يصطادَ في الماء العكر بأنّ المشروعَ الوطني هو مخالفةٌ لدين الإسلام وخروجٌ عنه، كما يقال: "بنك إسلامي" في مقابلة البنك الربوي، و"ذبح إسلامي" في مقابلة الـمَيْتة!
وهذا فهم باطل، فالمشروع الوطني إذا كان عملًا بالقدر المستطاع، وسكوتًا عمّا لا يُستطاع -دون النصِّ على إسقاطِه من الدين- فهو معتبر شرعًا، إذ إنَّ العمل على قدر الوسع أصل ثابت من أصول الشريعة دلَّت عليه محكمات النصوص:
{لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}
{فَٱتَّقُوا ٱللَّهَ مَا ٱسْتَطَعْتُمْ}
(فما أمَرْتُكم مِن شيءٍ فأتوا منه ما استطَعْتُم)
(مَن رأى مِنكُم مُنكرًا فليغيِّرهُ بيدِهِ، فإن لَم يَستَطِع فبِلسانِهِ، فإن لم يستَطِعْ فبقَلبِهِ)
والتكاليف الشرعية لا تتوَجَّه إلا على القادر.
قال شيخ الإسلام: "ولا يكون ذلك -أي السكوت عن الأمر والنهي بما لا يمكن علمه أو عمله إلى وقت الإمكان- من باب إقرار المحرّمات وتركِ الأمر بالواجبات، لأنّ الوجوبَ والتحريمَ مشروط بإمكان العلم والعمل".
ويقول الشيخ عبد الرحمن بن سعدي في تفسير سورة هود، في جملة الفوائد من قول شعيب عليه السلام {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا ٱلْإِصْلَـٰحَ مَا ٱسْتَطَعْتُ}: "ومنها: أنَّ من قام بما يقدرُ عليه من الإصلاح، لم يكن ملومًا ولا مذمومًا في عدم فعله ما لا يقدر عليه"، وقال في موضع آخر: "إنْ أمكن أنْ تكون الدولةُ للمسلمين وهم الحُكَّام، فهو المتعيِّنُ، ولكنْ لعدمِ إمكان هذه المرتبةِ فالمرتبةُ التي فيها دفْعٌ، ووقاية للدِّين والدُّنيا مُقدَّمةٌ".
فالمشروع الوطنيُّ له شَرعية إسلاميةٌ طالما كان هو الممكنُ والمستطاع، والإنكار عليه غلوٌّ وتنطُّع وليس من الإسلام في شيء!
بل أزيد فأقول: إنَّ إلحاق وصف "إسلامي" بالأشياء، كمشروع إسلامي، وحجاب إسلامي، ومدرسة إسلامية، لم يكن في حضارتنا إلى وقت قريب، ومع أنّه لا مشَاحة في الاصطلاح، لكن إذا كان الاصطلاح سيشوِّش على أفهام الناس فيجب أن نكون حذرين في استخدامه.
وقد تتفاوتُ اجتهاداتنا في تقديرِ القدر المستطاع في المشروع الوطني، لكن مثل هذا التفاوت –مع التسليم بالأصل- لا يؤدي إلى التخوين والاتهام في الدِّين، فضلًا عن التكفير واستحلال دماء المخالفين.
والله أعلم.
إضافة تعليق جديد