الخميس 26 ديسمبر 2024 الموافق 24 جمادي الثاني 1446 هـ

إضاءات فكرية

المصطلحات وأثرها على الفكر الإسلامي

04 رمضان 1439 هـ


عدد الزيارات : 3635
محمد العبدة

 

نعى القرآن الكريم على أناس يلجؤون إلى الخداع اللفظي وخلط الأوراق أو الغموض في المصطلحات حتى تفسّر على عدّة أوجه، وبذلك تترتّب نتائج زائفة على مقدّمات قد يكون بعضها صحيح وبعضها باطل. قال تعالى متحدّثًا عن بني إسرائيل، وأنّ من صفاتهم هذا الخداع وهذا الخلط: {وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ}[البقرة: 42] وقال: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ}[آل عمران: 71]، وقال: {مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ}[النساء: 46].

وقد نزل القرآن الكريم بلسانٍ عربي مبين واضح لا لبس فيه ولا غموض، والمصطلحات التي يذكرها محدّدة ومفهومة: الجهاد، والهجرة، والإيمان، والإسلام، والشورى الخ، وهذا الوضوح بهذا اللسان العربي نقرؤه اليوم كما قرأه الذين عاصروا نزوله، هو الذي حماه -بعد حفظ الله- من التأويلات الفاسدة وتحريف الكلم عن مواضعه كما وقع للكتب السابقة، فهذه اللغة حدّدت المعاني بطريقة جازمة، وقد أدّبنا الله -سبحانه- في كتابه الكريم بأن نستعمل الكلمات الواضحات التي لا لبس فيها حتى لا يستغلّها المغرضون، كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا}[البقرة: 104]، لأنّ اليهود يستعملون كلمة راعنا بمحمل سيء وإن كان ظاهرها حسنًا. ومعنى جعلِهِ قرآنًا عربيًّا، لأنّ أهل تلك اللغة أفهم لدقائقها، وليكونوا المبلّغين عن مراد الله -سبحانه- إلى الأمم.

إنّ الخطوة الضرورية في مسيرة الفكر الإسلامي ومسيرة النهضة الثقافية هي العناية باللغة وتحديد معنى المصطلحات وتحريرها، حتى يقوم الحوار أو البحث على أسس علمية، لأنّ الغموض في المصطلحات لا بد أن يؤدي إلى غموض في الفكر وإلى التشوش والارتباك. قال تعالى على لسان عيسى عليه السلام {وَلَمَّا جَاءَ عِيسَىٰ بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ}[الزخرف" 63]، والتبيين هو تجلية المعاني الخفيّة لغموض أو سوء تأويل.

إنّ خطورة المصطلحات وأثرها الكبير تأتي عندما تنتقل من ثقافة إلى ثقافة أخرى ولا يُبحث عمّا وراءها، وعن جذورها وفي أي بيئة نبتت، وما يحيط بها من رؤية للعالم. لقد وقع مبكّرًا هذا اللبس في تاريخنا الثقافي وذلك عندما ترجمت كتب اليونان، وخاصّة التي تتعلق بالإلهيات (وما بعد الطبيعة)، وكان للقوم مصطلحات معيّنة حسب لغتهم وحسب مفاهيمهم، فلما نقلت إلى العربية حرفيًّا أحدثت اضطرابًا وخلطًا في الثقافة الإسلامية. كانت مفاهيم جديدة وغريبة عن رؤية المسلمين للعالم، يقول أحد الباحثين: "ليس هناك مصطلح مفتاحي واحد في الفلسفة الإغريقية تم إيجادُ مقابلٍ تامٍ له في اللغة العربية، ومن الأمثلة على ذلك أنّ كلمة (عقل) في المصطلح القرآني تحوّلت إلى المصطلح الفلسفي لتتماشى مع كلمة (nous) اليونانية، وأصبحت كلمة عقل هي التدرّج في مراحل (الفيض) بوصفه (العقل) المصدر الأول عن الجوهر الإلهي نزولًا، حتى يصل إلى العقل الإنساني"حوارات مع الدكتور عبد الوهاب المسيري – الجزء الأول.وتتلخص نظرية الفيض بأنّ الله -تعالى عما يقولون- يفيض عنه -دون إرادة أو حكمة- مخلوق أوّل هو الملك المشرف على الفلك الذي يحوي جميع الأفلاك التي توجد الأرض في مركزها، ثم يفيض عن هذا الملك ملك ثان، وهكذا في سلسلة تدريجية حتى يتم فيضان العقول السماوية والمشرفة على تلك الأفلاك، والعقول عشرة!! وهي النظرية الخرافية التي أخذ بها الفارابي وأمثاله. وهكذا يضيع الإنسان عندما لا يهتدي بنور الوحينظرية الفيض تقول بها المدرسة الغنوصية التي هي تلفيق من المانوية الفارسية والهيلينية اليونانية..

وإذا كان اليونانيون قد تفوقوا في عصرهم بالعلوم الطبيعية فهذا لا يعني أنّهم متفوقون في الأمور الأخرى، فهم في الأمور الإلهية من أجهل الناس كما يقول شيخ الإسلام ابن تيميةمن جهلهم أنّهم ألّهوا الإنسان ثم أظهروا آلهتهم على شكل مخادعين ومتآمرين على بعضهم البعض، ويرتكبون الزنا والسرقة، ويغار أحدهم من الآخر.. وعندما انحرف المسلمون عن المنهج الذي سار عليه خير القرون وبدؤوا بالبحث عن (الذات) الإلهية والصفات، فإنهم كانوا يتمثلون الطريقة الإغريقية التي تنزع إلى تفسير الوجود كله في إطار (الجواهر والأعراض)الجوهر الفرد باصطلاحهم كيان مصمت مستقل قائم بذاته ذرة مصمتة، فالجوهر ثابت والأعراض متحولة وهي قائمة بالجوهر ليس لها كيان مستقل.، مما أوقع المسلمين في جدل عقيم الذي سمي بعلم الكلام، ونتج عنه التفرّق وبروز الفرق المنحرفة عن منهج أهل السنة.

إنّ أوّل من رفض الآلة المنطقية اليونانية هو الإمام الشافعي رحمه الله، رفض الآلة لأنّه يرفض المضمون الذي تحمله هذه الآلة التي تعتمد على قاعدة كلية كبرى وقاعدة صغرى ووسيط بينهما، وقد تكون الكبرى شيئًا موجودًا في الذهن وليس موجودًا في الواقع أو الخارج، ويبنون على هذه المقدّمات التي يعتبرونها يقينية نتائج قد تكون غير صحيحة، والمنهج الإسلامي يعتمد الطريقة الاستقرائية وهي الوصول من الجزئيات ومن التجربة العملية إلى الحقائق والكليات، يقول الإمام الشافعي: "ما جهل الناس واختلفوا إلا لتركهم لسان العرب وميلهم إلى لسان أرسطاطاليس".

وفي العصر الحديث نقلنا المصطلحات الغربية دون أن ننتبه إلى ما تلقي من ظلال معينة، ودون أن ندرك المفاهيم الكامنة وراءها، والثقافة التي أنتجتها، وأنّ لها معان عند القوم غير موجودة في ثقافتنا، وزدنا على ذلك أنّنا قمنا بترجمة هذه المصطلحات حرفيًّا.

ولنأخذ مثالًا على ذلك كلمة: (الأصولية) التي شاعت عند بعض الكتّاب، وبعض الصحف عندنا، يعنون بذلك كلّ مسلم ملتزم بدينه علمًا وعملًا، وهي ترجمة لكلمة (fundamentalism) التي تعني بالدرجة الأولى تفسيرات البروتستانت الحرفية للعهدين القديم والجديد، ونحن المسلمين ليس عندنا هذه الحرفية في تفسير وفهم النصوص، بل المطلوب شرعًا فهمها وتدبرها وتعقّلها، والاجتهاد مفتوح للعلماء القادرين على ذلك.

إنّ مصطلح الدين عندهم (religion) هو العلاقة بين الإنسان وخالقه فقط، أو التوجّه الروحي، وليس له دخل في حياة الإنسان الدنيوية، ولكنّ الدين عندنا بمفهومه الإسلامي شامل لكل شؤون الحياة، ولذلك يستغرب بعضهم انشغال المسلمين بالسياسة! وأطلقوا كلمة الإسلام السياسي -طبعًا بعضهم أطلقها تعمّدًا- وردّدها الببغاوات عندنا.

ومصطلح الإيمان عندنا لا يقابله كلمة (faith) الإنجليزية التي تعني الاعتقاد بصحة مسائل وإن اعتبروها غير مقنعة عقليًا، خاصة بعد أن انتشر مبدأ الشك والنسبية في الثقافة الغربية. الإيمان الإسلامي هو اليقين فليس هناك زيف أو شكوك.

ولنأخذ مصطلح (التقدّم) نستخدمه دون أن نحدّد مضمونه، هل هو إقامة العدل في الأرض والأمر بالمعروف؟ أم هو الإنتاج والاستهلاك؟ ينظر الغربي إلى تاريخه وما مر به من مراحل: العصور الوسطى، والإقطاعية، والملكية الاستبدادية، فيعتبر ما هو فيه الآن تقدّمًا، ونحن المسلمين لم نمرّ بهذه المراحل، فهل هناك تاريخ واحد يُفرض على جميع البشر ويمرون بالمراحل نفسها؟

المسلمون لا يريدون دولة (قوميّة) بالمعنى المتعارف عليه اليوم، ولكنّهم يستخدمون المصطلح الإنجليزي (nation) بمعنى (الأمّة) ولكنّ مصطلح (الأمّة) القرآني يختلف تمامًا لأنّه قائم على رؤية عقدية سياسية. وهكذا يطلق الغرب مصطلحات إمّا أن تدلّ على طريقة تفكيرهم، أو لأسباب سياسية استعمارية مثل إطلاقهم على المنطقة العربية (الشرق الأوسط)، لإبعاد الهويّة العربية الإسلامية، وكذلك يقيسون العالم بالنسبة لهم، فهناك شرق أدنى وشرق أوسط وشرق أقصى، وقالوا عن الدولة العثمانية (رجل أوروبا المريض) والدولة العثمانية ليست أوروبية ولكنهم ينظرون إليها باعتبارها ميراث يجب تقسيمه بينهم.

ولعلاج هذا الخلل في المصطلحات: نعود إلى دراسة المصطلح الغربي من خلال سياقه الأصلي ومعرفة مدلولاته ومقاصد القوم منه، وإذا ترجم حرفيًّا نتحفظ عليه أو نضع مصطلحًا يوضّح المفهوم الكامن وراءه، لأنّنا نلاحظ أنّ هناك نزوعًا ضمنيًّا لتقريب مصطلحاتنا ومفاهيمنا إلى الشيء السائد في الغرب، وهذا مما يبعدنا عن الإصلاح الحقيقي.

فإذا أتينا إلى المصطلحات التي يدور الحديث عنها اليوم، وهي بيت القصيد: الدولة المدنية، المواطنة، الوطنية، الحرّية، الديمقراطية.. إلخ، فيجب أن نعاملها بالقاعدة السابقة: أصل المصطلح، وأين نشأ، وما هو مفهومه عندهم.

إنّ مصطلح الدولة المدنية نشأ من خلال صراعهم مع الكنيسة وتسلّطها، ومن خلال نظام (الثيوقراطية) حين كان ملوك أوروبا يحكمون باسم الإله، أي أنّهم مقدّسون، ومفهوم الثيوقراطية غير موجود عندنا نحن المسلمين، والإسلام له نظرته الخاصّة في الاقتصاد والحكم والسياسة، فالدولة المدنية هي في الحقيقة مقابل (الدولة الدينية)، مع أنّه ليس عندنا شيء اسمه دولة دينية بالمصطلح الغربي، وليس عندنا طبقة رجال الدين هم الذين يحكمون، ولكنّها دولة تحكمها الشريعة، أي دستور ونظم منبثقة عنها، ولا يقال هنا: نحن نقصد أنّها ليست دولة عسكرية، فالغرب عندما أطلق هذا المصطلح لم يكن عنده دولة عسكرية، وأخشى أن يمرر هذا المصطلح في غفلة عن أهله، خاصة حين يُزيّن لهم أنّه ورقة الخلاص مما نحن فيه.

ومصطلح المواطنة مصطلح غامض، فنحن عندنا شيء اسمه انتماء إلى (أمّة)، وغير المسلم هو مواطن له حقوقه الخاصّة وحقوقه العامة، وكذلك عليه واجبات يتفق عليها، وهي التي تطلب منه، وهذا شيء طبيعي في الدول والحضارات، بل هذا أفضل ما عرفته البشرية من تفاهم وتعايش مع وجود الاختلاف في الدين. بينما نجد في بعض الدول الغربية اليوم أنّ مسمّى المواطنة تعني الخضوع لكل التقاليد والأفكار والرؤى الاجتماعية، وأعتقد أنّ هذا المصطلح وأمثاله يجب أن يخضع للحوار لتحريره من اللبس والغموض.

أما الديمقراطية فهذه ليست مصطلحًا وحسب، بل هي نظام سياسي معيّن، سواء من حيث الشكل أو المضمون، وقد تدرّج وتأصّل في الغرب في العصر الحديث، ومن غير المعقول نقل نظام كهذا إلى شعوب هي بحاجة إلى نظام سياسي يحافظ على هويتها وشخصيتها ويراعي ظروفها وأسلوب حياتها.

 

هذا لا يعني أنّنا منغلقون عن أي شيء مفيد يأتي من الغرب أو الشرق، وليس عندنا إشكال في المصطلحات إذا تمّ توضيحها، فعندما شاع مذهب الجبرية -أي أنّ الإنسان مجبور على أفعاله- قال العلماء: هذا مصطلح غير شرعي، ولكنّ الخلق مختلفون، وإذا كانت الفطرة سليمة فقد يُجبل الإنسان على أخلاق قويمة  كما ورد في الحديث مع وفد عبد القيس حين قال الرسول -صلى الله عليه وسلم- لأشجّ عبد القيس رئيس وفدهم: (إِنَّ فِيكَ خَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللهُ: الْحِلْمُ، وَالأَنَاةُ) وفي رواية أنّه قال: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا أَتَخَلَّقُ بِهِمَا أَمُ اللَّهُ جَبَلَنِي عَلَيْهِمَا؟ قَالَ: (بَلِ اللَّهُ جَبَلَكَ عَلَيْهِمَا).

يقول العلّامة البشير الإبراهيمي: "إنّ ظلم الكلمات بتغيير دلالتها كظلم الأحياء بتشويه خلقتهم، كلاهما منكر وكلاهما قبيح، وهو تزوير على الحقيقة وتغليط للتاريخ"الآثار الكاملة (3/18)..

 

المصدر: موقع المجلس الإسلامي السوري

1 - حوارات مع الدكتور عبد الوهاب المسيري – الجزء الأول.
2 - نظرية الفيض تقول بها المدرسة الغنوصية التي هي تلفيق من المانوية الفارسية والهيلينية اليونانية.
3 - من جهلهم أنّهم ألّهوا الإنسان ثم أظهروا آلهتهم على شكل مخادعين ومتآمرين على بعضهم البعض، ويرتكبون الزنا والسرقة، ويغار أحدهم من الآخر.
4 - الجوهر الفرد باصطلاحهم كيان مصمت مستقل قائم بذاته ذرة مصمتة، فالجوهر ثابت والأعراض متحولة وهي قائمة بالجوهر ليس لها كيان مستقل.
5 - الآثار الكاملة (3/18).

إضافة تعليق جديد