الجمعة 19 أبريل 2024 الموافق 10 شوال 1445 هـ

إضاءات فكرية

من هم الخوارج؟

14 شعبان 1439 هـ


عدد الزيارات : 5493
عماد الدين خيتي

 

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

فإن من مصائب هذا الزمان اختلاط المفاهيم، وانحراف المصطلحات، حتى تاه فيها كثير من الناس، مصداقًا لقوله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّهَا سَتَأْتِي عَلَى النَّاسِ سِنُونَ خَدَّاعَةٌ، يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ، وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ، وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ، وَيُخَوَّنُ فِيهَا الْأَمِينُ) رواه ابن ماجه وأحمد.

ومن ذلك مصطلح (الخوارج)، الذي افترق فيه الناس على أقسام من أهمها:

  1. حكام طغاةٌ رموا العلماء والدعاة بالخروج، كيدًا لهم وتشويهًا لسمعتهم، وصرفًا للناس عن فضح طغيانهم وخيانتهم الأمانة، فانتهكوا بذلك حرماتهم، وأعملوا بهم قتلاً، وتعذيبًا، وزجًّا في السجون، أفرادًا وجماعات، متأسِّين بإمامهم: {إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ}[غافر: 26].

  2. ومنتسبون للعلم، اتخذوا من إرضاء الحكّام وتعبيد الناس لهم شرعة ومنهاجًا، فرموا من خالفهم بالخارجية والانحراف في الدين زورًا وبهتانًا، لم يرتفعوا بالعلم ولم ينفعوا، بل {أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ}[الأعراف:167].

  3. وغلاة حصروا الخوارج في فرق تاريخية، وأفكار وعقائد لم يعد لها وجود في هذا الزمان، أو في فرق شديدة الغلو تكفر عموم المسلمين والمجتمعات، مما لا يكاد يخفى على عامة الناس وجهالهم.

  4. وعامة أهل العلم الذين عرفوا عقيدة الخوارج وفكرهم، وحذّروا منه وبيّنوا ضلاله وانحرافه.

 

فمن هم الخوارج؟ وما علامتهم؟ وهل لهم وجود في هذا الزمان؟

ضابط الوصف الذي يكون به الشخص خارجيًا:

فصَّلت السنة النبوية في صفات الخوارج ما لم تُفصِّله في أيِّ فرقة أخرى، تنبيها للأمة ورحمة بها، لعظيم خطرهم الفكري، وانحراف منهجهم في التعامل مع النصوص، وخطرهم الواقعي في تطبيق أفكارهم على المجتمع المسلم، ولسرعة الاغترار بهم، لما يظهر فيهم من تعبُّدٍ، ورفع شعارات براقة، تخدع فريقًا من الناس فيحسنوا الظن بهم، مما يدفعهم إلى اعتقاد صحة أفكارهم وأعمالهم.

والذي جاء في النصوص الشرعية من أوصاف توضِّح منهج الخوارج ومعتقداتهم:

  1. أنّهم يقتلون المسلمين، قال صلى الله عليه وسلم: (يَقْتُلُونَ أَهْلَ الإِسْلاَمِ) متفق عليه.

  2. أنّهم يخرجون عن أحكام الدين ويفارقون جماعة المسلمين، كما قال صلى الله عليه وسلم: (يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ) رواه البخاري ومسلم.

 

الوصف الأول للخوارج: قتلهم للمسلمين:

فقد ذكر أهل العلم أن سبب هذا القتل هو: أنَّهم يحكمون بالكفر والرِّدة على مخالفيهم بغيرِ حق. قال القرطبي في (المُفهم): "وذلك أنّهم لمّا حكموا بكفر مَن خرجوا عليه من المسلمين، استباحوا دماءهم". وقال ابن تيمية في (الفتاوى): "الخوارج دينهم الْمُعَظَّمُ: مفارقةُ جماعةِ المسلمين، واستحلالُ دمائِهم وأموالِهم". وقال: "فإنّهم يَسْتَحِلُّونَ دماءَ أهلِ القبلة لاعتقادِهم أنّهم مرتدُّون أكثر مما يَسْتَحِلُّونَ من دماء الكفار الذين ليسوا مرتدين". وقال ابن عبد البر في الاستذكار: "وهم قوم اسْتَحَلُّوا بما تَأَوَّلُوا من كتاب الله عز وجل: دماءَ المسلمين، وكفّروهم بالذنوب، وحملوا عليهم السيف".

وهذا التكفير له صور كثيرة: كتكفير مرتكب الكبيرة أو بمطلق الذنوب، أو التكفير بما ليس بذنب أصلًا، أو التكفير بالظنّ والشّبهات والأمور المحتملة، أو بالأمور التي يسوغ فيها الخلاف والاجتهاد، أو دون التّحقق من توفر الشروط وانتفاء الموانع.

وما ذكره كثير من العلماء من أنّ مذهب الخوارج: تكفير مرتكب الكبيرة، ليس وصفًا جامعًا لكل الخوارج، وليس شرطًا للوصف بالخروج، وإنّما هو وصف لما استقرَّ في عهدهم من أكثر فرق الخوارج، فيدخل في الخوارج كل من يكفّر المسلمين بغير حق، ويستحل دماءهم ولو لم يعتقد كفر مرتكبِ الكبائر.

ومما يدل على عدم اشتراط القول بتكفير مرتكب الكبيرة للوصف بالخوارج، أنَّ الخوارج الذين خرجوا على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب والصحابة -رضوان الله عليهم أجمعين- إنَّما كفّروا الصحابة بقبول التَّحكيم، واستحلّوا دماءهم بذلك، مع أنَّ التحكيم من الأمور المباحة وليس بذنبٍ أصلًا، فحكم عليهم الصّحابةُ بأنّهم الخوارج الذين أخبر عنهم النّبي -صلى الله عليه وسلم- لفعلهم هذا، ولم يسألوهم عن مذهبهم في بقية الذّنوب، وهل يُكفِّرون بها أم لا.

كما أنَّ (النَّجدات) وهم من رؤوس الخوارج باتفاق أهل العلم، لا يقولون بكفر مرتكب الكبيرة، قال أبو الحسن الأشعري في (مقالات الإسلاميين) مبيّنًا عقيدة الخوارج: "وأجمعوا على أنّ كل كبيرة كفر، إلا النجدات فإنّها لا تقول بذلك". وقال البغدادي في (الفرق) بعد أن استعرض ما يجمع فرق الخوارج: "وقد أخطأ الكعبي في دعواه إجماع الخوارج على تكفير مرتكبي الذنوب منهم، وذلك أنّ النجدات من الخوارج لا يكفّرون أصحاب الحدود من موافقتهم … وإنّما الصواب فيما يجمع الخوارج كلها ما حكاه شيخنا الحسن -رحمه الله- من تكفيرهم عليًا وعثمان وأصحاب الجمل والحكمين، ومن صوَّبهما أو صوَّب أحدهما أو رضي بالتحكيم".

وإن كان العلماء قد حكموا على من يكفّر مرتكب الكبيرة بأنّه من الخوارج، فكيف بمن يكفّر بالصغائر والأمور الاجتهادية أو بما هو مباح، كالجلوس مع الكفار ومراسلتهم مثلًا!

ومما يدلّ على أنَّ وصف الخوارج بأنّهم يكفّرون بالكبيرة -كما استقرَّ في تعاريف عدد من أهل العلم- ليس وصفًا لازمًا لجميع الخوارج في كل وقت، قول أبي حسن الأشعري في (مقالات الإسلاميين): "فأما التوحيد فإنّ قول الخوارج فيه كقول المعتزلة ... والخوارج جميعًا يقولون: بخلق القرآن". ومعلوم أنّ الخوارج الأولين ثم غالب فرق الخوارج لم تقل بمثل هذه العقائد.

 

الوصف الثاني للخوارج: مفارقة الدين وجماعة المسلمين:

وقد بيَّن أهل العلم أنَّ من أهم أوصاف الخوارج: خروجهم عن أحكام الدين التي جاءت بها النصوص الشرعية في التكفير واستحلال الدماء، ومفارقة جماعة المسلمين في المنهج والمعتقد.

قال ابن حجر في (فتح الباري): "سُمّوا بذلك لخروجهم عن الدين، وخروجهم على خيار المسلمين". وقال النووي في (شرح مسلم): "وسمّوا خوارجًا، لخروجهم على الجماعة، وقيل: لخروجهم عن طريق الجماعة، وقيل: لقوله صلى الله عليه وسلم: (يَخْرُجُ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا)". ومعنى (يَخْرُجُ مِنْ ضِئْضِئِ): يخرج من أصله ونسبه.

أمّا ما ذكره عددٌ من العلماء من أنّ الخوارج هم من خرجوا على الحاكم المسلم، فهذا ليس بوصفٍ جامعٍ للخوارج كذلك، إذ لم يرد في النصوص الشرعية ما يدل على اشتراط (الخروج على الإمام المسلم) للوصف بالخروج، بل كل من كان على معتقدهم ومنهجهم فهو من الخوارج سواء خرج على الإمام أم لم يخرج، وسواءً كان الحاكم مسلمًا أو غير مسلم، ما دام قد اجتمع في هذه الجماعة التكفير دون حق، والخروج عن جماعة المسلمين.

وإنّما خصّ عدد من أهل العلم وصف الخوارج بمن خرج على الأئمة لأنَّ هذا كان غالب أمرهم، فهم قد خرجوا أوّلًا على الخلفاء الراشدين، ثم على الدولة الأموية، والعباسية.

وهؤلاء الخوارج إن وجدوا الإمام المسلم خرجوا عليه واستباحوا الدماء والأموال، وإن لم يجدوا الإمام استباحوا دماء عامة المسلمين وخيارهم من المجاهدين والعلماء والدعاة، كما نصّت عليه نصوص الشرع، وكلام أهل العلم.

وقد استدلّ أهل العلم بأحاديث الخروج عن الجماعة على ذم الخوارج، قال صلى الله عليه وسلم: (مَنْ خَرَجَ مِنَ الطَّاعَةِ، وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ فَمَاتَ، مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً، وَمَنْ قَاتَلَ تَحْتَ رَايَةٍ عِمِّيَّةٍ يَغْضَبُ لِعَصَبَةٍ، أَوْ يَدْعُو إِلَى عَصَبَةٍ، أَوْ يَنْصُرُ عَصَبَةً، فَقُتِلَ، فَقِتْلَةٌ جَاهِلِيَّةٌ، وَمَنْ خَرَجَ عَلَى أُمَّتِي، يَضْرِبُ بَرَّهَا وَفَاجِرَهَا، وَلَا يَتَحَاشَى مِنْ مُؤْمِنِهَا، وَلَا يَفِي لِذِي عَهْدٍ عَهْدَهُ، فَلَيْسَ مِنِّي وَلَسْتُ مِنْهُ) رواه مسلم. قال القاضي عياض في (إكمال المعلم): "أي لا يكترث بما يفعله بها، ولا يحذر من عقباه، وفي معناها الرواية الأخرى: إيمانه إنما يقاتل لشهوة نفسه وغَضَبِها أو لقومه وَعصبَته، هذا -والله أعلم- في الخوارج وأشباههم من القرامطة".

وقد استدلّ ابن تيمية في (الفتاوى) بهذا الحديث على الخوارج فقال: "قد ذكر -صلى الله عليه وسلم- البغاة الخارجين عن طاعة السلطان وعن جماعة المسلمين، وذكر أنّ أحدهم إذا مات مات ميتة جاهلية، فإنّ أهل الجاهلية لم يكونوا يجعلون عليهم أئمة، بل كل طائفة تغالب الأخرى. ثم ذكر قتال أهل العصبية كالذين يقاتلون على الأنساب مثل (قيس ويمن)، وذكر أنّ من قُتل تحت هذه الرايات فليس من أمّته، ثم ذكر قتال العداة الصائلين والخوارج ونحوهم وذكر أنّ من فعل هذا فليس منه".

وقال النووي في (شرح مسلم) عن حديث: (لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ، إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: الثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ): "وأمّا قوله صلى الله عليه وسلم: (وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ) فهو عامّ في كل مرتد عن الإسلام بأي ردّة كانت، فيجب قتله إن لم يرجع إلى الإسلام، قال العلماء: ويتناول أيضًا كل خارج عن الجماعة ببدعة أو بغي أو غيرهما، وكذا الخوارج والله أعلم". ونقله العظيم أبادي مقرًّا له في (عون المعبود).

وحين اختلف الناس في حكم التتار جعلهم ابن تيمية من جنس الخوارج مع أنّهم لم يخرجوا على إمام، قال ابن كثير في (البداية والنهاية): "وقد تَكَلَّمَ الناس في كيفية قتال هؤلاء التتر من أي قَبِيلٍ هو؟ فإنهم يُظهرون الإسلام، وليسوا بغاة على الإمام، فإنّهم لم يكونوا في طاعته في وقت ثم خالفوه! فقال الشيخ تقي الدين [أي ابن تيمية]: هؤلاء من جنس الخوارج الذين خرجوا على علي ومعاوية، ورأوا أنّهم أحقُّ بالأمر منهما، وهؤلاء يزعمون أنّهم أحقُّ بإقامة الحق من المسلمين".

وقد روى أبو داود حديث: (مَنْ فارقَ الجماعةَ شِبراً، فقد خَلَع رِبْقَةَ الإِسلام من عُنُقِهِ) ووضعه في باب (باب في الخوارج)، وهذا من فقهه، فقد جعل الخوارج من فارق جماعة المسلمين. بل إنَّ الخوارج أسّسوا عددًا من الدول والإمارات على مر التاريخ، وأصبحوا هم الحكام، ومع ذلك لم يزل عنهم وصف (الخوارج)، بل وصفهم أهل العلم بذلك، وأجروا عليهم أحكامهم.

ومما سبق يتّضح: أنَّ الوصف الجامع للخوارج هو: تكفير المسلمين بغير حق واستحلال دمائهم بذلك، والخروج عن جماعتهم. ولا يشترط له القول بتكفير مرتكب الكبيرة، أو وجود حاكم مسلم يخرجون عليه. وأنَّ الخوارج ليسوا على طريقة واحدةٍ في بقية المعتقدات، فمنهم من أنكر السنة النبوية، ومنهم من وافق المعتزلة، ومنهم من وافق الرافضة، وغير ذلك، فبعضهم أشر من بعض، وأكثر انحرافًا عن الحق من البعض الآخر.

 

ثالثاً: كثرة العبادة لا تعفي من الوصف بالخروج:

من أهم أسباب الانخداع بالخوارج وعدم التعرّف عليهم: الاغترار بما يظهر عليهم من التدين، مما يدعو للاغترار بهم، وعدم تصور اجتماع اجتهاد في العبادة مع انحراف في العقيدة وضلال.

ولخطورة هذا الاغترار فقد أخبرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن هذه الصفة، وأكّد عليها في العديد من الأحاديث، تحذيرًا وإعذارًا لأمته، ومن ذلك: فيما جاء في عبادة الخوارج:

  1. قوله -صلى الله عليه وسلم- مخاطبًا الصحابة -رضي الله عنهم- وهم مَنْ هم في العبادة والالتزام بالدين والفضل: (يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ، وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ) رواه البخاري ومسلم. قال ابن حجر في (فتح الباري): "كان يقال لهم القُرَّاء لشدّة اجتهادهم في التلاوة والعبادة، إلا أنّهم كانوا يتأوَّلون القرآن على غير المراد منه، ويستبدُّون برأيهم، ويتنطّعون في الزهد والخشوع وغير ذلك".

  2. وقوله: (إِنَّ فِيكُمْ قَوْمًا يَعْبُدُونَ وَيَدْأَبُونَ، حَتَّى يُعْجَبَ بِهِمُ النَّاسُ، وَتُعْجِبَهُمْ نُفُوسُهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ) رواه أحمد بسند صحيح.

  3. وقوله: (لَيْسَ قِرَاءَتُكُمْ إِلَى قِرَاءَتِهِمْ بِشَيْءٍ، وَلَا صَلَاتُكُمْ إِلَى صَلَاتِهِمْ بِشَيْءٍ، وَلَا صِيَامُكُمْ إِلَى صِيَامِهِمْ بِشَيْءٍ) رواه مسلم. وإذا كان الصحابة رضي الله عنهم يحتقرون صلاتهم مع صلاتهم، فكيف بغير الصحابة؟!

  4. ولما لقيهم عبد الله بن عباس قال: "فَدَخَلْتُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ أَرَ أَشَدَّ اجْتِهَادًا مِنْهُمْ، أَيْدِيهِمْ كَأَنَّهَا ثِفَنُ الْإِبِلِ [أي غليظة]، وَوُجُوهُهُمْ مُعَلَّمَةٌ مِنْ آثَارِ السُّجُودِ" رواه عبد الرزاق في المصنف.

كما أنَّ مجرّد بذل النفس في المعارك، والقيام بالعمليات الفدائية (الاستشهادية)، ليس دليلًا على التَّديّن أو صحة المنهج، فقد عُرف الخوارج طيلة تاريخهم بالجرأة والعنف في القتال، وقد استماتوا في معركة النهروان ضد جيش علي بن أبي طالب حتى لم ينجُ منهم إلا عشرة نفر! ثم كان لهم مع الدولة الأموية صولات وجولات، حتى سارت بشدّتهم وقسوتهم في المعارك الركبان. قال ابن حجر في (فتح الباري): " ... مع ما عرف من شدة الخوارج في القتال وثباتهم وإقدامهم على الموت، ومن تأمّل ما ذكر أهل الأخبار من أمورهم تحقّق ذلك".

ومما جاء في حُسْن كلام الخوارج وكثرة استدلالهم بالنصوص الشرعية:

  1. قوله صلى الله عليه وسلم: (يُحْسِنُونَ الْقِيلَ، وَيُسِيؤونَ الْفِعْلَ) رواه أبو داود، وأحمد.

  2. وقوله: (يَتَكَلَّمُونَ بِكَلِمَةِ الْحَقِّ لَا تُجَاوِزُ حُلُوقَهُمْ) أخرجه أحمد والبزار.

قال النووي في (شرح مسلم): "ليس حظُّهم من القرآن إلا مروره على اللسان، فلا يجاوز تراقيهم ليصل قلوبهم، وليس ذلك هو المطلوب، بل المطلوب: تعقّله، وتدبّره بوقوعه في القلب". وقال ابن تيمية في (الفتاوى): "وكانت البدع الأولى مثل بدعة الخوارج إنّما هي من سوء فهمهم للقرآن، لم يقصدوا معارضته، لكن فهموا منه ما لم يدل عليه". ‏ولذلك قال فيهم عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: "انْطَلَقُوا إِلَى آيَاتٍ نَزَلَتْ فِي الكُفَّارِ، فَجَعَلُوهَا عَلَى المُؤْمِنِينَ" ذكره البخاري تعليقًا. فحُسْن كلامهم وبلاغته، وقوته وجزالته، وكثرة استدلالهم بالنصوص الشرعية لا يدل على فهمهم لها، أو صحّة استدلالهم بها، فضلًا عن صحة منهجهم، أو سلامة معتقدهم.

وليست عبادتهم هي التي تغرُّ المسلمين فحسب، بل شعاراتهم وما ينادون به، من محاربة الطواغيت، أو إعلان الخلافة، أو المطالبة بتحكيم الشريعة، ونحو ذلك، فلا يدل على صحة التَّدين، أو سلامة المنهج من الانحراف، ولا على سلامة هذه المطالب، فقد كان الخوارج على مر التاريخ من أكثر الناس رفعًا لهذه الشعارات ومطالبة بها. كما سبق في حديث: (يُحْسِنُونَ الْقِيلَ، وَيُسِيؤونَ الْفِعْلَ)، وحديث: (يَتَكَلَّمُونَ بِكَلِمَةِ الْحَقِّ لَا تُجَاوِزُ حُلُوقَهُمْ) رواه أحمد. قال السندي في (حاشيته على سنن النسائي): "أي يتكلَّمون ببعض الأقوال التي هي من خِيار أقوال الناس في الظاهر، مثل: إن الحكم إلا لله، ونظائره، كدعائهم إلى كتاب الله".

ثم كانت هذه سيرة الخوارج على مر التاريخ! فقد ذكر الطبري في (تاريخه): "لقيتْ الخوارج بعضها بعضًا، فاجتمعوا فِي منزل عَبْد اللَّهِ بن وهب الراسبي، فَحَمِدَ اللَّهَ عَبْدُ اللَّهِ بن وهب وأثنى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بعد، فو الله مَا ينبغي لقوم يؤمنون بالرحمن، وينيبون إلى حكم القرآن، أن تكون هَذِهِ الدُّنْيَا، الَّتِي الرضا بها والركون بها والإيثار إياها عناء وتبار، آثرَ عندهم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقول بالحق، وإنّ من وضر فإنه من يمن ويضر فِي هَذِهِ الدُّنْيَا فإن ثوابه يوم الْقِيَامَة رضوان اللَّه عَزَّ وَجَلَّ والخلود فِي جناته فاخرجوا بنا إخواننا من هَذِهِ القرية الظالم أهلها إِلَى بعض كور الجبال أو إِلَى بعض هَذِهِ المدائن، منكرين لهذه البدع المضلّة. فَقَالَ لَهُ حُرْقُوص بن زهير: إنّ المتاع بهذه الدُّنْيَا قليل، وإنّ الفراق لها وشيك، فلا تدعونكم زينتها وبهجتها إِلَى المقام بِهَا، وَلا تلفتنّكم عن طلب الحق، وإنكار الظلم، فإِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ ..." ثمّ تعاهدوا على حكم القرآن، وطلب الحق وإنكار الظلم، وجهاد الظالمين وعدم الركون إلى الدنيا، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم قاموا إلى قتال الصحابة رضي الله عنهم!!!

وقد حفظ التاريخ الكثير من أشعارهم وخطبهم البليغة التي يظن القارئ غير العارف بها أنّها من عيون أدب الجهاد!

ومن ذلك قول الشقي الخارجي (عمران بن حطان) مادحًا ابن ملجم -عليه ما يستحق- في قتلـه أمير المؤمنين علياً رضي اللـه عنه:

يَا ضَرْبَةً مِنْ تَقِيَ مَا أَرَادَ بِهَـا * * * إلاَّ لِيَبْلُغَ مِنْ ذِي العَرْشِ رِضْوَانا

إنِّــي لأَذْكُـرُهُ يَـوْماً فَـــأَحْسَـبُـهُ * * * أَوْفَـى الـبَـرِيَّـةِ عِـنْـدَ الله مِـيـزَانـا

أَكْرِمْ بِقَوْمٍ بُطُونُ الطَّيْرِ أَقْبُرُهُمْ * * * لَمْ يَخْلِطُـوا دِينَهُـمْ بَغيـاً وَعُدْوَانـا

وبهذا يتبيَّن أنَّ مجرد إعلان الأقوال الحسنة، والتغنّي بها، ورفع الشعارات، وإظهار الحرص على أمور الدين، لا يدلّ بالضرورة على صدق قائلها، أو صحة منهجه. ثمّ إذا كان هذا التَّدين لا ينهى عن الابتداع في الدين، واستحلال دماء المسلمين، وأموالهم، والغدر والكذب، وسوء الخُلق، فلا عبرة به، ولا يعني صحّة المنهج، أو سلامة العقيدة، فقد يجتمع مع العبادة انحراف وبدعة، بل هذا ما عُرف به الخوارج طوال تاريخهم.

 

رابعاً: هل يشترط للوصف بالخروج حمل السلاح؟

من خلال ما سبق يتّضح أنّ الوصف بالخروج عن منهج أهل السنة، والذي يستحق معتنقه أن يوصف بأنّه من (الخوارج) لا يشترط له حمل السلاح، بل يكفي فيه الانحراف في العقيدة والغلو في التكفير، والخروج عن منهج أهل السنة. فمن المتّفق عليه بين أهل العلم أنَ من فرق الخوارج من لا يُوجب الخروج على الحاكم أو حمل السلاح، كفرقة القَعَدية، وهم فرقة تزيّن معتقدات الخوارج وأقوالهم، ولا تباشر أفعالهم. قال عنهم الزبيدي في (تاج العروس): "قوم من الخوارج قعدوا عن نصرة علي كرم الله وجهه وعن مقاتلته … وهم يرون التحكيم حقًّا، غير أنّهم قعدوا عن الخروج على الناس ... والقَعَد: الذين لا ديوان لهم، وقيل: القعد: الذين لا يمضون إلى القتال، وهو اسم للجَمْع، وبه سُمِّي قَعَدُ الحَرُورِيَّة، ويُقال: رجلٌ قاعدٌ عن الغَزْوِ وقومٌ قُعَّادٌ وقاعِدُون، وعن ابن الأعرابي: القَعَد: الشراة الذين يحكّمون ولا يحاربون، وهو جمعُ قاعد". وقال ابن حجر في (فتح الباري): "والقعدية: قوم من الخوارج كانوا يقولون بقولهم، ولا يرون الخروج بل يزينونه".

وقال في (تهذيب التهذيب): "القَعَدُ: الخوارج، كانوا لا يُرون بالحرب، بل يُنكِرون على أمراء الجور حسب الطاقة، ويدعون إلى رأيهم، ويزيّنون مع ذلك الخروج ويحسّنونه". ومع عدم حملهم للسلاح أو مباشرتهم للخروج على الحاكم أو المجتمع، فقد عدَّهم أهل العلم من الخوارج، بل جعلوهم من شرّهم وأخبثهم، لما يقومون به من نشر الفتنة والتلبيس على عامة الناس بتكفير المسلمين دون حق، وحرف معتقدهم، وشحن قلوبهم، وإثارتهم، والذي له أثر بالغ، خاصّة إذا خرج من رجل بليغ متكلّم يخدع الناس بلسانه واستدلالاته، ويتلبّس بالسنّة، وينسب ما قاله للشرع. روى أبو داود في مسائل الإمام أحمد: عن عبد الله بن محمد أبو محمد الضعيف، أنه قال: "قَعَدُ الْخَوَارِجُ هُمْ أَخْبَثُ الْخَوَارِجِ". فمن كفَّر المسلمين، واستباح بذلك دماءهم، وحثَّ على قتلهم، أو دعا إلى ذلك، أو أرشد إليه، فهو شريك في ذلك وإن لم يشارك فيها بيده.

 

خامساً: هل يشترط للوصف بالخروج المخالفة في أغلب أو معظم أمور العقيدة؟

يستشكل بعض من يتناول مسألة الخوارج أنّ العديد ممن يوصف بالخروج يوافق أهل السنة في الكثير من العقائد، كمسائل حدِّ الإيمان، ومسائل القَدَر، والغيبيات، وأمور الآخرة، والأسماء والصفات، وغيرها، فكيف يحكم عليهم بالخروج مع ذلك؟ وهذا الاستشكال غير صحيح، ولا أصل له في الشرع، فالخوارج الأولون الذين خرجوا على الصحابة -رضي الله عنهم- لم يؤثر عنهم مخالفة في هذه الأصول العقدية سوى الغلو في التكفير، وكذلك كان كثير من الخوارج من بعدهم في عهد الدولة الأموية، وإنّما وقع الافتراق بين الخوارج في بعض هذه الأصول أو جميعها في وقت لاحق، ولم يمنع ذلك من إطلاق وصف الخوارج ولا إجراء الأحكام عليهم. ولم يشترط أهل العلم لحصول الافتراق مخالفة أهل السنة في غالب الأصول، ولا جميعها، بل حصول أحدها فحسب.

قال الشاطبي في (الاعتصام): "المسألة الخامسة: وذلك أنّ هذه الفرق إنّما تصير فرقًا بخلافها للفرقة الناجية في معنى كُلِّي في الدين، وقاعدة من قواعد الشريعة، لا في جزئي من الجزئيات، وإنّما ينشأ التفرّق عند وقوع المخالفة في الأمور الكلية ...". وقال ابن تيمية في (الفتاوى): "ومما ينبغي أيضًا أن يُعرف أنّ الطوائف المنتسبة إلى متبوعين في أصول الدين والكلام على درجات، منهم من يكون قد خالف السنّة في أصول عظيمة، ومنهم من يكون إنّما خالف السنّة في أمور دقيقة، ومثل هؤلاء إذا لم يجعلوا ما ابتدعوه قولًا يفارقون به جماعة المسلمين، يوالون عليه ويعادون، كان من نوع الخطأ. والله سبحانه وتعالى يغفر للمؤمنين خطأهم في مثل ذلك، ولهذا وقع في مثل هذا كثير من سلف الأمة وأئمتها: لهم مقالات قالوها باجتهاد وهي تخالف ما ثبت في الكتاب والسنة، بخلاف من والى موافقه وعادى مخالفه وفرّق بين جماعة المسلمين وكفّر وفسق مخالفه دون موافقه في مسائل الآراء والاجتهادات، واستحلّ قتال مخالفه دون موافقه، فهؤلاء من أهل التفرّق والاختلافات. ولهذا كان أوّل من فارق جماعة المسلمين من أهل البدع: الخوارج المارقون".

فالمخالفة في قاعدة كلية أو أصل من أصول الإسلام هي خروج عن جماعة المسلمين، وبدعة الخوارج من المخالفات في أصل من أصول الدين، وقاعدة من قواعده العظام، بل إنَّ الافتراق في الدين يكون في الجزئيات إذا كثرت، وأصبحت منهجًا وسمتًا عامًا للفرد أو الجماعة، يجتمعون عليه، ويوالون عليه ويعادون، فيخرج صاحبها عن منهج أهل السنة والجماعة، ويدخله في فرق البدعة والضلالة. قال الشاطبي في تكملة كلامه السابق: "ويجري مجرى القاعدة الكلية كثرة الجزئيات، فإنّ المبتدع إذا أكثر من إنشاء الفروع المخترعة عاد ذلك على كثير من الشريعة بالمعارضة، كما تصير القاعدة الكلية معارضة أيضًا، وأما الجزئي فبخلاف ذلك، بل يعدّ وقوع ذلك من المبتدع له كالزلة والفلتة". وقال ابن تيمية في (الفتاوى): "من خالف الكتاب المستبين والسنّة المستفيضة أو ما أجمع عليه سلف الأمّة خلافًا لا يعذر فيه فهذا يُعامل بما يُعامل به أهل البدع". والناظر لحال معظم الفرق التي وقعت في الخروج عن المنهج القويم، يرى أنّها وقعت في جزئيات صارت علمًا على الخروج عن الجماعة ومفارقتها، مما يجعلها في حكم البدعة والخروج عن منهج أهل السنة، وهذا ما يمكن حمل العديد من صفات الخوارج التي وردت بها النصوص الشرعية في غير الأصول والقواعد الكلية للدين، ومن ذلك:

 1. الغرور والتَّعالي والكبر والتعالي على عباد الله، والإعجاب بالنفس والعمل، ولذلك فإنَّ الخوارج يكثرون من التفاخر بما قدموه وما فعلوه، ويكثرون من تزكية منهجهم وأفعالهم. قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ فِيكُمْ قَوْمًا يَعْبُدُونَ وَيَدْأَبُونَ، حَتَّى يُعْجَبَ بِهِمُ النَّاسُ، وَتُعْجِبَهُمْ نُفُوسُهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ) رواه أحمد.

ويدفعهم غرورهم لادّعاء العلم، والتطاول على العلماء ورفضهم، ومواجهة الأحداث الجسام، بلا تجربة ولا رَويّة، ولا رجوع لأهل الفقه والرأي.

 2. اتخاذهم شعارًا يتميزون به عن سائر الناس: فقد كان للخوارج في كل عصر وزمان شعار يتميزون به يختلف من زمن لآخر، ومن مجموعةٍ لأخرى، وقد يكون هذا الشعار في الراية، أو لون اللباس، أو هيئته، أو غير ذلك. وقد كان شعارهم في زمن الصحابة -رضي الله عنهم- حلقَ شعر رؤوسهم، كما أخبر عنهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله: (سِيمَاهُمْ التَّحْلِيقُ) رواه البخاري.

قال ابن تيمية في (الفتاوى): "وهذه السيما سيما أوّلهم كما كان ذو الثديّة، لا أنّ هذا وصف لازم لهم".

وقال القرطبي في (المفهم): "(سيماهم التحليق) أي: جعلوا ذلك علامةً لهم على رفضهم زينة الدّنيا، وشعارًا ليُعرفوا به". فالتحليق -مع أنّه سمة الخوارج الأولين- لكن المقصود به التميز عن الأمة، وهو نابعٌ من التفرُّد عن سواد الأمة، وهو من علامات الخروج عن الجماعة، وهو ما تتميز به العديد من جماعات الغلو المعاصرة في ملبسها، أو أسلوبها، أو طريقة معيشتها، رغبة عن الأمة وتميّزًا عنها. وقد أدرك ذلك سلف الأمة فنهوا عن مخالفة عادات الناس وأعرافهم حتى في المباحات، وعدُّوه من الشُّهرة المنهي عنها، فقد نقل ابن أبي الدنيا في (التواضع والخمول): "عن عدي بن الفضل قال: قال لي أيوب: احْذُ نَعْلَيْنِ على نحو حذو نعل رسول الله، قال: ففعلتُ، فلبسها أيامًا ثم تركها، فقلت له في ذلك، فقال: لم أر الناس يلبسونها". وأخرجه ابن أبي شيبة في (المصنّف) عن الحصين، قَالَ: "كان زُبيد اليامي يلبس بُرْنُسًا، قال: فسمعت إبراهيم عَابَهُ عليه، قال: فقلت له: إنّ الناس كانوا يلبسونها، قال: أجل، ولكن قد فَنِيَ من كان يلبسها، فإن لبسها أحد اليوم شَهَرُوهُ، وأشاروا إليه بالأصابع". لكن لا يُعدُّ الشخص من الخوارج إن وافق معتقدًا للخوارج أو قولًا باجتهادٍ أو خطأ، إن لم يكن ذلك مبنيًّا على أصل بدعي، ولم يفارق به الجماعة، كما سبق في كلام ابن تيمية: "ومثل هؤلاء إذا لم يجعلوا ما ابتدعوه قولًا يفارقون به جماعة المسلمين، يوالون عليه ويعادون، كان من نوع الخطأ. والله -سبحانه وتعالى- يغفر للمؤمنين خطأهم في مثل ذلك" إلى آخر كلامه.

لذا لا بد للحكم بالخروج من قول لأهل العلم، وليس ذلك لاجتهادات فردية.

 

سادساً: من يمثل الخوارج في العصر الحالي؟نشر هذا المقال بتاريخ 1 حزيران - يونيو 2015 م، ثم صدر للكاتب كتابات أخرى في تحديد الخوارج المعاصرين ونقاش شبهاتهم الشرعية، من ذلك مقال: هل هيئة تحرير الشام من الخوارج؟ http://alabasirah.com/node/635 وكتاب: تصور الغلاة لمفهوم الدولة، http://alabasirah.com/node/732 .

وقع العديد من الجماعات والأفراد في المخالفات التي تقتضي الحكم عليهم بأنّهم خوارج منحرفون عن المنهج النبوي، ولعل من أشد ما يواجهه المسلمون من هذه الجماعات اليوم جماعة تنظيم (الدولة)، ومن أهم المخالفات التي ارتكبوها حتى استحقّوا بها وصف عامة أهل العلم لهم بالخوارج ما يلي:

 1. الحكم على بلاد المسلمين بأنّها بلاد كفرٍ وردة، وإيجاب الهجرة منها إلى مناطق سيطرتهم ونفوذهم.

 2. الحكم على سائر من خالفهم من الكتائب المجاهدة في العراق والشام بالكفر والرِّدة، ووصفهم بالصحوات، ورميهم بالخيانة والعمالة للكفار بالشُّبه، وبما ليس كفرًا أصلاً.

 3. استحلالهم قتال من خالفهم في منهجهم، أو رفض الخضوع لدولتهم الموهومة، فأعملوا في المسلمين خطفًا، وغدرًا، وسجنًا، وقتلًا، وتعذيبًا، وأرسلوا مفخخاتهم لمقرّات المجاهدين، فقتلوا من رؤوس الثوار والمجاهدين، والدعاة، والإعلاميين، والنشطاء ما لم يستطع النظامان الطائفيان في العراق وسوريا فعله، وقاتلوا المسلمين بما لم يقاتلوا به الأعداء.

 4. استحلال أخذ أموال المسلمين بحجة قتال الجماعات المنحرفة، ومصادرتها دون وجه حق، واحتكار موارد الدخل العامة من آبار نفط وصوامع غلال وغيرها، والتصرف فيها كتصرف الحاكم المتمكن.

 5. الخروج عن جماعة المسلمين، وحصر الحق في منهجهم، والحكم على جميع من يخالفهم في الفكر أو المشروع بالعداء للدين، وآخر ذلك ادّعاؤهم "الخلافة"، وإيجاب بيعتهم على جميع المسلمين.

 6. ليس فيهم علماء معروفون مشهود لهم عند المسلمين، كما قال ابن عباس لأسلافهم من الخوارج: "أتيتُكُم من عندِ صحَابَةِ النَّبيِّ، مِنَ المهاجِرينَ والأنصارِ … وفيهِم أُنزِلَ، ولَيسَ فيكُم منهُم أحَدٌ". أخرجه الحاكم في المستدرك.

وقد أثَّر غياب أهل العلم والحكمة على تصرفاتهم فوقعوا في السفاهة والطيش، وعدم النظر لمآلات الأمور وعواقبها، وما تجرّه على المسلمين من ويلات ودمار، بزعم الصدع بكلمة الحق أو التوكل على الله.

 7. وجميع ذلك يدفعهم إلى الغرور والتَّعالي على المسلمين، فقد زعموا أنّهم وحدهم المجاهدون في سبيل الله، والعارفون بسنن الله في الجهاد، لذا فإنهم يُكثرون من التفاخر بما قدموه وما فعلوه!!، وهذا الغرور هو الذي يدفعهم للتطاول على أهل العلم والحكمة، وعدم الأخذ بكلامهم، فيدَّعون العلم والفهم، ويواجهون الأحداث الجسام، بلا تجربة ولا رَوية، ويرفضون التحاكم لمحاكم مستقلة فيما شَجَرَ بينهم وبين الفصائل الأخرى.

ومن أقوالهم في ذلك: قول أبي عمر البغدادي في كلمته (حصاد السنين بدولة الموحدين):

"إننا حين أعلنا دولة الإسلام وأنّها دولة هجرة وجهاد لم نكن نكذب على الله ولا على الناس، ولم نكن نتكلم عن أضغاث أحلام، لكنّا بفضل الله تعالى الأقدرُ على فهم سنّة الله في هذا الجهاد"!! انتهى.

وقال في كلمته (سيهزم الجمع ويولّون الدبر) مخاطبًا جنوده: "أمّا أنتم يا فرسان التوحيد، ورهبان الليل، وأسودَ الشرى، فأشهدُ أنّكم أصدقُ الناسِ لهجة، وأوفاهم عهدًا، وأكثرهم ثباتًا، وأشدّهم في أمر الله. فلستُ أشكُّ -يعلمُ الله- طرفةَ عين أنّا نحنُ الجيش الذي يُسلِمُ الراية لعبد اللهِ المهديّ"!!

وقال العدناني مبرّرًا عدم استشارة بقية الفصائل في إعلان دولتهم في كلمته (لن يضروكم إلا أذى): "ثم ما كان لنا أن نشاور مِن الفصائل مَن يخالفنا المنهج والمشروع". وكلامهم وبياناتهم طافحة بما هو أشد من ذلك.

 8. كما أن تنظيم (الدولة) قد ناصر النظام المعتدي ضد المجاهدين في القتال والحصار، باتفاق، أو اختراق، أو تنسيق، أو حتى مجرّد تبادل مصالح، وأظهروا الفرح بانكسار المجاهدين أمام النظام، واستيلائه على مقرّاتهم، حتى لم يعد بعيدًا ما يُظَنُّ من دخول أعداء الإسلام واستخبارات بعض الدول في صفوفهم، يضربون بهم المجاهدين ويحقّقون ما عجزوا عن تحقيقه بالحرب المباشرة. فاجتمع في "تنظيم الدولة" من الشرّ ما لم يجتمع في غيرهم من الخوارج من قبل، من الخروج عن العقيدة الصحيحة وجماعة المسلمين، واستباحة دمائهم بالباطل، والامتناع من الانقياد للحق والمحاكم الشرعية، والكذب، والغدر، والخيانة، ونقض العهود، وممالأة أعداء الإسلام، فصاروا أخطر على المسلمين والمجاهدين من النظام النصيري الطائفي، وفاقوا الخوارج الأولين شرًا وسوءًا وانحرافًا. فيصدقُ على "تنظيم الدولة" أنّهم خوارج، بل من أشرّ ما عرف التاريخ من فرق الخوارج. وهذا ما حكم به عامّة أهل العلم في العصر الحالي لا يكاد يعرف لهم مخالف. نسأل الله أن يردّ كيدهم، وشرورهم عن بلاد المسلمين، والحمد لله رب العالمين.

 

المصدر: موقع نور سورية

 


 

1 - نشر هذا المقال بتاريخ 1 حزيران - يونيو 2015 م، ثم صدر للكاتب كتابات أخرى في تحديد الخوارج المعاصرين ونقاش شبهاتهم الشرعية، من ذلك مقال: هل هيئة تحرير الشام من الخوارج؟ http://alabasirah.com/node/635 وكتاب: تصور الغلاة لمفهوم الدولة، http://alabasirah.com/node/732 .

إضافة تعليق جديد