السبت 23 نوفمبر 2024 الموافق 21 جمادي اول 1446 هـ

إضاءات فكرية

خلافة على منهاج العمّ سام!

13 ذو الحجة 1438 هـ


عدد الزيارات : 2287
شريف محمد جابر

مخطئٌ جدّا أيّها القارئ إذا ظننت أنّك ستدخل لتقرأ مقالًا في “المؤامراتية”، فلستُ من مروّجي خطاب المؤامرات، ولا من مقدّسي “أمريكا” الذين يرونها بمثابة “إله” تصير الأمور بحسب مشيئته! في هذا المقال الموجز سوف نرصد خمسة خطوط تتعلّق بتنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش)، وهي أهداف تتقاطع مع بعض المصالح الأمريكية في المنطقة، بعضها تمّ التصريح به نصّا، وبعضها من المصالح التي يمكن استخلاصها عند النظر إلى الواقع الدولي، وعلى وجه الخصوص: علاقة أمريكا بالمنطقة ورعاية مصالحها فيها.

 

إجهاض الثورات العربية ومنع الشعوب من تحقيق إرادتها:

لا شكّ أنّ أيّ ثورة شعبية تهدف إلى الإطاحة بنظام الحكم في العالم العربي، وإلى بناء نظام جديد يعبّر عن طموحات الأمة وخياراتها؛ هي خطر داهم يهدّد المصالح الأمريكية في المنطقة، سواء كانت مصالح سياسية كالحفاظ على “الحدود الآمنة” لإسرائيل، أو مصالح اقتصادية كاستغلال النفط والحفاظ على سوق السلاح والغذاء وغير ذلك.

 

فقد كانت الحكومات العربية – ولا زالت – راعيًا رسميّا يحافظ على هذه المصالح، مقابل بقائها في سدّة الحكم في تلك البلدان. فالحكومات الحالية هي حكومات “وظيفية” تحافظ على المصالح الأمريكية، والثورات تهدف إلى استرجاع حقوق الشعوب ممّا سيدفع إلى حكومات تسير نحو الاستقلال بالقرار وبناء الموارد الذاتية.

 

وهذا يذكّرنا بكلمات المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي: “ستبذل أمريكا وحلفاؤها قصارى جهدها لمنع ديمقراطية حقيقية في العالم العربي، والسبب بسيط جدا؛ فالغالبية العظمى في المنطقة تعتبر أمريكا مصدر التهديد الرئيسي لمصالحها”.

 

إذا نظرنا إلى الثورة السورية، فقد كان الطريق الأيسر لمحاولة الالتفاف على إرادة الشعوب هو إيجاد تسوية ما عن طريق “الائتلاف الوطني السوري”، وقد كان هو المعبّر السياسي عن الثورة لفترة طويلة، ولكن الذي حدث هو فشل هذا الكيان، لأسباب كثيرة كامنة فيه من ناحية وفي الشعب السوري ومجريات الواقع الميداني من ناحية أخرى.

 

فقد فشل في إيجاد حلّ أو تسوية ترضي الإدارة الأمريكية وحلفاءها وخصومها، وبذلك لم تنجح أمريكا في محاولة احتواء الثورة من خلال غرف المفاوضات السياسية. لكن هذا لا يعني أنّها تؤمن بخيار الثورة، الذي هو خيار إرادة الشعوب والاستقلال السياسي والاقتصادي، وهو ما لا تريده.

 

وهنا نصل إلى تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش)، فما قام به تحديدًا هو أنّه أصبح عدوّا جديدًا يُضاف إلى قائمة أعداء الثورة السورية، الذين يعادونها في القتال قبل المقال حتى لو اختلف عنهم؛ كالنظام السوري وأحلافه من حزب الله والميليشيات العراقية الشيعية والقوات الإيرانية الخاصة وغيرهم من مناصري المحور الإيراني السوري.

 

يعتبر قادة التنظيم أنّ الوجود العسكري للثورة، المتمثّل بالجيش الحرّ والمجالس العسكرية والفصائل الإسلامية كالجبهة الإسلامية، من الأعداء جميعا؛ فهم “صحوات” و”مرتدّون” يجب قتالهم والقضاء عليهم، لتمديد سلطان الدولة الإسلامية على مناطق نفوذهم. يمكن قراءة ذلك مثلا في البيان الشهير الذي أصدرته الهيئة الشرعية لتنظيم الدولة في بيان ردّة أبرز القادة العسكريين في الثورة السورية، سواء كانوا من الفصائل المنتسبة لمسمى “الجيش الحر” أو تلك الفصائل الإسلامية.

 

أو في خطابات المتحدّث الرسمي للتنظيم، أبو محمد العدناني، والذي يكثر من التحريض على قوى الثورة المقاتلة معتبرا أنّها أخطر الأعداء.

ويمكننا أن نقرأ في بيان إعلان “الخلافة” الذي صدر عن داعش قبل نحو شهرين مع بداية شهر رمضان هذا العام هذه الكلمات: “وننبّه المسلمين: أنه بإعلان الخلافة؛ صار واجبًا على جميع المسلمين مبايعة ونصرة الخليفة إبراهيم حفظه الله، وتبطل شرعيّة جميع الإمارات والجماعات والولايات والتنظيمات، التي يتمدد إليها سلطانه ويصلها جنده، قال الإمام أحمد رحمه الله، في رواية عبدوس بن مالك العطار: ومَن غلب عليهم بالسيف؛ حتى صار خليفة، وسُمّي أمير المؤمنين: فلا يحل لأحد يؤمن بالله أن يبيت ولا يراه إمامًا، برًّا كان أو فاجرًا” .

 

الخلاصة:

أنّ مشروع داعش مشروع آخر معادٍ للثورة السورية، وهو يتقاطع مع هدف جزئي نعتبر من خلال ما قدّمناه أنّ أمريكا تتبنّاه؛ وهو إجهاض الثورة السورية، كغيرها من الثورات التي تهدف إلى الاستقلال في القرار السياسي وبناء الدولة وتحقيق إرادة الشعوب.

 

تبرير التدخلّ العسكري الخارجي:

إنّ القضاء على أي حراك ثوري شعبي يعبّر عن مجتمعات كاملة من خلال تنظيم متطرّف كداعش، سيكون في مصلحة تبرير “التدخّل العسكري” الأمريكي، فإذا قارنّا على سبيل المثال بين ردّة فعل الشعوب على أي احتلال غربي لبلدانهم أو حتى مجرّد فرض الإرادة الأمريكية، وبين ردّة فعلهم على ضرب أمريكا لداعش في الشمال العراقي حين تجرّأت وتقدّمت نحو إقليم كردستان العراق.

 

حينها يمكننا أن نفهم بأنّ الثورات الشعبية ذات الزخم والتأييد الشعبي كائن كريه بالنسبة للعمّ سام، يفكّر ألف مرة قبل استخدام قوّته العسكرية للقضاء عليه؛ لأنّ استخدام السلاح ضدّ كيانات تعبّر عن إرادة الشعوب يضع أمريكا في موقف الكيان الاستبدادي الذي يحارب الحرّية والاستقلال، وهذا وإنْ كان صحيحا في حقّها فهو مخالف لشعاراتها وصورتها التي تحبّ أن تصل إلى العالم.

 

أمّا التنظيمات المتطرّفة المنعزلة عن خيارات الأمة وطموحاتها فهي أيضًا كائنات كريهة، ولكنها لا تحتاج إلى تفكير كبير للقضاء عليها، والمبررات موجودة في حماقات تلك التنظيمات؛ كالقيام بجرائم ضدّ الأقليّات، أو التعدي على سيادة دول وأقاليم خارجة عن الصراع؛ فهي تتعمّد اختراق الخطوط الحمراء، وتوجِد المبرّرات للتدخّل الخارجي الذي ترفضه الشعوب، والذي يأتي دوما مضادًّا لطموحها بالحرية والعدالة والاستقلال.

 

إيجاد المبرّرات لتشكيل تقسيمات سياسية جديدة في المنطقة:

المفارقة هنا أنّ داعش تحديدًا من أكثر من يردّد شعار “تكسير سايكس بيكو”، لكن المآل الذي تسير إليه داعش وتسحب المنطقة معها هو مآل التقسيم على أسس طائفية وعرقية أصغر حجمًا من التقسيمات القديمة التي تعود إلى عهد الحرب العالمية الأولى وسقوط السلطنة العثمانية.

 

نودّ في هذه النقطة أن ننوّه إلى القارئ بأنّ داعش اليوم تسيطر على معظم المناطق الواقعة في شرق سوريا وغرب العراق، وهي مناطق سنّية في معظمها، وتتميّز بوجود نوع من الوحدة الجغرافية والسكانية بينها منذ قرون طويلة، وكانت تعرف قديما باسم “الجزيرة الفراتية”.

 

إذا أخذنا هذه المعلومة بالاعتبار، وفهمنا أنّ داعش سيطرت على كلّ تلك المناطق خلال أكثر من عام، دون أي تدخّل عسكري دولي، خصوصا إذا ما قارنّا هذه الحالة بالحالة في مالي، حين استقلّت بعض الفصائل المقاتلة هناك بإعلان دولة في منطقة “أزواد”، فسارعت فرنسا بشكل فوريّ، مؤيّدة بالمجتمع الدولي، ومدعومة بالقوات الإفريقية المختلفة بقتالها للقضاء عليها.

 

ثم إذا أضفنا إلى ذلك حقيقة أنّ أمريكا تحرّكت عسكريا فقط بعد أن تعدّت داعش “الخطوط الحمراء” وهاجمت إقليم كردستان واقتربت من أربيل، ذلك المركز الحيوي بالنسبة لأمريكا، إذا جمعنا هذه المعطيات؛ نفهم أنّ وجود داعش السيادي في تلك المناطق (شرق سوريا وغرب العراق) لا يشكّل خطرًا كبيرًا على المصالح الأمريكية.

 

بل لعلّه يهيّء تلك المنطقة إلى تجزئة جديدة، وهذا ما نفهمه من الخطاب الأمريكي، منذ نحو سبعة أعوام وحتى اليوم. وسنترك القارئ الكريم أمام نصّين صادرين عن جهات أمريكية، لنحاول معًا ربط المعطيات أعلاه بالأجندة التي يُلمّح إليها في النصوص التالية بوضوح.

 

من عام 2007: جاء في مقال لعبد الوهاب المسيري نُشر في موقع الجزيرة تحت عنوان “الشرق الأوسط الجديد في التصور الأمريكي الصهيوني”: “ثم يقدم بيترز خريطته للشرق الأوسط الجديد فيتحدث عن تقسيم العراق إلى ثلاثة أجزاء، دولة كردية بالشمال، ودولة شيعية بالجنوب، ودولة سُنية بالوسط ستختار الانضمام إلى سوريا مع مرور الزمن” .

 

آب عام 2014: قال أوباما إن “ما نراه يحدث في الشرق الأوسط ومناطق من شمال أفريقيا هو بداية تصدع نظام يعود إلى الحرب العالمية الأولى”. وحسب أوباما، فإن النقطة التي يجب التركيز عليها هي (ركّز جيّدا) “أن في العراق أقلية سنية، وفي سوريا أغلبية سنية، وهما متواصلتان وممتدتان من بغداد حتى دمشق، وما لم نجد صيغة تلبي طموح هذه الشعوب فلا بد أن نقع في مشكلة” .

 

تأكيد الدعاية الصهيوأمريكية حول أوصاف “الإسلام الأصولي” المنفّرة:

إذا أردنا أخذ صورة من الإعلام الصهيوأمريكي بخصوص “الإسلام السياسي” أو ما يسمّونه هم “الإسلام الأصولي” أو “المتطرّف”؛ فسنجد أنّ هناك صورة سوداء يروّج لها هذا الإعلام تتّسم بالظلامية والرجعية وحبّ الخراب والدمار، وإكراه الناس على الإسلام بالقوة، وانتشار قطع الرؤوس وجلد الناس وتقطيع الأيادي والظهور بلباس بدائي والتعامل مع منجزات تقنية بدائية بالقياس إلى العصر.. إلخ..

 

كلّ تلك الأوصاف وغيرها كنّا ولا زلنا نسمعها في هذا الإعلام، ومن ينحو نحوه في عالمنا العربي، ولكنّنا لم نكن نراها كتطبيق واقعي إلا نادرا، في مجتمعات مثل المجتمع الأفغاني، وهو مجتمع له خصوصيته من حيث تأخّره الحضاري، بوجود الحركات الإسلامية في سدّة الحكم أو دون وجودها.

 

الذي يحدث اليوم هو أنّنا صرنا نرى جميع هذه الأوصاف المنفّرة، جميعها دون مبالغة، حاضرة في واقع تنظيم داعش والمناطق التي تخضع له؛ فصارت الرؤوس المتطايرة والجثث المشوّهة منظرًا مألوفا فيما يبث يوميّا عبر وسائل الإعلام الاجتماعية، وصارت صورة “تحكيم الشريعة” في حسّ المواطن البسيط هي تطبيق الحدود كالجلد وقطع اليدين والقتل وغيرها، بالإضافة إلى صورة من صور التخلّف الحضاري، كمشهد “سوق المازوت” البدائي كبديل عن محطّات الوقود المعاصرة.

 

وبالإضافة إلى تأكيد مفهوم “الدولة الدينية” الذي يروّج له هذا الإعلام الصهيوأمريكي معتبرا أنّ جميع دعاة ما يسميه “الإسلام السياسي” ينادون بهذه الدولة التي تعني حكم الفرد المستبدّ، وتعني حكم رجال الدين دون مشاركة للأمة في الحكم مع هضم الكثير من حقوق الشعوب ومصادرة حريّاتها.

 

فمهما استنكرت الحركات الإسلامية هذه الصورة من “الدولة الدينية”، الأقرب إلى العصور الوسطى الأوروبية، فإنّ داعش تطبّق هذا النموذج التاريخي المنفّر حرفيّا، وصارت قراءة كتابات مناوئي التيّار الإسلامي ورافضي “تحكيم الشريعة” أمرًا لا يختلف كثيرا عن مشاهدة الواقع التطبيقي لدولة داعش؛ فكلا الجهتين – على افتراقهما واختلاف منطلقاتهما في الطرح – تطرحان تصوّرا واحدا عن دولة الفرد المستبدّ الذي يحكّم فهمه للدين على الشعوب المسكينة ويسلبها حقوقها وحريّتها وكرامتها!

 

محرقة الثوّار والطاقات ومجمع العناصر المتطرّفة:

لا شكّ أنّ دخول داعش على خطّ الثورة السورية كان عبارة عن إنهاك كبير لقوى تلك الثورة، حيث اضطر آلاف الشباب المقاتلين في صفوف فصائل الثورة إلى توجيه بنادقهم للوراء، باتجاه داعش، بعد أن تحوّلت تدريجيّا إلى عدوّ شرس يرى فيهم عدوّا مرتدّا لدودًا يجب إفناؤه!

 

ساهمت مشكلة داعش في استنفار الكثير من الشباب “المتطرّف” فكريّا للالتحاق بـ “الدولة الإسلامية” والدفاع عنها ضدّ “العالم الذي اجتمع عليها”، والعالم هنا يشتمل على كلّ من: الحكومة العراقية والشيعة في العراق، نظام بشار العلوي، حزب الله، المرتدّين (أي الثوار السوريين)، ومؤخّرا: أمريكا.

 

إنّ تداعي الشباب الصغير والمتحمّس للعنف من بلدان العالم العربي من المغرب إلى الخليج وحصرهم في نقطة واحدة، يقومون فيها بالقضاء على أي حراك ثوري، ثم يضعون أنفسهم تحت نيران أمريكا وحلفائها في المنطقة ومعهم جميع مبرّرات ضربهم التي يؤيّدهم فيها المجتمع الدولي ويظهرون من خلالها بصورة “الأبطال” الذين ينقذون الشعوب المسحوقة.

 

إنّ هذا السيناريو الفظيع يصبّ في مصلحة أمريكا وحلفائها؛ مصلحة تحقيق الاستقرار في تلك البلدان بعد إفراغها من العناصر المتطرّفة، التي “هاجرت” إلى “دولة الخلافة” قيامًا بواجبها الديني بحماسة بالغة، أو مصلحة الظهور بصورة “البطل” الذي يقاتل الإرهابيين الأشرار وينقذ الشعوب من جحيمها!

 

في السابق، تعلّمت الكثير من حركات التمرّد المؤدلجة أنّ التجمّع في مكان واحد ومواجهة العالم أجمع هو خطر محض واستسلام للإفناء. ولذلك مارست استراتيجية “اللامركزية” في العمل، من خلال التفرّق في مناطق حيوية مختلفة.

 

لكن تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) اعتمد طريقة معاكسة تمامًا، وهي تكوين نواة لتجميع الذرات المتناثرة حول العالم، هذه النواة تطرح شعارا جذّابا يلامس مشاعر الشباب المسلم المتحمّس لدينه مثل “الدولة الإسلامية” أو “دولة الخلافة”.

 

وهكذا تتقاطع مشاعر الشباب الذي يلعن أمريكا ليل نهار مع مصالح أمريكا نفسها، في مفارقة عجيبة لم يعرف لها التاريخ مثيلا!

 

وأخيرا:

 

نؤكّد أنّنا لا نعتمد في هذا المقال نظرية المؤامرة، ولا نقول إنّ داعش مخترقة أو عميلة لأمريكا، وإنما نلقي الضوء على تقاطع المصالح بين فريقين يعادي كلّ منهما الآخر، ونؤكّد أنّ العداوة بحدّ ذاتها لا تمنع تقاطع المصالح، وهو ما شهده العالم في المفاوضات الأمريكية الإيرانية، ولا يستلزم أيضا أن يكون ذلك عن اتفاق أو رضا من أحد الطرفين.

 

الأمر شبيه بالنار؛ فهي كيان حارق لا يمكن الوثوق به أو التصالح معه، ولكنّها في ذات الوقت قد تحرق الطريق أمامك وتمهّده، وقد تُسهم في إزالة العوائق من أمامك حتى لو حرقتك إذا اقتربت منها، وقديمًا كانت قبائل المايا تقوم بحرق غابات أمريكا الوسطى الكثيفة كي تنشئ مساحات من الأراضي الصالحة لزراعة الذرة.

 

إضافة تعليق جديد