جذور انحراف داعش
- 1 -
نبدأ بسم الله .. تابعوني في سلسلة (جذور انحراف داعش)
حيث سأقوم بنقل نصوص ثابتة من أدبيّات تنظيم داعش، قديما حين كان منحصرا في العراق، أو حديثا حين تمدّد إلى سوريا. نصوص قصيرة دامغة في إثبات غلوّه وانحرافه عن منهج أهل السنة في أحكام الكفر والإيمان وغيرها.
النصّ الأول لأبي عمر البغدادي الأمير السابق للتنظيم، يقول في كلمة له بعنوان: (قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِن رَبِّي): "نرى كفر وردَّة كل من اشترك في العملية السياسية، كحزب المطلق والدليمي والهاشمي وغيرهم، كما نرى أن منهج الحزب الإسلامي منهج كفر وردة، لا يختلف في منهجه وسلوكه عن سائر المناهج الكافرة والمرتدة، كحزب الجعفري وعلاوي...".
ويقول في كلمة (جريمة الانتخابات الشرعية والسياسية) 28 صفر 1431 هـ – 12 / 2 / 2010 م: "فالنواب والمُشرِّعون أوثانٌ منصوبة تحت قبة تخضع لقانونٍ أو دستورٍ ظالمٍ جائر يناقض الشريعة الإسلامية ويحاربها في كثيرٍ من أُصول ديننا الحنيف... وأما المُشرِّعون فهم كفار بلا غُبار..." انتهى.
التعليق: منهج أهل السنة هو تعليق أحكام الكفر والإيمان بمناطاتها المباشرة المذكورة في الكتاب والسنة، ومنهج الغلاة هو تعليق الكفر بأفعال لا تلزم بالضرورة الوقوع في مناطات شركية، فالمشاركة السياسية، وممارسة عمل النائب في الدول المعاصرة لا تستلزم الوقوع في مناط "التحليل والتحريم من دون الله".
يقول الإمام الشاطبي في "الاعتصام": "إنّ صرف الحكم إلى غير مناطه من أوصاف أهل البدع، إذ هو من تحريف الكلم عن مواضعه، ولا يصدر عن معتبر إلا لخفاء المعنى عليه"(الاعتصام للشاطبي، الجزء 1، فصل تحريف الأدلّة عن مواضعها).
- 2 -
تنويه: هذه الحلقة تحتاج إلى بضعة دقائق من القراءة بتركيز، ولكنّها مهمّة جدّا جدّا جدّا، وبالتأكيد ستأخذ أقل من عُشر الوقت المخصّص لمباراة كرة قدم هل الدعوة إلى حكومة ديمقراطية عملٌ مخرج من الإسلام؟
النصّ الذي نريد مناقشته مأخوذ من بيان سُمّيَ "بيان الهيئة الشرعية للدولة الإسلامية في العراق والشام حول الجبهة الإسلامية وقياداتها"، تعرض فيه داعش موقفها (الذي ...تقول إنه موقف أهل السنة) من الدعوة إلى الديمقراطية.
فبعد أن تعرّف الديمقراطية تعريفاً على هواها، تبتدع داعش أصلاً جديداً تنسبه إلى أهل السنة والجماعة حيث تقول: "لذلك من الثوابت عند أهل السنة والجماعة، أنّ الدعوة إلى إقامة حكومة "مدنية تعدّدية ديمقراطية"، عملٌ مخرجٌ من ملّة الإسلام، وإنْ صام دعاتها وصلّوا وحجّوا وزعموا أنّهم مسلمون، لأنّها تدعو لصرف التحاكم الذي هو حقّ محضٌ لله تعالى، إلى الطاغوت الذي أمرنا الله تعالى بالكفر به، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيدًا}(سورة النساء: 60)". انتهى النقل.
نفهم من هذا النصّ أنّ داعش تجعل الدعوة إلى حكومة "مدنية تعدّدية ديمقراطية" مناطًا شركيّا مخرجًا من الملّة! وهذا لعمري ابتداعٌ في الدين، فلمْ يردْ نصّ شرعيّ بشأن الديمقراطية وأنّ الدعوة إليها كفر مخرج من ملّة الإسلام حتى تجعلها داعش من "ثوابت أهل السنة والجماعة"، وكما ذكرنا في الحلقة السابقة نقلا عن الإمام الشاطبي، تقريراً لمذهب أهل السنّة في بناء الحكم على المناط الصحيح: "إنّ صرف الحكم إلى غير مناطه من أوصاف أهل البدع، إذ هو من تحريف الكلم عن مواضعه، ولا يصدر عن معتبر إلا لخفاء المعنى عليه"(الاعتصام للشاطبي، الجزء 1، فصل تحريف الأدلّة عن مواضعها).
ونقصد بذلك أنّ ما قامت به داعش في هذا البيان هو جعل مناط "الدعوة إلى الديمقراطية" مساويًا لمناط "صرف التحاكم إلى الطاغوت".
مع أنّ الدعوة إلى الديمقراطية دعوة مجملة لا تحمل "بالضرورة" مضمون "صرف التحاكم إلى الطاغوت" (أي قد تحمل ذلك وقد لا تحمله ولكنّها غير مستلزمة له بالضرورة وهنا المحكّ)، وسنبيّن المعاني المطروحة للديمقراطية في السياق السياسي والإسلامي منه على وجه الخصوص، ولكن قبل ذلك نحبّ أن نبيّن منهج الحقّ الذي نرتضيه في التعامل مع الألفاظ المجملة (كالديمقراطية) نقلا عن الإمامين الجليلين ابن تيمية وتلميذه ابن القيّم:
يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله: "وأمَّا الألفاظ المجملة، فالكلام فيها بالنفي والإثبات دون الاستفصال يوقع في الجهل والضلال والفتن والخبال والقيل والقال"(منهاج السنة النبوية، 2/217).
ويقول رحمه الله: "وكل لفظ يحتمل حقًا وباطلاً فلا يُطلق إلا مبينًا به المراد الحق دون الباطل، فقد قيل أكثر اختلاف العقلاء من وجهة اشتراك الأسماء، وكثير من نزاع الناس في هذا الباب هو من جهة الألفاظ المجملة التي يفهم منها هذا معنى يثبته ويفهم منها الآخر معنى ينفيه، ثم النفاة يجمعون بين حق وباطل، والمثبتة يجمعون بين حق وباطل"(مجموع الفتاوى، 12/251-252).
ويقول الإمام ابن القيّم رحمه الله: "أصل ضلال بني آدم من الألفاظ المجملة والمعاني المشتبهة، ولا سيما إذا صادفت أذهاناً مخبطة، فكيف إذا انضاف إلى ذلك هوى وتعصب، فسل مثبت القلوب أن يثبت قلبك على دينه، وأن لا يوقعك في هذه الظلمات"(الصواعق المرسلة لابن القيّم).
ويقول رحمه الله: "أصل بلاء أكثر الناس من جهة الألفاظ المجملة التي تشتمل على حق وباطل، فيطلقها من يريد حقها فينكرها من يريد باطلها، فيردُّ عليه من يرد حقها.
وهذا باب إذا تأمله الذكي الفطن رأى منه عجائب، وخلَّصه من ورطات تورَّط فيها أكثر الطوائف"(شفاء العليل لابن القيّم، 2/289).
فالديمقراطية لفظٌ مجملٌ لا محالة، يستخدمه الناس والسياسيّون في سياقات مختلفة، بل هو في السياق الحركي الإسلامي (أي عند من يقرّها كاصطلاح وشعار) أبعد ما يكون عن الاستخدام بمعنى "التحليل والتحريم من دون الله" أو "صرف التحاكم إلى الطاغوت".
فهي تحتمل المعنى المخالف لشرع الله والمناقض له، وتحتمل كذلك معاني لا تخالف شرع الله (كما سنبيّن) ولذلك نقول عنها إنّها لفظ "مُجمل"، وقد جرى الاستخدام الاصطلاحي للديمقراطية – في البلاد العربية بل وأحيانا في البلاد الغربية حيث نشأت – بأنها تعني مضامين لا تخالف الشريعة الإسلامية، ولا تُصادم عقيدة التوحيد، وإن كنّا نرفضها (وهذا هو اختياري) على مستوى الاصطلاح لِما تحمله من شبهة انصراف معناها إلى الاستخدام الشركي، فإنّنا لا نعمّم القول بكفر جميع من ينادي بها، أو بقولنا إنّه يقصد المعنى الشركي حتمًا، فهذا تعميم جائر على غير منهج الإسلام في البحث والنقد والتقصّي.
فالحاصل كما قلنا أنّ الديمقراطية من المصطلحات المشتبهة التي تحتمل التأويل على معنى يضادّ التوحيد، وتستخدم كذلك – وهو الغالب في استخدامها عند الإسلاميّين – بمعنى لا يخالف التوحيد.
فأمّا المعنى الأول المضادّ لعقيدة التوحيد فهو أنّ الديمقراطية تتضمّن حقّ الشعب في التشريع، حتى لو صادم هذا التشريع شرائع الإسلام، فلو اتفقت الأكثرية على شرعيّة قانون معيّن، فسيكون شرعيّا حتى وإنْ خالف حكم الإسلام، أي إنّ صفة الإلزام تحدّدها الغالبية.
وقد أطنبَ الكتّاب المسلمون في الحديث عن هذا المعنى وبيان مناقضته للإسلام، ومخالفته لشريعة الإسلام معلومٌة من الدين بالضرورة، فضلاً عمّا يصاحبه من القول بالحرّيات المنفلتة من دين الله.
وأمّا المعنى الثاني للديمقراطية، فهو إطلاقها على حقّ الشعب في اختيار من يحكمه، وحقّه في محاسبته وعزله إنْ أخلّ بشروط كونه حاكمًا. وهذه الديمقراطية - في اصطلاحهم - لا تتعدّى ذلك إلى إعطاء حقّ الشعب في التشريع من دون الله، وحقّه في التحليل والتحريم، بل تنضبط في إطار الشريعة.
وقد سمعتُ كلاما للمفكر الشهير د. مصطفى محمود رحمه الله يتحدث فيه عن الفرق بين الديمقراطية عندنا والديمقراطية عند الغرب على حدّ تعبيره، وذلك في بيان صافٍ ودقيق يوضّح فيه أنّ الديمقراطية عندنا ليست الانصياع لحكم الأكثرية في قضايا الدين، ولا يجوز أن تخالف أحكام الشريعة، ويوضح المضمون الجاهلي للديمقراطية الغربية(شاهد كلامه على الرابط: http://www.youtube.com/watch?v=FcICofv_x_4).
فصحيح أنّه استخدم مصطلح "الديمقراطية الإسلامية"، ولكنّه قصد به مضمونًا شرعيّا، فإنْ كنّا نخالفه في استخدام المصطلح، ونقول إنّ الأحرى هو اجتناب الشبهات، والامتناع عن استخدام المصطلحات المحتملة لمعنًى مخالفٍ للشريعة، كي لا تلتبس بالمضامين الجاهلية التي يريدها من يستخدمها بالمعنى المخالف للشريعة.. أقول: إنْ كنّا نخالفه في ذلك، ونذهب إلى تجنّب استخدام الاصطلاح، فإنّ المناط هنا هو مناط (فمنْ اتَّقَى الشبهَاتِ استَبرَأَ لدينِهِ وعِرضِهِ)(صحيح مسلم) كما قال صلى الله عليه وسلم، أو كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا}(البقرة: 104)، وسبب نزول الآية (في بعض الروايات وليس كلّها) أنّ قوما من اليهود كانوا يستخدمون كلمة "راعنا" في تمرير معنى سبّ الرسول صلى الله عليه وسلم والذي يحتمله اللفظ، فنزلت الآية تأمر المسلمين أن يستخدموا تعبيرا آخر وهو "انظرنا"، لمنع هؤلاء من السبّ عن طريق هذا اللفظ.
وفي جميع الأحوال، فإنّ أقصى ما يمكن أن يقع فيه مستخدم هذه الاصطلاحات – دون الإقرار بمضمونها الشركي الجاهلي – هو الوقوع في الشبهة، وليس مناط الأمر الوقوع في "الشرك"! ومن هنا فإنّ إقرار هذا اللفظ من قبل الإسلاميّين فيه شبهة، ولكنّه لا يرقى إلى كونه إقرارًا بذات الشرك، وذلك لأنّ اللفظ – كما قدّمنا – ليس صريحًا في الكفر، كسبّ الله عزّ وجلّ، أو سبّ الرسول صلى الله عليه وسلم، أو كالقول: "بأنّ التحليل والتحريم من حقّ الشعب"، فهذه تعبيرات صريحة في الكفر، بينما "الديمقراطية" لفظ "محتمل" للكفر، كما أنّه محتمل لمعنى لا يخالف الإسلام، ويتعيّن قبل الحكم على حقيقة الأمر تبيّن قصد مستخدمه منه، فإذا تخلّف قصد المعنى المكفّر لا يكون استخدامُ المصطلح كفرًا.
والحقّ أنّ غالبية الدعاة من أهل السنة الذين يستخدمون هذا المصطلح ويقرّونه، يفسّرونه بالمعنى الذي لا يخالف شرع الله، أي على أنّ الديمقراطية تعني حقّ الناس في اختيار من يحكمهم، وحقّهم في محاسبته وأَطْره على الحقّ والعدل، ومنعه من الظلم والفساد.
وبالجملة تُطلق "الديمقراطية" عندهم وعند الكثير من الناس كاصطلاح على ما هو ضدّ "الاستبداد" و"الدكتاتورية" وتحكّمِ الفرد في مصير الأمة.
وبناء على ذلك، يمكننا إيجاز الخلاف الجوهري بين الرافضين لمصطلح "الديمقراطية" وبين المتقبّلين له داخل الحركة الإسلامية من خلال التفريق بين منطلق كلّ فريق منهما:
- فالفريق الرافض ينظر إلى الديمقراطية على أنّها (حكم الشعب مقابل حكم الله). وجلّ كلامهم يدور حول هذا السياق.
- والفريق المتقبّل ينظر إلى الديمقراطية على أنّها (حكم الشعب مقابل تغلّب الفرد واستبداده). وجلّ كلامهم يدور حول هذا السياق.
حتى إذا قيل: إنّ الأصل هو الرجوع إلى معنى المصطلح عند منشئيه، فمخطئ جدًّا من يظنّ أنّ للديمقراطيّة معنى واحدًا متّفقًا عليه في الغرب، وليراجع من شاء معرفة ذلك الفصل الأول من كتاب "نقض الجذور الفكرية للديمقراطية الغربية" للأستاذ الدكتور محمد أحمد علي مفتي حفظه الله، حيث قام بجمع التعريفات المختلفة للديمقراطية في الغرب، ما بين تعريفات معيارية كلاسيكية، وتعريفات إجرائية، وتعريفات إيديولوجية، وها نحن ننقل منه بعض التعريفات الإجرائية، التي تتلاءم مع فهم غالب الإسلاميين المنادين بالديمقراطية:
فهذا "مكايفر" يؤكّد "أنّ الذي يميّز الديمقراطية عن غيرها من الأنظمة هو مشاركة المواطنين في اختيار قادتهم، فالديمقراطية ليست طريقة في الحكم، بقدر ما هي طريقة لتحديد من سيحكم"
(David E. Ingersoll, opcit. p.40).
وأشار "صاموئيل هنتنجتون" إلى أنّ النظام يصبح ديمقراطيّا حين يتمّ اختيار قادته عن طريق الانتخابات الدورية العادلة التي يتنافس خلالها المرشّحون لكسب أصوات الناخبين"
(Samule P. Huntington. The Third Wave. Democratization in the Late Twentieth).
أمّا "لبست" فيعرّف الديمقراطية بأنّها النظام السياسي الذي تتوفّر فيه الفرصة، دستوريّا، لتغيير الحكّام، والآليّة الاجتماعية التي تتيح لأكبر عدد ممكن من المواطنين التأثير على القرارات المهمّة، وذلك من خلال ممارسة حقّهم في الاختيار بين المتنافسين على المناصب السياسية"
(Tatu Vanhanen. The Process of Democratization. A Comparative Study of 147 States, 1980 - 1988. (New York, Taylor & Francis Inc, 1990) p. 8).
"ويؤكد روبرت دول أنّ الديمقراطية هي النظام الذي يتمكّن من خلاله المواطنون من ممارسة درجة عالية من السيطرة على الحكّام، والذي يظهر فيه التنافس السياسي عن طريق إقرار حقّ المعارضة وحقّ المشاركة السياسية" ((Tatu Vanhanen. The Process of Democratization. A Comparative Study of 147 States, 1980 - 1988. (New York, Taylor & Francis Inc, 1990) p. 8).
"أمّا جيوفاني سارتوري فيعرّف الديمقراطية بأنّها النظام الذي لا يُسمح فيه للمرء بتنصيب نفسه حاكمًا، أو منح نفسه حقّ الحكم، أو الحكم بصورة مطلقة غير مقيّدة" . وغيرها من التعريفات التي تدور حول نفس المحور
(Tatu Vanhanen. The Process of Democratization. A Comparative Study of 147 States, 1980 - 1988. (New York, Taylor & Francis Inc, 1990) p. 9).
فالديمقراطية المقصودة عند هذا الفريق هي عبارة عن أدوات إجرائية لمنع الاستبداد وتسلّط الفرد في حال عدم مشاركة الأمّة، وهي غير متعلّقة بالأيديولوجيا أو النظام "القِيَمي" الذي يحكم الأمة، إسلاميّا كان أم علمانيّا، ويضرب بعضهم على ذلك مثالا في انتقال الفكرة الديمقراطية من بيئة وثنية يونانية، ومرورها في بيئة نصرانية، ثم انتهاؤها إلى بيئة علمانية.
فلو كان هناك تلازم بين الفكرة الديمقراطية وبين "الدين" أو "القيم" أو "الأيديولوجيا" التي يحملها مجتمعٌ ما، لأخذَ الغربيّون معها بعض الأفكار الوثنية اليونانية التي ولدت في أحضانها. ويقولون إنّ جوهر الديمقراطية انتقل وخلّف وراءه الكثير من الأمور، وإنّ هذا الانتقال من الحالة الدينية الوثنية إلى الحالة اللادينية كافٍ وحده للدلالة على أنّ الأفكار الأساسية للديمقراطية يمكن أن تنتقل دون أن تنتقل معها وثنيّاتها ولوازمها ورواسبها.
فحتّى لو اتّفقنا أنّ استخدام المصطلح خطأ شرعًا، فمناط ذلك كما قلنا هو الوقوع في شبهة قصد المعنى الشركي للديمقراطية، وتُزال هذه الشبهة باستيضاح مقصد القائل بالمصطلح، ويبقى أنّ الأولى والأفضل ترك استخدامه، ولكن لا يُقال لمن يبيّن أنّ مقصده منه لا يخالف الشرع: إنّ إقرارك للمصطلح يعني الكفر والشرك أو يستلزم ذلك! و
كما يقول الإمام الشاطبي: "إنّ صرف الحكم إلى غير مناطه من أوصاف أهل البدع، إذ هو من تحريف الكلم عن مواضعه، ولا يصدر عن معتبر إلا لخفاء المعنى عليه".
مع التأكيد على أنّ الأنظمة المعاصرة التي توصف بأنّها "ديمقراطية"، لا تحمل أدنى صفات الشرعية الإسلامية، فهي مخالفة لقطعيات الدين، وتبنّيها بمضمونها الشركيّ هذا يمسّ بعقيدة المسلم، ولكنْ ليس مجرد وصفها بالديمقراطية هو الذي أسقط عنه صفة الشرعية الإسلامية، ولا وجود الآليات التي تحقّق رقابة الشعب على الحاكم ومنعه من الاستبداد والطغيان (إنْ وُجدتْ!) وإنمّا هي البنية "العلمانية" التي تسير بها، وهي مفروضة على الأمة بهذا المعنى الشركيّ منذ ما يقارب القرن، وأهمّ ما يميّز هذه البنية: الاجتماع على غير الإسلام كرابطة ولاء، كالولاءات القومية والوطنية الزائفة، بل وموالاة القوى العظمى والدوران في فلكها، وجعلُ التشريع – بمعنى التحليل والتحريم - حقّا خالصًا للبشر، أي إنّ خيار الأغلبية لمجموعة من البشر هو الذي يُعطي صفة "الإلزام" للقوانين الصادرة، رغم أنّ خيار الأغلبية هذا لم يُطبَّق طوال عقود من الحكم الاستبدادي والعسكري الذي هيمن على كثير من بلاد المسلمين!
وعلى هذا فقس سائر المصطلحات المشتبهة التي تحتمل أكثر من معنى، أحدها شركيّ، والآخر شرعيّ أو لا يصادم الشرع.
يظهر لنا بعد هذا التفصيل أنّ ما ذهبت إليه داعش من جعل "الدعوة إلى حكومة ديمقراطية" مناطًا مكفّرا مخرجًا من الملّة، هو ابتداع في الدين وضلال محض، يكون الكثير من العاملين المخلصين لدين الله، الذين يضحّون بالغالي والنفيس لإعلاء كلمة الله وللدفاع عن قضايا الأمة ونصرتها وتحقيق حريّتها ونهضتها وريادتها.. يكون هؤلاء بحسب هذا المنهج المبتدع في الحكم على الأقوال والأفعال كفّارًا مرتدّين!
أخي الكريم، أختي الكريمة، قمت بما أوجبه عليّ الله عزّ وجلّ من واجب البلاغ، ولكم أجر مشاركة هذا البيان التفصيلي ونشره لينتفع به خلق الله، وفي مقدّمتهم الشباب الذي أغوته داعش بأفكارها البدعية المخالفة لمنهج أهل السنة، والتي تفضي إلى معاداة قطاعات كبيرة من أبناء الأمة الإسلامية وتكفيرهم بل واستحلال دمائهم، وكلّ ذلك لا يخدم إلا مصالح أعداء الأمة. والله المستعان.
- 3 -
إعلام الأنام بأنّ الاشتراك في الفيس بوك من الشرك والكفران!!
هذه الحلقة مهمّة جدّا لأنّ الأخ الذي يؤمن بـ "عقيدة" داعش بصدق سيضطرّ بعد قراءة هذا الكلام إلى ترك الفيس بوك إلى غير رجعة
في بيان معروف أصدره تنظيم "الدولة الإسلامية في العراق والشام" (داعش) تحت عنوان "هذه عقيدتنا" جاء:
"خامسًا: نرى وجوب التحاكم إلى شرع الله من خلال الترافع إلى المحاكم الشرعية في الدولة الإسلامية، والبحث عنها في حالة عدم العلم بها كون التحاكم إلى الطاغوت من القوانين الوضعية والفصول العشائرية ونحوها من نواقض الإسلام قال تعالى: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون". انتهى.
يرى التنظيم إذن أنّ كل من أقبل ليتحاكم إلى المحاكم التي تحكم بالقوانين الوضعية، يرتكب ناقضًا من نواقض الإسلام.
ومن باب أولى: أنّ كلّ من أقرّ ووافق على التحاكم إلى هذه المحاكم التي تحكم بالقوانين الوضعية "الكفرية"، سواء بإقرار قولي أو خطّي أو غيره، فهو مرتكبٌ لناقض من نواقض الإسلام، ولم يذكر البيان حال المضطر، ولكن نفهم بداهة أنّ غير المضطر مطلقًا لا يجوز له بحال أن يوافق ويقرّ التحاكم إلى هذه المحاكم الوضعية "الكفرية" بتوقيع أو قول أيّا كان، لأنّه سيقع في ناقض من نواقض الإسلام.
ما تقدّم يُلزم جميع المؤمنين بهذه "العقيدة"، الواردة تحت باب "عقيدتنا" الذي أصدره تنظيم داعش، بالخروج فورًا دون تلكّؤ من اشتراك الفيس بوك الخاصّ بهم، لماذا؟
جاء في اتفاقية استخدام فيس بوك، التي يعرضها على كلّ مستخدم لدى تسجيله في الموقع تحت باب "المنازعات" ما يلي: "ستلتزم بحل أي مطالبة، أو سبب دعوى أو نزاع (المشار إليها بـ "الدعوى") تقوم بتحريكه ضدنا من جراء استخدام هذا البيان أو فيس بوك أمام المحكمة الجزئية الأمريكية لمقاطعة كاليفورنيا الشمالية أو أمام محكمة الولاية الواقعة في مقاطعة سان ماتيو، وتوافق على الخضوع للسلطة القضائية الشخصية للمحاكم بغرض البت في جميع هذه المطالبات.
يخضع هذا البيان إلى قوانين ولاية كاليفورنيا، بالإضافة إلى أي دعوى قد تنشأ بينك وبيننا، بغض النظر عن أي تعارض في النصوص القانونية". انتهى.
وبناء على هذا الكلام الواضح، يَحرم على كلّ مؤيّد لما جاء في بيان "عقيدتنا" الذي أصدره تنظيم داعش أن يشارك في موقع "فيس بوك"، فهو ليس ضرورة وليس مجبرًا عليه، وتركه واجب لأنّ استخدامه يعني بالضرورة أنّك موافق على حلّ أي دعوى أو نزاع بينك وبين فيس بوك في محكمة تحكم بالقوانين الوضعية الكفرية، وأنّك "توافق على الخضوع للسلطة القضائية الشخصية للمحاكم بغرض البتّ في جميع هذه المطالبات". كما ورد في النصّ بوضوح.
والآن، بغضّ النظر عن عدم العذر بالجهل في حالة الموافقة على التحاكم إلى القوانين الكفرية والعياذ بالله، فها قد علمتم يا معشر المؤيّدين لداعش هذه المخالفة الخطيرة (بحسب عقيدتكم) والتي تعتبر – دونّ شك – بعد العلم بها: ناقضًا من نواقض الإسلام، فليس أمامكم إلا الخروج من موقع فيس بوك الآن بعد قراءة هذه الكلمات ونهائيّا، وإلا فأنتم ممّن يقولون ما لا يفعلون قطعًا، ويدعون الناس إلى ما لا يلتزمون!
وإتماما للفائدة أقول: لا نرى أن التحاكم إلى المحاكم الوضعية المفروضة في بلاد المسلمين يدخل في باب "نواقض الإسلام"، لأنه حالة اضطرار وعجز ومناطه "استيفاء الحقوق" وليس إقرار القوانين الوضعية المناقضة للإسلام.
يقول شيخنا الراحل عبد المجيد الشاذلي – رحمه الله - ردّا إحدى شبهات أهل الغلوّ: "الشبهة التاسعة: قالوا: مَنْ دافع عن نفسه، أو طلب حقه من السلطات: كفر، فقد تحاكم إليها، ومن تحاكم إليها فقد: كفر" ونقول: يجب أن نفرق بين التحاكم، وبين استيفاء الحق، فاستيفاء الحق يطلبه الرسول، أو الإمام من الكفار ممن لهم ولاية على مغتصب الحق، كذلك الدفع عن النفس بما يخولنا إياه الشرع، ولا نعدل عن ذلك أبدًا إلا في حالات نادرة تحْكُمُنَا فيها ضرورة ماسة اعتبارًا للغُنْم بالغرم، والأولى ترك ذلك.
والتحاكم الصريح هو: العدول عن الحكم الشرعي، والحاكم الشرعي مع وجوده إلى غيره، كمن عدل عن حكم الرسول صلي الله عليه وسلم إلى حكم كعب بن الأشرف أو غيره، وكذلك طلب حق من قانون يمنعه الشرع منعًا باتًا، وهو في نظر الشرع باطل، واغتصاب لحقوق الآخرين". (انتهى كلام الشيخ من البلاغ المبين).
ويقول الشيخ عبد المجيد الشاذلي رحمه الله أيضًا في حوار له منشور في موقعه عن هذه القضية: "أما الحكم والتحاكم والتحكيم في حالة العجز والاستضعاف يكون هناك (من يفرض إرادته بالقوة على الانسان)، فقد يتحقق أنه يحكم أو يتحاكم إلى غير الشرع وهو كاره غير مريد، ولا يتحقق فيه الإعراض عن حكم الله، لأنه غير قادر عليه، ولا إرادة التحاكم إلى الطاغوت، فهو يريد الشرع لكنّ غيره يفرض عليه إرادته. بينما في المسلك الشخصى أنت من تفرض إرادتك على نفسك، ولا يستطيع أحد أن يفرض إرادته عليك.
وهذا قلناه قديما في مسألة (التحاكم إلى المحاكم الوضعية) وكانت قد بدأت ظاهرة تكفير المتحاكمين لاستيفاء حقوقهم من المحاكم فى السودان، ورددنا على ذلك وقلنا: إنه في حالة العجز عن التحاكم إلى شرع الله، لا يكون التحاكم إلى المحاكم إعراضًا عن حكم الله، ولا رغبةً في غيره، ومناط الكفر غير متحقّق، فالصورة وإن كانت صورة تحاكم لكن الحقيقة أنها حالة استيفاء حقّ لم يتحقّق فيها إرادة التحاكم إلى الطاغوت ولا الإعراض عن حكم الله والرغبة عنه.لمزيد من البيان للمسألة في حوار مهمّ للشيخ الشاذلي رحمه الله يرجى زيارة هذا الرابط: http://ahlusunnah.org/node/291177.
- 4 -
نقلنا في الحلقة السابقة من هذه السلسلة نصّا من بيان شهير لتنظيم داعش الإجرامي وقمنا بنقده وبيان عدم التزام المنتمين للتنظيم ومناصريه بما يستوجبه هذا النصّ من حرمة الموافقة على الخضوع والتحاكم للقوانين الكفرية (تُراجع الحلقة الثالثة من خلال الضغط على الوسم #جذور_انحراف_داعش).
وفي هذه المرة أيضًا سنتناول نصّا آخر من نفس البيان المسمّى "هذه عقيدتنا" لأبي عمر البغدادي، وأؤكّد أنّ الهدف الأساسي من الاعتماد على هذه البيانات هو تبجّح مناصري داعش بها واتهامهم لنا بأنّنا نسمع عن داعش ولكن لا نسمع منها، ويقولون: "هذة عقيدة الدولة الإسلامية في العراق والشام وحتى لا يبقى لكذاب عذر، أو لمحب شبهة".
فها نحن ننقل ما يصدره تنظيم داعش ويقرّ به ويتفاخر به محبّوه!
جاء في البيان المذكور في البند التاسع عشر: "نرى تحريم كل ما يدعو إلى الفاحشة ويعين عليها كجهاز الستالايت، ونوجب على المرأة وجوباً شرعيًا ستر وجهها والبعد عن السفور والاختلاط ولزوم العفة والطهر، قال تعالى: {إنّ الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة، والله يعلم وأنتم لا تعلمون}" انتهى النقل من البيان.
نقول باختصار ردّا على هذا الكلام الفظيع والمتهافت في آنٍ معًا:
أولا: منذ متى كان تحريم الستالايت وإيجاب ستر وجه المرأة من "العقيدة" حتى يوضع ذلك تحت باب "هذه عقيدتنا"؟!
إنما يدلّ ذلك على ضعف علم قيادة هذا التنظيم المنحرف إلى درجة وقوعهم بما لا يقع فيه طالب العلم المبتدئ من المغالطات، فما بالك بالأتباع؟!
ثانيا: جهاز الستلايت "وسيلة" تنقل النافع والخبيث، والذي يقرّر محتواها هو المستخدم نفسه، كمن يقرأ الكتب، يستطيع أن يقرأ الكتب التي تحوي المنكرات، ويستطيع أن يقرأ الكتب النافعة، فلأيّ شيء يحرّم تنظيم داعش الستلايت بهذا الحسم والاختزال؟!
ثم أليس من الأولى تحريم "الإنترنت" باعتباره أكثر انفلاتًا من الستلايت بأضعاف مضاعفة دون شكّ، ويحوي من الفواحش والمنكرات ما الله به عليم؟ فلماذا لم يذكره البغدادي في بيانه وهو أولى بالتحريم بناء على ما يقوله؟
ولماذا نرى أنّ أعضاء داعش ومناصريها يكثرون من استخدام الإنترنت، بل يمارسون فيه نشاطا إعلاميّا جبّارا للترويج لتنظيمهم، رغم أنه "مما يدعو إلى الفاحشة" بناء على معيار بيان "هذه عقيدتنا"؟ أم إنّ الإنترنت جائز لأنّه يخدم عملية الترويج للتنظيم؟!
ثالثا: ستر وجه المرأة حكم شرعي واجب لدى كثير من الفقهاء، ولكنّه من الأحكام المختلف حولها، ولا يجوز لأي تنظيم فرض ما يعتقده فيه على الأمة، والخطير في الموضوع أنّه يجعله تحت باب "هذه عقيدتنا"، أي إنّ المخالف فيه سيواجه غالبا الإجراءات التعسّفية التي تغصبه على ارتداء ما لا يعتقد بوجوبه.
وإنّه لمن السخف جعل حكم شرعي مختلف حوله بمثابة العقيدة التي لا يجوز الخروج عنها! وهذه مجرّد عيّنة، فما بالكم بمن يخالفهم في جواز الأخذ بالديمقراطية مثلا؟
أو جواز المشاركة السياسية في الأنظمة المعاصرة؟
الجواب في البيان نفسه، تكفير وحكمٌ بالردّة واستباحةٌ للدماء، لأنّ من يفعل ذلك عندهم قد ارتكب شركًا أعظم ودخل في الردّة!
أعاذ الله الأمة من هذا الغلوّ والطيش والتخلّف الذي يريد جعل حفنة من الجهلة يتحكّمون بمصير أمة كريمة لا ينبغي في حقّها إلا الكرامة والريادة وشيوع الرحمة والانطلاق لتأسيس الحضارة.
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل..
جزى الله خيرًا من أعان على نشرها، فإنّما هي رسالة أقوم بها احتسابًا لله، حريصًا على مفاهيم الأمة ودمائها، والله المستعان.
إضافة تعليق جديد