عندما يكون النّصُّ ظنّي الدّلالة
لتحميل الملف كاملاً.. اضغط هنا
قال تعالى: ﴿ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ﴾[الحج:30]، وحرمات الله: كل ما حَرُمَ انتهاكه والاقتراب منه بسوء، ومن أعظم حرمات الله: (النص الشرعي): كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم.
وقال تعالى: ﴿ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾[الحج: 32]، ومن أعظم شعائر الله تعالى التي يجب أن يُصرف لها التعظيم والتوقير والإجلال: (النص الشرعي): قال الله تعالى، وقال رسوله صلى الله عليه وسلم، فتعظيم القول تعظيم لقائله، والاستهانة والاستخفاف بالقول، استهانة واستخفاف بقائله.
وقد ظهر منّا قوم يتحرّجون من شرع الله ومن كلامه، قد أُشربوا في قلوبهم حب التّفلّت من قيود الشريعة والدين، ومُلئت فتنة بما يفِد إلى بلاد المسلمين من شعارات الحداثة، والتغريب، والليبرالية، والديمقراطية، وغيرها، فقالوا: أكثر نصوص الكتاب والسنّة ظنيّة الدلالة، وما كان ظنياً، فهو لا يلزمنا في شيء، نحن في حلٍّ منه، تجوز لنا مخالفته ومعارضته، وذلك تحت عنوان وزعم: "الاجتهاد"، فعزلوا بذلك الدين عن الحياة وواقع الناس السياسي، والاجتماعي، والاقتصادي .. وكرّسوا مبدأ علْمَنة الدولة والمجتمع وهم يعلمون أو لا يعلمون!
ومن هؤلاء -لزيغ قلوبهم عن الحق- من تراه يتّبع المتشابه من القول، ويتّبع التفسير المرجوح والأضعف والشاذ للمتشابه، ويتعامل معه على أنه هو المحكم من الدين الذي ليس بعده إلا الضلال، ليس رغبة ولا انصياعاً منه للنص الشرعي المتشابه، لا، وإنّما ليردّ به المحكم والمجمَع عليه من الدين، ولأنّه يجد في النصّ المتشابه السعة والخيارات التي تسمح له أن يذهب في الاتجاه الذي يرغب ويهوى، والتي تعينه على إضلال المسلمين عن دينهم، وتفريق جماعتهم وكلمتهم!
ونحن لا ننكر وجود نصوص من الكتاب والسنّة متشابهة وظنية في دلالتها، ظاهرها يفيد أكثر من دلالةٍ ومعنى، وأكثر من احتمال، كما قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ﴾ واضحات في الدلالة والمعنى، لا تحتمل إلا معنى وتفسيراً واحداً، لا لبس ولا غموض فيهن ﴿هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ﴾ حمّالة أوجه ومعانٍ، تقبل أكثر من تفسير ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ﴾[آل عمران:7].
والسؤال الذي يطرح نفسه: ما هو التعامل الأمثل والصحيح مع النصوص الظنية الدلالة، وكيف نفهمها ونفسرها، ونستدل بها؟
هذا سؤال كبير، يُجاب عنه وفق تسلسل النّقاط التّالية:
أولاً: ظنيّة النص في دلالته أمر نسبي، فما يكون عندك ظنياً قد يكون عند غيرك محكماً، وما يكون عندك مثلاً يحتمل خمسين بالمائة 50% أن يكون ظنياً، قد يحتمل عند غيرك أقلّ من ذلك أو أكثر، بحسب ما لديه من علم بدلالة النص، وبالنصوص الأخرى ذات العلاقة به وبموضوعه، التي ترجّح معنى دون آخر، وتفسيراً دون آخر، إلى أن يرقى هذا التفسير أو المعنى إلى درجة المحكم عنده.
وما دام الأمر كذلك، ليس من التقوى ولا الإنصاف على طالب العلم ومن يكون حديث عهد مع العلم الشرعي، أن يتسرّع في الحكم على نص -أشكل عليه فهمه والمراد منه- بأنه ظني الدلالة، وإنما عليه أن يلتمس أعلم من في بلدته، أو من يمكن أن يصل إليه من أهل العلم، ممن يثق بدينه وأمانته، ويسأله عن هذا النص، وما قد أشكل عليه منه، كما قال تعالى: ﴿فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾[النحل:43]، فالحكم على نص شرعي من الكتاب أو السنة بأنه ظني الدلالة فتوى عظيمة، لا ينبغي أن يتجرأ عليها إلا من كان من أهل الفتوى والعلم.
ثانياً: أن يردَّ النصّ الظنّي في دلالته إلى النصوص المحكمة في دلالتها، ذات العلاقة بموضوعه، فيُفسّر ويُفهم على ضوء ما تقضي به النصوص المحكمة، ويرجّح من المعاني التي يحتملها النص الظني في دلالته المعنى التي ترجّحه وتقضي به النصوص المحكمة، حيث لا يجوز أن نذهب إلى معنى يحتمله النص الظني المتشابه يخالف دلالة النصوص المحكمة في بابه وموضوعه.
ثالثاً: أن يُلتمَس فهم الصحابة -رضي الله عنهم- لهذا النص الظني، ويُنظر ماذا قالوا فيه، فقولهم وفهمهم مُقدَّمان على قول وفهم مَنْ جاء بعدهم، فهم الأقرب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وبالتالي فهم الأعلم، وحكمهم هو الأسلم و الأحكم، بهذا قضت نصوص الكتاب والسنة.
قال تعالى: ﴿وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً﴾[النساء:115]، وأولى الناس دخولاً في ﴿سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ هم الصحابة رضوان الله عليهم، ثم التابعون لهم بإحسان.
وقال تعالى: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾[يوسف:108]، وأولى الناس دخولاً في معنى ودلالات ﴿وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾ هم الصحابة رضوان الله عليهم، ثم التابعون لهم بإحسان. ومفهوم المخالفة يقضي أن ما سواهم ومن يخالفهم لا يدعو على بصيرة، وإنما دعوته تتسم بالعمى والجهل والضلالة.
وقال تعالى: ﴿فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ﴾ أي بمثل ما آمن به النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه ﴿فَقَدِ اهْتَدَواْ، وَّإِن تَوَلَّوْاْ﴾ عن الإيمان بمثل ما آمن به النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه ﴿فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾[البقرة:137].
وقال تعالى: ﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾[التوبة:100]، والله تعالى إذ رضي عن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، فهو سبحانه وتعالى رضي عنهم لسلامة دينهم واعتقادهم وفهمهم والتزامهم.
وفي الحديث: فقد صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (اقْتَدُوا باللَّذَيْنِ مِن بَعْدِي، أبي بكرٍ، وعُمَرَ)رواه ابن ماجه والترمذي، صحيح سنن الترمذي: (2895).، وفي رواية: (إني لا أَدرِي ما بقَائي فِيكُم، فاقتَدُوا باللَّذينِ من بَعْدِي)، وأشار إلى أبي بكرٍ وعُمرَصحيح سنن الترمذي: (2896)..
وقال صلى الله عليه وسلم: (فإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرى اختِلافاً كَثِراً، فعليكُم بِسُنَّتِي وسُنَّةِ الخُلَفاءِ المَهدِيينَ الرَّاشِدينَ تَمَسَكُوا بِها، وعَضوا عَلَيها بِالنَواجِذِ، وإيَّاكُم ومُحدَثاتِ الأُمورِ فَإنَّ كُلَّ مُحدَثَةٍ بِدعَةٌ، وكُلَّ بِدعَةٍ ضَلالةٌ)صحيح سنن أبي داود: (3851)..
وقال صلى الله عليه وسلم: (أَكرِمُوا أصحَابي فَإنّهُم خِيَارُكُم)رواه النسائي، وأحمد، والحاكم، وصححه الشيخ ناصر في تخرج المشكاة: (6003).، فإنهم خيارنا لسلامة دينهم واعتقادهم، ولشرف صحبتهم للنبي صلى الله عليه وسلم، وسبْق جهادهم ونصرتهم لدين الله.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "إن الله تعالى نظرَ في قلوب العباد، فوجدَ قلب محمدٍّ خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه وابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد -صلى الله عليه وسلم- فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيه، يُقاتلون على دينه، فما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وما رأوه سيئاً فهو عند الله سيءٌ".
فإن قيل: إن اختلف الصحابة -رضي الله عنهم- فيما بينهم، في فهم ودلالات النص الظني، مع غياب النص المرجّح من الكتاب أو السنة لقول من الأقوال .. فكيف السبيل والتوفيق والترجيح؟
أقول: في هذه الحالة يُقدّم قول وفهم السابق في الإسلام على اللاحق المتأخر، هذا الذي دلت عليه أدلة الكتاب والسنة، قال تعالى: ﴿لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾[الحديد:10]، فلا يستويان في المنزلة والفضل والأجر، كما لا يستويان في الدين والفهم والإيمان.
وفي الحديث، عن أبي سعيد الخدري، قال: كان بين خالد بن الوليد وعبد الرحمن بن عوف شيء، فسبَّه خالد، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا أحداً من أصحابي، فلو أن أحدَكم أنفق مثل جبل أحدٍ ذهباً ما أدرك مُدَّ أحدهم ولا نَصيفه)متفق عليه.
وفي رواية عن أنس رضي الله عنه قال: كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف كلام، فقال خالد لعبد الرحمن: تستطيلون علينا بأيامٍ سبَقْتُمونا بها؟! فبلغنا أن ذلك ذُكِرَ للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (دَعُوا لي أصحابي، فوالذي نفسي بيدِه لو أنفَقْتُم مِثْلَ أُحُدٍ أو مِثْلَ الجبالِ ذَهباً ما بلَغْتُم أعمالَهُم)أخرجه أحمد، السلسلة الصحيحة: (1923)..
يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- في خالد رضي الله عنه: (خالدٌ سيف من سيوف الله عز وجل، نِعم فتى العشيرة)السلسلة الصحيحة: (1826).، ومع ذلك لما حصل خلاف بينه وبين عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنها- يُنكر النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- على خالد، ويقول له ولغيره ممن تأخر إسلامهم وتأخرت نصرتهم للإسلام عن عبد الرحمن بن عوف: (دَعُوا لي أصحابي، فوالذي نفسي بيدِه لو أنفَقْتُم مِثْلَ أُحدٍ أو مِثْلَ الجبالِ ذَهباً ما بلَغْتُم أعمالَهُم)!
حتى لو اختلف أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- مع عمر -رضي الله عنه- في نازلة، أو في فهم نص ظنّي، قُدم قول وفهم أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- لسابقته في الإسلام، كما في الحديث عن أبي الدرداء قال: (كنت جالساً عند النبي صلى الله عليه وسلم، إذ أقبل أبو بكر آخذًا بطرف ثوبه، حتى أبدى عن ركبتيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما صاحبكم فقد غامر، فسلّم وقال: إني كان بيني وبين ابن الخطاب شيء، فأسرعت إليه ثم ندمت، فسألته أن يغفر لي فأبى علي، فأقبلت إليك، فقال: يغفر الله لك يا أبا بكر، ثلاثاً، ثم إنّ عمر ندمَ فأتى منزلَ أبي بكر، فسأل: أثمَّ أبو بكر؟ فقالوا: لا، فأتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسلم، فجعل وجه النبي -صلى الله عليه وسلم- يتمعّر، حتى أشفق أبو بكر، فجثا على ركبتيه، فقال: يا رسولَ الله، والله أنا كنت أظلمُ، مرتين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله بعثني إليكم فقلتم كذبت، وقال أبو بكر صدقتَ -وفي رواية: إني قلت: يا أيها الناس، إني رسولُ الله إليكم جميعاً، فقلتم: كذبتَ، وقال أبو بكر: صدقت- وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركوا لي صاحبي؟ مرتين، فما أوذي بعدها)رواه البخاري. فتأمل كيف أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- فرَّق بين أبي بكر وعمر، وعمر هو هو، ومنزلته العظيمة معلومة، لكن لما كان أبو بكر هو الأسبق في الإيمان والاستجابة والنصرة لدين الله، غضب النبي -صلى الله عليه وسلم- له هذا الغضب، وقال لعمر ولغيره من الصحابة: (فهل أنتم تاركوا لي صاحبي)!
وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (خَيرُ أُمَتِي قَرْني، ثُمَّ الذِينَ يَلونَهُم، ثُمَّ الذينَ يَلونَهُم، ثُمَّ إنَّ بَعدَكُم قَوماً يَشهَدُونَ وَلا يُستَشهَدونَ، وَيَخُونون ولا يُؤتَمَنونَ، ويَنذُرُون ولا يَفُونَ، ويَظهَرُ فيِهم السِّمَنُ)متفق عليه. والقرن الأول هو قرن الصحابة، ثم القرن الثاني، وهو قرن التابعين، ثم القرن الثالث، وهو قرن تابعي التابعين.
وعن عائشةَ قالت: سألَ رجلٌ النبيَّ صلى الله عليه وسلم: أيُّ الناسِ خيرٌ؟ قال: (القَرْنُ الذي أنا فيه، ثُمَّ الثاني، ثمَّ الثالِثُ)رواه مسلم.
وقال صلى الله عليه وسلم: (احفظوني في أصحابي، ثم الذين يَلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يَفشُو الكذب، حتى يشهد الرجلُ ولا يُستَشهَد، ويحلف الرجُل ولا يُستَحْلَف)صحيح الجامع: (206).، وغيرها كثير من النصوص التي تدلّ على صحة هذا القيد في الترجيح -عند مورد الخلاف- بين أقوال الصحابة، والتابعين لهم بإحسان في القرن الثاني، والثالث.
رابعاً: بعد مراعاة ما تقدم، إذا لم يجد العالِم جوابًا فيما أشكل عليه فهمه من النص الظني، وأراد أن يجتهد، ويدلي بدلوه، فله ذلك، لكن بثلاثة شروط:
أولها: أن لا يخالف اجتهاده -أو ما ينتهي إليه اجتهاده- نصاً محكماً، أو إجماعاً، أو قولاً لصحابي -وبخاصة السابقين منهم في دخول الإسلام ونصرته- للأدلة الآنفة الذكر.
ثانيها: أن لا يخالف اجتهاده مقاصد الشريعة.
ثالثها: أن لا ينتهي اجتهاده إلى ما لا تحتمله لغة ودلالات النص، فيكون اجتهاده حينئذٍ شاذًّا ومرفوضًا، وهو أقرب للتحريف والبدعة والإحداث في الدين، وفي الحديث قال صلى الله عليه وسلّم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو ردٌّ)متفق عليه، وقال صلى الله عليه وسلّم: (من صنع أمرًا على غير أمرنا فهو رد)صحيح الجامع: (6369)..
وقال صلى الله عليه وسلّم: (شرُّ الأمور محدثاتها، وكلُّ بدعة ضلالة)متفق عليه.
وقال صلى الله عليه وسلّم: (شرُّ الأمور محدثاتُها، وكلُّ محدثةٍ بدعةٌ، وكلُّ بدعةٍ ضلالةٌ، وكلُّ ضلالةٍ في النار)صحيح سنن النسائي: (1487)..
أمثلة توضح ما تقدّم:
مثال في العقيدة: قوله تعالى ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾[الحديد:4]، وقوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا﴾[المجادلة:7]. فقوله تعالى: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ﴾: ﴿إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا﴾ ابتداء يفيد التَّشابه والظنية في الدلالة، فيحتمل أكثر من وجه ومعنى: هل المعيّة هنا معية علم وإحاطة وقدرة، أم معية ذات وحلول ووحدة الوجود؟
الجواب: لكي نحدد المعنى المراد من هذا النص المتشابه الظني في دلالته، نرده أولًا إلى النصوص المحكمة من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ونفسّره على ضوء ما ورد من نصوص محكمة ذات العلاقة بالموضوع، والتي تفيد وتثبت أن الله –تعالى- له صفة العلو، يعلو ولا يُعلى عليه، مستوٍ على عرشه فوق السماوات السبع، بائن عن خلقه.
كما قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾[الحديد: 4]، وهي نفس الآية التي ورد في نهايتها قوله تعالى: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ﴾[الحديد:4]، فأثبت الخالق -سبحانه وتعالى- لنفسه في أوّل الآية صفة الاستواء والعلو على العرش، وأنه –تعالى- فوق الخلق والعرش، حتى لا تُفهم المعية الواردة في نهاية الآية على أنها معية ذات، وحلول!
وقد تكررت عبارة: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ في ستة مواضع من كتاب الله تعالى، لتؤكد المعنى المحكم الدال على أن الله -تعالى- فوق عرشه، غني وبائن عن خلقه. وفي سورة طه -وهو موضع سابع من كتاب الله تعالى- جاءت الآية كالتالي: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾[طه:5]، لتؤكّد نفس المعنى المحكم المشار إليه أعلاه.
وكذلك قوله تعالى: ﴿أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ﴾[الملك:16]، أي الله -تعالى- الذي له العلو في السماء. ونحوه قوله تعالى: ﴿أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا﴾[الملك:17]، وقوله تعالى: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾[الأعلى:1]، وقوله تعالى: ﴿يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾[النحل: 50]، وقوله تعالى: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ﴾[فاطر:10].
والسنة في السجود أن يُقال: "سبحان ربي الأعلى".
وفي صحيح مسلم، سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- جارية مملوكة: (أين الله؟ قالت: في السماء، قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله، قال -صلى الله عليه وسلم- لصاحبها: أعتقها فإنها مؤمنة).
وقال صلى الله عليه وسلم: (ارحموا من في الأرض، يرحمكم من في السماء)رواه الترمذي، وقال عنه: حسن صحيح.
وكانت زينب بنت جحش تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، تقول: "زوجكن أهاليكن، وزوجني الله من فوق سبع سماوات"رواه البخاري.
وقال -صلى الله عليه وسلم- لسعد بن معاذ: (لقد حكمت فيهم -أي في يهود بني قريظة- بحكم الملِك من فوق سبع سماوات)رواه النسائي وغيره، وغيرها عشرات النّصوص التي تفيد بأن الله -تعالى- في السماء: فوق عرشه، يعلو ولا يُعلى عليه، بائن عن خلقه.
وكذلك لو نظرنا إلى أقوال الصحابة والتابعين لهم بإحسان في هذه المسألة، لوجدناها قد أجمعت على هذا المعنى المشار إليه أعلاه، وقد نقل الإجماع عنهم عدد كبير من علماء السّلف .. وبذلك ينتفي التشابه عن النص، ويَحسن فهمه وتفسيره التفسير الحسن، ويُصبح الجانب المتشابه منه محكمًا .. ونعلم أن المعيّة المراد منها في الآية هي معيّة شهادة وعلم وقدرة وإحاطة، قال ابن جرير الطبري في التفسير: "{وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} وهو شاهد لكم أيها الناس، أينما كنتم يعلمكم ويعلم أعمالكم ومتقلبكم ومثواكم، وهو على عرشه فوق سماواته السبع" ا.هـ.
وقال ابن كثير في التفسير: "﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾ أي رقيبٌ عليكم، شهيد على أعمالكم حيث أنتم، وأين كنتم من بر أو بحر، في ليل أو نهار، في البيوت أو القفار، الجميع في علمه على السواء، وتحت بصره وسمعه، فيسمع كلامكم ويرى مكانكم، ويعلم سرّكم ونجواكم" ا.هـ.
وعليه تُقاس غيرها من النصوص العقديّة التي تفيد ابتداء معنى ظنيًّا متشابهًا .. وبمثل هذا التعامل مع الجانب الظني المتشابه من النص، وردّه إلى النصوص المحكمة والمفسرة، يزول بإذن الله -تعالى- التشابه، وتزول ظنيته، ليرقى إلى درجة المحكم في الدلالة، والحمد لله رب العالمين.
فإن قيل: علامَ فسرتم "المعيّة" بمعية العلم والشهادة والقدرة والإحاطة؟ فهذا تأويل، والتأويل ليس من مذهب الصحابة ولا علماء السّلَف؟
أقول: التأويل الذي يصرف النصّ عن مراده الشرعي، والراجح من دلالاته الشرعية واللغوية، لقرينة مرجوحة، يُصادم المحكم من النصوص الشرعية، نعم هو تأويل مذموم ومرفوض، أما التأويل الذي يراد منه حمل النص الشرعي على مراد الشارع، وتفسير المتشابه منه على ضوء المحكم، وحتى لا يخالف ولا يعارض النصوص المحكمة في بابه: هو تأويل حسَن، وممدوح بالنَّقل، والعقل، والإجماع.
مثالٌ في الفقه: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود، قَالَ: "نَادَى فِينَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَ انْصَرَفَ عَنْ الْأَحْزَابِ: (أَنْ لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ العَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ)، فَتَخَوَّفَ نَاسٌ فَوْتَ الْوَقْتِ فَصَلَّوْا دُونَ بَنِي قُرَيْظَةَ، وَقَالَ آخَرُونَ: لَا نُصَلِّي إِلَّا حَيْثُ أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَإِنْ فَاتَنَا الْوَقْتُ، قَالَ: فَمَا عَنَّفَ وَاحِدًا مِنْ الْفَرِيقَيْنِ"متفق عليه.
فالنبيُّ -صلى الله عليه وسلم- لم يعنف واحداً من الفريقين، لأن النهي النبوي متشابه ظني يحتمل المعنيين معاً، لكن هل لا يزال هذا النص ظني الدلالة؟ بحيث لو تكررت صورته، فأمر أميرٌ جندَه أن لا يصلوا العصر إلا في مكان كذا، فيجوز للجند أن يذهبوا مذهبين في تنفيذ الأمر، كما حصل للصحابة من قبل؟
الجواب: لا، لأن المحكم من النّصوص الشرعيّة قد رجّحت مذهبًا من المذهبين، وقولًا من القولين، وفهمًا من الفهمين، وهو الصلاة في وقتها، وعدم تفويت وقت الصلاة لأي سبب من الأسباب، وأنّه لا بد من العمل بما دلت عليه هذه النصوص المحكمة ورجّحته، منها قوله تعالى: ﴿إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتًا﴾[النساء:103] أي محدّدًا لا يجوز الخروج عنه. وقوله تعالى: ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوّاً مُّبِينًا﴾[النساء:101]، فرخّص لهم القصر في الصلاة، بحيث يصلون الأربعة اثنتان عند خشيتهم من فتنة العدو، ولم يرخّص لهم في ترك الصلاة إلى أن يخرج وقتها المحدد.
وفي الحديث عن عبد الله بن مسعود، قال: "سألتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: أيُّ الأعمالِ أحبُّ إلى اللهِ؟ قالَ: (الصَّلاةُ على وقتِها)"متفق عليه.
وعن أبي ذرٍّ، قال: "قال لي رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: (كيف أنت إذا كانت عليك أمراءُ يُؤخِّرونَ الصلاةَ عن وقتِها، أو يُميتونَ الصلاةَ عن وقتِها؟ قال قلتُ: فما تأمرني؟ قال: صَلِّ الصلاةَ لوقتِها)"رواه مسلم.
وقال صلى الله عليه وسلم: (الذي تفوته صلاة العصر، كأنّما وُتِرَ أهلَهُ ومالَه)رواه البخاري.
وعن أبي المَلِيح، قال: "كنا مع بُرَيْدَةَ الأسلمي في غَزوَةٍ، في يومٍ ذي غَيمٍ، فقال: بَكِّرُوا بصلاةِ العصرِ، فإن النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: (من ترك صلاةَ العصرِ فقد حَبِطَ عملُه)"رواه البخاري. فرغم أنهم في غزوة وجهاد، وفي يوم ذي غيم، ومع ذلك لم يجد الصحابي عذراً في تأخير صلاة العصر حتى يخرج جميع وقتها، واستدل على قوله بحديث النبي -صلى الله عليه وسلم- المخيف: (من تركَ صلاةَ العصرِ فقد حَبِطَ عملُه)"!
فهذه النصوص المحكمة في دلالتها، هي التي تجعل الصلاة في وقتها هو الواجب والراجح، مهما كانت الظروف والأسباب، وما كان ظنيًا في بابه يُرَد لهذا المحكم، ويُفسّر على ضوء هذا المحكم، فيصبح المتشابه الظني بالمحكم محكمًا في دلاته، ولله الحمد.
مثال آخر: قال تعالى: ﴿أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ﴾[النساء:43]، فالنص متشابه وظني في دلالته: هل المراد من ﴿لاَمَسْتُمُ﴾ مجرد لمس بشرة المرأة -وأي امرأة- أم المراد منه الجماع؟ ... وأهل العلم منهم من ذهب للقول الأول، معتمدًا على الدلالات اللغوية للنص، ومنهم من ذهب للقول الآخر، معتمدًا على الأثر في تفسير النص .. لكن عند الرجوع لنصوص السنّة، نجد أن السنّة تفسر ﴿لاَمَسْتُمُ﴾ بالجماع، وليس بمجرد ملامسة البشرة، كما في الحديث المتفق عليه عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: (كنتُ أنامُ بين يديْ رسول اللهِ -صلى الله عليه وسلم- ورجلايَ في قبلتِه، فإذا سجد غمزني، فقبضتُ رجليَّ، فإذا قام بسطتُهما، قالت: والبيوتُ يومئذٍ ليس فيها مصابيحُ) فدل الحديث أنّ مجرّد لمس المرأة لا ينقض الوضوء، بل ولا يُبطل الصلاة، وأنّ المراد من ﴿لاَمَسْتُمُ﴾ الواردة في القرآن الكريم هو الجماع.
شاهِدُنا من هذا المثال والذي قبله: أن نبيّن كيفية التعامل مع النص المتشابه الظني في دلالته، وكيف تتم عملية ترجيح قول على قول، وفهم على فهم، ومعنى على معنى، لا أن نستقصي النصوص المتشابهة الظنية، فهذا عمل كبير قد يحتاج إلى مجلدٍ أو مجلدين أو أكثر.
تنبيه: أحياناً قد يغيب عن المجتهد النَّص المحكم المفسِّر والمرجّح لأحد معاني النّص المتشابه الظني في دلالته، فيضطر للاجتهاد والقياس، والاستصحاب، والاستحسان .. وقد يُصيب حينًا، ويُخطئ حينًا آخر .. وله في الأولى أجرين، وفي الثانية أجر واحد .. وكلما خفيت النصوص المحكمة المفسّرة والمرجحة على العالِم المجتهد، كان ذلك أدعى لتوسيع ساحة التأويل والأعذار عند حصول الخطأ، وعند مورد الاختلاف والتباين بين أقوال العلماء.
فالاختلاف حول فهم وتفسير النصوص المتشابهة الظنية في دلالتها وارد وحاصل .. وبالتالي لا يجوز أن يترتب عليه ولاء وبراء .. ولا تعديل ولا تجريح .. ولا تفسيق ولا تضليل أو تكفير .. وبخاصة عندما تكون منطلقات وأصول العالم المجتهد في فهمه وتعامله مع نصوص الشريعة صحيحة وسنيّة، يتحرى السنّة في اجتهاداته قدر المستطاع .. بعيداً عن زيغ وضلالات أهل البدع والأهواء.
كما لا يجوز أن يترتب عليه تنازع وتحزّب وتفرق في الدين، فقد نهى الشارع عن التنازع والتفرق في الدين، قال تعالى: ﴿وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾[آل عمران:105]، وقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ﴾[الأنعام: 159]، وقال تعالى: ﴿وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ . مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾[الروم:31-32]، وقال تعالى: ﴿وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾[الأنفال:46].
وفي الحديث عن عبد الله بن عمرو، قال: "خرجَ رسولُ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ- علَى أصحابِهِ وَهُم يختَصِمونَ في القَدَرِ، فَكَأنَّما يُفقَأُ في وجهِهِ حَبُّ الرُّمَّانِ منَ الغضَبِ! فقالَ: (بِهَذا أُمِرتُمْ؟ أو لِهَذا خُلِقتُمْ؟ تَضربونَ القُرآنَ بعضَهُ ببَعضٍ؟ بِهَذا هلَكَتِ الأمَمُ قبلَكُم)"صحيح ابن ماجه: (69)..
وقد سمعَ النَّبيُّ -صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ- قوماً يتدارؤنَ في القرآنِ -يدفعون ويضربون بعضه ببعض- فقالَ: (إنَّما هلَكَ من كانَ قبلَكم بِهذا: ضرَبوا كتابَ اللَّهِ بعضَهُ ببعضٍ، وإنَّما نزلَ كتابُ اللَّهِ يصدِّقُ بعضُهُ بعضاً، فلا تُكذِّبوا بعضَهُ ببعضٍ، فما عملتم منْهُ فقولوا، وما جَهِلتم فَكِلوا إلى عالمِه)مشكاة المصابيح: (228). قال الألباني: إسناده حسن.. قال تعالى: ﴿فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾[النحل:43].
تنبيه ثانٍ: قاعدة: (إذا وجد الاحتمال بطل الاستدلال) كثير من الناس يفسر هذه القاعدة تفسيرًا خاطئًا، فيبطلون الاستدلال بالنص الذي يحتمل أكثر من معنى أو دلالة .. ويعطّلون العمل به .. ولو راجعتهم، لقالوا لك: "إذا وجد الاحتمال بطل الاستدلال"، وهذا جهل وظلم منهم لنصوص الشريعة .. فليس ما ذهبوا إليه هو المراد من القاعدة، وإنما المراد بها: إذا احتمل النص رأيين: راجحًا ومرجوحًا، ظنيًا ووهميًا، بطل الاستدلال بالمرجوح على الراجح، وبالوهمي على الظنّي.
ويُقال أيضًا: إذا تساوى المعنيان المستخرجان من النص في القوة والحجة والاستدلال .. فلا حجة حينئذٍ لقول على آخر .. ويبطل الاستدلال بالنّص الظني على بطلان أحد المعنيين المستفادان منه، ولكل فريق أن يعمل بما انتهى إليه اجتهاده من المعنيين أو أكثر .. ويكون الخلاف حينئذٍ أقرب لخلاف التنوع منه لخلاف التضاد.
إضافة تعليق جديد