الجمعة 22 نوفمبر 2024 الموافق 20 جمادي اول 1446 هـ

إضاءات فكرية

حكاية الدولة الاسلامية من الداخل

16 صفر 1439 هـ


عدد الزيارات : 3081
صحيفة الغارديان

 

أحد كبار القادة في الدولة الإسلامية يكشف في مقابلة حصرية عن تفاصيل تكوين الخلية الإرهابية في السجن العراقي وتحت أنظار القوات الأمريكية

 

 

البداية من سجن (بوكا)

في صيف ٢٠٠٤، اقتاد الجنود شابًا جهاديًا مكبلاً بالقيود إلى داخل أسوار سجن بوكا في جنوب العراق، لقد كان الشاب متوترًا عندما اقتاده جنود أمريكيون عبر ثلاث بنايات ثم عبر دهاليز مليئة بالأسلاك ليصل إلى ساحة مفتوحة مليئة بسجناء يرتدون زي السجن ذي الألوان الصارخة، وينظرون إليه بحذر وأعينهم تراقب تحركاته.

"لقد تعرفت على بعضهم فورًا" هذا ما قاله لي عند مقابلته الشهر الماضي، وأضاف: "كنت خائفًا من سجن بوكا، بقيت أفكر به وأنا في الطائرة، ولكنه كان أحسن مما توقعته".

في العقد الماضي دخل الجهادي الذي أعطاني اسمه الحركي (أبو أحمد) إلى سجن بوكا شابًا، ولكنه الآن قيادي كبير في الدولة الإسلامية، لقد حصل على رتبة رفيعة مع زملائه الذين قضوا السجن معه، إن قصته لا تختلف كثيرًا عن السجناء الآخرين الذين قبض عليهم الأمريكيون في المدن والقرى العراقية ثم نقلوهم بالطائرات إلى سجن مجهول في الصحراء ساعد في تكوين أسطورة الوجود الأمريكي في العراق.

قال (أبو أحمد) "كان السجناء يرتعدون خوفًا من سجن بوكا، ولكنهم لم يستغرقوا وقتًا طويلًا ليدركوا أنه ليس سيئًا للغاية، حيث إنه كان الفرصة الذهبية التي وفرها لهم السجن تحت قيادة الجيش الأمريكي. لم يكن باستطاعتنا أن نجتمع في بغداد أو في أي مكان آخر بهذه الطريقة". وأضاف: "لقد كنّا آمنين هنا في السجن، الأوضاع خطرة للغاية خارج أسواره، ولكننا هنا على بعد بضعة أمتار من القيادة الرئيسية للقاعدة".

التقى (أبو أحمد) بـ (أبو بكر البغدادي) للمرة الأولى، وهو ما يعرف الآن بأمير الدولة الاسلامية الذي وُصف بأنه أخطر رجل في العالم. قال (أبو أحمد): "لقد توجّه السجناء إليه منذ البداية، ولكن لم يتوقع أحد أن يصل إلى هذا المنصب".

كان (أبو أحمد) عضوًا أساسيًا في تشكيل الدولة الإسلامية، أُجبر على الانخراط في المليشيات وهو شاب صغير بسبب الاحتلال الأمريكي الذي كان يريد تغيير القوى وإعطاء السلطة للأغلبية الشيعية على حساب السنة الذين كانوا القوة المسيطرة سابقًا، وهو ما يعتقده (أبو أحمد) وآخرون.

إن مشاركته في تكوين ما يعرف الآن بالدولة الاسلامية أدت إلى حصوله على مركز رفيع في الخلايا المستجدة التي تسربت من الحدود السورية، ويعتقد العديد من زملائه أن تساقط النظام في المنطقة ساهم بإعادة طموحهم في العراق، الذي يعتبر الهدف غير المحقق بعد، ولكن الحرب في سوريا أعطتهم ميدانًا جديدًا.

وافق (أبو أحمد) على التحدث معي بعد أكثر من سنتين من المشاورات التي من خلالها أفصح عن ماضيه وعن كونه جزءًا رئيسًا في أكبر شبكة مليشيات، وعبَّر عن قلقه من انتشار الدولة الإسلامية في العراق والشام وعن نظرة الدولة الاسلامية في المنطقة.

لقد أعاد (أبو أحمد) النظر في أفكاره بعد اندلاع الحرب في العراق وسوريا، وفي الأوضاع المضطربة في الشرق الأوسط التي ستستمر إلى أجيالٍ قادمة مليئة ببحر من الدماء على أيدي رفاقه الأيديولوجيين. إن وحشية الدولة الاسلامية تتزايد بشكل كبير حسب وجهة نظر (أبو أحمد) الذي بدأ بالتغير مع مرور الوقت، حيث أعاد النظر حول تفسير القرآن وليس تطبيقه حرفيًا.

لقد وافق (أبو أحمد) على التحدت مع صحيفة (الغارديان) بعد تفهمه لما آلت إليه الدولة الإسلامية، وذلك من خلال جلسات مطولة من خلالها قدّم معلومات وفيرة عن القائد الغامض وعن نشأة الخلية الإرهابية التي تعود من سنة ٢٠٠٤ وهي السنة التي التقى فيها مع (أبو بكر البغدادي) في سجن بوكا وإلى عام ٢٠١١ عندما بدأ العراقيون المتمردون بعبور الحدود إلى سوريا.

 

أبو بكر البغدادي في سجن بوكا

في بداية أيام سجن بوكا أصبح السجين الذي يعد اليوم أخطر شخص في العالم، أكثر عزلة من بقية السجناء الآخرين الذين كانوا يرونه شخصًا متحفّظًا وغامضًا، لكن سجّانيه كانت لهم نظرة مختلفة، حيث كانوا يرون أنه شخص له تأثير مُصلح ومُهدّئ في وسط تشوبه الريبة، ووقع على عاتقه المساعدة في حل جميع النزاعات بين السجناء. يقول (أبو احمد): "كان هذا كله جزء من تمثيله، أحسست أنه يخفي شيئًا غامضًا في داخله لم يرد أن يراه أحد، لقد كان مختلفًا جداً عن كل الأمراء الذين كانت معاملتهم سهلة، لقد كان منطويًا وبعيدًا عنّا جميعًا".

وُلِد البغدادي إبراهيم بن عوّاد البدري السامرائي في عام ١٩٧١ في مدينة سامراء العراقية، أُلقي القبض عليه من قبل القوات الأمريكية في الفلوجة في شهر شباط ٢٠٠٤، قام بمساعدة تشكيل المليشيات المسماة بـ (جيش أهل السنة والجماعة) التي انتشرت بين الجماعات السنية الثائرة حول مسقط رأسه.

قال الدكتور هشام الهاشمي المحلل والمستشار الحكومة العراقية فيما يخص الدولة الاسلامية: "لقد ألقي القبض عليه في منزل صديقه".

لقد كان في منزل صديقه (ناصيف جاسم ناصيف)، ونقل إلى سجن بوكا، ولكنِ الأمريكيون لم يتعرفوا على هويته الحقيقية.

لقد وُزِعَ رفاق البغدادي السجناء الذين هم أكثر من ٢٤,٠٠٠ سجين على ٢٤ معسكرًا وكل هؤلاء السجناء لم يعرفوا هويته الحقيقية.

كان السجن هرميَّ التقسيم، وذلك يبرز من خلال ألوان زي السجناء، حيث يتعرف السجانين من خلالهم على نوع التهمة.

قال (أبو احمد): "اللون الأحمر للذين اقترفوا أخطاءً في السجن، والأبيض لزعيم السجناء، والأخضر للسجن الطويل الأمد، والأصفر والبرتقالي للسجناء العاديين. هذا حسب ما أتذكر."

دخل البغدادي سجن بوكا وهو يناهز ٣٣من العمر، وكان يشنّ حملة ضد الأمريكيين، وكان يحشد لها مليشيات من وسط وغرب العراق. إن الاحتلال الذي جاء متقنعًا بحرب التحرير أصبح استعمارًا طاحنًا حرم أهل السنة من راعيهم (صدام حسين)، فبدؤوا القتال ضد القوات الأمريكية، وبعدها وجّهوا بنادقهم إلى المستفيدين من إطاحة (صدام حسين) وهم الأغلبية الشيعية.

تُعتبر مليشيات البغدادي إحدى عشرات المليشيات التي ظهرت من الجماعات السنية المتمردة تحت راية القاعدة في العراق، ثم تحولت إلى الدولة الإسلامية في العراق، وهؤلاء هم السلف لما يُعرف الآن بالدولة الاسلامية التي هي تحت قيادة (البغدادي) الآن، وتسيطر على وسط وغرب العراق وشرق سوريا. هذه القوة التي جذبت الجيش الأمريكي إلى المنطقة الهشّة بعد أن انسحبوا قبل ثلاث سنوات وظنّوا أنهم لن يرجعوا إليها.

كانت خلية البغدادي معروفة قليلًا خلال فترة سجنه التي قضاها في سجن بوكا، وكان من الشخصيات الأقل تأثيرًا من قائد المتمردين (أبو مصعب الزرقاوي) الذي يمثّل الرعب الحقيقي في العراق وأوروبا وأمريكا، لكن البغدادي عرف كيف يبرز شخصيته ويطغى على كل القادة الذين كانوا في بوكا وفي كل أنحاء العراق.

ويُنسب البغدادي إلى النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، حصل على شهادة الدكتوراة في الدراسات الإسلامية من جامعة بغداد الإسلامية. اعتمد البغدادي على كلٍّ من نسبه وشهادته لإعلان شرعية الخلافة الإسلامية في تموز ٢٠١٤. وكان ذلك مصيرًا متبينًا في ساحة السجن قبل عشر سنوات.

قال أبو أحمد: "إن البغدادي معروف بهدوئه وبشخصيته الجذابة، عرفت أنه شخص مهم، ولكني في الحقيقة لم أتوقعه أن يصل إلى هذا المستوى".

حسب ما رواه (أبو أحمد) ومسجونون آخرون في سجن بوكا في ٢٠٠٤، إن البغدادي كان له طريقته في التعامل مع سجانيه، واعتبره الأمريكيون الشخص الذي يلجؤون إليه لحل النزاعات بين السجناء ولفرض الهدوء داخل أسوار السجن.

قال (أبو أحمد) "مع مرور الأيام، وكلما كان هناك مشكلة في السجن برز البغدادي عنصرًا هامًا، وأراد أن يكون المسؤول الأول عن السجناء. عندما أَنظُرُ مرةً أُخرى أجد بأنه كان يستخدم أسلوب (فرّق تسد) للحصول على غايته". أُطلق سراح البغدادي في كانون الأول ٢٠٠٤ بعد أن قُرِّرَ أنه لا يشكل خطرًا.

قال (أبو أحمد): "إن الامريكيين احترموه كثيرًا، ولذلك استطاع زيارة السجناء في معسكر آخر متى ما أراد، ولكننا لم نستطع الحصول على نفس المطلب. وخلال تلك الفترة، كان يقود حملته خفية عن أنظارهم، ويقوم ببناء الدولة الإسلامية، ولولا السجن الأمريكي في العراق لما كانت هناك الدولة الإسلامية. نحن نعتبر بوكا المصنع الذي ساعد في بناء عقيدتنا".

 

التخطيط لإنشاء التنظيم

بدأت الدولة الإسلامية بالانتشار في المنطقة تحت راية الرجال الذين كانوا في السجون الأمريكية خلال فترة الاحتلال الأمريكي للعراق، بالإضافة إلى سجن بوكا، كان هناك معسكر كروبر قرب مطار بغداد، كما كان هناك سجن أبو غريب في غرب بغداد الذي أُغلق بعد ١٨ شهرًا في بداية الحرب. وحسب أقوال العديد من المسؤولين الأمريكيين الذين كانوا يديرون عمليات الاعتقال إنّ الكثير من السجناء الذين أُطلق سراحهم ساهموا بشكل كبير في العمليات التخريبية.

"لقد حضرت عدة اجتماعات التي قال فيها العديد إن الأمور تجري على ما يرام" هذا ما قاله (علي خضيري) المساعد للسفراء الأمريكيين في العراق بين ٢٠٠٣ و٢٠١١ وهو أيضًا مساعد لثلاثة قادة عسكريين أمريكيين. ومع مرور الوقت، بدأ القادة الأمريكيون بقبول الواقع "أصبحت هنالك عناصر متشددة، وهنالك نتائج عكسية في عدة مجالات. لقد بدؤوا بالتخطيط والتنظيم لتعيين قادة وشن حملات."

ووافق (أبو أحمد) على هذا "كل الأمراء كانوا يجتمعون في السجن بشكلٍ مترددٍ، وتقربنا جداً من بعضنا البعض، عرفنا مدى قدراتهم وكيفية استخدامهم لأي سبب ما، أهم السجناء في بوكا كانوا المقرّبين من (الزرقاوي) الذي اعتُبر قائد المجاهدين في ٢٠٠٤".

أضاف (أبو أحمد): "كان لدينا الكثير من الوقت للتفكير والتخطيط، إنها البيئة المثالية، اتفقنا أن نجتمع بعد إطلاق سراحنا وكانت عملية الاتصال سهلة، كتبنا أرقامنا في ملابسنا الداخلية، وعندما خرجنا من السجن اتصلنا ببعضنا، كانت عندي أرقام هواتف وعناوين كل المهمين لي، وفي ٢٠٠٩ عاد الكثير منا ليقوم بما قام به قبل القبض علينا، ولكننا الآن نقوم بها بطريقة أفضل".

قال المحلل العسكري الدكتور (هشام الهاشمي) إن الحكومة العراقية تقدّر بأن عدد القادة الكبار في الدولة الإسلامية هم ١٧ من أصل ٢٥ يديرون المعركة في العراق وسوريا، وكانوا مسجونين في السجون الأمريكية بين ٢٠٠٤ و٢٠١١. إن البعض منهم نُقلوا من السجون الأمريكية إلى السجون العراقية، وفي تلك الأثناء تم اقتحامها في السنوات الماضية وذلك ما سمح للعديد من القادة الكبار في الدولة الإسلامية بالهروب والانضمام ثانية إلى صفوف المتمرّدين.

تمّ هروب أكثر من ٥٠٠ سجين عند اقتحام سجن أبو غريب في ٢٠١٣ حيث كان البعض منهم قادة جهاديين تمّ اعتقالهم من قبل الأمريكان، وقد هربوا في تموز ٢٠١٣ بعد أن اقتحمته عناصر الدولة الإسلامية، وقد قامت هذه العناصر بنفس العملية على سجن الطاجي.

أغلقت الحكومة العراقية سجن أبو غريب في نيسان ٢٠١٤ الذي يبعد ١٥ ميلًا عن غرب بغداد وما زال مقفلًا، وهو قليل الجاهزية وقريب من الخط الأمامي للقتال بين الدولة الإسلامية والقوات العراقية وهو قرب الطريق بين الفلوجة والرمادي.

إن أجزاء من هاتين المدينتين أصبحت أرضًا محظورة للقوات العراقية المحاصرة التي دحرتها الدولة الإسلامية، فهي عصابة من القتلة الذين لا نظير لهم في بلاد ما بين الرافدين منذ المغول. عندما زرت السجن المهجور في آخر هذا الصيف، كان هناك جنود عراقيون في نقطة التفتيش على طريق بغداد الرئيسي يأكلون البطيخ، وكان هناك دوي للقنابل البعيدة، وكانت جدران السجن خلفهم والجهاديون الأعداء راهنين على الطريق أمامهم.

إن الكشف عن التعذيب في سجن أبو غريب كان له التأثير الشديد في نفوس العراقيين الذين رأوا في الاحتلال الأمريكي حضارة مزعومة وتقدمًا بسيطًا بعد طغيان (صدام) بالرغم من وجود شكوى قليلة عن التعذيب في سجن بوكا إلى حين إقفاله في عام ٢٠٠٩، إلّا أن العراقيين اعتبروه رمزًا قويًّا للسياسة غير العادلة التي أدت بالآباء والأبناء والأزواج العراقيين -بعضهم مدنيون- إلى السجون، نتيجةً للمداهمات العسكرية على مناطق سكنية.

وفي ذلك الوقت رد الجيش الأمريكي بأن عمليات التوقيف قانونية وأنها شبيهة بما تقوم به أي قوات ضد العمليات الإرهابية، كعمليات الجيش البريطاني في إيرلندا الشمالية، والعمليات الإسرائيلية في غزة والضفة الغربية، وكذلك عمليات النظامين السوري والمصري.

إن البنتاغون يستمر بالدفاع عن سجن بوكا حتى بعد مرور ٥ سنوات على إغلاقه ويعتبره مثلًا لتطبيق القانون في وقتٍ صعبٍ. "خلال العمليات العسكرية بين ٢٠٠٣ و٢٠١١ قامت القوات الأمريكية بسجن آلاف من سجناء الحرب" صرح الكولونيل ميلز ب كاجينز، وهو المتحدث الرسمي لوزارة الدفاع الأمريكية لشؤون السجناء: "هذا النوع من التوقيف سائد خلال الحروب، وإن توقيف المشبوهين في عمليات الإرهاب هو أمر قانوني وهو الطريق الإنساني لحماية أمن واستقرار المواطنين".

 

مرحلة ما بعد السجن ودور (أبو مصعب الزرقاوي)

بعد الإفراج عن (البغدادي) أُفرج عن (أبو أحمد) أيضًا. وبعد وصوله إلى مطار بغداد أخذه رجال قابلهم في سجن بوكا إلى بيت في غرب العاصمة، ومن هناك انضم ثانية للمجاهدين الذي تحولوا من المعركة ضد الاحتلال إلى حرب دامية ضد العراقيين الشيعة.

انتشرت فرق الموت في بغداد وخاصة في مركز العاصمة، وقاموا بقتل عناصر من الشيعة وبدؤوا بتهجير السكان من المناطق التي يسيطرون عليها، فتغيرت العاصمة كثيرًا على (أبو أحمد)، وأصبح من الممكن مراقبة كلّ تطور جديد في الحرب الطائفية بمساعدة السجناء الجدد في بوكا. لقد عرف (أبو أحمد) الأجواء التي عاد إليها، وكان قادته في السجن قد خططوا له.

عندما وصل (أبو أحمد) إلى منزله في غرب بغداد، قام بقطع الحبل الموجود في لباسه الداخلي الذي يحوي أرقام زملائه في السجن، وبدأ الاتصال بهم لبدء العمل. "قام زملائي في السجن بالاتصال ببعضهم، وكانت العملية سهلة للبقاء على اتصال." يبتسم (أبو أحمد) خلال الحديث معي عندما يتذكر خطتهم: "إن ملابسنا الداخلية جعلتنا نربح الحرب."

كان هدف (الزرقاوي) إعادة إحياء ١١ أيلول لتصعيد الموقف، لقد أراد نقل الحرب إلى قلب العدو، وبالنسبة له يمكن أن يحدث هذا من خلال هدفين: مقعد السلطة الشيعية، أو تشكيل رمز ديني محدد. في شهر شباط ٢٠٠٦، وبعد شهرين ثانيين فجر (الزرقاوي) مرقد الإمامين العسكريين في سامراء شرق بغداد، عندها اشتعلت الحرب الأهلية وتحققت طموحات (الزرقاوي).

عندما سألته عن نتائج هذا العنف، سكت (أبو أحمد) لثوانٍ لأول مرة خلال جلساتنا المتعددة. "كان هنالك سبب لإشعال الحرب، ولم يكن السبب لأنهم شيعة، ولكن لأن الشيعة دفعونا إلى هذا الموقف. لقد سهَّل الجيش الامريكي نقل السلطة لهم وهم كانوا متواطئين مع بعضهم البعض".

عندها بدأ الحديث عن الرجل الذي أعطى الأوامر: "كان (الزرقاوي) ذكيًّا وكان من أحسن المخططين الإستراتيجيين الذين حظيت بهم الدولة الإسلامية، وكان أبو عمر البغدادي شرسًا" قال (أبو أحمد) وهو يصف خليفة (الزرقاوي) الذي قتلته القوات الأمريكية في نيسان ٢٠١٠ "ولكن البغدادي هو الأكثر تعطشًا للدماء".

"عندما قتل الزرقاوي، ظهر العديد من رفاقه الذين كانوا متعطشين للدماء أكثر منه، كان فهمهم للشريعة والإنسانية رخيص جدًا، لم يفهموا التوحيد (المبدأ القرآني لتوحيد الله) بالطريقة التي يجب فهمها، لا يجب علينا فرض التوحيد عن طريق الحرب."

بالرغم من التحفظات التي بدأت تظهر بعد ٢٠٠٦، أصبح (أبو أحمد) جزءًا من جهاز القتل البشري الذي عمل بسرعته القصوى خلال سنتين، فتم تشريد الملايين وتهجير العديد من الأحياء السكنية وتعرض العديد للقسوة والوحشية.

في ذلك الصيف، قتل الجيش الأمريكي (الزرقاوي) بمساعدة المخابرات الأردنية في ضربة جوية شمال بغداد. وفي نهاية ٢٠٠٦ أصبح التنظيم ضعيفًا حيث اقتلعت جذوره من الأنبار واضمحل وجودهم في أنحاء العراق، ولكن حسب ما قال (أبو أحمد) إن التنظيم استخدم هذه الفرصة لإعادة إحيائه وإبراز النظام وتأكيد هويته. واعتبرت السنوات بين ٢٠٠٨ و٢٠١١ سنوات هدوء مؤقت وليس هزيمة.

في هذا الوقت، ظهر (أبو بكر البغدادي) وشاع صيته كمساعد أمين للقائد (أبو عمر البغدادي) ومساعد الجهادي المصري (أبو أيوب المصري)، ومنذ ذلك الحين -قال (أبو أحمد)- بدأت الدولة الإسلامية بالاتصال بالعناصر البعثية في النظام السابق وهم الذين يشاركونهم المبدأ بأن العدو هو الأمريكان والحكومة الشيعية التي تسانده.

إن التجسيد الأولي للدولة الإسلامية انخرط مع البعثيين الذين خسروا كل شيء عندما أطيح بـ (صدام حسين) وأصبح المبدأ "عدو عدوي صديقي" ولكن في بداية ٢٠٠٨ وهذا حسب ما قاله (أبو أحمد) ومصادر أخرى، هذه الاجتماعات أصبحت متكررة والعديد منها كان في سوريا.

إن الربط بين سوريا والمتمردين السنّة في العراق كان مصدر قلق للحكومة الأمريكية التي أشارت إليه في اجتماعات عدة في بغداد مع الحكومة العراقية، وإن الحكومتين العراقية والأمريكية مقتنعتان بأن الرئيس السوري (بشار الأسد) يساهم في فتح الأبواب للجهاديين والسماح لهم للطيران من الأراضي السورية، وأن المسؤولين السوريين ساعدوا في عبورهم للأراضي العراقية. قال (أبو أحمد): "إن كل الأجانب دخلوا عن طريق سوريا، هذا أمر معروف".

 

المخابرات السورية تصدّر الإرهابيين

في عام ٢٠٠٨، بدأ الجيش الأمريكي بالتفاوض حول نقل السلطة إلى المؤسسات العراقية الضعيفة وتمهيد الطريق لخروجهم من العراق. لقد كان هناك فئات عراقية قليلة استطاع الأمريكان الوثوق بها في الحكومة العراقية، ومن ضمنها الجنرال (حسين علي كمال) مدير المخابرات في وزارة الداخلية. كان علمانيًّا كرديًّا وحصل على ثقة الحكومة الشيعية، ومن إحدى أهم مسؤولياته هي تأمين بغداد من العمليات الإرهابية.

كان (حسين علي كمال) مقتنعًا مثل الأمريكان بأن سوريا وراء زعزعة الأمن في العراق. لقد وصل الجنرال إلى هذه النتيجة بعد عدة تحقيقات أجراها مع جهاديين تم إلقاء القبض عليهم خلال العام ٢٠٠٩، أفصح الجنرال -وذلك خلال لقاءات عديدة- عن أدلته، واستخدم خرائط توضح الطرق التي سلكها الإرهابيون لعبور الحدود إلى غرب العراق، كما قال لي: "الاعترافات تحدثت عن رحلات الإرهابين وعلاقاتهم مع مسؤولين سوريين في المخابرات السورية".

عندما انحسرت عمليات الدولة الإسلامية في العراق، أصبح مهووسًا باجتماعين حصلا في سوريا عام ٢٠٠٩ حضرهما جهاديون عراقيون ومسؤولون سوريون وبعثيون سوريون وعراقيون. أصيب الجنرال (حسين) بسرطان نادر في ٢٠١٢ وتوفي في بداية هذا العام، وقد صرّح لي بنشر حوارنا وقال: "قل لهم الحقيقة" وهذا خلال آخر مقابلة معه في شهر حزيران ٢٠١٤.

قابلته للمرة الأولى في ٢٠٠٩ وأعطاني تفاصيل دقيقة حول الاجتماعين السريين في منطقة الزبداني قرب دمشق، اللذين حدثا في ربيع تلك السنة. كان من الحاضرين للاجتماع قادة بعثيون التجؤوا إلى سوريا بعد سقوط نظام صدام، ومخابرات سورية وشخصيات مهمة فيما يعرف في ذاك الوقت بالقاعدة في العراق. لقد طوّر النظام السوري علاقاته مع المتمردين خلال الأيام الأولى من الاحتلال الأمريكي واستخدموهم كأداة لزعزعة أمن الأمريكان وخططهم في العراق.

"عند بداية ٢٠٠٤ و ٢٠٠٥ بدأ التواصل بين المتمردين الإسلاميين والبعثيين" حسب أقوال (علي قدري) المستشار السابق للسفراء الأمريكان والمسؤولين رفيعي المستوى في العراق. لقد كانوا منظمين وعالمين بالوضع على أرض الواقع، مع مرور الوقت تحول بعض البعثيين إلى إسلاميين متشددين، وبدأ الوضع بالتأزم مع سنة ٢٠٠٧، قال الجنرال (ديفيد بطرس): "إن الأمور واضحة جدًا وإن العلاقة بين المخابرات السورية والجهاديين متوطدة ولكن الحوافز ليست متطابقة ١٠٠%".

أوضح (أبو أحمد) من خلال مقابلاتنا أن العلاقات السورية واضحة في العمليات التخريبية في العراق. "لقد عبر المجاهدون من سوريا، وعملت مع العديدين منهم. إن أصحابي الذين كانوا معي في بوكا قدموا إلى العراق عبر المطار في دمشق، وهناك عدد قليل جاء من تركيا أو إيران. إن غالبية الذين جاؤوا لمساعدتنا عبروا من سوريا"

يعتبر المسؤولون العراقيون خط التمويل الخطر الأساسي للحكومة العراقية الذي يعتبر العامل الرئيسي لتسميم العلاقات بين رئيس الوزراء العراقي السابق (نوري المالكي) والرئيس السوري (بشار الأسد). كان (المالكي) مقتنعًا أن بداية الحرب الأهلية هي خطة (بشار الأسد) لزعزعة نظامه، وهي طريقة لإحراج الأمريكان، وإن الأدلة التي امتلكها في ٢٠٠٩ خلال مقابلته في دمشق أدت إلى اشمئزازه من الرئيس السوري.

"كان مصدرنا في الغرفة مرتديًا جهاز تنصّت" قال الجنرال (حسين): "كان هذا أكثر المصادر حساسية، حسب علمنا، هذه هي المرة الأولى التي حصل فيها لقاء استراتيجي على هذا المستوى بين كل الأطراف، هذه هي بداية نقطة هامة في التاريخ."

وفق مصدر الجنرال (حسين) إن حضور البعثيين للاجتماع هو للتوافق على سلسلة من الهجمات على بغداد وتقليل شعبية رئيس الوزراء العراقي الشيعي (نوري المالكي) الذي ساهم للمرة الأولى في تنظيم ما بعد الحرب الأهلية في العراق، حتى ذلك الوقت، كان البعثيون والقاعدة في العراق على اختلاف تام في الإيديولوجية، ولكن صعود الشيعة في العراق ومساندة إيران لهم دفعت الطرفين للتوحد.

في تموز ٢٠٠٩، زادت وزارة الداخلية عدد نقاط التفتيش حول نهر دجلة في بغداد، مما أصبح من الصعب التنقل في أي وقت. تلقّى الجنرال (حسين) رسالة من مصدر في سوريا يقول فيها: إن تشديد الأمن على الجسور دفع بالقاعدة لتغيير الخطة. لقد اختاروا الآن أهدافًا جديدة، ولكنه لا يعلم ما هي الأهداف أو متى ستتعرض للقصف. قضى الجنرال (حسين) أسبوعين كاملين في مكتبه جنوب بغداد في منطقة العَرَصَات قبل أن يهاجم رتل على جسر ١٤ تموز وهو الهجوم الذي حصل قبل أيام من ضرب بيته في المنطقة الخضراء.

أما بالنسبة لبقية الشهر، فقد قضى الجنرال ساعات عديدة يركض فيها على جهاز الركض، يأمل أن يساعده التدريب على التفكير بشكل جيد، وأن يسبق الإرهابين في خططهم ويحبطها.

"إن الركض يساعدني على فقد الوزن، ولكنه لم يساعدني على معرفة خطط الإرهابيين.. أنا أعلم أن لديهم خطة كبيرة". هذا ما قاله لي قبل أن تحصل الهجمات.

في صباح ١٩ أيلول، انفجرت أول الشاحنات الثلاث المحملة بالمتفجرات قرب وزارة المالية جنوب شرق بغداد. سُمعت أصداء الانفجار في كل أنحاء المدينة، وبعد ثلاث دقائق، حصل الانفجار الثاني على أبواب وزارة الخارجية في الجهة الشمالية من المنطقة الخضراء، وبعدها بقليل انفجار على رتل الشرطة قرب وزارة المالية. هذه الانفجارات أودت بحياة ١٠١ شخص، وجرحت ٦٠٠ آخرين. كانت هذه التفجيرات من أعنف الهجمات خلال الست سنوات من العنف في العراق.

"لقد فشلت" قال الجنرال في ذلك اليوم "لقد فشلنا جميعًا" هذا ما قاله لرئيس الوزراء (نوري المالكي) وقادته الأمنين. كان رئيس الوزراء غاضبًا جدًا "لقد طلب مني تقديم كل الأدلة إلى السوريين، وطلبنا من تركيا أن تكون الوسيط، سافرت الى أنقرة وقابلتهم هناك، وأخذت معي الملف الذي يحوي كل المعلومات" أشار إلى الملف الأبيض على مكتبه "لم يستطيعوا تجاهل أو إنكار ما أبرزته من أدلة، كانت القضية واضحة، والسوريون عالمون بها. كان (علي مملوك) المسؤول عن الأمن السوري حاضرًا وقد ابتسم لي وقال: " أنا لا أعترف باي أوراق رسمية من حكومة تحت الاحتلال الأمريكي، هذا مضيعة للوقت". سحب العراق دبلوماسييه من دمشق وقامت سوريا بسحب دبلوماسييها، وبقيت العلاقات متوترة حتى بداية ٢٠١٠ بين (المالكي) و(الأسد).

في آذار ٢٠١٠، ألقت القوات العراقية القبض على القائد الإسلامي (مناف عبد الرحيم الراوي) وذلك بمساعدة الأمريكان، وتم التحري عنه، وعرف العراقيون أنه واحد من أهم القادة المتمردين في بغداد وهو واحد من القلة الذين لهم علاقة وثيقة بـ (أبو عمر البغدادي). اعترف (الراوي) وقامت أجهزة المخابرات العراقية بالتعاون لإلقاء القبض على (أبو عمر البغدادي) بعد أن وضعوا جهاز تنصت في باقة ورد أرسلت إلى بيته.

قام الأمريكان بمداهمة المكان بعد أن تم التأكد أن (أبو عمر) ومساعده (أبو أيوب المصري) حاضران في بيت يبعد ٦ أميال عن جنوب غرب تكريت. فجر الشخصان نفسيهما ليتجنّبا السجن، وقد وجد الأمريكان رسائل إلى (ابن لادن) و(أيمن الظواهري) في الكمبيوتر في ذلك البيت، وكان منزل (أبو عمر) شبيهًا بمنزل (ابن لادن) في باكستان، حيث لا يوجد فيه إنترنت أو خط للهاتف، وكل الرسائل تتناقل عن طريق ثلاثة رجال، أحدهم هو (أبو بكر البغدادي).

"كان (أبو بكر) المراسل لـ (أبو عمر)" قال (أبو أحمد) "لقد أصبح المساعد المقرب له، قام (أبو بكر) بكتابه أكثر الرسائل المرسلة إلى (ابن لادن)، أصبح (أبو بكر) القائد بعد أن قتل (أبو عمر). إن الوقت الذي قضيناه في بوكا كان في غاية الأهمية".

اعتبرت الدولة الاسلامية مقتل (أبو عمر البغدادي) و(أبو أيمن المصري) نكبة كبيرة، ولكن سرعان ما احتُلَّ المنصبان من قبل خريجي بوكا، وقام المنسقون بعملية التحضير لهذه اللحظة، وذلك خلف جدران السجن جنوب بغداد. "لقد كانت مدرسة إدارية، ولم يكن هنالك أي بطالة، لأن الجميع لديهم معلمون جيدون في السجن."

أضاف (أبو أحمد): "عندما بدأت الحرب الأهلية في سوريا تشتد لم يكن من الصعب أن ننقل خبراتنا إلى معركة مختلفة، إن العراقيين يحتلون المناصب المهمة في الجيش وفي مجلس الشورى في الدولة الإسلامية الآن، وذلك بسبب تحضيراتهم لسنوات عديدة، لقد استخففت دور (البغدادي) كما استخف الأمريكان به".

 

أسباب الانخراط في التنظيم

لقد بقي (أبو أحمد) عنصرًا في الدولة الإسلامية وهو عنصر فعّال في العمليات العسكرية في العراق وسوريا. لقد بيّن لي من خلال اللقاءات المتعددة أنه باقٍ في هذا التنظيم قسرًا، ولكنه يخشى المغامرة بتركهم.

إن الحياة في هذا التنظيم تعني السلطة والمال والزوجات والهيبة، إن كل هذه العناصر مغرية للشباب الذين يريدون القتال لهدف ما، ولكنها أيضًا تعني القتل والسيطرة من خلال نظرتهم إلى العالم. قال (أبو أحمد): "إن هنالك العديد من الرجال مثله الذين انخرطوا للجهاد ضد الاحتلال الأمريكي، ولكنهم لا يؤمنون بأن المظاهر الأخيرة في هذه الحرب الطويلة تبقى تمثل نفس النهج".

قال (أبو أحمد): "أكبر غلطة في حياتي أني انضممت إليهم" ثم أضاف: إن ترك التنظيم يعني الموت المؤكد له ولجميع أفراد عائلته. إن البقاء في التنظيم وفرض نظرتهم الوحشية بالرغم من التبرؤ الجزئي منهم لا يزعج (أبو أحمد) الذي يرى أن هناك خيارات قليلة له.

قال (أبو أحمد): "أريدك أن تعلم أني أؤمن بالجهاد، ولكن ما هي الخيارات التي أملكها الآن؟ سوف يقتلوني إذا تركتهم".

إن الأساس لانخراطه بما يعرف الآن بأخطر خلية إرهابية في العالم، الذي يعكس سبب انخراط العديد أيضًا وحصوله على مركز مسؤول في هذا التنظيم هو أولا بسبب المعركة ضد الجيش المحتل وإحراز هدف ضد العدو الطائفي، والآن أصبح حربًا يمكن أن تثبت نهاية النبوءة.

في عالم الخريجين من بوكا، هناك مساحة صغيرة للتعديل أو التأمل، لقد انجرف (أبو أحمد) خلال الأحداث مثل العديد من أصدقائه.

وهو يشير إلى عناصر قيادية في الدولة الإسلامية وهم مقربون من البغدادي "هناك آخرون ليسوا إيديولوجيين، هؤلاء أشخاص بدؤوا من بوكا مثلي، وبعدها أصبح الأمر أكبر وأقوى منهم، لا نستطيع التوقف الآن، كل شيء خارج عن إرادتنا وخارج عن إرادة (البغدادي) أو أي شخص آخر في هذه الدوامة."

 

المصدر: صحيفة الغارديان
تقرير: مارتن جولوف

إضافة تعليق جديد