بين الولاء والبراء، والتحالفات العسكرية والسياسية
يخلط بعض الغلاة اليوم بين مفهومي (الولاء والبراء)، و(التحالفات العسكرية والسياسية)! ويوردون الآيات والأحاديث التي تحذّر من موالاة الكفار للاستدلال بها على أن جميع التحالفات السياسية والعسكرية مع الكفار من الولاء بإطلاق، بهدف الوصول إلى نتيجة مفادها أن هذه التحالفات كفر بالله وردّة عن الدين! وبالتالي تكفير جميع من شارك بهذه التحالفات من السياسيين أو العسكريين أو غيرهم. وهذا الخلط ناتج عن جهل بالدين والسياسة الشرعية، وتطويع النصوص للأهواء والمعتقدات المنحرفة.
لذا: لا بد من توضيح هذين المفهومين، وبيان العلاقة بينهما، وتوضيح الآثار التي تبنى عليهما.
فمصطلح الولاء والبراء يعني: وجوب محبة المسلمين ونصرتهم، ووجوب بغض الكفار والتبرؤ منهم. وكثيرة هي النصوص الشرعية التي تأمر بالولاء للمؤمنين والبراءة من المشركين، منها:
-
قوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيم}[التوبة:71].
-
وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِين ¤ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ}[المائدة:51- 52].
-
وقوله تعالى: {تَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ ¤ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَـكِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} [المائدة:83-84].
-
وقوله صلى الله عليه وسلّم: (أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله)رواه الطيالسي برقم (783)، وابن أبي شيبة برقم (321) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. وبنحوه عند أبي داوود في سننه من حديث أبي ذر -رضي الله عنه- برقم (4599) ولفظه: (أفضَلُ الأعمال: الحُبُّ في الله والبغضُ في الله)..
-
وقوله -صلى الله عليه وسلّم- لجرير بن عبد الله البجلي -رضي الله عنه- عند البيعة: (تَعْبُدُ اللهَ وَلَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُصَلِّي الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ، وَتُؤَدِّي الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ، وَتَنْصَحُ لِلْمُسْلِمِ، وَتَبْرَأُ مِنَ الْكَافِرِ)رواه أحمد برقم (19153)..
والآيات والأحاديث التي تدلل على الولاء والبراء كثيرة لا يتسع المقام لسردها.
لكن ليس كل من والى الكفار فهو كافر، فمناط التكفير في الولاء والبراء هو محبة الكفار لدينهم، أو الرضا بكفرهم، أو كراهية انتصار المسلمين.
أما إذا لم يكن الولاء للكفار لشيء من ذلك، وإنما كان لمصلحة دنيوية فلا يعّد كفرًا، قال ابن عاشور -رحمه الله- في تفسير قوله تعالى {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ}: "وقد تأولها المفسرون بأحد تأويلين: إما بحمل الولاية في قوله: {ومن يتولهم} على الولاية الكاملة التي هي الرضى بدينهم والطعن في دين الإسلام، ولذلك قال ابن عطية: ومن تولاهم بمعتقده ودينه فهو منهم في الكفر والخلود في النار، وإما بتأويل قوله: {فإنه منهم} على التشبيه البليغ، أي فهو كواحد منهم في استحقاق العذاب، قال ابن عطية: من تولاهم بأفعاله من العضد ونحوه دون معتقدهم ولا إخلال بالإيمان فهو منهم في المقت والمذمّة الواقعة عليهم"التحرير والتنوير، (6/230)..
وقد وقع الصحابي الجليل حاطب بن أبي بلتعة -رضي الله عنه- في موالاة الكفار، ولم يَكفُر بذلك، لأن موالاته لهم كانت لمصلحة دنيوية، فقد كاتب كفّار مكة سراً، يخبرهم بعزم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على غزوهم، وعندما سأله الرسول -صلى الله عليه وسلّم- عن ذلك قال: (لا تعجل علي يا رسول الله، إني كنت امرأ من قريش، ولم أكن من أنفسهم، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهليهم وأموالهم بمكة، فأحببت إذ فاتني من النسب فيهم، أن أصطنع إليهم يدًا يحمون قرابتي، وما فعلت ذلك كفرًا، ولا ارتدادًا عن ديني، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنه قد صدقكم)رواه البخاري برقم (4890).. قال ابن تيمية رحمه الله: "وقد تحصُل للرجل موادتهم لرحم أو حاجة فتكون ذنبًا ينقص به إيمانه، ولا يكون به كافرًا، كما حصل من حاطب بن أبي بلتعة"مجموع الفتاوى، (7/523)..
ومن الموالاة ما تكون جائزة عند الضرورة، قال ابن جرير الطبري -رحمه الله- في تفسير قوله تعالى: {لَا يَتَّخِذِ المُؤْمِنُونَ الكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ المُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً}[آل عمران: 28]: "إلا أن تكونوا في سلطانهم فتخافونهم على أنفسكم، فتظهروا لهم الولاية بألسنتكم، وتضمـروا لهم العداوة، ولا تشايعوهم على ما هم عليه من الكفر، ولا تعينوهم على مسلم بفعل"جامع البيان عن تأويل آي القرآن، (3/228)..
أما التحالفات العسكرية أو السياسية فهي: عقد سياسي يقوم على إقامة علاقات تعاون بين المسلمين وغيرهم لمصلحة حماية، أو اتقاء عداوة، يقدّرها الحاكم. وهذه التحالفات ينظر إليها في ميزان المصالح والمفاسد، وهي مشروعة من حيث الأصل، وقد قام الرسول -صلى الله عليه وسلم- بتحالفات عديدة مع المشركين، منها:
-
تحالفه مع المطعم بن عدي عندما كان المطعم مشركاً، وذلك عندما رجع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الطائف يريد الدخول إلى مكة.
"ذكر الأموي وابن هشام أن رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- لما انصرف عن أهل الطائف ولم يجيبوه إلى ما دعاهم إليه من تصديقه ونصرته أقام بنخلة أيامًا، وأراد الرجوع إلى مكة، فقال له زيد بن حارثة: كيف تدخل عليهم وهم قد أخرجوك؟ فقال: يا زيد، إن اللَّه جاعل لما ترى فَرَجًا ومخرجًا، وإن اللَّه مظهر دينه وناصر نبيه. ثم انتهى إلى حراء وبعث عبدالله بن أريقط إلى الأخنس بن شريق -وأسلم بعد ذلك فيما يُقال- ليجيره، فقال: أنا حليف والحليف لا يجير على الصّريح، فبعث إلى سهيل بن عمرو -وأسلم بعد ذلك- فقال: إن بني عامر بن لؤي لا تجير على بني كعب، فبعث إلى المطعم بن عدي -ومات كافرًا- فأجابه إلى ذلك وقال: نعم، قل له فليأت، فرجع إليه فأخبره، فدخل رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلّم- فبات عنده تلك الليلة، فلما أصبح خرج المطعم بن عدي وقد لبس سلاحه هو وبنوه ستة أو سبعة، فقال لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: طُفْ، واحتبوا بحمائل سيوفهم بالمطاف، فأقبل أبو سفيان إلى المطعم بن عدي فقال: أمجير أم تابع؟ قال: بل مجير، قال: إذن لا تُخْفَر، قد أجرنا من أجرت. فجلس معه حتى قضى رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلّم- طوافه، فلما انصرف إلى بيته وانصرفوا معه، فذهب أبو سفيان مجلسه.
فمكث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أيامًا ثم أذن له اللَّه -عز وجل- في الهجرة، فلما هاجر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم: توفى المطعم ابن عديّ بعده، ولأجل هذه السابقة التي سبقت للمطعم قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: (لو كان المطعم بن عدي حيّا ثم كلمني في هؤلاء النّتنى -يعنى أسارى بدر- لأطلقتهم له)"سبل الهدى والرشاد، في سيرة خير العباد، للصالحي، (2/441)..
ولم يكن ذلك الفعل من النبي -صلّى الله عليه وسلّم- ولاء، بل كان تحالفًا سياسيًا.
-
تحالفه -صلى الله عليه وسلم- مع اليهود في المدينة، وقد تضمّن هذا الحلف نصرة المظلوم بغضّ النظر عن معتقده ودينه، والتعايش والتعاون بين المسلمين واليهود، فكانت حلفاً سياسياً عسكرياً، ولم يعتبر هذا الحلف من الولاء المنهي عنه.
ومن أبرز بنود هذا الحلف:
♦ أنّ يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم، كذلك لغير بني عوف من اليهود.
♦ وأنّ بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة.
♦ وأنّ بينهم النصح والنصيحة، والبر دون الإثم.
♦ وأنّ النصر للمظلوم.
♦ وأنّ بينهم النصر على من دهم يثرب ... على كل أناس حصتهم من جانبهم الذي قبلهمينظر سيرة ابن هشام (1/503)..
-
ومن صور التحالفات السياسية العسكرية في عهد النبي صلى الله عليه وسلم: دخول خزاعة -وكانوا مشركين- تحت حلفه بعد صلح الحديبية، وقد عدّ النبي -صلى الله عليه وسلّم- الاعتداء عليهم فيما بعد نقضًا للصلح، وكان ذلك سببًا لتأديب قريش وفتح مكّة.
فقد كان من بنود صلح الحديبية "أنّ من أحب أن يدخل في عقد محمد- صلى الله عليه وسلم- وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه، وأنّ القبيلة التي تنضم إلى أي الفريقين تعتبر جزءًا من ذلك الفريق، فأي عدوان تتعرض له أيّ من تلك القبائل يعتبر عدوانًا على ذلك الفريق.
وحسب هذا البند دخلت خزاعة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخلت بنو بكر في عهد قريش، وصارت كل من القبيلتين في أمن من الأخرى، وقد كانت بين القبيلتين عداوة وثارات في الجاهلية، فلما جاء الإسلام، ووقعت هذه الهدنة، وأمن كل فريق من الآخر اغتنمها بنو بكر، وأرادوا أن يصيبوا من خزاعة الثأر القديم، فخرج نوفل بن معاوية الديلي في جماعة من بني بكر في شهر شعبان سنة 8 هـ، فأغاروا على خزاعة ليلًا، وهم على ماء يقال له: (الوتير) فأصابوا منهم رجالًا، وتناوشوا واقتتلوا، وأعانت قريش بني بكر بالسلاح"الرحيق المختوم، ص (362). ... والقصّة معروفةينظر: السنن الكبرى للبيهقي، (9/390)، وسيرة ابن هشام، (2/395)..
فقد دخلت خزاعة تحت حلف المسلمين، وكانت خزاعة مشركة، ونصرها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يعتبر هذا من باب الولاء المنهي عنه في الإسلام الوارد في الآيات والأحاديث السابقة، وإنما هو حلف سياسي عسكري بين المسلمين وغيرهم يتضمن اتفاقيات معينة يتفق عليها الطرفان حسب المصلحة.
إن اعتبار التحالفات السياسية والعسكرية من باب الولاء والبراء بإطلاق، وإصدار الفتاوى المكفّرة لكل من اجتمع مع غير المسلمين أو التقى بهم، أو تلقى مساعدات منهم، بحجة الولاء للكفّار، إنما هو من الجهل بالدين والسياسة الشرعية، ومن الخلل في فهم النصوص الشرعية، والقصور عن معرفة أقوال أهل العلم، وهو أمر في غاية الخطورة، لأنه يؤدي إلى الخلل والاضطراب في عقيدة الولاء والبراء لدى المسلم، والوقوع في التكفير بغير علم.
فإن قيل: كيف نفرّق بين التحالفات المباحة، والمحرّمة، والكفريّة؟
فالجواب:
أن التفريق يكون بالنظر في المنطلقات، والوسائل، والأهداف، والموازنة بين المصالح والمفاسد، وهذا أمر يعلمه ويحكم به أهل العلم الثقات أصحاب الرأي.
ومن أهم الضوابط التي يمكن اعتبارها في هذه المسألة:ينظر: كتاب أحكام التحالف السياسي في الفقه الإسلامي، لمحمد عزت صالح عنيني، ص (138)، وملخص ورقة أحكام التحالفات السياسية بين الأحزاب والقوى الإسلامية وغيرها، د.هشام محمد سعيد برغش، ص (5-7)..
أولًا: أن يحقق التحالف مصلحة المسلمين، وهذه المصلحة يقدّرها ولي أمر المسلمين في حال وجوده، أو جماعة من العلماء المجتهدين الحريصين المؤتمنين في إطار ما يعرف بالاجتهاد الجماعي. ومن هذه المصالح: مصـلحة إسقاطِ طاغية أذلّ البلاد والعبـاد، أو دفـعِ صـائل، أو إخـراج عـدو داهـم بلاد المسلمين فجـأة، فاستباح بيضتهم، أو بصدد أن يفعل ذلك.
ثانيًا: خلو هذا التحالف من الأمور غير المشىروعة والشروط الفاسدة، كالإعانة على الظلم، أو تدعيم نُظُـم الجور، أو إطالة أعمار السياسات غير الإسلامية، أو إضفاء مشروعية زائفة على نُظُم غير مشــروعة، أو إعطاء صبغة إسلامية مزورة لأعمال وممارسات لا إسلامية، أو يكون قد تضمّن التزامًا يضرّ بالمسلمين، أو يغلّ يد الدعاة عن الصدع بالحق وإقامة الدين.
ثالثًا: أن لا يكون التحالف بين المسلمين وغير المسلمين موجّهًا ضد فئة أخرى من المسلمين، أما إذا كان التحالف بين المسلمين أنفسهم، فلا بأس بتحالف أهل العدل ضد أهل البغي منهم.
رابعًا: أن يكون في المسلمين قوّة تجعلهم قادرين على المحافظة على ذواتهم ودينهم، ويصعب معها على الكفار احتواؤهم أو تذويبهم.
ولا شكّ أن حال السعة والاختيار يختلف عن حال الشدة والاضطرار، فيجوز في حال الضرورات الملجئة التي قد يترتب عليها إبادة المسلمين واستئصال شأفتهم ما لا يجوز في حال أخرى أقل خطرًا أو لا يكون فيها هذا الخطر موجودًا أساسًا.
خامسًا: ألا يترتب على هذا التحالف موالاة للكفار، فحدود المرونة الشرعية التي يجوز للمسلم أن يبديها مع غير المسلمين في سبيل إنجاز تحالف ما: مرونة محكومة بصلابة العقيدة، وعدم فقدان الهدف والغاية الكبرى التي يسعى المسلم لتحقيقها.
التعليقات
إسلام (لم يتم التحقق)
مقال رائع واصلوا وفقكم الله
إضافة تعليق جديد