وقفات مع بيان جبهة النصرة حول ميثاق الشرف الثوري
الحمد لله، وكفى، والصلاة والسلام على نبيّه الذي اصطفى، وبعد:
فما كان أغنى جبهة النصرة عن الخوض في نقد (ميثاق الشرف الثوري) الذي وقعته فصائل عسكرية مجاهدة، وخاصة أنها تخوض مع هذه الفصائل معارك ضارية ضد تنظيم (الدولة)، وتُنسق معها على الأرض في كثير من المواقع، كما أن لها مواثيق وعهودًا يمكن أن تنقدها هذه الفصائل بدورها، فمن المستفيد في هذه الفترة الحرجة؟ والجميع مشغول بمدافعة تنظيم (الدولة)؟ وما هو أثره على جنودها على الأرض؟
وخاصة أنها طلبت في آخر بيان لها مع (تنظيم الدولة) عدم نقل النصح والمناصحة والتراشق إلى الإعلام.. فهلا كانت هذه المناصحة بينكم وبين الكتائب كما طلبتم؟ وهم قريبون منكم، أم أن المطلوب هو وصول البيان للإعلام مهما كانت العواقب؟
وعمومًا: فإن البيان واضح الصياغة على عجل، وربما من غير قناعة بعض الأطراف به، مما أفقده الكثير من العمق والتركيز.. وأورد عليه العديد من الملحوظات..
ونظرًا لأهمية هذه الملحوظات على بيان الميثاق، سأعلق عليها سريًعا دون مزيد تفصيل، فأقول وبالله المستعان:
المسألة الأولى:
جاء في مقدمة بيان جبهة النصرة: "وكم كنا نود من إخواننا الموقِّعين لو شاورونا في الأمر، فالكل يعلم أن أبرز إشكاليات ساحات الجهاد التي نبه لها العلماء إنما هي غياب الشورى والتفرد بالقرار".
فأقول: هذا الكلام جميل وطيب، أفلا امتثلت جبهة النصرة له ابتداءً قبل أن تنقد غيرها؟ فإن جبهة النصرة قد تفردت عن المجاهدين في بلاد الشام بعدة قرارات خطيرة ولم تستشر فيها أحدًا، وذلك كما يلي:
1. إعلان البيعة للظواهري،
والتبعية لتنظيم القاعدة، فقد قال الشيخ الجولاني في كلمته (حول ساحة الشام): "هذه بيعة من أبناء جبهة النصرة ومسؤولهم العام نجددها لشيخ الجهاد الشيخ أيمن الظواهري حفظه الله فإننا نبايع على السمع والطاعة في المنشط والمكره والهجرة والجهاد وأن لا ننازع الأمر أهله إلا أن نرى كفرا بواحا لنا فيه من الله برهان".
مع ما في ذلك من ربط مصيرها ومصير الجهاد الشامي بملف القاعدة العالمي، ولا يخفى خطورته على أحد. فهل استشارت الجبهة أحدًا من أهل الشام علماء وعسكريين في ذلك؟ وهل استجابت للمناشدات العديدة من الروابط والهيئات الشرعية بفك ارتباطها عن تنظيم القاعدة؟
وما طبيعة هذه البيعة التي تكون (على السمع والطاعة في المنشط والمكره والهجرة والجهاد وأن لا ننازع الأمر أهله إلا أن نرى كفرا بواحا لنا فيه من الله برهان) إنها ليست بيعة خاصة على قتال ولا جهاد، بل هي بيعة عامة على إمارة!
أم أنه يحق لها ما لا يحق لغيرها؟ ولا يجوز لأحد أن يطالبها بالمشاورة هنا؟
2. عدم اعتبار القيادات الشرعية السورية في بياناتها وتصريحاتها.
فإن القاصي والداني يعرف أن جبهة النصرة قد انفردت عن الجماعات الجهادية بمراجع للفتوى تختلف عن بقية الفصائل العسكرية، بل ومحاكم في مناطق عديدة، كما هو في عدة مناطق من سوريا.
وحين حدث الخلاف بين جبهة النصرة والفصائل المجاهدة من جهة، وتنظيم (الدولة) من جهة أخرى أصدرت الهيئات الشرعية وعلماء بلاد الشام العديد من الفتاوى في هذا الأمر، فلم تستشهد بهم جبهة النصرة، ولم ترفع به رأسًا، بل قال الشيخ الجولاني في كلمته (ليتك رثيتني): "وريثما يتم ترتيب اجراءات المحكمة تتوقف كل العمليات العسكرية بيننا على حالها وتلغى كل فتاواكم بتكفير الجماعات الجهادية وتتقدموا بكل ما تملكونه من ادلة وبراهين او حتى شبهات الى العلماء المعتبرين كالشيخ ابا محمد المقدسي او ابي قتادة الفلسطيني او الشيخ سليمان العلوان، ثم نأخذ الفتوة من العلماء المعتبرين بحق هذه الجماعات وقتال من أولى وما يقوله العلماء فهو يسري على الجميع ونحن ملتزمون بفتواهم".
فأين اعتباركم لهذه المرجعيات الشرعية في مثل هذه الأمور؟ ولم لا تعتدون بهم؟ وأين أخذكم بالشورى معهم في هذه المسائل؟ أم أن لكم حكمًا خاصًا بهؤلاء العلماء؟
أم أنها مسائل مقطوع بها محسومة لا تحتمل الشورى ولا الرفض ولا أي رأي آخر؟
المسألة الثانية:
جاء في بيان النصرة:
"أولاً: عدم الوضوح والانضباط والتحديد في بيان مبادئ هذا الميثاق مع أنهم ذكروا في النقطة الأولى ضوابط ومحددات العمل الثوري فلم نجد فيه انضباطًا ولا تحديدًا، بل هي اصطلاحات وعبارات مجملة ومبهمة يحملها كل فريق على ما يريد، فكيف يكون ميثاقًا يضبط ويحدد العمل الثوري وقد فقد كل معاني الانضباط".
وعلى هذا الكلام ملاحظات:
1. من القواعد الشرعية المقرَّرةِ أن الحكم على الشيء فرعٌ عن تصوره، فالحديث عن أي مسألة ينبغي أن يكون عن علم كامل بها، بعيدًا عن أي ظنٍ أو تخرص أو تخمين.
والميثاق محل الحديث: إنما هو ميثاق تحالف وتعاون على قضايا معينة ذات العمل المشترك، وليس ميثاقًا لتوضيح هوية الجهات الموقعة عليه، والتي سبق تفصيلها في مواثيق كل من تلك الجهات بالتفصيل، كما أنَّه ليس دستورًا لأي دولة مستقبلية، أو تحدث بها.
فقد جاء في ديباجة الميثاق: "إدراكا من القوى الثورية لخطورة المرحلة التي تمر بها ثورتنا المباركة وسعيا لتوحيد الجهود وفق إطار عمل مشترك يصب في صالح الثورة السورية".
2. المعهود في المواثيق والتحالفات والوثائق أنها تؤخذ بمجموعها ومجملها، ولا تؤخذ كل فقرة منها بمعزل عن الأخرى،
فيحمل آخرها على أولها، ويفصل مجملها بواضحها، وإلا لزم الإعادة والتكرار، وهو ما ليس بصحيح.
وقد نصت المادة الأولى على أنَّ: "ضوابط ومحددات العمل الثوري مستمدة من أحكام ديننا الحنيف بعيداً عن التنطع والغلو" فهذه المادة هي الحاكمة والضابطة لما بعدها.
المسألة الثالثة:
جاء في جبهة النصرة:
"اقتصاره على محاربة الغلو والتنطع، وإهماله لمحاربة الإفراط والانبطاح والتنازل، فكما أن الغلو يهدم ويشوِّه الجهاد فإن التفريط والتقصير يفعل ذلك أيضًا، ودين الله بين الغالي فيه والجافي عنه، فلا إفراط ولا تفريط".
أقول:
وفي هذا الكلام تحميل للميثاق فوق ما يحتمل، فالفصائل الموقعة عليه هي فصائل مجاهدة، معروفة بانضباطها الشرعي والتزامها بأحكام الدين بالمجمل، ولها هيئات شرعية ومحاكم، ولم يظهر منها تفريطٌ فيما مضى من الزمن، وخاصة أن مواثيق هذه الفصائل نصَّت على الاعتدال بين الإفراط والتفريط، وسبقت الإشارة إلى أن هذا الميثاق للعمل المشترك في مسائل مخصوصة، وليس لكل المسائل.
وقد ظهر جليًا واضحًا لكل ذي عينين الغلو والتنطع متمثلاً بفكر تنظيم (الدولة)، فمحاربة الغلو هو واجب الوقت المتعين، وهو أخطر ما تواجهه الثورة في الوقت الحالي قد يتخطى خطر النظام نفسه.
ولا يعني هذا بحالٍ من الأحوال رضى هذه الفصائل بالتفريط، أو القبول به، وعلى المتهم الدليل.
والإشارة إلى هذا الملحظ دون أن يكون له محل من النظر أو دليل عليه إنما هو دخول في النيات، وحكم على الآخرين بالظنون والشبهات، ولمستقبل الأيام!
المسالة الرابعة:
جاء في بيان النصرة:
"ثالثًا: لا يكفي الادعاء بالرجوع والاستنباط من أحكام ديننا الحنيف والكل يدعي ذلك، فلا بد من موافقة الأقوال والأفعال للكتاب والسنة التي احتوى هذا الميثاق على ما يخالفهما -كما سنوضِّح في هذا البيان-، وقد قال صلى الله عليه وسلم في هذا الباب: "قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك".
أقول:
وهذا حق، فكم من مدعٍ للرجوع إلى الكتاب والسنة وهو كاذب أو مخطئ في دعواه، لكن: أن يقول البيان "ضوابط ومحددات العمل الثوري مستمدة من أحكام ديننا الحنيف"، وهذه الفصائل معروفة بانتمائها لأهل السنة والجماعة، ومن خيار أهل العلم والدعوة، وعدد كبير منهم من سابقة العلم والدعوة والجهاد، ثم يقال لهم هذا الكلام دون تفصيل، فهذا من الظلم، والواجب تركه إلى مكانه في نقد فقرات الميثاق، وخاصة أن ما سلف من الأيام وسيرة هذه الفصائل شارحة مبينة لهذه المسألة.
المسالة الخامسة:
جاء في بيان النصرة:
"رابعًا: اقتصار الجهاد على صورة واحدة من صور دفع العدو الصائل وهو إسقاط النظام عسكريًّا، مع العلم أن هذا النظام قد صال على الدين قبل النفس والعرض والمال والنسل، فدفعه يجب أن يكون عن الدين وحاكميته قبل كل شيء".
أقول: وهذا من عجيب ما جاء به البيان!
فإن ميثاق الشرف هذا لا يعني –ولا يمكن أن يخطر في ذهن عاقل- أن هذه الفصائل ستكتفي بإسقاط النظام عسكريًا وتبقي على كفره وإلحاده وفجوره! بل هي نص على أنه لا خيار تفاوضي أو استسلامي لحل القضية السورية، وأن هذه الفصائل لن تقبل بالحلول التي تبقي على جزء من النظام أو أجزائه في أي حكومةٍ قادمة. فتأمل!
المسألة السادسة:
جاء في بيان النصرة:
"خامسًا: نص البيان على أن الفصائل الموقعة على هذا البيان تريد أن تقدِّم رموز النظام ومجرميه إلى المحاكمة العادلة بعيدًا عن الثأر والانتقام، وهذا مخالف لما قررته الشريعة أن أصحاب الردة المغلظة ليس لهم في الإسلام إلا السيف، وطواغيت النظام ورموزه وركائزه من أصحاب الردة المغلظة الذين أمر الشرع بقتلهم عند القدرة عليهم، كما في الحديث عند النسائي وصححه الألباني في الأربعة النفر الذين يُقتلون وإن تعلقوا بأستار الكعبة...
ثم إن من حقنا في شرعنا الحنيف أن نثأر من هذا النظام المجرم؛ ألم يقل القعقاع بن عمرو حين رأى "بهمن جاذويه" في بداية معركة القادسية: يا لثارات أبي عبيد، يا لثارات سليط بن عمرو، يا لثارات أصحاب الجسر، وقد أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه في غزوة مؤتة المباركة ثأرًا لمقتل بعض أصحابه، ومثلها غزوة تبوك. فهناك ثأر شرعي وانتقام شرعي قررته الشريعة الغراء.
وإن عدم الانتقام لأهل الشام لهو الخذلان بعينه".
أقول: وهذه أعجب من سابقتها.. لما يلي:
1. أن الميثاق قرَّر: "للثورة السورية المسلحة غاية سياسية هي إسقاط النظام برموزه وركائزه كافة وتقديمه إلى المحاكمة العادلة بعيداً عن الثأر والانتقام".
أي أنَّ رموز النظام وأركانه وكل من شارك في جرائمه سيقدم للمحاكمة لينال جزاء ما اقترفت يداه، فأين في كلام الميثاق أن أحدًا من مجرمي النظام سيفلت من العقاب؟ أو أنه لن يحاكم؟
2. هل يعني أن جبهة النصرة تريد أن تعمل بالقتل مباشرة في كل من كان في صف النظام أو أماكن حكمه ومقراته ولو دون التأكد من مشاركته في الجرائم أو مسؤوليته عنها؟
نعم القتل يكون في أرض المعركة للمحاربين دون أسرٍ لوجودهم في صف العدو المحارب، أما إذا وضعت الحرب أوزارها فإنه لا يقتل إنسان إلا بعد تقديمه للمحاكمة للتأكد من مشاركته مع النظام في جرائمه، وحقيقة انتمائه له..
فالحديث الآن ليس عن عدة رموز معروفين مشهورين، لكن عن المئات ممن قد تختلف فيهم الأنظار والاجتهادات، فمن الذي يقرر أنهم رموز من رموز النظام أم لا؟
أما الحديث الذي استشهد به البيان (أمَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلا أربعة نفر وامرأتين) دليل لأصحاب الميثاق لا لجبهة النصرة، فإن الذي أصدر هذا القرار هو الرسول صلى الله عليه وسلم، رأس الدولة الإسلامية وقائد جيوشها، وما لم تجتمع الكلمة على قرار في هذه المسألة، فإنه لا حق لأي فصيل أن يتصرف من نفسه دون الآخرين في هذه المسألة الخطيرة.
أم إنهم مستثنون من المشورة في هذه القضية كذلك، ويحق لهم الاجتهاد دون أن يحق للآخرين الاعتراض؟
إن في فتح هذا فتح خطير لباب القتل دون محكمة أو ثبوت تهمة، فهلا أدرك مصدرو هذا البيان معنى هذا الكلام؟
والفرق شاسع جدًا بين حادثة فتح مكة وبين حال الثورة السورية، فالوضع في فتح مكة كان هناك جيش واحد، وقائد واحد، والصفوف متمايزة واضحة، أما الوضع في سوريا –كما هو وضع أي ثورة مسلحة- فالأمور كثيرة الاختلاط، والفصائل عديدة، وليس هناك قائد واحد يطاع، وهناك العديد من المجرمين ممن حمل السلاح وعمل في التشبيح وقطع الطريق، بل ومن المتوقع أن يستغل أتباع النظام واللصوص حال انهيار النظام، ومن المتوقع شيوع شيء من الفوضى حينذاك.. فهل يقال وسط ذلك: اقتلوا دون سؤال ولا محاكمة وانتقموا دون مرجع ولا ضوابط؟
3. وما ما قيل عن ثارات القعقاع بن عمرو وغزوة مؤتة : فإنه لا يخرج عن القتال في أرض المعركة كما سبق.
4. أما مسألة التكفير والردة المغلظة:
فدون خوضٍ في مسألة الكفر والتكفير ومناطها، والتي يظهر أنهم يقصدون بها (إعانة الكافر): فإن إثبات الردة على الأفراد –من غير الطائفة النصيرية- مسألة مختلفة أخرى عن الحكم المطلق بمن أعان الكافر. فمن له حق الحكم بالردة على الأفراد؟ أليس القضاء؟
المسألة السابعة:
جاء في بيان النصرة:
"سادسًا: نص الميثاق على اللقاء والتعاون مع الأطراف الإقليمية والدولية المتضامنة مع محنة الشعب السوري بما يخدم مصالح الثورة، فأطلق ولم يخصِّص عن أسمائها، أو موقفها وحالها من الإسلام والمسلمين في شتَّى البقاع، وعن دورها وأهدافها من الثورة السورية الإسلامية المباركة ونتائجها، وعن صور هذا التعاون واللقاء وما يدور فيه من أحاديث، فإننا نعلم أن هذه الأطراف الإقليمية لا تعمل إلا على محاربة الإسلام وأهله والوقوف في وجه عودة الخلافة الراشدة، هذا ما ذُكر في النقطة الرابعة من الميثاق، وأما في النقطة السادسة فقد ذُكر فيها كلام يفيد رفض أي تبعية للخارج فلا ندري ما المراد بمصطلح الخارج هنا؟! هل المقصود به الجماعات الإسلامية -ولعله الأظهر-؟ أو الأطراف الإقليمية؟ فيكون التناقض".
والرد على هذه النقطة: أن هذه من العجائب كذلك!
1. بيان جبهة النصرة هنا يُقدِّم مرة أخرى إساءة الظن في الكتائب، ويصورها على أنها ستتعاون مع أعداء الشعب السوري، وهي من هي في الجهاد والعلم والدعوة!
قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا} [الحجرات: 12]، قال ابن كثير في تفسيره: "يَقُولُ تَعَالَى نَاهِيًا عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الظَّنِّ، وَهُوَ التُّهْمَةُ وَالتَّخَوُّنُ لِلْأَهْلِ وَالْأَقَارِبِ وَالنَّاسِ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ؛ لِأَنَّ بَعْضَ ذَلِكَ يَكُونُ إِثْمًا مَحْضًا، فَلْيُجْتَنَبْ كَثِيرٌ مِنْهُ احْتِيَاطًا، وَرُوِّينَا عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: وَلَا تَظُنَنَّ بِكَلِمَةٍ خَرَجَتْ مِنْ أَخِيكَ الْمُسْلِمِ إِلَّا خَيْرًا، وَأَنْتَ تَجِدُ لَهَا فِي الْخَيْرِ مَحْمَلًا".
2. ما مقصود بيان جبهة النصرة بموقف هذه الدول من الإسلام والمسلمين في شتَّى البقاع؟
هل تعني بذلك الدول التي تحارب بقية فروع القاعدة في دول العالم؟
ثم أين هذا الشرط في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم؟ وهل يُشترط في التعامل مع أي دولة أو منظمة ألا يكون بينها وبين مسلم على الأرض عداوة أو حرب؟ أليست العهود المواثيق تُعقد مع الأعداء المحاربين؟ بل التحالفات كذلك؟
وهذه الأمور مبسوطة في كتب أهل العلم لمن أراد الاستزادة منها.
3. ثم إن حصل للثورة السورية مصلحة أو فائدة في موقف ما أو مسألة فإننا نمنعها عن فعله وقوله؟
ألا يخضع ذلك لتقاطع المصالح كما أشار إليه الشيخ أسامة في العديد من الموضع؟
ألم تعمل به القاعدة –التي تعلن النصرة لها الولاء- في عدم حربها لإيران كما صرح بذلك العدناني مؤخرا؟ وما شهد به العديد من قادة القاعدة طوال السنوات الماضية؟ وكذلك الوضع في فرع القاعدة في اليمن مع الرافضة الحوثيين؟ وهي من هي في العداء لأهل السنة؟
بل ألم تتفاوض طالبان مع أمريكا المحتلة لأفغانستان، وتلتقي بها في عدد من البلدان، وعقدت معها الاجتماعات والاتفاقيات؟
ألم يكن هناك نوع تعاون بين أمريكا والمجاهدين الأفغان عن طريق وسطاء أبرزهم الحكومة السعودية؟ أم أن هذا حلال على القاعدة ومن هو في فلكها، وحرام على الآخرين؟
4. وهل المطلوب من الكتائب والفصائل في سوريا أن تعلن الحرب على جميع الدول، وتناصبها العداء، وتحاربها كما أعلن تنظيم (الدولة)؟ وأنهم سيحررون روما والبيت الأبيض ويطؤون أمريكا ويفعلون ويفعلون؟ فهل تريد جبهة النصرة إعادة هذا الكلام الذي يدرك كل أحد استحالته وعدم واقعيته؟
المسألة الثامنة:
جاء في بيان جبهة:
"سابعًا: غياب مبدأ الأخوة الإيمانية وطغيان روح الأخوة الوطنية والترابية في بنود الميثاق جميعها، كما في النقطة الثالثة والخامسة والسادسة والثامنة فكلها تبث روح المواطنة والانتماء إلى التراب والوطن، وهذا مخالف لما قررته نصوص الوحي من الأخوة الإيمانية دون النظر إلى الوطن والجنس واللون ونحو ذلك، ... ونحن في جبهة النصرة نرفض كل الرفض وبكل صراحة ووضوح هضم أو إخفاء دور الإخوة المهاجرين في هذا الجهاد المبارك، فقد قاموا بدور عظيم وكبير نصرةً لأهل الشام ... فنحن يجمعنا بأهل الإسلام أخوة الدين التي تسمو على كل رابطة ترابية أو وطنية، ونصرتنا للمسلمين تكون قائمة على الدين والولاء له، لا على الوطن والتراب والولاء له، ... وقال صلى الله عليه وسلم: "المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله"، وليعلم الجميع أن الدولة الإسلامية المنشودة التي نريدها هي الدولة التي تقوم على أساس الدين والإيمان والشريعة قبل كل شيء وعلى ذلك يكون الولاء والبراء، فلا يستوي عندنا مسلم بكافر ... وإن ما يؤذي إخواننا المهاجرين يؤذينا وما يصيبهم يصيبنا، ومن يهمزهم فقد همزنا، فيا أيها المهاجرون هذه أرض الشام فسيحوا فيها، وأبواب الشام ستبقى مفتوحة على مصراعيها لكل من أراد نصرتها والخير لها ولأهلها".
والرد على هذه النقطة من وجوه:
1. يزعم بيان جبهة النصرة (غياب مبدأ الأخوة الإيمانية) سبحانك الله هذا بهتان! فأين ذلك في الميثاق؟ وهو الموضوع أساسًا لعمل معين محدد؟
2. نقد بيان النصرة (الوطن والوطنية) وكأن حب الوطن أو الانتماء لها محرم ورجس يجب أن نتجنبه؟ ألا يوجد وطنيةٌ مباحة ووطنية محرمة؟
ألم يحب الرسول صلى الله عليه وسلم وطنه ويقول: (لولا أن قومك أخرجوني منك ما خرجت)؟
بل واستدل بهذا عدد كبير من أهل العلم ونصوا على عبارة (وَفِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى فَضْلِ الْمَدِينَةِ وَعَلَى مَشْرُوعِيَّةِ حُبِّ الْوَطَنِ وَالْحَنِينِ إِلَيْهِ)، قالها الحافظ بن حجر، والمباركفوري، وغيرهم.
نعم قد تصل الوطنية وحب الوطن إلى مرحلة تقديس التراب وتقديم على الإيمان، والولاء والبراء عليه، كما ظهر عند المنحرفين والزنادقة.. فأين ميثاق المجاهدين من ذلك؟
3. وإن كان البيان يقصد أنَّ الميثاق آخى بين المسلمين وغير المسلمين: فهذا ما لم يذكره البيان وليس فيه أي إشارة له، وما ورد في بيان جبهة النصرة تقويل للميثاق واتهام للكتائب بما لم تقل، وإلا فعليهم الدليل..
4. ما ذكره الميثاق (3- ... وينحصر العمل العسكري داخل الأرض السورية).
فما الذي ترفضه جبهة النصرة في هذه النقطة؟ وهل تريد إشعال الأرض وإعلان الحرب على دول العالم كما كان تنظيم (الدولة) يتبجح به؟ وهل استطاع السوريون القضاء على عدوهم النصيري المجرم ليلتفتوا إلى غيره؟ أليس هذا من العقل والحكمة وترتيب الأولويات كما قرره أهل العلم؟
5. ما ذكره الميثاق (5- الحفاظ على وحدة التراب السوري، ومنع أي مشروع تقسيمي بكل الوسائل المتاحة هو ثابت ثوري غير قابل للتفاوض).
وواضح أن المقصود بهذا البند: عدم قبول انفصال أجزاء من سوريا لدولة كردية أو نصيرية، أو حتى مسلمة، وهو ما كانت تطمع إليه بعض قوى الاستعمار في مخططها القديم-الجديد، والذي يجعل من سوريا دولة (طوائف) جديدة، فأين الخطأ في ذلك؟
أم أن جبهة النصرة لا تجيز إقامة دولة إلا أن تكون عالمية؟ وهذه العالمية ما حدودها؟ دول العالم الإسلامي فقط؟ وهم بذلك وقعوا في الحدود والتحديد! أم أنها تشمل جميع الأرض؟ وهو ما لا يعقل، ولم يفعله أحد من قبل!
نعم نحن نكفر بسايكس بيكو، ونرى أنها من المصائب التي نزلت على الأمة، لكن التعامل مع الحدود القائمة اليوم، وما يتعلق بها من أحكام ومعاملات هو من فقه التعامل مع الواقع.. وصولاً للأكمل..
6. ما ذكره الميثاق (6- قوانا الثورية تعتمد في عملها العسكري على العنصر السوري، وتؤمن بضرورة أن يكون القرار السياسي والعسكري في الثورة، سورياً خالصاً، رافضةً أية تبعية للخارج).
فقد نص البند على أن الأساس والاعتماد على العنصر السوري، وهذا هو الواقع؛ فالشعب السوري هو الذي انتفض على النظام، وهو من حمل السلاح، وهو من ضحى وبذل، وهو غالبية المجاهدين والعاملين في النشاط الثوري بشكل عام..
ومع ذلك فإن البيان لم ينف فضل غير السوريين، أو يطالب بطرهم من البلاد، أو غير ذلك، او الإساءة لهم، وواقع الكتائب من الأحرار وجيش الإسلام وغيرها يصدق ذلك، ولا ينكره إلا كل معاندٍ مكابر.
وأما الجزء الأخير: " بضرورة أن يكون القرار السياسي والعسكري في الثورة، سورياً خالصاً، رافضةً أية تبعية للخارج".
فهذا من أبسط الحقوق أن يكون الحكم في البلاد لأهلها، وهذا من بداهة المعقول.. أم أن الكفر بسايكس بيكو لا يكون إلا بتعمد تولية غير السوريين في المناصب القيادية، وإجبار الناس على من لا يقبلونه من القادة والتصرفات؟
وهل تتوقع جبهة النصرة أنها ستقيم اليوم دولة في سوريا كما كانت الدول قبل عقودٍ متطاولة؟
ألم يكن الشيخ عبد الله عزام وخطاب –رحمهما الله- يدعوان المجاهدين العرب إلى عدم التدخل في شؤون أفغانستان والشيشان الداخلية، وأن يقتصر عملهم على دعم أهل البلاد ونصرتهم؟
بل ألم يرفض الشيخ أسامة ذلك، ونأى بالعرب عن التدخل في شؤون طالبان؟
إن تقديم أهل البلاد وتصدرهم للعمل لهو عين الحكمة والسياسة، وأسلم للتعامل والتصرف مع عامة الناس..
7. وأخيرًا: يا جبهة النصرة: ألم تدعي في بداية البيان إلى الشورى والمشاورة، ثم ها أنت تقولين (فيا أيها المهاجرون هذه أرض الشام فسيحوا فيها، وأبواب الشام ستبقى مفتوحة على مصراعيها لكل من أراد نصرتها والخير لها ولأهلها) فأين المشاورة التي خرقتيها مرارًا في هذا البيان؟ أم أن الشورى والمشاورة تكون في قرارات غيرك لا قراراتك؟
المسألة التاسعة:
جاء في بيان النصرة:
"ثامنًا: نص الميثاق أن الشعب السوري يهدف إلى إقامة دولة العدل والقانون والحرية بمعزل عن الضغوط والإملاءات، وإننا لنرى الضغوط والإملاءات واضحة جليَّة في صياغة هذا البند، فنحن من أبناء أهل الشام ولنا كيان بفضل الله كبير ومنتشر في كافة أنحاء الشام ولا نريد إلا دولة تقوم على حاكمية الشريعة بلا خفاء ولا مداورة، بل ونعلنها بكل صراحة بأننا لن نقبل بأية دولة مدنية أو ديمقراطية أو أية دولة لا تقوم على حاكمية الشريعة، وهذا هو حال كثير من الفصائل المقاتلة التي نخالطها ونعيش معها وهم القسم الأكبر من أهل الشام، ... ثم إن دولة العدل والقانون والحرية مطلب يطلبه أهل الإسلام واليهود والنصارى والعلمانيون والهندوس والمجوس وغير ذلك، كلٌّ يدَّعي أنه يريد دولة العدل والقانون والحرية، فلا مجال للتعميم وعدم التصريح في هذا الباب".
فيا جبهة النصرة.. قد أبعدتم النجعة والله!
1. تجزمون أنَّ أصحاب الميثاق تعرضوا لإملاءات وضغوط.. وتقولونهم ما لم يقولوه.. فهل شققتم عن صدورهم أو قلوبهم وفتشتم نياتهم لتعلموا ذلك؟
2. أعلنتم رفض الدولة الديمقراطية والمدنية، فأين في الميثاق الإشارة لهذا الأمر؟ وهل يعني العدل والحرية والقانون أن تكون الدولة ديمقراطية أو مدنية أو علمانية؟
إنكم نفيتم ذلك بقولكم فيما بعد: (دولة العدل والقانون والحرية مطلب يطلبه أهل الإسلام واليهود والنصارى والعلمانيون والهندوس والمجوس وغير ذلك، كلٌّ يدَّعي أنه يريد دولة العدل والقانون والحرية، فلا مجال للتعميم وعدم التصريح في هذا الباب)..
وهنا نقول: ألم ينص البند الأول أن الشريعة الإسلامية هي الحاكمة والمفسرة لكافة بنود الميثاق؟
بل ألم تنص مواثيق هذه الحركات على أفكارها وعقائدها؟
وها أنتم تقرون أن الشريعة مطلب (كثير من الفصائل المقاتلة التي نخالطها ونعيش معها وهم القسم الأكبر من أهل الشام) فهل هذه كيانات أخرى غير الموقعين على الميثاق؟ وهم الذين يشكلون كثيرًا من الكتائب على الأرض؟
3. ألم تقرؤوا يا جبهة النصرة حديث الرسول صلى الله عليه وسلم عن المنافقين: (لاَ يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّهُ كَانَ يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ)، أليس في هذا مراعاة للحالة الإعلامية؟
أليس من الحكمة أن تأخذ ما تريد بأيسر الطرق وأخفها ضررًا؟
أم تريدون أن تعلنوا العداء لأمم الأرض من أول يوم؟
أم لم تسمعوا بما قرره أهل العلم من إقامة شرع الله حسب الوسع والطاقة؟
4. أخبريني بربك يا جبهة النصرة: منذ ثلاثين سنة و(حركات الجهاد العالمية) يخوضون حروبًا شرسة في عدة بلدان، ويعلنون ويعلنون.. وما النتيجة؟
تكالب الأعداء عليهم، وزاد الشراسة ضدهم، فسقطت مشاريعهم الإسلامية، بل وسقط معها الحد الأدنى من الحياة الكريمة للإنسان..
المسألة العاشرة:
جاء في بيان النصرة:
"تاسعًا: إن الميثاق نص أن (الثورة السورية هي ثوره أخلاق وقيم تهدف إلى تحقيق الحرية والعدل والأمن للمجتمع السوري بنسيجه الاجتماعي المتنوع بكافة أطيافه العرقية والطائفية) ونحن نقول أن التعامل مع الفرق والأديان والطوائف في دين الله تعالى يختلف من طائفة إلى أخرى كما هو مقرر عند أهل العلم فلا يجوز المساواة بينهم، والأولى بميثاق مثل هذا أن ينص على أن التعامل مع كل طائفة يكون ضمن نصوص الشرع وضوابطه فلا نظلِم ولا نُظلَم".
وسأكتفي بتعليق واحد هنا: لماذا قلت يا جبهة النصرة (التعامل مع الفرق والأديان والطوائف في دين الله تعالى يختلف من طائفة إلى أخرى كما هو مقرر عند أهل العلم فلا يجوز المساواة بينهم) وهي عبارة مطاطة حمالة أوجه، ولم تبيني هذه الأحكام هنا بالتفصيل، وتركتِ تفسيرها؟ لماذا لا تصرحين بما تعتقدينه في هذه الفرق؟ أهي الخشية من الناس؟ أم مراعاة الإعلام والسياسة؟ أم أمرٌ آخر؟
ولماذا يجوز لك أن تتحدثي بعبارة حمالة أوجهٍ هنا، ولا يجوز لغيرك ذلك؟
وأخيرًا:
علم الله يا جبهة النصرة أن الشعب السوري قد أحبك لما رأى جدك واجتهادك في خدمته، وجهاد عدوه إلى جانب بقية الكتائب العاملة في الثورة..
وأنت تعلمين أن الشعب السوري يخوض أشرس المعارك على جبهات عديدة، ويعاني فيها من صنوف الألم والمحن ما لا يتصوره القابعون خلف الحدود والشاشات..
ويأتي بيانك هذا في أحلك الظروف التي تمر بها الثورة في عدد من المناطق.. فالله الله في هذا الشعب المجاهد الصابر.. والله الله في سابقة جهادك وتضحياتك..
واعلمي: أنك إن تعاملت مع الشعب تعامل المجاهد القائم على الخدمة والدعوة ومحبة الخير، مع وسطية في الطرح، وعقلانية في التعامل: فلك منه كل المحبة والتقدير، والمكانة الرفيعة.
وإننا نعتبر هذا البيان بهذه السقطات الغريبة، قد أُعد على عجل، وخلا من الحكمة والهدوء في الطرح، وناقض أوله آخره، فبدا مضطربًا متناقضًا غير متماسك..
ونرجو أن تتجاوزيه كما تجاوزت مشكلة تنظيم (الدولة) بصدق انتمائك لهذا البلد المجاهد الصابر..
وسأكتفي بهذا المقدار اليسير من النقد، عسى ألا أعود له مستقبلا.
والحمد لله رب العالمين
إضافة تعليق جديد