وماذا عن العمليات الاستشهادية؟
سؤال أثارته الكلمةُ السابقة (هل نطلب النصر أم الشهادة؟) والجواب في كلمات:
1. الأصل أن نفس الإنسان مَصونة وأنها أمانة في عنق صاحبها، فلا يجوز تعريضها للموت عَمْداً أو استهتاراً، ومَن قتل نفسَه عامداً خُلّد في النار كما في الحديث الصحيح. لكنّ حكم تعريض النفس لخطر الموت ينقلب من الحُرْمة إلى الوجوب عندما تكون المخاطرة جهاداً في سبيل الله، فيقدّم المرءُ نفسَه ويُجازَى عنها بالجنة خالداً فيها أبداً، إذن فإن الهدف من الموت هو الفيصل والنيّة هي الأساس.
2. لكن النية الصالحة ليست دليلاً قاطعاً على صواب العمل، فرُبّ خطأ كبير بُني على نيّة صالحة. إن الحكم الصحيح الذي نستخلصه من فهمنا لأصول الإسلام ومقاصد الشريعة هو تجنّب إزهاق النفس إلا عند الحاجة، لأن الموت ليس غاية بذاته في الجهاد بل إن نصر الدين ورفع رايته هو الغاية، والأصل تحقيق الغاية بأقل الخسائر لا بأكثرها، فلو أن المجاهد استطاع أن يحقق هدف العمل العسكري دون تعريض نفسه للخطر وأهمل التقديرَ فخاطر بنفسه ومات فقد يُلام لأنه فرّط في حفظ النفس، وهي خسارة عسكرية لجماعته أيضاً، بل للأمة التي ستفقد بفَقْد مجاهديها جزءاً مهماً من قوّتها العسكرية.
3. لكنْ ماذا لو تعذّر تحقيقُ الهدف إلا بالمخاطرة الكبيرة؟ في سوريا يهاجم المجاهدون حواجزَ العدو ومطاراته ومعسكراته المدجَّجة بالسلاح بأقل الإمكانيات وبأخف الأسلحة، فيتعرّضون لخطر كبير ويسقط منهم مجاهدون كثيرون، فهل هذا انتحار أو تهوّر يُلام فاعلوه؟ بما أنهم لا يملكون الأسلحة الثقيلة والنوعية فإن مخاطرتهم جزء من العمل الجهادي المشروع، فلا يُلامون عليه بل يُمدَحون ويُحمَدون. على أنهم يُلامون لو قصّروا في التخطيط والتدريب والاستعداد وأقبلوا على الحرب إقبالَ المتهوّر الساذج، فضاعت أرواحهم سُدى ومات منهم مَن كان ينجّيه من الموت حسنُ التدبير والتقدير.
4. أما ما يسمى "انغماساً" في الأعداء (أو ما نسمّيه "عمليات استشهادية" يفجّر المرءُ فيها نفسَه في العدو فيَقتل ويُقتل) فإن الحكم المبدئي فيها هو المنع قياساً على الأصل، لكنها تَحِلّ عندما يكون الهدف عظيمَ الأهمية بحيث يؤدي التخلص منه إلى تقريب النصر وتوفير الكثير من الضحايا، وعندما يتعذّر التوصل إليه إلا بمثل تلك العملية. على أن يُصدر الحكمَ -في تلك الحالة- مَن له خبرةٌ في الحرب حتى يكون ترجيحُه أقربَ إلى الصواب، وأن يكون واثقاً من استنفاد سائر الوسائل لتحقيق الهدف المطلوب بحيث يصبح "الانغماس" هو البديل الممكن الوحيد، وأن يكون هدف الاستشهادي تحقيق النصر للمسلمين لا الحصول على الشهادة المعجَّلة، وله أسوة فيما صنعه البراء بن مالك رضي الله عنه يوم اليمامة، فإنه تمنى الشهادة ولكنه عمل للنصر، فمَنّ الله عليه وفتح للمسلمين باب الحديقة، ونجا وانتصر المسلمون، ثم أجاب الله رجاءه ودعاءه فاستُشهد في موقعة تُسْتَر في فتوح فارس بعد بضع سنين.
5. أما التضحية بالنفس بعملية يُقتَل فيها مَن يَحْرُم دمُه ولا يجوز قتله فقد تكون انتحاراً وقد تكون جريمةَ قتل، كأن يفجّر الرجلُ نفسَه وسط المدنيين في سوق أو في مركز سكني أو في حافلة أو طائرة. وحتى لو اختلط أولئك الأبرياء بمَن يجب قتله من الأعداء فإن إجمال الجميع بالقتل حرام، إلا إذا بلغ الهدف من الأهمية أنه الفَيْصلَ بين النصر والهزيمة أو كان في تركه مظنّة تعريض البلاد والعباد إلى الخطر المحقق. هذه المسألة هي التي يسميها فقهاؤنا "التترّس"، وقد استهان بها قومٌ في العصر الحاضر فوسّعوها حتى صرفوها عن أصلها الذي أُبيحت من أجله، ولأهميتها الشديدة في جهاد أهل الشام فإنني سأستطرد فيها بتفصيل صغير:
لقد أباح الفقهاء ضرب الكفار المتترسين بشرط مهم، هو أن يكون قتال الكفار الذين تترسّوا بالمسلمين ضرورياً بحيث يترتب على تركه ضررٌ أكبر على الجماعة، ففي هذه الحالة يؤخَذ بقاعدة أقل الضررين. قال القرطبي: "لا يجوز قتل الترس (أي من المسلمين) إلا إذا كانت المصلحةُ ضرورةً كلية بحيث إذا لم يحصل القتال لزم منه ذهابُ الترس والإسلام والمسلمين"، فانظروا كيف جعل حالة الخوف من ذهاب الإسلام والمسلمين مبرراً لقتل المسلمين الذين تترّس الكفار بهم، وليس مجرد تحقيق نصر عسكري صغير أو إنجاز محدود. وفي "الموسوعة الفقهية" خلاصة الحكم: "إذا تترس الكفار بالمسلمين يجوز رميهم إذا دعت الضرورةُ إلى ذلك، بأن كان في الكفّ عنهم انهزامٌ للمسلمين والخوفُ على استئصال قاعدة الإسلام".
عندما نقيس الوصف الوارد في الحكم السابق على الحرب في سوريا نجد أن تفجير مركز أو حاجز أو موكب لبعض مجرمي النظام لا يجوز إلا إذا ضُمِن عدم هلاك الأبرياء من المسلمين، ولو نشأ احتمال وقوع الأذى على المدنيين لم يَجُزْ ضرب مثل تلك الأهداف، إلا إذا كانت خسارة العدو هائلة ويترتب عليها تقصير عمر المعركة وتخفيف المعاناة الكلية على الناس، كضرب القيادات العليا ومراكز صنع القرار والأهداف الإستراتيجية التي يقدر خطرَها قادةٌ عسكريون محترفون في الميدان.
6. بقي أخيراً تعليق على ما تقوم به عصابة داعش التي تفجّر المففخات في مواقع المجاهدين فتوقع الضحايا منهم ومن المدنيين الأبرياء، هذه الأعمال لا تدخل في موضوعنا أصلاً لأنها عمليات إجرامية جنائية لا علاقةَ لها بالجهاد ولا يقوم بها مجاهدون صادقون، إنما يصنعها أعداء الأمة، وأحسب أنها أقصر طريق إلى جهنم والله تعالى أعلم.
إضافة تعليق جديد