دور المرجعية الدينية في حماية المجتمع من الغلو
بسم الله الرحمن الرحيم
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَقْبِضُ العِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ العِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ العِلْمَ بِقَبْضِ العُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا)متفق عليه، البخاري برقم (100)، ومسلم برقم (2673).
فقد حذّر النبي صلّى الله عليه وسلم من اتخاذ الرؤوس الجهال كمرجعيات دينية، لأنهم سيكونون سببًا في انهيار المجتمع وضلاله وغَرَقِه، فهم ضالّون عن الحق يظنّون أنهم مهتدون، ويضلّون غيرهم من عامّة الناس ممن ينخدعون بكلامهم وفتاواهم.
وإن عدنا إلى التاريخ: نجد أن بداية ظهور الفتن كان على يد الخوارج الذين حذّر النبي -صلى الله عليه وسلم- منهم أشد تحذير، فقال: (يَأْتِي فِي آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ، حُدَثَاءُ الأَسْنَانِ، سُفَهَاءُ الأَحْلاَمِ، يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ البَرِيَّةِ، يَمْرُقُونَ مِنَ الإِسْلاَمِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، لاَ يُجَاوِزُ إِيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ، فَأَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ، فَإِنَّ قَتْلَهُمْ أَجْرٌ لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ)رواه البخاري برقم (3611)، فوَصَف -صلى الله عليه وسلم- مرجعياتهم بأنهم:
- (حدثاء الأسنان) أي صغار في السنّ.
- و(سفهاء الأحلام) يغلب عليهم الطيش والسَفَه.
- ومع ذلك: (يقولون من خير قول البرية) فيستشهدون بالقرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، فيغررون الشباب بكلامهم، ويحسبهم عامّة الناس على حق، فيضلونهم ويفسدون عقولهم!
- لكنّ أقوالهم وفتاواهم التي يستدلّون عليها بأدلة من القرآن والسنّة لا تغني عن الحق شيئًا، لأنها مبنية على جهل وضلال، ولذلك قال صلى الله عليه وسلّم: (يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرميّة)، (لا يجاوز إيمانهم حناجرهم).
وهذا البيان الوافي لحالهم ولصفاتهم التي يتصفون بها، حتى لا يغترّ الناس بهم وينخدعوا بقولهم، وليحذروا من منهجهم الخطير الذي يجلب على الأمّة الشر المستطير ويتسبب في قتل المسلمين، وأيضًا: حتى لا يتهاون الناس في مجابهتهم ومحاربتهم (فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجر لمن قتلهم يوم القيامة).
إن اتخاذ مرجعيات دينيية موثوقة مشهود لها بالأمانة والعلم والتقى والوَرَع من أهم الأسباب الوقائية في حماية المجتمعات من الغلو والضياع والانحراف، وقد نبّه الله تعالى على ذلك فقال: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا}[النساء: 83].
و{الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} هم العلماء المخلصون المتّبعون لمنهج النبي صلى الله عليه وسلّم، فأمرنا الله عز وجل بالرجوع إليهم عند كل أمر ذي شأن.
وقال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}[النحل: 43] وأهل الذكر هم العلماء المجمع على علمهم وصدقهم. قال القرطبيُّ رحمه الله: "فرض العامِّيِّ الذي لا يستقلُّ باستنباط الأحكام من أصولها، لعدم أهليته فيما لا يعلمه من أمر دينه، ويحتاج إليه: أن يقصد أعلم مَنْ في زمانه ببلده، فيسأله عن نازلته، فيتمثَّل فيها فتواه، لقوله تعالى: {فاسألوا أَهْلَ الذكر إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]، وعليه الاجتهاد في أعلم أهل زمانه بالبحث عنه، حتى يتفق أكثر الناس عليه. وعلى العالم أيضاً أن يقلِّد عالماً مثله في نازلةٍ خفي عليه وجهُ الدليل فيها"اللباب في علوم الكتاب (3/ 162).
وفي أوقات الاضطرابات والقلاقل والفتن: يحتاج الناس عامّة والشباب خاصّة إلى من يبين لهم مواطن الخطر، ويحذّروهم من الفتن، ويردّ على الشبهات التي يبثّها أهل الزيغ والضلالة، ويدلّهم إلى الطريق الصحيح والقويم، ويأمرهم بلزوم جماعة المسلمين وترك التفرّق، وهنا يأتي دور المرجعيات الدينية وتظهر الحاجة الماسّة للرجوع إليهم.
إن المرجعية الدينية الصادقة يظهر أثرها اليوم في حياتنا وخاصة في سوريا، حيث وفدت إليها مشاريع الغلو ممزوجة بمشاريع دولية استخباراتية أساءت لمفهوم الجهاد في سبيل الله ولمفهوم الخلافة وتطبيق شريعة الله، فاختطفت شبابنا وغررّت بهم من خلال أناس مجهولين لا نعرف أسماءهم ولا تاريخهم ولا عِلمهم، فاختطفوا شبابنا بما يزعمون أنه من الدين، ويزينونه بالشعارات والعبارات العريضة، فأدخلوا شبابنا في فتن متلاطمة، ومعارك وهمية، وحروب مدمرة.
فعلى الشباب اليوم التزام مرجعيات معروفة بتاريخها وأمانتها وصدقها، وسؤالهم عما يُشكل عليهم، والرجوع إليهم في كل نائبة تعرض لهم، فهم المرجع الذي يبين للناس طريق الحق والصواب عند اختلاط الأمور، وهم الحصن الذي يحمي شبابنا من معارك وهمية لا فائدة منها إلا سفك دماء المسلمين واستحلال حرماتهم، ومن هذه المرجعيات المهمة: المجلس الإسلامي السوري، فهو يضم نحو أربعين رابطة وهيئة شرعية سورية، تمثلها نخبة من العلماء السوريين المعروفين بدينهم وأمانتهم وتاريخهم في بلاد الشام، ويسعى المجلس إلى جمع الكلمة، وتوجيه الشعب السوري، وإيجاد الحلول الشرعية لمشكلاته وقضاياه، والحفاظ على هويته ومسار ثورته، كما يسعى إلى محاربة الغلو الطارئ عليه، من خلال برامج متكاملة تعالج بعمق أصل مشكلة الغلو، وتسلط الضوء على آثاره السلبية، وتعزز الوعي الشرعي ومبادئ الوسطية والاعتدال لدى المجتمع السوري بلا إفراط ولا تفريط.
إضافة تعليق جديد