التقييد في التكفير عند الإحساس بالخطر (قراءة في تأصيلات المقدسي والفلسطيني)
من أبرز سمات الخطاب الذي يعتمده الشيخان: أبو محمد المقدسي وأبو قتادة الفلسطيني أنهما يطلقان عبارات تقتضي تكفير الأعيان والجماعات بتراكيب ظاهرها المباشر من غير تقييد أو تفصيل.
فحين يقرأها الشباب لا يجدون أي حرج في الإقدام على التصريح بالتكفير لمن انطبقت عليه تلك العبارات والتراكيب.
ومن أظهر الأمثلة على ذلك: ما وقع منهما في بيان الرياض المشهور قبل سنوات، فقد كتابا تعليقات ظاهرها التكفير للمشاركين في التوفيق، لم يفصّلا حتى وقع بعض الشباب في التكفير وخاض الناس في المسألة، فأخذا في ذكر القيود والتوضيحات، وقد كتبت فيه مقالا منشورا بعنوان "تكفير الموقعين في مؤتمر الرياض -تطبيقات جديدة للغلو المعاصر".
ومن الأمثلة على ذلك أيضا: موقف المقدسي من المشاركة في المجالس البرلمانية، فقد كتب المقدسي سنة 1417 كتاباً مفرداً في حكم المشاركة في البرلمانات التشريعية بعنوان: "الجواب المفيد بأن المشاركة في البرلمان وانتخاباته مناقضة للتوحيد" قرّر فيه بأن هناك تلازماً بين المشاركة على جهة الترشح وبين الوقوع في الشرك، فكل من اشترك في تلك المجالس بكونه نائباً أو مترشحاً فهو واقع في الشرك لا محالة.
ولكنه بعد سبعة عشر سنة يُصدر فتوى أخرى يُصرّح فيها بأن المشاركة في الترشح للبرلمانات التشريعية قد تنفصل عن الوقوع في الشرك!، وأنه ليس كل من اشترك في تلك البرلمانات على جهة العضوية والترشح يلزم أن يكون واقعاً في الشرك!، ويجعل تلك الفتوى عمدة في فهم كلامه ومواقفه.
وقد فصلتُ ذلك في مقال بعنوان "اضطراب المقدسي في الموقف من الاشتراك في البرلمانات التشريعية".
والمقدسي لو صرّح بالتراجع لما كان اضطراباً وإنما رجوع إلى الحق، وإنما يعرض أقواله على أنها منسجمة على خط واحد عبر تلك العقود كلها.
ومن الأمثلة على ذلك -وهو مثال جديد يحتاج إلى تفصيل- موقف الشيخين- المقدسي والفلسطيني- من الانضمام إلى هيئة الأمم المتحدة.
فإن كلّاً منهما قرّر كلاماً يقتضي بأن مجرد الانضمام في هيئة الأمم المتحدة يوجب الكفر والخروج من الإسلام.
أما المقدسي فكلامه ظاهر جداً، فقد كرّر في مواطن عديدة بأن الانضمام إلى هيئة الأمم المتحدة أو ما تفرع عنها كفر أكبر، وجعل ذلك من موجبات كفر الدول العربية، وقال منبهاً على عموم الحكم: "قبل أن نغادر إلى موضع آخر من هذا الفصل، نحبُّ أن نلفت انتباه الموحّد، إلى أن هذا الكلام -التكفير بالانضمام إلى هيئة الأمم وفروعها- وما يتعلق به مما سيأتي ليس خاصاً بهذه الدولة الخبيثة وحدها، بل هو يتنزّل على كل من تحاكم راغباً مختاراً إلى هذه المحكمة وقوانينها وعلى كل من ردّ إليها عند التنازع ورضي بأحكامها.. أو دخل في دين هيئة الأمم وميثاقها، فحكمه حكمها، سواء كان دولة أو دويلة أو منظمة أو حزباً أو حكومة ائتلافية أو نحو ذلك".
وأما الفلسطيني، فإنه يقول: "لو سُئلتَ يا عبد الله: لماذا تعتقد بكفر هذه الحكومات؟ لماذا تراها كافرة؟ أين هذا الكفر المبين والكفر البواح الذي قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
لو سُئلت يا عبد الله فأجب: ماذا تسمي دخول هذه الحكومات في المنظمات والأديان الكافرة؟ ماذا تسمي هذا؟ منظمة اللَّمَم المُلحدة -الأمم المتحدة- ما معناها في دين الله؟ أليست دينا؟ أليس الدين هو الشريعة؟"
فظاهر كلامهما المباشر الذي لا لبس فيه ولا غموض أن مجرد الانضمام إلى هيئة الأمم المتحدة فعل موجب للكفر والخروج من الإسلام، ولهذا لم يقيدوه بكونه مطلقاً أو مشروطاً، وقد فهم عدد كبير من الشباب كلامهما على هذا النحو وأطلقوا الكفر بذلك من غير تردد.
ولكن حين قام عبد الله الموحد في كتابه "كشف شبهات المقاتلين تحت راية من أخل بأصل الدين"بتكفير حركة طالبان لأنها طلبت الانضمام ضمن هيئة الأمم المتحدة معتمداً على تأصيلات المقدسي وغيره، بادر الشيخان إلى إظهار التقييد والتفصيل الذي يقتضي إبطال التكفير بمجرد الانضمام إلى الهيئة!
فقد قال المقدسي: "وما ذكره من طلب الطالبان الانضمام إلى هيئة الأمم المتحدة الملحدة، مردود بما تكرّر من نقل الثقات لنا ولغيرنا من أنهم اشترطوا في طلبهم أن لا يخالفوا دين الله أو يقروا شرعاً غير شرع الله، وأن ذلك الشرط كان من أسباب رفض طلبهم، وأن أميرهم لما روجع من بعض الغيورين وبين له حكم الانضمام إلى هيئة الأمم أقلع ووعد بعدم العود إلى ذلك الطلب".
وقال الفلسطيني: "وأما تكفير طالبان من أجل مطالبتها بالدخول في الأمم المتحدة وأنظمتها وهيئاتها، فإني سألت الإخوة من المجاهدين هناك، وكذا سألت بعض رجال الطلبة، فكان الجواب هو التالي: نحن نطلب الدخول في هذه الهيئات مع شرط شرعي يجيز لهم -حسب رؤيتهم الفقهية- المطالبة بالدخول فيها، هذا الشرط هو أن لا تلتزم الحركة بأي بند من بنودها التي تخالف الشريعة، فهي تطلب الدخول في هذه الهيئات بهذا الشرط، وهم يعتقدون جواز هذا الطلب مع هذا الشرط، ويعتبرون من أسباب عدم قبولهم في هذه الهيئات وهو وجود هذا الشرط الذي قدموه مع طلبهم".
فهذا التفصيل والتقييد حكم جديد منهما، وهو يقتضي أن مجرد الانضمام إلى هيئة الأمم المتحدة ليس موجباً للكفر بمجرد، وإنما لا بد من النظر في ذلك، فإن كان بشرط عدم الالتزام بما يخالف الشريعة فهو ليس موجباً للكفر، وإن كان مع الالتزام بذلك فهو كفر.
وهذا التفصيل ليس موجوداً في تقريرهما الأول، ولم يذكراه إلا حين وقعت المشكلة مع جماعة يميلان إليها.
فإن قيل: الشيخان يتحدثان عن الدول العربية، وهي لم تشترط عدم الالتزام بما يخالف الشريعة.
قيل: هذا غير صحيح، بل تأصيلهما جاء عاماً مطلقاً، ثم إن كثيراً من الدول العربية تشترط ذلك الشرط، وذلك فيما يعرف بحق التحفظ، وقد طبقته عدد من الدول العربية في عدد من القرارات والأنظمة.
وهذه الأمثلة تكشف عن خلل كبير في بنية الخطاب الذي يعتمده الشيخان في تأصيل مسائل التكفير وبناء أحكامه.
إضافة تعليق جديد