حكم التعامل مع أفراد "تنظيم الدولة" الهاربين من الرقّة
لتحميل الملف بجودة عالية.. اضغط هنا
الحمد لله رب العالمين، وصلّى الله وسلّم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فقد بدأت معاقل الدواعش تنهار واحدةً تلو الأخرى، وصار الزوال مصيراً محتوماً لدولة الخرافة العوّادية، وحصل ما حذّر منه العقلاء والعلماء من أن تذهب البلاد للرافضة بعد أن يقضي الدواعش على شوكة أهل السنّة، ويقدموا للروافض خدمة جليلة بقتال أهل السنة بحجّة الصحوات والمرتدين، ثم يسلّموهم البلاد بعد أن يتركوها بحجّة القصف والضربات الكبيرة الموجّهة إليهم.
ومن الآثار المترتبة على هذه الأحداث: هروب عناصر الدواعش إلى المناطق المحررة، خُفية تارة، وتحت مسمّى التوبة تارة أخرى، وانبرى هناك من يعطيهم الأمان بحجّة أنّهم آبوا ورجعوا، وهنا لا بد من وقفة شرعية وسياسية راشدة وعاقلة، حتى لا نخسر أكثر مما خسرناه.
-
حكم داعش:
داعش فرقة حادثة جمعت خبائث كل فرقة من الفرق التي مرّت في التاريخ الإسلامي، فأخذت من الشيعة التقيّة والكذب، ومن الخوارج التكفير وسفك الدماء، ومن الباطنية إظهار خلاف ما تستر، حتى فضح الله سترها بلسان متكلميها ومَنْ عاشرها.
ولكنّ التكفير بغير مناطٍ صحيحٍ، وقتال من كفّروه هو الأصل الأبرز والأكبر، وهو أصل الخوارج الأساس؛ لذلك فإن أكثر علماء الأمّة والساحة السورية على وصفهم بالخوارج، وذهب بعض الباحثين إلى القول بردّة رؤوسهم؛ لأنهم ظاهروا الرافضة ومكّنوا لهم في العراق في المرة الأولى والثانية، وفي سورية أيضاً، وذلك عندما طعنوا المجاهدين من الخلف والأمام، وأضعفوهم عن مجاهدة الروافض، وكذلك بعمليات التسليم والاستلام التي باتت واضحة لكل عاقل بأنها مدبّرة؛ دافعها الكيد بفصائل المجاهدين، وتحصيل فوائد متعددة منها: استمرار استقطاب السذّج والمغفلين من شباب الأمة.
وإن كان الحكم عليهم بالردّة والزندقة ليس بعيداً ومناطه ظاهر، لكنْ نسير في التعامل معهم على رأي الأكثرية من أهل العلم بأنهم خوارج.
-
قتال الخوارج:
أجمع أهل العلم سَلَفاً وخَلَفاً على قتالهم، وأنه حفظ رأس مال الإسلام، قال ابن تيمية: "وَقَدِ اتَّفَقَ الصَّحَابَةُ وَالْعُلَمَاءُ بَعْدَهُمْ عَلَى قِتَالِ هَؤُلَاءِ؛ فَإِنَّهُمْ بُغَاةٌ عَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، سِوَى مَنْ وَافَقَهُمْ عَلَى مَذْهَبِهِمْ، وَهُمْ يَبْدَءُونَ الْمُسْلِمِينَ بِالْقِتَالِ، وَلَا يَنْدَفِعُ شَرُّهُمْ إِلَّا بِالْقِتَالِ؛ فَكَانُوا أَضَرَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ. فَإِنَّ أُولَئِكَ إِنَّمَا مَقْصُودُهُمُ الْمَالُ أُعْطُوهُ لَمْ يُقَاتِلُوا، وَإِنَّمَا يَتَعَرَّضُونَ لِبَعْضِ النَّاسِ، وَهَؤُلَاءِ يُقَاتِلُونَ النَّاسَ عَلَى الدِّينِ حَتَّى يَرْجِعُوا عَمَّا ثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ إِلَى مَا ابْتَدَعَهُ هَؤُلَاءِ بِتَأْوِيلِهِمُ الْبَاطِلِ وَفَهْمِهِمُ الْفَاسِدِ لِلْقُرْآنِ"منهاج السنة (5/244-243)..
وقال ابن هُبَيْرَةَ تعقيبًا على حديث عليّ -رضي الله عنه- أنه: ذكر الخوارج فقال: ... لولا أن تبطروا لحدثتكم بما وعد الله الذين يقتلونهم، على لسان محمد صلى الله عليه وسلم: "فيه من الفقه توفّر الثواب في قتل الخوارج، وأنّه بلغ إلى أن خاف عليٌ -رضي الله عنه- أن يبطر أصحابه إذا أخبرهم بثوابهم في قتلهم، وإنّما ذكر هذه لئلا يرى أحد في وقت ظهور مثلهم أنّ قتال المشتركين أولى من قتالهم، بل قتالهم على هذا الكلام أولى من قتال المشركين؛ لأنّ في ذلك حفظ رأس مال الإسلام، وقتال المشركين هو طلب ربح في الإسلام"الإفصاح عن معاني الصحاح (1/280)..
و"قال المهلّب وغيره: أجمع العلماء أنّ الخوارج إذا خرجوا على الإمام العدل وشقّوا عصا المسلمين ونصبوا راية الخلاف؛ أنّ قتالهم واجب، وأنّ دماءهم هدر، وأنّه لا يُتبع منهزمهم، ولا يُجهز على جريحهم. قال مالك: إنْ خِيف منهم عودة أُجهز على جريحهم وأُتبع مُدْبِرهم، وإنّما يقاتَلون من أجل خروجهم على الجماعة"شرح البخاري لابن بطال (8/584)..
فقتالهم محلّ إجماع بين العلماء، ولأنّ خطرهم كبير وشرّهم مستطير، قال بعض أهل العلم بقتلِ جريحهم ومُدبِرِهم، خلافَ أهل البغي، وهذا ما قاله الإمام مالك كما نقله ابن بطال في الكلام السابق، "إنْ خِيفَ منهم عودة أُجهِزَ على جريحهم وأُتبِعَ مُدْبِرهم".
وقال ابن قدامة: "وَالصَّحِيحُ، إنْ شَاءَ اللَّهُ، أَنَّ الْخَوَارِجَ يَجُوزُ قَتْلُهُمْ ابْتِدَاءً، وَالْإِجْهَازُ عَلَى جَرِيحِهِمْ؛ لِأَمْرِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِقَتْلِهِمْ وَوَعْدِهِ بِالثَّوَابِ مَنْ قَتَلَهُمْ، فَإِنَّ عَلِيًّا -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: لَوْلَا أَنْ تَبْطُروا لَحَدَّثْتُكُمْ بِمَا وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ يَقْتُلُونَهُمْ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ وَلِأَنَّ بِدْعَتَهُمْ وَسُوءَ فِعْلِهِمْ يَقْتَضِي حِلَّ دِمَائِهِمْ؛ بِدَلِيلِ مَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ عِظَمِ ذَنْبِهِمْ، وَأَنَّهُمْ شَرُّ الْخَلْقِ وَالْخَلِيقَةِ، وَأَنَّهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ، وَأَنَّهُمْ كِلَابُ النَّارِ، وَحَثِّهِ عَلَى قَتْلِهِمْ، وَإِخْبَارِهِ بِأَنَّهُ لَوْ أَدْرَكَهُمْ لَقَتَلَهُمْ قَتْلَ عَادٍ، فَلَا يَجُوزُ إلْحَاقُهُمْ بِمَنْ أَمَرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالْكَفِّ عَنْهُمْ، وَتَوَرَّعَ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ قِتَالِهِمْ، وَلَا بِدْعَةَ فِيهِمْ"المغني (8/ 526)..
وقال السرخسي: "وَإِنْ كَانَتْ لَهُ فِئَةٌ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُقْتَلَ أَسِيرُهُمْ؛ لِأَنَّهُ مَا انْدَفَعَ شَرُّهُ، وَلَكِنَّهُ مَقْهُورٌ، وَلَوْ تَخَلَّصَ انْحَازَ إلَى فِئَتِهِ، فَإِذَا رَأَى الْإِمَامُ الْمَصْلَحَةَ فِي قَتْلِهِ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَقْتُلَهُ، وَكَذَلِكَ لَا يُجْهِزُوا عَلَى جَرِيحِهِمْ إذَا لَمْ يَبْقَ لَهُمْ فِئَةٌ، فَإِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُجْهِزَ عَلَى جَرِيحِهِمْ؛ لِأَنَّهُ إذَا بَرِئَ عَادَ إلَى تِلْكَ الْفِتْنَةِ وَالشَّرِّ بِقُوَّةِ تِلْكَ الْفِئَةِ، وَلِأَنَّ فِي قَتْلِ الْأَسِيرِ وَالتَّجْهِيزِ عَلَى الْجَرِيحِ كَسْرُ شَوْكَةِ أَصْحَابِهِ، فَإِذَا بَقِيَتْ لَهُمْ فِئَةٌ فَهَذَا الْمَقْصُودُ يَحْصُلُ بِذَلِكَ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَبْقَ لَهُمْ فِئَةٌ"المبسوط (10/126)..
وقال الكاساني: "الْإِمَامُ إذَا قَاتَلَ أَهْلَ الْبَغْيِ فَهَزَمَهُمْ وَوَلَّوْا مُدْبِرِينَ، فَإِنْ كَانَتْ لَهُمْ فِئَةٌ يَنْحَازُونَ إلَيْهَا، فَيَنْبَغِي لِأَهْلِ الْعَدْلِ أَنْ يَقْتُلُوا مُدْبِرَهُمْ وَيُجْهِزُوا عَلَى جَرِيحِهِمْ؛ لِئَلَّا يَتَحَيَّزُوا إلَى الْفِئَةِ فَيَمْتَنِعُوا بِهَا؛ فَيَكُرُّوا عَلَى أَهْلِ الْعَدْلِ، وَأَمَّا أَسِيرُهُمْ فَإِنْ شَاءَ الْإِمَامُ قَتَلَهُ اسْتِئْصَالًا لِشَأْفَتِهِمْ، وَإِنْ شَاءَ حَبَسَهُ لِانْدِفَاعِ شَرِّهِ بِالْأَسْرِ وَالْحَبْسِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِئَةٌ يَتَحَيَّزُونَ إلَيْهَا لَمْ يَتْبَعْ مُدْبِرَهُمْ، وَلَمْ يُجْهِزْ عَلَى جَرِيحِهِمْ، وَلَمْ يَقْتُلْ أَسِيرَهُمْ؛ لِوُقُوعِ الْأَمْنِ عَنْ شَرِّهِمْ عِنْدَ انْعِدَامِ الْفِئَةِ"بدائع الصنائع (7/141)..
وقال الشيخ محمد عليش المالكي: "(وَإِنْ أُمِّنُوا) بِضَمِّ الْهَمْزِ وَكَسْرِ الْمِيمِ، أَيْ الْبُغَاةُ (لَمْ يُتَّبَعْ) بِضَمِّ التَّحْتِيَّةِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ (مُنْهَزِمُهُمْ) بِضَمِّ الْمِيمِ وَكَسْرِ الزَّايِ، فَإِنَّمَا يُقَاتَلُونَ مُقْبِلِينَ لَا مُدْبِرِينَ (وَلَمْ يُذَفَّفْ) بِضَمِّ التَّحْتِيَّةِ وَفَتْحِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ أَوْ الْمُهْمَلَةِ وَشَدِّ الْفَاءِ الْأُولَى مَفْتُوحَةً، أَيْ يُجْهَزْ (عَلَى جَرِيحِهِمْ) وَمَفْهُومُ الشَّرْطِ أَنَّهُمْ إنْ لَمْ يُؤَمِّنُوا يُتَّبَعْ مُنْهَزِمُهُمْ وَيُذَفَّفْ عَلَى جَرِيحِهِمْ وَوَقَعَ الْأَمْرَانِ لِلْإِمَامِ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ هَؤُلَاءِ لَهُمْ فِئَةٌ يَنْحَازُونَ إلَيْهَا دُونَ الْأَوَّلِينَ. [قال] ابْنُ عَرَفَةَ عَبْدُ الْمَلِكِ: إنْ أُسِرَ مِنْ الْخَوَارِجِ أَسِيرٌ وَقَدْ انْقَطَعَتْ الْحَرْبُ فَلَا يُقْتَلْ، وَإِنْ كَانَتْ الْحَرْبُ قَائِمَةً فَلِلْإِمَامِ قَتْلُهُ، وَلَوْ كَانُوا جَمَاعَةً إذَا خَافَ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ ضَرَرٌ، وَعَلَى هَذَا يَجْرِي حُكْمُ التَّذْفِيفِ عَلَى الْجَرِيحِ وَاتِّبَاعِ الْمُنْهَزِمِ، وَقَالَهُ سَحْنُونٌ، [قال] ابْنُ حَبِيبٍ: نَادَى مُنَادِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فِي بَعْضِ مَنْ حَارَبَهُ أَنْ لَا يُتَّبَعَ مُدْبِرٌ وَلَا يُجْهَزَ عَلَى جَرِيحٍ وَلَا يُقْتَلَ أَسِيرٌ ثُمَّ كَانَ مَوْطِنٌ آخَرُ فِي غَيْرِهِمْ فَأَمَرَ بِاتِّبَاعِ الْمُدْبَرِ وَقَتْلِ الْأَسِيرِ وَالْإِجْهَازِ عَلَى الْجَرِيحِ فَعُوتِبَ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: هَؤُلَاءِ لَهُمْ فِئَةٌ يَنْحَازُونَ إلَيْهَا وَالْأَوَّلُونَ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ فِئَةٌ"منح الجليل (9/201)..
وكلام السرخسي والكاساني والشيخ عليش رحمهم الله في قتال البغاة، فإذا كان للبغاة فئة وجماعة يهربون لها جاز قتل جريحهم وأسيرهم، فكيف بالخوارج الذين هم أكثر ضرراً وخطراً وشراً.
وبناء على كلام مَنْ تقدّم من أهل العلم: فإنّ كلّ جندي في داعش ومن يقدّم لهم الدعم هو هدفٌ، وقتله حفظٌ للمسلمين وللثورة، ولا يبرّر لهم ما يشيعه بعض البسطاء من أنّ فيهم مغفّلين ومغرراً بهم، فقد بلغ كلام أهل العلم فيهم للقاصي والداني، ولم يبق فيهم إلا من أُشرِبَ في قلبه الغلوّ والتكفير، سواء كان حسنَ النيّة أو خبيثَها، وعلى فرض وجود مثل هؤلاء السذّج: فالحكم على العموم، وللفرد حكم طائفته، ويبعثه الله على نيته.
ومَنْ يأتي منهم اليومَ هارباً من الرّقةِ أو غيرِها: ما جاء ندماً ولا توبة! وإنّما خافَ على نفسه من القتل، وصار زوال خرافتهم مسألة أيام، فهو لم يترك الإجرام وإنما لم تتيسر له ظروف الاستمرار فيه. ولا ينبغي أن يبقى شعبنا وفصائلنا أسرى طِيبةِ قلبٍ ساذجة وورعٍ باردٍ، دمرتهم من قبل وما تزال تفتك بهم، فالمؤمن لا يلدغ من جحر مرتين، وليس المؤمن بالخب ولا الخب يخدعه.
-
حكم إعطائهم الأمان:
الأصلُ: أنّ الأمان يعطى للكافر للحربي، وبهذا جاءت النصوص، وحول هذا المعنى تكلّم الفقهاء، ولا يدخل فيه البغاة أو الخوارج، لأنّ الكافر مهدور الدم فيعطى الأمان ليعصم دمه. أما البغاة والخوارج فهم مسلمون، ودمهم معصومٌ من حيث الأصل، وإنّما أبيح قتالهم لتلبّسهم بجرمٍ لا يزول إلا بالقتال، فعودة حرمة دمهم بزوال السبب وهو البغي والخروج على المسلمين. وماداموا على ذنبهم مصرّين، وببغيهم متلبسين، فالحكم فيهم سارٍ. وحتى على رأي من يرى كفر الخوارج فحينئذ هم مرتدّون، ولا يعطى للمرتد أمان، بل لا بد من عودته للإسلام أو القتل.
وبناء على هذا المعنى: لا يجوز أن يؤمّن باغٍ وخارجي وهو على معصيته مقيم، ولمنهجه داعيةٌ أو مصرّ، وما يظنّه البعض أنه أمانٌ عندما يطلب أحدهم العودة إلى أهله ويترك مناطق الخوارج فهو ليس أمانًا بالمعنى الفقهي؛ لأنّ الأمان: تركُ القتال مع بقاء موجبه، فالحربي لم يتغير وصفه وحكمه في ذاته، وإنّما أباح الشرع رفع القتال عنه للأمان ووصفُه كما هو، وليس كذلك الخارجيُّ والباغي؛ لأنّه جاء الأمر بقتال البغاة حتى يفيؤوا، وبقتال الخوارج قتلَ عادٍ حتى يُستأصلوا، أو يترك الجميعُ بدعته، فلا يوجد أمانٌ بالمعنى الفقهي، وإنّما هذه الحالة هي قبول التوبة والأوبة، ويشبهها ما فعله علي -رضي الله عنه- مع الخوارج في بداية قتالهم حيث "رفع رايةَ أمان مع أبي أيوب الأنصاري، فناداهم أَبُو أيوب: من جَاءَ هَذِهِ الراية مِنْكُمْ ممن لم يَقتُل ولم يستعرض فهو آمن، ومن انصرف مِنْكُمْ إِلَى الْكُوفَةِ أو إِلَى المدائن وخرج من هَذِهِ الجماعة فهو آمن، إنّه لا حاجة لنا بعد أن نصيب قتلة إخواننا مِنْكُمْ فِي سفك دمائكم"تاريخ الطبري (5/86)..
فواضحٌ أنّها دعوة للتوبة وترك الخروج على جماعة المسلمين وإمامهم، وهي دعوة تنفع مع المغرر بهم فيعودوا، ولهذا قال: ممن لم يقتل ولم يستعرض.
ومَن ذكرَ من أهل العلم إعطاء الأمان للبغاة إنما يفهم كلامه أنه بمعنى: منح الفرصة للتوبة، وتأمّل كلامَ الشيخ عليش المالكي: "وَيَجُوزُ تَأْخِيرُ قِتَالِهِمْ مُدَّةً بِالْمَصْلَحَةِ إذَا كفّوًا عَنْ الْقِتَالِ وَطَلَبُوا الْأَمَانَ، وَلَمْ يُخْشَ غَدَرُهُمْ. [قال] ابْنُ شَاسٍ: إذَا سَأَلَ أَهْلُ الْبَغْيِ الْإِمَامَ الْعَدْلَ تَأْخِيرَهُمْ أَيَّامًا وَبَذَلُوا لَهُ عَلَى ذَلِكَ شَيْئًا فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ شَيْئًا مِنْهُمْ، وَلَهُ أَنْ يُؤَخِّرَهُمْ إلَى الْمُدَّةِ الَّتِي سَأَلُوهَا"منح الجليل (9/201).، فقد ذكر تأخير القتال، وكأنه تأخير العقوبة طمعاً بحصول الأوبة والتوبة، وشَرَطَهُ بعدم خشية الغدر منهم، وهو قيد مهم جداً.
ويمكن أن يُقال مثل هذا للدواعش: من عاد وتاب وترك هذا المنهج فهو آمن، أي تقبل توبته ويُترك قتاله، ولكن هناك نقاط مهمة جداً في هذه المسألة لا بد من التنبيه لها:
-
ليس لآحاد الناس أن يقول هذا الكلام، ولا يُقاس على إعطاء آحاد المسلمين الأمان للحربي، لاختلاف المعنى والصورة بين الحربي والخارجي أو الباغي كما سبق بيانه، وإنّما يفعل هذا إمام المسلمين أو من له حكمه، لأنّه يُشبه حكمَ القضاء على ملاحق للعدالة بترك ملاحقته وكفّ البحث عنه، وهذا لا يكون لآحاد المسلمين، وليس في فصائلنا اليوم مَنْ هو بمنزلة الإمام، لكن ننزله منزلة الإمام في جماعته، فوعدُه مُلزِمٌ لجنوده وليس لغيرهم.
-
لا بد من التحقق والتأكد من توبته وترك منهجه، وإلا فالكفّ عنه وترك قتاله مع تلبسه بجريمته ومنهجِه الذي بسببه أُبيح قتاله هو مخالفة شرعية واضحة وصريحة، فلا يملك القاضي ولا الإمام العفو والصفح عن المجرم فيما هو من حقوق الناس، ولا يُتجاوز النص الشرعي الآمر بقتالهم، ولكن عندما تظهر توبته وأوبته فهو ممن تاب قبل القدرة عليه، فيُكفّ عنه.
ولو نظرنا في حال من يعود من مناطق الخوارج اليوم: فالغالب والظاهر من حاله أنه رجع هربًا من الموت الذي سيطاله، أو ليعود ليتابع إجرامه وخرابه في بلد آخر، سواء بنشر الفكر، أو التجنيد، أو تنفيذ العمليات، أو الانضمام لجماعة خارجية أخرى تحت مسمىً آخر.
وإذا تذكّرنا ما عند القوم من غدرٍ وخيانةٍ ومكرٍ من خلال الوقائع والقصص التي يعلمها أهل البلد؛ يصبح هذا الظنّ حقيقة قوية، فلا يجوز التفريط بما بقي من مناطق الثورة وبدماء المجاهدين بمثل هذه السياسات الخاطئة.
-
على فَرَض أنّه ظهرت مصلحة لقبول توبتهم فلا بدّ من اتباع سياسات تضمن اتقاء خطرهم، وذلك بأن تُعقد لهم دورات شرعية لتعليمهم ومناقشة شبهاتهم، فمن ثبت أنه تراجع عن فكره فهو تائب وإلا فلا، ويُمنعوا من إظهارِ أيّ فكرٍ يمتّ للغلو بِصِلَة، ويُمنعوا من الانضمام لأيّ فصيلٍ، ويُمنعوا من حمل السلاح ولو كان فرديًا، ولا يجتمعوا في مكان واحد، ولا بأس بأن يُفرض عليهم إقامة جبرية بقرية أو مكان معيّن، وإلا فيمكن أن يشكّلوا جماعاتٍ ويعودوا لقتال المجاهدين وإفساد ما بقي من الثورة.
-
إذا قام فصيلٌ من الفصائل بقبولِ توبة بعض هؤلاء، ثم ظهر خطؤه وضرر فعله، فيجب نبذ هذا التصرّف وعدم الاعتراف به من قِبَلِ عناصره وجنوده، وليسوا بملزمين بعهده، فإنّ من أعطى الأمان للحربي -وهو جائز في الشرع- وكان فيه ضرر: يُلغى أمانه ويُنبذ إليه على سواء، قال مجد الدين أبو الفضل الحنفي: "وَإِذَا أَمَّنَ رَجُلٌ أَوِ امْرَأَةٌ كَافِرًا أَوْ جَمَاعَةً أَوْ أَهْلَ مَدِينَةٍ صَحَّ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ مَفْسَدَةٌ أَدَّبَهُ الْإِمَامُ وَنَبَذَ إِلَيْهِمْ"الاختيار (4/123)..
وقال الجويني الشافعي: "يُشترط ألا يكون في الأمان المعقود ضرر عائد إلى المسلمين، فلو أمّن طليعةَ الكفار، أو جاسوساً: كان الأمان باطلاً"نهاية المطلب (17/474)..
وقال الشيخ صالح الآبي المالكي: "وشرطُ الأمان أن لا يكون على المسلمين ضرر، فلو أمّن جاسوسًا أو طليعةً أو مَنْ فيه مضرّة لم ينعقد"الثمر الداني (ص 415)..
وقال ابن حجر الهيتمي: "(وَلَا يَجُوزُ) وَلَا يَنْفُذُ وَلَوْ مِنْ إمَامٍ (أَمَانٌ يَضُرُّ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ (الْمُسْلِمِينَ كَجَاسُوسٍ) وَطَلِيعَةِ كُفَّارٍ لِخَبَرِ (لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ) فِي الْإِسْلَامِ ... أَمَّا مَا لَا يَضُرُّ فَيَجُوزُ وَإِنْ لَمْ تَظْهَرْ فِيهِ مَصْلَحَةٌ"تحفة المحتاج (9/268)..
وقال مصطفى السيوطي الرحيباني الحنبلي: "(وَ) شَرْطُ الْأَمَانِ (عَدَمُ ضَرَرٍ) عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِيهِ"مطالب أولي النهى (2/578)..
فإذا كان الأمان لمن أقرّ الشرع بالأمان له لا يجوز مع خشية الضرر، فكيف بمن لم يرد في الشرع منحه الأمان وإنما هي توبة مشبوهة.
-
لا يجوز أن يغيب عن الذهن مكر هؤلاء وكذبهم بالأمان إن أعطوه وإن سألوه، فهم يرون أنّ الأمان الذي يعطونه لمن يصفونهم بالمرتدين غير لازم، وأنّ نقضه جائز! ألمْ يعطوا الأمان لأبي ريّان ولأبي بصير ثم قتلوهما؟ ألمْ يحمهم أبو محمد الفاتح أمير النصرة على حارم سابقًا فخرجوا من ريف اللاذقية وريف إدلب الغربي إلى الرقّة بسلاحهم وعتادهم تحت راية النصرة وحماية الفاتح، ثم جاؤوا وقتلوه وعائلته في بيته؟ ومثل هذه أمورٌ كثيرةٌ لا ينساها السوريون.
-
يجبُ الحذرُ من أهل الغلوّ في إدلب المتسترين بعباءة هيئة تحرير الشام، وهم بقايا الجند وغلاة النصرة الذين بدؤوا يستقبلون العائدين من أرض الدواعش ويحمونهم بحجة أنّهم تابوا وأعطوهم الأمان، وهما وجهان لعملة واحدة، فكلاهما في التكفير والإجرام سواء، فهل تُقبل حماية مجرم لمجرم، وهم حموا مجرمي الجند سابقًا وآووا محدثيهم، وما قاتلوا إلا من رفض بيعتهم؟ وهم من نكثوا الأمان مع من أعطوه كما فعلوه بأبي عبد الخولي الذين اعتقلوه بعد أن أعطوه الأمان، فهم أخوة في الغدر والقتل رضعوه من ثدي واحد.
وأخيراً إنّ الثورة لم تتأذَّ ولم تطعن بمثل ما فعل بها زنادقة الدواعش وأهل الغلو، وإنّ الورع البارد مع هؤلاء وترك علاج النبي -صلّى الله عليه وسلّم- معهم لهو ضياعٌ وهدرٌ لما بقي من الثورة، فالمؤمن العاقل كيس فطن ولا يلدغ من جحر مرتين.
-
من ثبت منهم أنه كذب في توبته، وظهر غدره فهو أسير، يشدّد في حبسه حتى لا يهرب، ويجوز قتله كما تقدّم من كلام أهل العلمللاستزادة ينظر فتوى: حكم تكفير تنظيم (الدولة) ولعنهم وحكم أسراهم وأموالهم http://islamicsham.org/fatawa/2046 .
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
إضافة تعليق جديد