تكفير الجنود والعسكر "دراسة شرعية في انحراف الغلاة"
هذا البحث عبارة عن جزء صغير من بحث: أغلاط التكفير.
والمقصود منه: نقض صورة من صور الغلط في قضية من أعظم القضايا الشرعية التي وقع فيه انحراف خطير وجارف عند كثير من الشباب، وهي الجزم بتكفير الجنود والعسكر، وما رتبوا على ذلك من استباحة دمائهم وقتلهم بالتفجير والغدر والغيلة.
وقد بيّن المؤلف أن الغلاة في هذه المسألة قد اختلفوا على قولين:
♦ فمنهم من حكم على جميع العسكر والجنود الذين ينضمون إلى الحكومات العربية المعاصرة بأنهم كفار بأعيانهم، ويجب أن يعاملوا معاملة الكفار؛ بحجة أنهم أعانوا المرتدين ونصروهم وقووا من شوكتهم وظاهروهم في حروبهم ضد المجاهدين.
♦ ومنهم من قال بالتفريق بين من كانت وظيفته تتضمن مناصرة الحكومات وتقوية وجودها ومظاهرتها ومعاونتها على الخارجين عليها؛ فهذه عنده كفر، ومن كانت وظيفته لا تتضمن تلك المعاني؛ وبالتالي فهي ليست موجبة للخروج من الإسلام.
وقد أورد الباحث الأصول التي أقاموا عليها أقوالهم، والأدلة التي استدلوا بها عليه، وناقشها مناقشة علمية، مبيّناً الغلط فيها، وردّ على شبهاتهم التي أوردوها.
والنتيجة من هذا البحث:
1. أن القول بكفر الحكومات العربية وردتها بإطلاق غير صحيح، ومبني على أسس مختلف فيها؛ كحكم من لم يحكم بما أنزل الله، فضلًا عن أن الحكم بتكفيرهم ظني اجتهادي، ويشترط فيه ما يشترط في تكفير المعيّن.
2. على التسليم -جدلًا- بأن الحكومات العربية كافرة مرتدة، فالعمل في مؤسساتها لا يدخل في كل صوره في قبول الطاغوت، وإنما هو في كثير من صوره من قبيل العمل عند الكافر، وهذه المسألة ليست من موجبات الكفر.
3. ليست كل صور المظاهرة والمناصرة للحكومات تعدّ كفرًا أكبر، فضلًا عن أنها ليست محصورة بالعمل العسكري.
4. أن تكفير العسكر والجنود في الحكومات الكافرة المنتسبة إلى الإسلام مخالف لطريقة عدد من المحققين من العلماء، ومن أخصّهم: ابن تيمية رحمه الله.
البحث:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد،
فهذا ورقة مختصره اقتطعتها من بحث -أغلاط التكفير- لأن الحاجة دعت إلى نشرها، فما زال الغلاة يمارسون صنوفا من جرائم غلوهم، ولا زال التاريخ يظهر لنا أنواعا من تطبيقاتهم الشنيعة لعقيدتهم الباطلة.
ومن أظهر معالم غلوهم وانحرافهم: الجزم بتكفير الجنود والعسكر، ما رتبوا على ذلك من استباحة دمائهم وقتلهم بالتفجير والغدر والغيلة.
وتعد هذه القضية من أكثر القضايا التي أشغلت الشباب المهتم بالجهاد في العصر الحديث، وقد اختلف المنظرون الذاهبون إلى التكفير فيها على قولين.
وقبل ذكر خلافهم لا بد من التنبيه على أن المناطات التي بنوا عليها قولهم متنوعة بعضها راجع إلى معنى الموالاة والمناصرة، وبعضها راجع إلى معنى الحكم بغير ما أنزل الله، ولن نناقش هنا إلا المناطات الراجعة إلى الموالاة، وأما الأخرى فسنناقشها في محلها إن شاء الله:
- القول الأول:
أن جميع العسكر والجنود الذين ينظمون إلى الحكومات العربية المعاصرة كفار بالأعيان، ويجب أن يعاملوا معاملة الكفار، بحجة أنهم أعانوا المرتدين ونصروهم وقووا من شوكتهم وظاهروهم في حروب ضد المجاهدين.
ومن أشهر من تبنى هذا الموقف عبدالقادر عبدالعزيز، فإنه توسع في الاستدلال على هذا القول وفي جمع ما يراه دالاً على قوله، ثم تبعه على ذلك عدد ممن جاء بعده.
فإن عبدالقادر عبدالعزيز انطلق من أن الفرد في الطائفة الممتنعة له حكم الطائفة، وأن الطائفة يحكم عليها بناءً على رئيسها وأئمتها، حيث يقول: "الفرد له حكم الطائفة في الممتنعين عن القدرة والذين لا يكونون إلا ممتنعين عن الشرع أيضاً، وحكم الطائفة هو حكم رؤوسها وأئمتها. وعلى هذا فإذا كان رأس الطائفة مرتداً كمسيلمة وطليحة، سُمِّيت طائفته بالمرتدين، وحُكم على كل فرد منهم بالردة. وإذا كان رأس الطائفة باغيا سُمِّيت طائفته بالبغاة"الجامع في طلب العلم (595) نسخة الالكترونية..
وهو قد قرر قبل ذلك أن حكام العرب كفار جميعاً، والنتيجة التي انتهى إليها بناءً على ذلك أن كل من انضم إلى حكوماتهم وعسكرهم سيكون مرتداً لا محالة.
وذهب بعضهم إلى أن أي عمل لدى الحكومات موجب للكفر، حتى ولو كان عامل نظافة، بحجة أن ذلك مناف لشرط اجتناب الطاغوت المذكور في قوله تعالى: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت[النحل:36].
وقد استدل عبدالقادر عبدالعزيز ومن معه على قولهم في تكفير جميع العسكر والجنود بعدد من الأدلة:
♦الدليل الأول: إجماع الصحابة على تكفير أتباع مسيلمة، وفي بيان هذا الدليل يقول عبدالقادر عبدالعزيز: "والصحابة رضي الله عنهم عندما سمّوا أتباع أئمة الردة بالمرتدين وحكموا بكفرهم إنما حكموا عليهم بمجرد إتباعهم لأئمة الردة ونصرتهم لهم بالقول والفعل والقتال معهم، لا لأنهم اختبروا معتقدهم، فإن هذا لم يقع ولم يثبت من جهة النقل... والحاصل: أن الصحابة لم يتبيّنوا معتقد أنصار أئمة الردة، ولم يكن هذا ممكناً للمنعة القائمة، وإنما حكموا بردتهم بسبب النصرة والمعاونة وهذا يوجب التسوية بينهم وبين أئمتهم ورءوسهم في الأحكام كما سوّى الله بين فرعون وجُنده"المرجع السابق (596) نسخة الالكترونية..
وهذا الاستدلال منهم قائم على مقدمتين: الأولى: أن الصحابة كفّروا أتباع مسيلمة الكذاب، والثانية: أنهم كفّروهم بسبب نصرتهم ومعاونتهم لمسيلمة، وليس لسبب آخر.
ولا شك أن هذا الدليل خطأ، ودخل عليه الخطأ من المقدمة الثانية، فإن سبب كفر أتباع مسيلمة ليس مجرد نصرتهم له ومعاونتهم إياه، وإنما سببه موافقتهم له في اعتقاده وتركهم لدين الإسلام كما تركه، وإتباعهم له في دعواه وتصديقهم بأنه نبي مرسل.
وقد تناول العلماء هذه القضية كثيراً، ولم يذكر أحد منهم أن سبب كفر بني حنيفة -أتباع مسيلمة- راجع إلى معاونته، وإنما أجمعوا على أنه راجع إلى تركهم لدين الإسلام وإيمانهم بنوته المدعاة، يقول الخطابي: "الذين يلزمهم اسم الردة من العرب كانوا صنفين: صنفاً منهم ارتدَّ عن الدين، ونابذ الملة، وعاودوا الكفر، وهم الذين عناهم أبو هريرة بقوله: «وكفر من كفر من العرب»، وهم أصحاب مسيلمة الكذاب، ومن سلك مذهبهم في إنكار نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وصنفاً آخر: هم الذين فرقوا بين الصلاة والزكاة، وهؤلاء على الحقيقة أهل بغي"أعلام السنن (1/741).، فالخطابي ينص هنا على أن سبب كفرهم هو رجوعهم إلى الشرك وإنكار نبوة النبي صلى الله عليه وسلم.
ويقول القاضي عياض: "وكان أهل الردة ثلاثة أصناف: صنف كفر بعد إسلامه ولم يلتزم شيئاً وعاد لجاهليته أو اتبع مسيلمة أو العنسىَّ وصدَّق بهما"إكمال المعلم بفوائد مسلم (1/243).، فذكر أن سبب كفرهم هو عودهم إلى الجاهلية أو تصديقهم بمسيلمة، ويقول ابن عبدالبر: "كانت الردة على ثلاثة أنواع: قوم كفروا وعادوا إلى ما كانوا عليه من عبادة الأوثان، وقوم آمنوا بمسيلمة وهم أهل اليمامة وطائفة منعت الزكاة، وقالت: ما رجعنا عن ديننا ولكن شححنا على أموالنا"الاستذكار (9/266).، ويقول ابن العربي: "كانت الـعرب صنفين: صنف كفر ولحق بمسيلمة، وقسم أنكر الزكاة"عارضة الأحوذي (10/73)..
ويقول ابن تيمية: "ومن أعظم فضائل أبي بكر عند الأمة -أولهم وآخرهم- أنه قاتل المرتدين، وأعظم الناس ردة كان بنو حنيفة، ولم يكن قتاله لهم على منع الزكاة، بل قاتلهم على أنهم آمنوا بمسيلمة الكذاب، وكانوا فيما يقال نحو مائة ألف"منهاج السنة النبوية (8/324)..
فهاهي مقالات العلماء -كما ترى- تواردت على أن سبب كفر أتباع مسيلمة راجع إلى رجوعهم إلى الشرك وإيمانهم به.
والغريب حقاً أن عبدالقادر عبدالعزيز أحال إلى نص ابن تيمية التي نقلناه قبل قليل في إثبات كثرة عدد المرتدين، ولكنه غفل عن إشارة ابن تيمية إلى سبب كفرهم!.
ومما يدل على صحة ما ذكره العلماء وخطأ ما قرره عبدالقادر عبدالعزيز ومن تبعه: كتابات أبي بكر الصديق رضي الله عنه للمرتدين، فحين وقعت حادثة الردة قام أبو بكر بكتابة كتاب عام أمر أن يقرأ على كل المرتدين، وجاء فيه: "من أبي بكر خليفة رسول الله، إلى من بلغ كتابي هذا من عامة وخاصة، أقام على إسلامه أو رجعه عنه... وقد بلغني رجوع من رجع منكم عن دينه بعد أن أقر بالإسلام وعمل به... وإني بعثت إليكم فلاناً في جيش من المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان، وأمرته أن لا يقاتل أحداً منكم حتى يدعوه إلى داعية الله... وألا يقبل من أحد إلا الإسلام"تاريخ الطبري (2/141), وانظر: البداية والنهاية, ابن كثير (6/348), ومجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشد, محمد حميد الله (340).، وجاء في كتاب أبي بكر لخالد حين أمره بالمسير إلى مسيلمة الكذاب: "فإذا قدمت عليهم فلا تبدأهم بقتال حتى تدعوهم إلى داعية الإسلام، واحرص على صلاحهم... واعلم أنك تقاتل كفاراً بالله"الردة, الواقدي (71)..
وهذه الكتابات كلها تدل على أن السبب الموجب لقتال الصحابة للمرتدين هو كونهم كفروا بالله وانخلعوا من دين الإسلام.
ويدل على ذلك أيضا: عهد أبي بكر لأمراء الأجناد ووصاياه لهم، فحين خرجت الأجناد من المدينة كتب أبو بكر لهم عهداً جاء فيه: "هذا عهد أبي بكر خليفة رسول الله لفلان حين بعثه فيمن بعثه لقتال من رجع عن الإسلام"تاريخ الطبري (2/142)..
♦الدليل الثاني: قوله تعالى: {إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين}[القصص:8]، ونحوها من الآيات التي فيها المساواة بين فرعون وهامان وجنودهما، وفي الاستدلال بهذه الآية يقول عبدالقادر عبدالعزيز: "ولم يفرّق بين تابع ومتبوع، ولم يصف الأتباع إلا بأنهم جنود المتبوع، وإنما استحقوا حكم المتبوع لمشاركتهم له في إجرامه وإفساده، إذ لم يكن المتبوع ليتمكن من الإجرام إلا بجنوده الذين يطيعونه وينفذون إرادته، وهكذا جنود الطاغية في كل زمان ومكان"الجامع في طلب العلم الشرعي (596) نسخة الالكترونية..
والاستدلال بهذه الآيات على تكفير العسكر والجنود العاملين في الحكومات العربية خطأ ظاهر، لأنه قائم على مقدمة خاطئة، وهي: أن سبب كفر جنود فرعون راجع إلى إعانتهم له ونصرتهم إياه، ولكن هذه المقدمة باطلة بالضرورة، فإن كفر جنود فرعون وهامانا راجع إلى ما قام بهم من شرك وعناد لله تعالى لا بسبب معاونتهم لفرعون فقط، فالله تعالى لم يقل إن جنود فرعون وهامان كفروا لأنهم أعانوهما، وإنما لأنهم متصفون بالكفر الأصلي مثلهم، فالأدلة الشرعية دالة على أنهم متساوون معهم في الكفر لكونهم كفارا أصليين.
فالمساواة إذن بينهم في الحكم والعاقبة ليست راجعة إلى أن بعضهم متبوع وبعضهم تابع، وإنما راجعة إلى أنهم جميعاً اشتركوا في الكفر بالله والمعاندة لدينه، وقد تواردت أقوال المفسرين على تقرير هذا المعنى، ولم يذكر أحد منهم أن خطيئة جنود فرعون كانت بسبب نصرتهم له ومعاونتهم إياه.
فالاستدلال بهذه الآيات لا يستقيم إلا إذا ثبت أن كفر جنود فرعون و هامان مساواتهم لهما في المصير كان بسبب معاونهم لهما ونصرتهم إياهما فقط، وهذا القدر لم يثبته المستدلون بهذه الآيات، ولا يمكنهم إثباته لأنه لا دليل عليه.
وإذا ثبت بطلان المقدمة التي يقوم عليها الاستدلال بهذه الآيات وانعدم المسوغ الذي يتأسس عليه نقل الحكم إلى الصور الأخرى فلا يصح الاستدلال بها على قوم مختلفين عنهم في الحقيقة.
وقد أنكر عدد من منظري الجهاد المعاصر على عبدالقادر هذا الاستدلال وعدوه خطأً بيّناً، وفي بيان المعنى يقول عطية الله الليبي: "الاستدلال بهذه الآية الكريمة على أن كل عسكري، ينتسب إلى أي حكومة من الحكومات التي نكفرها -كحكومة السودان مثلاً أو السعودية- كفار لأنهم أتباع لهذه الدولة، والأتباع كالمتبوعين في الحكم، لأن الآية سوت بينهما، مجازفة علمية خطيرة"حوار شبكة الحسبة مع عطية الله الليبي (306)..
♦الدليل الثالث: وهو استدلال بعضهم بقوله تعالى: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت}[النحل:36] على التكفير بكل أعمال الدول العربية، فهو استدلال خاطئ، لأنه قائم على الخلط بين مسألتين مختلفتين، هما: مسألة العمل عند الكافر وبين مسألة اجتناب الطاغوت المشرط في وصف الإسلام.
فإنه على التسليم بأن الحكومات العربية كافرة مرتدة، فالعمل في مؤسساتها لا يدخل في كل صوره في قبول الطاغوت، وإنما هو في كثير من صوره من قبيل العمل عند الكافر، وهذه المسألة -أعني عمل المسلم عند الكافر- ليست من موجبات الكفر، وقد بحثها الفقهاء وبينوا حكمها، ولم يذكر أحد منهم أنها موجبة للكفر، وإنما غاية ما انتهوا إليه القول بالتحريمانظر: المبسوط, السرخسي (16/109), والمجموع شرح المهذب, النووي (9/359), والبيان والتحصيل, ابن رشد الجد (5/154), والمغنى, ابن قدامة (6/143)..
فالاستدلال بتلك الآية على التكفير بكل وظائف الدول غير صحيح، بل هو خطأ ظاهر في الفهم والاستدلال.
- القول الثاني:
التفريق بين أنواع المنتسبين إلى القطاعات العسكرية، فقد ذهب المنظرين المعاصرين إلى أن الانضمام إلى الوظائف الحكومية في الدول المعاصرة ليست كلها كفراً، وحقيقة هذا القول تتحصل في أن الوظائف الحكومية نوعان: نوع منها موجب للكفر ونوع منها غير موجب له، وضابط الموجب للكفر منها هي الوظائف التي تتضمن مناصرة الحكومات وتقوية وجودها ومظاهرتها ومعاونتها على الخارجين عليها، وأما الوظائف التي لا تتضمن تلك المعاني فليست موجبة للخروج من الإسلام.
وفي بيان هذا القول يقول أبو محمد المقدسي: "البراءة من هؤلاء المشركين والبراءة من ياسقهم الكفري - ما دمت مقيماً بين ظهرانيهم ولم تتهيأ للهجرة إلى بلد يعمل فيها بشرع الله [116] - تستلزم منك أن تهجر وتعتزل كل وظيفة أو عمل يُقر باطلهم أو يُعينهم على تطبيق قوانينهم أو ينصرهم عليها.
فذلك كله من المتابعة والموافقة والموالاة لهم ولقوانينهم الباطلة، التي علمت بأن الكفر بها والبراءة منها وبغضها وبغض أوليائها، واجب من واجبات التوحيد، ولازم من لوازم "لا إِلَهَ إِلاّ الله"، التي لا يصح إسلام امرئ إلاّ بها"كشف النقاب عن شريعة الغاب (138), وانظر: المرجع ذاته (140), والإشراقة في سؤالات سواقة, المقدسي (12)..
ويقول موضحاً كلامه السابق: "قد ظهر لك فيما تقدم، أن في وظائف الحكومات تفصيل مهم لابدّ من معرفته والتنبيه عليه، فمن هذه الوظائف ما قد يكون معصية أو كبيرة، لا تخرج بصاحبها من دائرة الإسلام، ومنها ما قد يتعدى بالإنسان إلى الشرك والكفر.
فالوظيفة التي فيها قسم على احترام ياسق الكفر والسهر على حراسة القوانين الوضعيّة أو حمايتها مثلاً، ليست كوظيفة "الجابي"... وأمثالها.
وكذلك الوظيفة التي فيها مولاة عبيد الياسق وأوليائهم، ومظاهرتهم على الموحدين المنابذين لطاغوتهم "الياسق" ليست كوظيفة "الخازن"... وأمثالها.
وكذا الوظيفة التي فيها تحاكم إلى الطاغوت أو وصف لأحكامه بالنزاهة والعدالة، والله يعلم أنها الكفر والشرك والضلالة، أو التشريع وسن القوانين، ليست كوظيفة ربوية تخلو من الاستحلال... وهكذا، وأهل هذه الوظائف والِغون بالشرك والإثم والحرام، كل بحسب حاله، ولا شك أن فيهم المشرك المعاند والفاسق الفاجر والجاهل المتأول، ومنهم من قد يعذر بجهله لخفاء بعض الأمور والتباسها، ومنهم من لا يعذر لظهورها واشتهارها"المرجع السابق (162)..
ويقرر أبو بصير الطرطوسي التفصيل نفسه فيقول: "تكفير الحكام المبدلين للشريعة والذين لا يحكمون بما أنزل الله.. لا يستلزم كفر وتكفير كل من يعمل في حكوماتهم ـ كما يُروّج البعض ترهيباً لعامة المسلمين من تكفير طواغيت الحكم! ـ وإنما الذي نقوله: من دخل في نصرة الحاكم الطاغوت وظاهره على المسلمين.. فهو كافر مثله.. ومن بطانته.. وهذا وصف لا يلزم كل من عمل في الحكومة"قواعد في التكفير (120), وانظر ممن قال ذلك: حوار مجلة الحسبة مع عطية الله الليبي (287-288)..
وأحد أهم الأصول الأساسية التي يقوم عليها هذا القول -كما هو ظاهر- راجع إلى أن بعض الوظائف فيها مناصرة للحكومات المرتدة ومظاهرة لها ومعاونة لرؤسائها، فالعامل فيها ينطبق عليه حكم المظاهرة للكفار ضد المسلمين، وهي كفر في كل صورها وأشكالها.
وهذا القول غير صحيح، وهو قائم على أصول خاطئة لم يستطع المتبنون لها أن يقيموا على صحتها دليلاً معتبراً مستقيماً في دلالته، وبيان ما في ذلك القول من غلط يتبن بالأمور التالية:
• الأمر الأول: أنه قائم على أن كل صور المظاهرة للكفار والمعاونة لهم كفر أكبر مخرج من الملة، ولكن هذا القول غير صحيح، وقد سبق في أثناء الصورة السابقة إثبات خطأ أصول أدلتهم التي اعتمدوا عليها في تأسيس ذلك القول، فلا فائدة من إعادته هنا، (تفصيل هذه المسألة سيكون في مستقل إن شاء الله).
وإذا بطل الأصل بطل ما بني عليها من تفاريع، فما بني على خطأ فهو خطأ بالضرورة.
• الأمر الثاني: على التسليم بأن كل مظاهرة للكفار ومعاونة لهم كفر أكبر، فإن إثبات كفر الحكام العرب مسألة معقدة، تعترض طريق القاصد إليها عقبات كبيرة، كل عقبة منها تحتاج إلى جهود واسعة من الإثباتات والبيانات، وإثبات الكفر في المعين العادي من المسلمين يجد فيه الناظر صعوبة بالغة، فكيف بإثباته في حال الأشخاص التي تتقلب أحوالهم في كثير من الأمور، وتغمص تصرفاتهم في كثير من الأحوال، وتحتف بحياتهم ملابسات كثيرة تجعلها حياة معقدة ملتبسة تصعب على الفهم.
وليس المراد من التقرير السابق الوصول إلى استحالة على المعين من الحكام بالكفر، وإنما المراد التنبيه على الظروف التي تحتف بحالهم، التي تؤدي في أغلب الأحوال إلى أن تعذر أو صعوبة الوصول إلى اليقين في تكفيرهم والجزم بخروجهم من الإسلام.
وأثر هذا المعنى يظهر فيما سيأتي من تقرير:
• الأمر الثالث: على التسليم بأن الحكومات العربية كافرة كلها، فإن كفرها ليس من الأمور القطعية التي لا يدخلها التردد والشك، وإنما هو من الأمور الاجتهادية الظنية.
والإقرار بهذا المعنى -أعني أن كفر الحكومات ظني اجتهادي- توارد عليه عدد من المتبنين للقول بكفر بعض الجنود والعسكر، يقول أبو محمد المقدسي: "فنقول: نحن نُكفّر هؤلاء الطواغيت وأنصارهم بأدلة شرعية هي عندنا يقينية لا نرتاب بشيء منها ولا نشك، وليس عندنا في ذلك شبهة أو غمة.
لكن خصومنا أو مخالفينا وعوام الناس كذلك، عندهم في ذلك شبهات وأحاديث ظاهرها عندهم التعارض، فغالبهم لا ينكرون كفر الطاغوت وأنصارهم جحداً منهم، لقوله تعالى: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون}، ولا رداً لقوله تعالى: {ومن يتولهم منكم فإنه منهم}، وغير ذلك من النصوص حتى يقال فيهم، قد كفروا، إذ كذبوا الله ورسوله، لأنهم لم يكفروا الكافر الذي كفره الله ورسوله، فهؤلاء في الحقيقة لم يكذبوا الله ورسوله، ولا جحدوا كلام الله أو كلام رسوله صلى الله عليه وسلم، بل هم يترددون أو يتوقفون في تكفير الطواغيت وأنصارهم لأن عندهم نصوصاً ظاهرها -عندهم- التعارض مع النصوص المكفرة... فهؤلاء قد نسميهم، مرجئة، وقد نقول عنهم: جُهال ضلال، وإذا كانوا متبوعين قد نقول عنهم، رؤوس جهال قد ضلوا وأضلوا، ولبّسوا على الناس دينهم... ونحو ذلك، لكن لا نكفرهم بمجرد مخالفتهم لنا في إطلاق اسم الكفر على المذكورين فما دام الخلاف فقط على إطلاق مسمى الكفر ونزع مسمى الإيمان لشبهات عندهم من نصوص الشرع، فنحن لا نكفرهم"الإشراقة في سؤالات سواقة (18)..
ويؤكد أبو قتادة الفلسطيني هذا المعنى فيقول: "هل حكمنا على الطائفة أنها طائفة ردة يستلزم كفر وردة جميع أفرادها عينا، ثم الحكم عليهم بالخلود في جهنم؟. بحث هذه المسألة متشعب والأدلة فيه تحتاج إلى توقف ودراسة، ومن المعيب حقا اتهام من قال بكفرهم عينا أنهم أهل غلو وبدعة أو اتهام الذين يتوقفون في أعيانهم أنهم أهل إرجاء وبدعة، فهذه المسألة من مسائل التصور، ومن المسائل التي يحتمل فيها الخلاف، وهي تعود إلى مسألة إعمال الموانع، موانع التكفير في الطائفة الممتنعة"الجهاد والاجتهاد تأملات في المنهج (59)..
وأما عطية الله الليبي فقد كان من أوضح أصحابه في هذه المسألة، حيث يقول: "مسألة تكفير هؤلاء الحكّام (أعني أعيانهم وأشخاصهم) هي مسألة فتوى وقضاء، مبناها على الاجتهاد، فهي من العلم الذي سبيله النظر والاجتهاد والاستدلال، ولم تصل إلى حد العلم الضروري المقطوع به الذي يكفر المخالف فيه"حوار شبكة الحسبة مع عطية الله الليبي (240).، ويؤكد هذا المعنى في موطن آخر فيقول: "تكفيرنا لهؤلاء الحكام المرتدين هو مسألة من العلم النظري الاستدلالي، هذا هو الأغلب في تكفير حكّام أهل عصرنا، وليست هي مسألة معلومة من الدين بالضرورة مما وقع عليها إجماع المسلمين (كمن أعلن وصرّح بخروجه من الإسلام والكفر به مثلاً، أو ما في قوته كصورة مسيلمة الكذاب) حتى لا تقبل دعوى مخالف جاهل فيها"المرجع السابق (204)..
وأنكر إنكاراً شديداً على عبدالرحمن عبدالعزيز حين ادعى أنها مسألة إجماعية، حيث يقول: "الناس يمكن أن يختلفوا في هذه الأحكام لكن أن يزعم أحد أن قوله (لا سيما قول من يكفّر الجميع بلا استثناء) أنه هو الحق الذي ليس بعده إلا الضلال وأنه أمر مقطوع به معلوم من الدين بالضرورة وأنه موجب التوحيد الذي هو ضد الشرك والكفر وأن مخالفه لم يحقق التوحيد ولم يفهمه ونحو ذلك.. أقول: إن هذا هو الجهل والضلال حقاً، وهو الشيء غير المقبول ممن صدر منه، فإن هذه المسائل هي بلا شك مسائل اجتهادية مبناها على النظر والاستدلال، فهي من العلم المكتسب بالنظر والاستدلال، وليست كل صورها وفروعها مما هو معلوم من الدين بالضرورة، ولذلك نبهنا من قبل.. على الخطأ الكبير الذي وقع فيه صاحب الجامع في طلب العلم الشريف وهو الشيخ عبد القادر بن عبد العزيز -فرّج الله عنه- حين جعل تكفير من أسماهم بـ “أنصار الطواغيت المرتدين” اليوم حُكماً مُجمعاً عليه إجماعاً قطعياً يكفر مخالفه كحكم أتباع مسيلمة الكذاب الذين أجمع الصحابة على تكفيرهم فإن هذا خطأ فاحش وزلة كبيـرة لا بد من استمرار التنبيه عليها والتحذير منها"المرجع السابق (199)..
ومقتضى هذه التقريرات أن تكفير الحكام عند أولئك النفر ليس من الأمور القطعية البينة، وإنما هو من الأمور الاجتهادية الظنية، ولهذا لم يكفّروا كل من خالفهم في ذلك الحكم، وإذا كان الأمر كذلك، فإنه لا يصح الجزم بكفر أعيان من أعانهم ولا من ظاهرهم، لأن ذلك المعين والمظاهر لم يقع في كفر محقق قطعي، فالفعل المكفر في حقه ظني اجتهادي، فكفر الحكومة لديه ولدى المختلفين معه ليس من المكفرات الظاهرة القطعية، وإنما هو من الظنيات، فإذا وقع في إعانة تلك الحكومة فهو في الحقيقة لم يقع فيما هو كفر قطعي ظاهر، فكيف يصح تكفيره بهذا الفعل المحتمل ؟!!
والبحث هنا ليس في حكم المظاهرة والمعاونة للكفار ضد المسلمين، وإنما في تحديد ضابط الكفار الذين تعد معاونتهم كفراً أكبر، فلا شك أن الكفار نوعان: الأول: كفار لا شك في كفرهم ولا ريب، والثاني: كفار كفرهم محل اجتهاد ونظر بين علماء المسلمين.
والاحتمال والتردد في مسألتنا دخل من جهة أن الكفار الذين تعلقت بهم المظاهرة والمناصرة كفرهم ليس قطعياً، وإنما هو اجتهادي ظني، ففعل الجنود والعسكر إذن ليس فعلاً فكفراً قطعياً وإنما هو ظني اجتهادي.
فالتكفير بمثل هذه الحالات الظنية المحتملة مخالف لمنهج العلماء المحققين الذين نصوا على أن المسلم لا يكفر إلا إذا وقع في فعل مكفر قطعي أو فيما هو في حكم القطعي.
وفي التنبيه على ضرورة مراعاة هذا المعنى يقول ابن حزم: "فإن كان هناك محاربا للمسلمين -أي مع الكفار الأصليين- معينا للكفار بخدمة أو كتابة فهو كافر....وليس كذلك من سكن في طاعة أهل الكفر من الغالية ومن جرى مجراهم لأن أرض مصر والقيروان وغيرهما فالإسلام هو الظاهر وولاتهم على كل ذلك لا يجاهرون بالبراءة من الإسلام بل إلى الإسلام ينتمون وإن كانوا في حقيقة أمرهم كفارا"المحلى (11/255)..
• الأمر الرابع: أن تكفير العسكر والجنود في الحكومات الكافرة المنتسبة إلى الإسلام مخالف لطريقة عدد من المحققين من العلماء، ومن أخصهم: ابن تيمية، فإنه قد عُرضت عليه مسألة مشابهة كثيراً لصورة مسألتنا، بل هي متطابقة معها تمام المطابقة، وهي حادثة التتار المشهورة.
وقد كانت تلك الحادثة مشكلة كثيراً على الناس في ذلك الزمن، اختلط الأمر فيها على الناس، ووجه سؤال في شأنها إلى ابن تيمية يبين وجه الإشكال، وقد جاء في ذلك السؤال: "ما تقول السادة الفقهاء أئمة الدين... في هؤلاء التتار الذين يقدمون إلى الشام مرة بعد مرة وتكلموا بالشهادتين وانتسبوا إلى الإسلام ولم يبقوا على الكفر الذي كانوا عليه في أول الأمر فهل يجب قتالهم أم لا؟ وما الحجة على قتالهم؟ وما مذاهب العلماء في ذلك؟ وما حكم من كان معهم ممن يفر إليهم من عسكر المسلمين: الأمراء وغيرهم؟ وما حكم من قد أخرجوه معهم مكرها؟ وما حكم من يكون مع عسكرهم من المنتسبين إلى العلم والفقه والفقر والتصوف ونحو ذلك؟ وما يقال فيمن زعم أنهم مسلمون والمقاتلون لهم مسلمون وكلاهما ظالم فلا يقاتل مع أحدهما. وفي قول من زعم أنهم يقاتلون كما تقاتل البغاة المتأولون؟"المرجع السابق (28/509)..
وأجاب ابن تيمية بجواب طويل بين فيه حال التتار المسؤول عنهم، ثم بين فيها حكم قتالهم وحكم من اشترك معهم في قتال المسلمين.
وتحرير مذهب ابن تيمية في هذه القضية ينبي على مقدمتين:
المقدمة الأولى: موقفه من التتار، والظاهر من كلامه أنه يراهم واقعون في الكفر المخرج من الملة، وصرح في بعض كلامه بكفرهم وكفر رئيسهم جنكيز خان، حيث يقول: "لما ظهرت التتار وأراد بعضهم الدخول في الإسلام، قيل: إن هولاكو أشار عليه بعض من كان معه من الفلاسفة بأن لا يفعل، قال ذاك لسانه عربي ولا تحتاجون إلى شريعته"مجموع الفتاوى (9/248).، قوله هذا فيه التصريح بأنهم لم يكونوا مسلمين، ومما يدل على ذلك من كلامه أيضاً تسميته لهم مشركين وكفار، وفي هذا يقول: "ولذلك لما ظهر المشركون التتار وأهل الكتاب كثر في عبادهم وعلمائهم من صار مع المشركين وأهل الكتاب وارتد عن الإسلام إما باطنا وظاهراً وإما باطناً"المرجع السابق (13/215)..
وأما حال التتار في الزمن الذي سئل عنهم فيه، فقد بين أن رئيسهم ومن معه كانوا متلبسين بالشرك الموجب للخروج من الإسلام، حيث يقول: "أكبر مقدميهم الذين قدموا إلى الشام وهو يخاطب رسل المسلمين ويتقرب إليهم بانّا مسلمون فقال هذان آيتان عظيمتان جاءا من عند الله محمد وجنكسخان فهذا غاية ما يتقرب به أكبر مقدميهم إلى المسلمين أن يسوى بين رسول الله وأكرم الخلق عليه وسيد ولد آدم وخاتم المرسلين وبين ملك كافر مشرك من أعظم المشركين كفرا وفسادا وعدوانا من جنس بختنصر وأمثاله،
وذلك إن اعتقاد هؤلاء التتار كان فى جنكسخان عظيماً فإنهم يعتقدون أنه ابن الله من جنس ما يعتقده النصارى في المسيح ويقولون أن الشمس حبلت أمه وأنها كانت في خيمة فنزلت الشمس من كوة الخيمة فدخلت فيها حتى حبلت... فهذا وأمثاله من مقدميهم كان غايته بعد الإسلام أن يجعل محمداً بمنزلة هذا الملعون ومعلوم أن مسيلمة الكذاب كان أقل ضرراً على المسلمين من هذا وادعى أنه شريك محمد في الرسالة وبهذا استحل الصحابة قتاله وقتال أصحابه المرتدين فكيف بمن كان فيما يظهره من الإسلام يجعل محمداً كجنكسخان"المرجع السابق (28/521)..
ويقول مؤكداً الكلام السابق: "وبالجملة فمذهبهم ودين الإسلام لا يجتمعان ولو أظهروا دين الإسلام الحنيفي الذي بعث رسوله به لاهتدوا وأطاعوا"المرجع السابق (28/552)..
المقدمة الثانية: أن ابن تيمية لم يجعل مجرد مناصرة التتار ومظاهرتهم كفراً مخرجاً من الملة، فلم يحكم على كل عسكرهم المقاتلين معهم بالكفر، فذكر أنه شاهد: "عسكر القوم فرأينا جمهورهم لا يصلون ولم نر في عسكرهم مؤذناً ولا إماماً وقد أخذوا من أموال المسلمين وذراريهم وخربوا من ديارهم مالا يعلمه إلا الله
ولم يكن معهم فى دولتهم إلا من كان من شر الخلق إما زنديق منافق لا يعتقد دين الإسلام فى الباطن وإما من هو من شر أهل البدع كالرافضة والجهمية والإتحادية ونحوهم وأما من هو من أفجر الناس وأفسقهم... بل غاية كثير من المسلمين منهم من أكابر أمرائهم ووزرائهم أن يكون المسلم عندهم كمن يعظمونه من المشركين من اليهود والنصارى"المرجع السابق (28/520).، فصرح هنا بأن بعض عسكرهم مسلم، لكنه ذمه وبين انحرافه عن الجادة.
ويقول في نص مفصل: "وغاية ما يوجد من هؤلاء يكون ملحداً نصيرياً أو إسماعيلياً أو رافضياًَ وخيارهم يكون جهمياً إتحادياً أو نحوه فإنه لا ينضم إليهم طوعاً من المظهرين للاسلام إلا منافق او زنديق او فاسق فاجر ومن أخرجوه معهم مكرهاً فانه يبعث على نيته ونحن علينا ان نقاتل العسكر جميعه اذ لا يتميز المكره من غيره"المرجع السابق (28/535).، ففي هذا التقرير بين أحوال المشتركين معهم، وبين أنه يتحدث عن حال الاختيار وليس عن حال الإكراه.
وذكر في موطن آخر ان عسكر التتار خليط من أصناف مختلفة، فبعضهم من الكفار الأصليين من اليهود والنصارى وغيرهم، وبعضهم من المنتسبين إلى الإسلام -وهم جمهور عسكرهم- ثم بين أنه يجب قتال هؤلاء قتال الطائفة الممتنعة عن بعض شعائر الإسلام، ولم يذكر أنهم يقاتلون على الردة، وذكر أنه يجب قبل قتالهم أن يدعوا إلى ما تركوه من الإسلامانظر: المرجع السابق (28/413-415), و (28/504)..
وهذه التقريرات من ابن تيمية تدل دلالة ظاهرة على أنه لا يجعل مجرد مناصرة التتار ومظاهرتهم وتقوية جانبهم كفراً أكبر، إذ لو كان الأمر كذلك عنده لحكم على كل من عاونهم بالخروج من الإسلامهناك أقوال ربما يشكل ظاهرها على التقرير السابق, انظر في الجواب عنها والتعليق عليها: تحرير مذهب ابن تيمية في حكم الموالاة العملية للكفر, سلطان العميري, بحث منشور في موقع ملتقى أهل الحديث والألوكة, وحوار شبكة الحسبة مع عطية الله الليبي (203)..
وقد أقر عطية الله الليبي بدلالة كلام ابن تيمية على هذا المعنى، فإنه بعد أن ذكر رأيه في عدم تكفير العسكر وتخطئة من كفرهم بإطلاق قال: "وهذا الذي قلته في أفراد جيوش الدول المرتدة، هو تماما نظير قول شيخ الإسلام ابن تيمية في التتار وجنودهم"حوار شبكة الحسبة مع عطية الله الليبي (200).، ثم ذكر أن ابن تيمية "لم يصرح في أي موضع في كلامه المطول عن التتار بتكفير أعيانهم جملة او تكفير كل من انتسب إليهم ودخل في دولتهم"المرجع السابق (201).، وذكر أن "الشيخ في مواضع من بين ما ذكر أصناف عسكرهم: الفقهاء والعباد والفقراء – المتصوفة- وغيرهم وغيرهم، وتلاحظ في كل كلامه عدم تكفير هذه الأصناف لمجرد انتسابهم لعسكر التتار"المرجع السابق (203)..
ولا شك أن قول ابن تيمية في ذاته ليس حجة ملزمة، ولكن القدر المفيد من توضيح هذه التقريرات أن يعلم المقدم على تكفير العسكر بأن قوله يخالفه فيه أحد أكبر المحققين من علماء المسلمين وأحد أعظم من عرف بالغيرة على الدين وجهاد في بيانه جهاداً عظيماً، فاستحضار هذا المعنى يدعو العقلاء إلى الهدوء في الطرح المراجعة الدائمة للأقوال والمواقف.
• الأمر الخامس: أن المناط الذي علقوا به الحكم مناط غير منضبط، بل هو عائم سائل فضفاض، فإنه يقال لهم: ماذا تقصدون بالمظاهرة والمناصرة للحكومات المرتدة؟
فإن قالوا: نقصد به معنى المقاتلة معهم ضد المجاهدين ونصرتهم بالمباشرة باليد، قيل: إن قصر معنى المظاهرة والمناصرة على هذا المعنى تحكم لا مسوغ له، ولا يقوم على دليل صحيح مستقيم، ثم إنه مناقض لما يقرر في كلامهم في مظاهرة الكفار، وأنها ليست مقتصرة على المقاتلة إنما هي شاملة لكل ما فيه تقوية وتعزيز لجانب الكفار ضد المسلمين.
وإن قالوا: نقصد به معنى التقوية والنصرة بأي شكل من الأشكال، قيل: هذا المعنى ليس خاصاً بالعسكر والجنود، بل هو شامل في الحقيقة لكل مؤسسات الدولة: الإعلامية والشرعية والتعليمية وغيرها، فكل هذه المؤسسات تساعد على بقاء حكم الطاغوت، وانتظامها يزيد من تقوية جانبه وتثبيت عرشه، فيلزم على ذلك تكفير كل من يعمل في مؤسسات الدولة، لأن عمله ذلك يتضمن تقوية الطاغوت ومعاونته على البقاء والاستمرار.
ويزداد هذا الأمور وضوحاً مع إدراك طبيعة الدولة الحديثة، فإن الدولة لم تعد نظاماً فردياً منعزلاً مفككاً، وإنما أضحت بناءًا مركباً مترابطاً متكاملاً، تعطل جزء منه يؤدي في كثير من الأحيان إلى سقوط الحكومة وزوالها، وانتظام أي جزء يؤدي إلى تقوية الحكومة واستمرارها في البقاء.
فلو أضرب رجال الإعلام أو رجال التعليم أو رجال المرور أو التجار أو غيرهم عن العمل، وأصروا على ذلك، لتعطلت الحياة في الدولة الحديثة، وأضحى ذلك مسوغاً لزوال الحكومة التي على رأس العمل، وكثير من الحكومات زالت بسبب الإضرابات، فانتظام الناس في تلك القطاعات وغيرها يزيد من تقوية الحكومة ويعينها على البقاء والاستمرار ويعزز جانبها ضد المخالفين لها.
فعلى القول بأن المقصود بالمظاهرة للحكومات معنى التقوية والنصرة بأي شكل من الأشكال، فإنه يلزم أن يكفر كل العاملين في مؤسسات الحكومة، بل يلزم أن يحكم على عموم الشعب المسلم بأنهم واقعون في الكفر الأكبر، لأن سكوتهم وانتظامهم في الحياة يزيد من تقوية الحكومات ويعينها على البقاء والاسمرار، وفساد اللازم دليل على فساد الملزوم وبطلانه.
- وفي ختام هذه الورقة لا بد من التنبيه على أمور مهمة:
الأمر الأول: أن أصل هذه الورقة بحث شامل لمعالجة الغلط في التكفير في عند المعاصرين، فهو مكتوب في سياق مخصوص، اقتضت الحاجة أفراده بالإخراج، وهذا يفسر بعض المواطن التي وقع فيها اختصار واقتضاب.
الأمر الثاني: أن المقصود الأولي من نشر هذه الورقة نقض صور من صور الغلط في قضية من أعظم القضايا الشرعية التي وقع فيه انحراف خطير وجارف عند كثير من الشباب، وإنما ذكر هذا التنبيه لأنه يغلب على الظن أن هناك أناسا سيفسرون لأتباعهم نشر هذه الورقة بتفسيرات سياسية متعددة.
التعليقات
عبدلله (لم يتم التحقق)
اتقوا الله ان ابا بكر قال انه قاتل مانعي الزكاة لأنهم منعوا الزكاة انتم تعلمون الاثر ، لا تحرفوا الدين
إضافة تعليق جديد