رصد كتاب: ظاهرة الغلوّ في التكفير
بسم الله الرحمن الرحيم
إنه عنوان رسالة لطيفة الحجم، تقع في نحو مئة صفحة من القطع الصغير، وهي من إصدار (دار الطباعة والنشر الإسلامية – المركز الإسلامي للدراسات والبحوث).
والمؤلف هو الدكتور يوسف القرضاوي، وهو أكبر من أن يحتاج إلى تعريف، فهو من أكبر علماء هذا العصر، إن لم يكن أكبرهم، جمع بين الإحاطة بالعلوم الإسلامية والتعمق فيها، والممارسة الدعوية والاعتدال في المواقف.
ونلحظ من العنوان أنه يعالج "ظاهرة" أي حالة صار لها ظهور في المجتمع، ولم تعد قاصرة على أفراد قلائل.
كما أن العنوان يدلّ على أن فكرة التكفير نفسها، فكرة سائغة إذا كانت في الحدود المشروعة، لكن الخطورة هي في الغلوّ في التكفير، بحيث يُصدِرُ حكمَ التكفير مَن ليس أهلاً لهذا الإصدار، وبالتالي يقع الحكم على حالاتٍ ما كان ينبغي أن يُحكَم عليها بالكفر.
وحتى يتوضّح مضمون الكتاب يحسُن أن نذكر خلاصة ما يقع تحت كل عنوان من عنوانات فقرات الكتاب.
ففي المقدمة يذكر أن من دواعي ظاهرة الغلو هذه هو المعاملة الوحشية التي عومل بها السجناء (في مصر وغيرها) مما لا يتفق مع دين ولا خُلُق ولا قانون ولا إنسانية؛ فقد صُبّ عليهم من ألوان القهر والإذلال والتنكيل ما لا يكاد يتحمله بشر، مع أنهم لم يقترفوا ذنباً إلا أن يقولوا: ربنا الله، بينما الفجّار والملاحدة طلقاء أحرار لا يحاسبهم أحد، بل هم يهيمنون على وسائل الإعلام والتوجيه، وينشرون الكفر والفسوق والعصيان، بل إن الذين يعذّبون المؤمنين أناس لا دين لهم ولا تقوى، وقد ظهر على لسان بعضهم كلمات تصل به إلى الكفر البواح.
وقد أدرك الإمام حسن الهضيبي خطورة إطلاق حكم التكفير من غير بيّنة حتى أطلق عبارته المشهورة: نحن دعاة لا قضاة، والداعية لا يعمل على عقوبة المخطئ، بل يعمل على هدايته، بينما القاضي يبحث عن ثبوت التهمة وإيقاع العقوبة.
إن الغلو انتهى بالشباب المخلصين الغيورين على دينهم، إلى تكفير من خالفهم من المسلمين، وهذا كالذي انتهى بالخوارج قديماً حتى إنهم استحلّوا دم أمير المؤمنين علي رضي الله عنه!
ولم يكن ينقصهم العمل أو التعبد، فقد كانوا صُوّاماً قُوّاماً، قًرّاء للقرآن، باذلين النفس في سبيل الله... مع ذلك صح الحديث في ذمهم، ففي الصحيحين وفي مسند أحمد: (يحقر أحدُكم صلاتَه إلى صلاتهم ... يمرُقون من الدين كما يمرق السهم من الرميّة ... يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم).
ومع هذا لا بد من بيان أن الصحافة تناولت الموضوع تناولاً غير سليم، يقوم على التهويل والمبالغة والخروج عن الموضوعية وعن الأدب أحياناً، فهي تصف هؤلاء الشباب بالشعوذة والدجل، وتتهجّم على بعض المظاهر الدينية التي حرَصوا عليها وينبغي أن تُحمد لهم مثل إطلاق اللحى وتحجّب النساء ... وتتهمهم بالعمالة لدول أخرى.
وتحت عنوان "ظاهرة تحتاج إلى دراسةٍ لأسبابها" يقول المؤلف ما خلاصته:
إن ظاهرة الغلوّ في التكفير تحتاج إلى دراسة لأسبابها وعواملها حتى نستطيع علاجها على بصيرة. أما الذين يفكرون في علاجها بالقمع والاضطهاد ... فهم مخطئون: أولاً، لأن الفكرة لا تقاوم إلا بالفكرة، واستخدام العنف وحده في مقاومتها يزيدها توسّعاً، وثانياً لأن دعاة الغلو هؤلاء أناس متدينون مخلصون غيورون ... قد هزّهم ما يرونه في المجتمع من ردّة فكرية، وتحلل خلقي ... فهم طلاب إصلاح وهداية وإن أخطؤوا الطريق، فينبغي أن نقدّر دوافعهم الطيبة، ولا نصوّرهم سباعاً ذات أنياب.
وفي دراسة أسباب هذه الظاهرة نجد:
- انتشار الكفر والردّة الحقيقية جهرة، واستطالة أصحابها وتبجّحهم بباطلهم ونشره في أجهزة الإعلام.
- تساهل بعض العلماء في شأن هؤلاء الكفرة.
- اضطهاد دعاة الإسلام.
- قلة بضاعة هؤلاء الشبان الغيورين من فقه الإسلام وأصوله، وبذلك يفهمون بعض النصوص فهماً قاصراً. والعامل على غير علم يُفسِد أكثر مما يُصلح.
تكفير من يستحق التكفير
وكما لا يجوز تكفير الناس بلا ضوابط، يجب تكفير من يجاهرون بالكفر ويحاربون الدين، أو يرفضون جهرة شرع الله، وإذا دُعوا إلى حكم الله ورسوله أبَوا وامتنعوا، وكذلك الذين ينتمون إلى الفِرَق التي قال الإمام الغزالي عن أصحابها: "إن ظاهرهم الرفض، وباطنهم الكفر المحض"، وقال عنهم الإمام ابن تيمية: "إنهم أكفر من اليهود والنصارى".
وهنا لا بد من تقرير قاعدة مهمة، وهي وجوب التفرقة بين النوع والشخص المعين، فنقول مطمئنين: من اعتقد كذا أو فعل كذا (من المكفرات) فهو كافر، ولكن لا نحكم على فرد بعينه بالكفر إلا بعد التثبت من أنه يعتقد ذلك الاعتقاد، أو يفعل ذلك الفعل بإرادته، وذلك لأن الحكم على فرد بعينه أنه كفر تترتب عليه آثار خطيرة.
الاحتكام إلى دين الله
يقول الله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}[النساء: 65]. فإذا ثبت بنص قطعيّ الثبوت والدلالة حكمٌ من الأحكام فلا يبقى مسلماً من يرفض هذا الحكم أو يستخفّ به.
أما ارتكاب الذنوب من صغائر أو كبائر فإنه لا يُخرج من الإسلام، وإنما يجعل صاحبه ظالماً أو فاسقاً، وهو مَدْعُوّ إلى الاستغفار والتوبة: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا}[النساء: 116].
بل إن بعض الذنوب قد جاء وصفها بالكفر، والمراد بهذا الوصف أنها كفر أصغر، وليست كفراً يُخرج من الملّة، ومثال ذلك ما جاء في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي ذر: (إنّك امرؤ فيك جاهلية)، وفي الصحيح أيضاً: (من مات ولم يغزُ ولم يحدّث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق).
نعم تتفاوت درجات الإيمان والتقوى ويبقى صاحبها في دائرة الإيمان ما لم يأتِ شيئاً من المكفرات التي تُخرج من الإسلام كلية.
وقد ذكر الله تعالى أن من عباده الذين اصطفاهم من هو ظالم لنفسه، ومن هو مقتصد، ومن هو سابق بالخيرات.
* * *
وبهذا نعلم أن الغلو في التكفير ظاهرة خطيرة تدل على جهل وغرور، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إياكم والغلو، فإنما أهلكَ من كان قبلكم الغلوّ).
ومع هذا لا يجوز لنا أن نكفّر هؤلاء الغلاة فنكون مثلهم، والثابت عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أنه قاتل الخوارج، وهم الذين غالَوا بالتكفير، ولم يكفّرهم، ولم يبدأهم بقتال، ولما قيل له: أهم كفار؟ قال: من الكفر فرّوا.
لذلك –يقول الدكتور القرضاوي- أُصِرُّ على القول بأنهم إخواننا، على الرغم من غلوّهم وانحرافهم عن جادة الصواب، وأعلمُ أن عدداً منهم تبيّن له الحق فرجع غير مبال بالتهديد، وأعلمُ أن هذه الظاهرة كانت نتيجة لخلوّ الميدان من حركة إسلامية واعية ناضجة تعمل في النور جهرة.
إضافة تعليق جديد