التكفير بالمشاركة في المجالس البرلمانية، قراءة نقدية في استدلالات المقدسي والفلسطيني وغيرهما
ذهب عدد ممن حكم على الديمقراطية بالكفر إلى أن الدخول في البرلمانات التشريعية كفر أكبر، وأن المشاركات فيها بالترشح أو بالانتخاب من عموم المسلمين واقع في الشرك الأكبر.
وفي بيان هذا المعنى يقول أبو محمد المقدسي، بعد أن أطال جداً في إثبات أن البرلمانات الديمقراطية مشتملة على الشرك والتشريع من دون الله، وأنها مبنية على الاحتكام إلى الطواغيت: "إذا عرفت هذا كله، سهل عليك بعد هذا كله معرفة حكم المشاركة فيها ترشيحاً وانتخاباً .. فحقيقة المترشح فيها أنه طاغوت يسعى إلى أن يشارك الله تعالى بالتشريع .. فهذه هي الوظيفة الأولى والرئيسية، التي يسعى للفوز بها في الانتخابات: (التشريع المطلق) من خلال نصوص الدستور، فهو بمعنى آخر: يطلب من الناس أن يُنيطوا به سلطة التشريع وأن يصرفوا له هذه العبادة .. فيختاروه كي يشرّع لهم وفقاً لنصوص الدستور ... فمن انتخب وتابع إماماً من هؤلاء الأئمة المضلين المشرعين مُنيطاً به التشريع، فإنما يختار في الحقيقة رباً ليشرع له وفق أحكام الدستور، قد أشركه مع الله تعالى في العبادة..."الجواب المفيد بأن المشاركة في البرلمان وانتخاباته مناقضة للتوحيد، ص (17).
ثم أورد على نفسه سؤالاً قال فيه: "هل يكفر من شارك في هذه الانتخابات ترشيحاً وانتخاباً، ولا يعذر بجهل أو غير ذلك من موانع التكفير .. أم أن هناك تفصيلاً ؟
فنقول: أما المترشّح، المباشر للنيابة عن الشعب في التشريع .. فقد تقدم أنه الطاغوت والرب الذي اختاره من اختاره من الناس، ليصرفوا له عبادة التشريع .. ليشرع لهم من الدين ما لم يأذن به الله. فهو مشرك كافر عندنا، ولو لم يفز بالانتخابات، ولو لم يباشر التشريع فعلاً .. ما دام قد ارتضى بهذه الوظيفة الكفرية، وسعى إليها ودان بهذا الدين الشركي الذي ينيط التشريع بغير الله ... ودعا إليه، وحشد الناس والطاقات جاهداً ليحرز مقعداً في مجلسه فهو حين لم يحرزه .. وخاب في انتخاباته، لم يتركه كفراً بهذا الدين ولا براءة من الدستور ولا اجتناباً للطاغوت أو تحقيقاً للتوحيد ... بل أضلّ من تابعوه وناصروه وأعانوه، وحرضهم على الشرك، ودعاهم إلى اختياره رباً ومشرعاً وكان حريصاً على ذلك...
أما المنتخِب (بكسر الخاء): فقد علمت أن حقيقة ما يقوم به حين يدين بهذا الدين الشركي، أنه يختار مشرّعاً (رَبّاً) من أولئك الأرباب المتفرقين!! لينيط به التشريع، وينيبه عنه في هذه الوظيفة الشركية"المرجع السابق ص (19).
فالنتيجة التي انتهى إليها المقدسي أن كل من يشارك في البرلمان، سواء على جهة الترشح أو على جهة الانتخاب فهو مشرك كافر، وله فتوى أخرى استثنى فيها بعض المنتسبين إلى الجماعات الإسلامية من المعارضين للحكومات فصرح باعتذارهم بالتأويل والجهل.
ويقول أبو بصير الطرطوسي بعد أن تحدث طويلاً عن مزالق العمل النيابي في الديمقراطية: "إن العمل النيابي -للمزالق العقدية والشرعية التي لا يمكن تفاديها- هو كفر بواح بدين الله تعالى، ولا يجوز القول بخلاف ذلك"حكم الإسلام في الديمقراطية والتعددية الحزبية ص (171).
فأبو بصير يتفق مع أبي محمد المقدسي في الحكم بأن الاشتراك في البرلمانات يوجب الشرك الأكبر، إلا أنه يختلف عنه في الإعذار بالجهل وغلبة الشبهة فيها.
وممن انتهى إلى أن الدخول في البرلمانات شرك أكبر في كل الأحوال: أبو قتادة الفلسطيني، فإنه بعد أن قرر أن البرلمانات الديمقراطية قائمة على التشريع من دون الله وأن المشرعّ فيها الشعب قال: "فهل يجوز للمسلم أن يدخله بنية أخرى تخالف حقيقته؟ وبمعنى أوضح: لو قال رجل مسلم: أنا أعرف حقيقة البرلمان والديمقراطية، وأنهما كفر وشرك، ولكن لا أتعامل مع البرلمان من وجهة نظر أهله له ولكن أتعامل معه من وجهة نظري أنا، فأنا لا أوافق على العلاقة التضامنية فيه، وأنا فقط أريد أن أبلغ كلمة الحق فيه وعلى منبره، وأريد أن أقلل الشر في التشريع الوضعي، وأريد.. وأريد..! فهل لهذه الأقوال اعتبار؟ وبمعنى أكثر وضوحاً: هل فتوى ابن باز-رحمه الله تعالى-في جواز الدخول في البرلمان إذا كانت نية الداخل في الإصلاح وتبليغ الشريعة صحيحة أم باطلة؟ نقول: إن هذه النيات لا قيمة لها، ولا أهمية لها في تغيير التوصيف الشرعي لهذه العملية ولا للقائم بها وعليها"الجهاد والاجتهاد تأملات في المنهج (83).
وأما سيد إمام فإنه بعد أن قرر بأن الديمقراطية شرك أكبر تقوم على تأليه الإنسان، صرّح بأن كل من شارك في برلماناتها، سواء على جهة الانتخاب أو الترشيح، فقد وقع في الشرك الأكبر، حيث يقول: "وإذا كان الشعب صاحب السيادة -في الديمقراطية- يمارس سيادته بواسطة نوابه في البرلمان، فإن كلا الفريقين واقع في الكفر: نواب البرلمانات ومن ينتخبونهم من الشعب لهذه المناصب.
أما نواب البرلمان فسبب كفرهم هو أنهم هم أصحاب السيادة الفعلية فهم المشرِّعون للناس من دون الله سواء بوضع القوانين أو بإجازتها والموافقة عليها... ومَن كان مِن هؤلاء النواب راضياً بهذه الوظيفة الشركية للبرلمانات أو مشاركاً فيها فهذا كفره ظاهر لاشك فيه، أما من يدّعي من النواب أنه غير راضٍ عن ذلك وأنه ما دخل إلا للدعوة والإصلاح فهو كافر أيضاً، وقوله هذا ما هو إلا حيلة يخدع بها العوام والجهّال، وتقيّة يدرأ بها عن نفسه، أما سبب كفره فهو أن دخوله هذه البرلمانات إقرار منه بشرعية عملها -وهو التحاكم لآراء البشر- والتزام منه بمبادئها وبمبادئ الدستور الذي قامت بموجبه، وهذا كله تحاكُم طَوْعي منه للطاغوت يكفر فاعله ...
أما الذين ينتخبونهم من أفراد الشعب فيكفرون أيضاً، لأنه بموجب الديمقراطية النيابية فإن الناخبين هم في الحقيقة إنما يوكّلون النواب في ممارسة السيادة الشركية -التشريع من دون الله- نيابة عنهم، فالناخبون يمنحون النواب حق ممارسة الشرك، وينصبونهم -بانتخابهم- أرباباً مشرّعين من دون الله"الجامع في طلب العلم الشرعي (140).
فهؤلاء جميعاً اتفقوا على أن مجرد الدخول في المجالس التشريعية ومطلق المشاركة فيها فعل موجب للشرك الأكبر في كل صوره، وإنما اختلفوا في حكم أعيان الداخلين فيها، فمنهم من جزم بكفرهم ولم يعذرهم بجهل أو غيره كالمقدسي وسيد إمام، ومنهم من لم يكفرهم وصرّح بإعذارهم كأبي بصير والفلسطيني.
وقبل الدخول في مناقشة هذه الأحكام لا بد من التأكيد -أولاً- على أن محل البحث ليس في حكم التشريع من دون الله، ولا في حكم الدخول البرلمانات الديمقراطية التي تعطي حق التشريع المطلق للناس، ولا في الإقرار بكونها متضمنة للشرك الأكبر المخرج من الملة، فكل هذه الأمور واقعة فيها بوضوح، ولا يشك عاقل عارف بأن مثل تلك البرلمانات متضمنة للشرك بالله، ومتلبسة بركام كبير من مناقضة شريعة الله تعالى.
وليس محل البحث أيضاً في حكم الاشتراك في البرلمانات من حيث الإباحة والتحريم، ولا من حيث المصلحة والمفسدة، فهذه مناطات أخرى مختلفة عن مناطات التكفير وعدمه.
وليس محل البحث أيضاً في حكم أعيان المشاركين في تلك المجالس هل هم معذورون بالجهل والتأويل أم لا؟
وإنما محله منحصر في قضية واحدة محددة هي: هل المشاركة في تلك البرلمانات توجب الوقوع في الشرك الأكبر في كل الأحوال أم لا؟ وهل كل من اشترك فيها -ناخباً أو مترشّحاً - واقع بالضرورة في الشرك الأكبر لا ينفك عنه أم لا ؟
وأفضل طريقة في مناقشة القول المكفّر بدخول البرلمانات تحرير الأساس الكلي الذي يقوم عليها ذلك القول، وبعد تحليل مقولات أصحاب ذلك القول تبيّن أن لهم أساسين كليين أقاموا عليهما قولهم ذلك:
- الأساس الأول: أن المشاركة في البرلمانات – ترشحاً وانتخاباً- يتضمن الوقوع في التشريع من دون الله أو الرضا بأصل المبدأ الكفري الذي قامت عليه تلك البرلمانات
ومعنى هذا الأساس: أن مجرّد القبول بالمشاركة في البرلمان الديمقراطي يعني أن المشارك واقع بالضرورة في التشريع من دون الله أو راضٍ بأن يكون التشريع راجعاً إلى الشعب من دون الله تعالى، ومعترف بأنه يحق للبشر أن يشرّعوا من دون الله تعالى، ومقرّ بأن الأحكام تبنى على الأكثرية ولو ناقضت النص الشرعي، فكل من شارك في البرلمانات فلا بدّ أن يكون ممارساً للشرك أو راضياً به أو مؤيداً له.
ولكن الاعتماد على هذا الأساس في التكفير بالمشاركة في البرلمانات غير صحيح، وهو مخالف للواقع والحال، بل هو في الحقيقة متضمن لخلل منهجي في مسالك التكفير، لكونه يعتمد على التساهل في التكفير بالمحتملات والتجاوز للقرائن والأدلة الدالة على عدم الوقوع في المكفر من المعينين، ويتبيّن ذلك بالأمور التالية:
الأمر الأول:
أن متعلق التكفير بالمشاركة في البرلمانات يرجع إلى التشريع من دون الله، ومناطات التكفير في هذه القضية ثلاثة: الأول: الوقوع المباشر في التشريع ذاته، والثاني: تأييده من غير وقوع مباشر فيه، والثالث: الرضا به وقبوله من غير إظهار التأييد.
ونحن لا ننكر أن هذه المناطات قد تجتمع في صنع من الناس ممن يعلن بأنه راض بتلك البرلمانات وأنه يراها مشروعة ومقبولة، ولكن هناك قدراً كبيراً من علماء المسلمين ومفكريهم ومن العاملين للإسلام ليسوا كذلك، فكل هذه المناطات منتفية في حق المسلم المضطر للمشارك في البرلمانات الديمقراطية، بل هو يصرّح بإنكارها والتبريء منها،
أما المناط الأول، فكل من أباح الدخول فيها يصرح بأنه لا يمارس التشريع من دون الله وأنه إنما جاء لإنكاره، وكذلك يصرح بأنه إنما جاء لإظهار المعارضة له والتصدي لتمريره بكل ما أوتي من قوة، وكذلك يؤكد بأنه لا يرضى به ولا يقبله، ولكنه إنما دخل فيها لأجل تخليص الأمة مما فُرض عليها من الكفر إلا بهذا الطريق، فهو إنما دخل فيها من باب الاضطرار وليس من باب الاختيار .
فصورة المسألة الصحيحة المطابقة للواقع: أن كثيراً من المسلمين دخل تلك المجالس التشريعية المفروضة على الأمة بالقوة ليقوم بمعارضة ما يناقض شريعة الله مما يطرحه العلمانيون، ويسعون إلى إيضاح حكم الله في القضايا المطروحة في المجلس للتصويت، فاشتراكهم في البرلمان وجلوسهم فيه لا لإقرارهم بما في من شرك وكفر، وإنما لأجل إنكار ذلك ومعارضته وتقليل فساده بما يستطيعون من قوة وبيان حقيقة شرع الله.
فهو لم ينشئ تلك المجالس، ولم يعط حق التشريع لأحد من البشر ولا يقرّ بذلك أبداً، ولا يمارس التشريع من دون الله، ولا يسلّم بالأحكام المناقضة لحكم الله، ولا يصوّت عليها ولا يسكت عنها ولا يؤيدها، وإنما يعلي صوته مخالفةً لها واعتراضاً عليها.
فكل المناطات التي يكفر بها في التشريع من دون الله منتفية في حق المشارك في البرلمانات من المسلمين، فكيف يصحّ مع ذلك أن يقال: إنه واقع في فعل يوجب التلبس بالشرك الأكبر؟!!
إن الصورة التي حكم عليها أولئك بالشرك تتحصل في حال شخص يقول: أنا مؤمن بالشريعة، ومنكر لأحقية غير الله في التشريع، والموجود مخالف للشرع، وأنا سأصوّت ضد أي قرار مخالف للشريعة، وسأسعى بكل ما أملك للتضييق على كل ما يخالف الشرع وتوسيع كل ما يوافقه، ويكتب ويؤلف ويخطب، وبعد هذا كله يقال فيه: هو واقع في الشرك أو مشرك لأنه واقع في التشريع من دون الله أو هو راضٍ بحكم غير الشريعة أو مؤيد له!!
لا جرم أن الانفكاك بين الدخول في المجالس البرلمانية وبين التلبس بالشرك الأكبر أمر ممكن، بل واقع ظاهر الوقوع، وجميع من أباح الدخول في تلك المجالس نبّه على هذا المعنى وبينه وأكّد على أنه معتبر عنده وأساس لفعله.
فتحرير القول في حكم المشاركة في البرلمانات لا بد فيه من التفصيل والتفريق:
فيقال: إن كان الدخول فيها مع الإقرار بما قامت عليه أو الوقوع فيما يطرح فيها من التشريع من دون الله، فهو شرك أكبر مخرج من الملة.
وإن كان الدخول فيها لأجل الاضطرار ومع الإنكار لما قامت عليه من التشريع من دون الله، وعدم الوقوع في ذلك، والسعي إلى معارضته والتصدي له، فهو ليس شركاً أكبر، ثم يبقى البحث بعد ذلك في تحديد حكمه من جهة الإباحة والتحريم والمصلحة والمفسدة.
وهذا المعنى -أن التقسيم والتفريق في حكم المشاركة في البرلمان، والتأكيد على أنه لا تلازم بين المشاركة في البرلمانات وبين الوقوع في الشرك- هو الذي تدل عليه فتاوى عدد من العلماء المعاصرين، فقد سئلت اللجنة الدائمة، فقيل في السؤال: "هل يجوز التصويت في الانتخابات والترشيح لها؟ مع العلم أن بلادنا تحكم بغير ما أنزل الله؟، فأجابوا :"لا يجوز للمسلم أن يرشح نفسه رجاء أن ينتظم في سلك حكومة تحكم بغير ما أنزل الله، وتعمل بغير شريعة الإسلام، فلا يجوز لمسلم أن ينتخبه أو غيره ممن يعملون في هذه الحكومة، إلا إذا كان من رشح نفسه من المسلمين ومن ينتخبون يرجون بالدخول في ذلك أن يصلوا بذلك إلى تحويل الحكم إلى العمل بشريعة الإسلام، واتخذوا ذلك وسيلة إلى التغلب على نظام الحكم، على ألا يعمل من رشح نفسه بعد تمام الدخول إلا في مناصب لا تتنافى مع الشريعة الإسلامية"فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في المملكة العربية السعودية (23/406).
وقد سئل الشيخ عبدالعزيز بن باز عن شرعية الترشيح لمجلس الشعب وحكم الإسلام في استخراج بطاقة انتخابات بنيّة انتخاب الدعاة والإخوة المتدينين لدخول المجلس، فأجاب رحمه الله قائلاً: "إن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى) متفق عليه. فلا حرج في الالتحاق بمجلس الشعب (البرلمان) إذا كان المقصود من ذلك تأييد الحق وعدم الموافقة على الباطل لما في ذلك من نصر الحق والانضمام إلى الدعاة إلى الله، كما أنه لا حرج كذلك في استخراج البطاقة التي يستعان بها على انتخاب الدعاة الصالحين وتأييد الحق وأهله"نقلها مناع القطان عن مجلة لواء الإسلام في كتابه: معوقات تطبيق الشريعة (166).
ومعنى كلام الشيخ عبدالعزيز ابن باز: أن حكم المشاركة في البرلمانات يختلف باختلاف النية، فإن كان شارك فيها بنيّة الموافقة لما هي عليه من الشرك بالله فهي محرمة، وإن كان شارك فيها بنية معارضتها والتصدي لما فيه من شرك وتقليل حجمه فهو مباح.
وقد فهم بعض المعاصرين أن ابن باز يرى أن المعصية أو الشرك تنقلب بالنية الصالحة إلى طاعة وقربة، فأخذ يشنّع عليه وينكر، وهو فهم خاطئ، لم يقل به الشيخ ولا غيره، فالشيخ لا يقول: إن الدخول إلى البرلمان شرك في كل الأحوال ولكنه بالنية الصالحة يتحول إلى مباح، وإنما يقول: إن الدخول في البرلمان يختلف باختلاف الأحوال، فإن دخله على جهة التأييد والموافقة فهو شرك، وإن دخله على جهة الإنكار والمعارضة فهو ليس كفراً.
وسئل الشيخ محمد العثيمين: ما حكم الانتخابات الموجودة عندنا في الكويت، علماً بأن أغلب من دخلها من الإسلاميين ورجال الدعوة فُتنوا في دينهم؟ فقال: "أرى أن الانتخابات واجبة، يجب أن نعيّن من نرى أن فيه خيراً، لأنه إذا تقاعس أهل الخير من يحل محلهم؟ أهل الشر؟ أو الناس السلبيون الذين ليس عندهم لا خير ولا شر، أتباع كل ناعق؟ فلابد أن نختار من نراه صالحاً، فإذا قال قائل: اخترنا واحداً لكنّ أغلب المجلس على خلاف ذلك، نقول: لا بأس، هذا الواحد إذا جعل الله فيه بركة، وألقى كلمة حق في هذا المجلس سيكون لها تأثير ولابد، ولكن ينقصنا الصدق مع الله، نعتمد على الأمور المادية الحسية، ولا ننظر إلى كلمة الله عز وجل....فأقول: حتى لو فرض أن مجلس البرلمان ليس فيه إلا عدد قليل من أهل الحق و الصواب سينفعون، لكن عليهم أن يصدقوا الله عز وجل"هذه الفتوى مشهورة جداً في الشبكة ولها روابط كثيرة جداً.
وممن يدل كلامه على أنه لا تلازم بين المشاركة في البرلمانات وبين الوقوع في الشرك: أحمد شاكر، فإنه من أكثر العلماء المعاصرين الذين تصدّوا للتشريع من دون الله، وحكم عليه بكونه شركاً أكبر مخرجاً من الملّة، وشنّع عليه غاية التشنيع، ومع ذلك فإنه من أشهر العلماء الذين أباحوا المشاركة في البرلمانات، حيث يقول: "وإذ ذاك سيكون السبيل إلى ما نبغي من نصر الشريعة: السبيل الدستوري السلمي، أن نبث في الأمة دعوتنا، ونجاهد فيها ونجاهر بها، ثم نصاولكم عليها في الانتخاب، ونحتكم فيها إلى الأمة، ولئن فشلنا مرة فسنفوز مراراً، بل سنجعل من إخفاقنا إن أخفقنا في أول أمرنا مقدمة لنجاحنا بما سيحفز من الهمم، ويوقظ من العزم، وبأنه سيكون مبصِّراً لنا مواقع خطونا، ومواضع خطئنا، وبأن عملنا سيكون خالصاً لله وفي سبيل الله، فإذا وثقت الأمة بنا، ورضيت عن دعوتنا، واختارت أن تحكم بشريعتها طاعةً لربها، وأرسلت منا نُوَّابها إلى البرلمان، فسيكون سبيلنا وإياكم أن نرضى وأن ترضَوا بما يقضي به الدستور، فتلقوا إلينا مقاليد الحكم، كما تفعل الأحزاب، إذا فاز أحدُها في الانتخاب، ثم نفي لقومنا -إن شاء الله- بما وعدنا، من جعل القوانين كلها مستمدةً من الكتاب والسنَّة"الكتاب والسنة يجب أن يكونا مصدر التشريع في مصر، ص (40).
ومحصّل ما تدل عليه هذه الفتاوى: أنه لا تلازم بين المشاركة في البرلمانات وبين الوقوع في الشرك، وأن الدخول فيها يختلف حكمه باختلاف نية الداخل، فإن كان الدخول فيها على جهة الموافقة والتأييد لما فيها من شرك بالله فهو شرك أكبر، وإن كان الدخول فيها على جهة الإنكار لما فيها والمعارضة له مع عدم الوقوع المباشر في التشريع فهو ليس شركاً أكبر.
وهذا يدل على أن المشاركة في البرلمانات التشريعية من الأفعال المحتملة التي لا يصح إطلاق التكفير بالوقوع فيها وإنما لا بد فيه من التفصيل والتفريق، ولكنّ المكفّرين بالمشاركة فيها لم يلتزموا بذلك فوقعوا في الغلط الظاهر.
وهذا القول هو الذي يتخرّج من تأصيل ابن تيمية واستدلالاته، حيث يقول: "لو كانت الولاية غير واجبة، وهي مشتملة على ظلم، ومن تولاها أقام الظلم حتى تولاها شخص قَصْده بذلك تخفيف الظلم فيها ودفع أكثره باحتمال أيسره، كان ذلك حسناً مع هذه النية، وكان فعله لما يفعله من السيئة بنية دفع ما هو أشد منها جيداً. وهذا باب يختلف باختلاف النيات والمقاصد، فمن طلب منه ظالم قادر وألزمه مالاً فتوسط رجل بينهما ليدفع عن المظلوم كثرة الظلم وأخذ منه وأعطى الظالم مع اختياره أن لا يظلم ودفعه ذلك لو أمكن كان محسناً، ولو توسط إعانة للظالم كان مسيئاً، وإنما الغالب في هذه الأشياء فسادُ النية والعمل، أما النية فبقصده السلطان والمال، وأما العمل فبفعل المحرمات وبترك الواجبات، لا لأجل التعارض ولا لقصد الأنفع والأصلح. ثم الولاية وإن كانت جائزة أو مستحبة أو واجبة فقد يكون في حق الرجل المعيّن غيرها أوجب أو أحب، فيقدم حينئذ خير الخيرين وجوباً تارة واستحباباً أخرى.
ومن هذا الباب تولى يوسف الصديق على خزائن الأرض لملك مصر، بل ومسألته أن يجعله على خزائن الأرض وكان هو وقومه كفاراً ... ومعلومٌ أنه مع كفرهم لا بد أن يكون لهم عادة وسنّة في قبض الأموال وصرفها على حاشية الملك وأهل بيته وجنده ورعيته، ولا تكون تلك جارية على سنة الأنبياء وعدلهم، ولم يكن يوسف يمكنه أن يفعل كل ما يريد وهو ما يراه من دين الله، فإن القوم لم يستجيبوا له، لكن فعل الممكن من العدل والإحسان ونال بالسلطان من إكرام المؤمنين من أهل بيته ما لم يكن يمكن أن يناله بدون ذلك"مجموع الفتاوى (20/55-56).
ومقتضى هذا البناء: أن المسلم لو اشترك في منظومة مركّبة مبنية على مخالفة شريعة الله ومتضمنة للكفر والشرك، وقصد بذلك الاشتراك مناقضة ما يخالف أمر الله وتقليله ونشر الحق أن عمله ذلك مباحاً، لا يعد وقوعاً في الشرك ولا تأييداً له ولا رضىً به، وهذا هو المعنى الذي يقصده من أباح الدخول إلى البرلمانات من علماء المسلمين المعاصرين.
الأمر الثاني:
أن المكفّرين بالدخول في البرلمانات من غير تفصيل وقعوا في خلل منهجي ظاهر، وهو أنهم قدّموا المعنى الأضعف على المعاني الأقوى، فقد اعتمدوا على المعاني التي فهموها من أقوال المخالفين لهم، وأعرضوا عن نصوصهم الصريحة التي كشفوا بها عن مقاصدهم ومرادهم.
فإن كل المشتركين صرّحوا بأنهم منكرون للمبدأ الشركي الذي قامت عليه تلك البرلمانات، وأنهم إنما دخلوها مضطرين لأجل إنكار ما فيها ومعارضته وتسهيل الطريق المؤدية إلى تطبيق الشريعة، وفي بيان هذا المعنى يقول مصطفى مشهور، مرشد الإخوان المسلمين السابق: "نحب أن نوضح أننا حينما نسعى لتطبيق شريعة الله لا يعنى أننا نقرّ أخذ رأى أعضاء مجلس الشعب على شريعة الله وعلى مدى صلاحيتها للتطبيق، ولا يجوز أن يدور ذلك بخلد أحد من الناس، إذ لا يجوز في حق الله أن نأخذ رأى خلقه في شرعه على الإطلاق لأننا نعتقد أن شريعة الله جاءت لتُطبّق، والحاكم عليه أن يلتزم بها، وأهل الرأي والشورى يحاسِبون الحاكم على تطبيقها على الوجه الصحيح، وإذا كان ثمة حوار أو رأي فيكون حول طريقة التطبيق وما يستلزمه من إجراءات أو مؤسسات.
كما أننا لا نقرّ أن من حق مجلس الشعب أن يقرر قوانين تخالف الأصول الشرعية أو أن يشرع بجانب تشريع الله، ولا يعنى أيضاً دخولنا مجلس الشعب موافقتنا على كل مواد الدستور وعلى كل القوانين القائمة، ولكننا نرفض كل مادة في الدستور تخالف شرع الله ولا نقر أي قانون مخالف لتشريع الله، ونسعى لإلغاء كل هذه المواد والقوانين المخالفة لتحل الشريعة كاملة محلها"الإخوان تحت قبة البرلمان، نسخة وورد http://www.ikhwanwiki.com/index.php?title=%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%AE%D9%88...
أما الشيخ محمد عبد الله الخطيب فيجيب على التساؤل الذي يردده البعض بقصد عزل الإسلام عن الساحة فيقول: "من الشُبه التي يرددها البعض أن المشاركة في الانتخابات سواء عن طريق إعطاء الأصوات أو الترشيح كفرٌ، لأنه اتباع للنظام القائم الذي يحكم بغير ما أنزل الله، ومن ثم فهو عين الرضا به ... فهل الذي يرشح نفسه وكل أمله ونيته وهدفه وعمله أن يطالب المجالس التشريعية وغيرها بالاحتكام إلى شريعة الله، ويجاهد ما استطاع في إقامة الحجة عليهم وتبليغهم هذا الصوت الإسلامي؟ هل مثل هذا أعطى حق التشريع لغير الله أم العكس هو الصحيح؟ وهل كل من أعطى صوته في الانتخابات للنائب الذي هذه صفته يعد مستحلاً للحرام؟ رغم أنه ما انتخبه ولا تقدم للانتخابات إلا للمطالبة بتحكيم كتاب الله؟"المرجع السابق.
ويصوّر صلاح أبو إسماعيل حقيقة دخولهم في البرلمانات ودوافعها فيقول: "دعاة الإسلام ينظرون في الظروف المحيطة بهم ليتبينوا طريقهم إلى غايتهم في تطبيق شريعة الله وإعلاء كلمته، وفى مصر الآن ظروف متسلطة على حرية المنابر داخل المساجد ... ولم يكن أمام الإخوان لتطبيق الشريعة الإسلامية بعد أن تم تقنينها إلا أن يحشدوا أصواتهم في السلطة المعبرة عن شعب مصر قاهر التتار والهكسوس ومبيد الصليبية الأثيمة ومحتضن الأزهر الشريف، حتى تتكون منها الغالبية اليوم ... ليباشر الإخوان واجبهم في القناة التشريعية، باذلين قصارى الجهد وغاية الطاقة، فإن أدركوا غايتهم فذلك ما كانوا يرجون، وإن كانت الأخرى احتموا بالأمل في قول الله تعالى: {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًاۙ اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ*فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ*فَلَمَّا عَتَوْا عَن مَّا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ*}[الأعراف:164-166]. ولا يقال: إننا جزء من نظام ديمقراطي، وما أبعد الفرق بين الديمقراطية التي تجعل الرأي بإطلاق للغالبية والشورى في الإسلام، وهي لا تعمل في مجال قضى الله -عز وجل- فيه بحكم، وإنما تجتهد بروح إسلامية فيما تركه النص للرأي، نعم لا يقال ذلك للباحثين عن ناس مؤمنين يجيدون استثمار الديمقراطية لإعلاء كلمة الله ... فإذا كانت الديمقراطية تجعل الحكم للناس فلنحشد نوعية المؤمنين حشداً فيه الغالبية المؤمنة صانعة القرار، وحينئذ تقول هذه الغالبية لربها:{سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا}[النور: 52] ويومئذ لا يعمل الرأي الشخصي في مناطحة النص الشرعي، بل يسجد الرأي الشخصي على أعتاب النص الشرعي ويومئذ تستقيم الأمور: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ*}[الروم: 4-5].
ولا نلام إذا كنا أقلية لا يمكنها حجمها اليوم من صنع القرار، فحسبنا أننا أقلية الحق، ولا تتعاون على الإثم والعدوان، وإنما تعرف أن تقول بملء فمها "لا" عندما يتعين علينا أن نقول "لا"، كما نقول نعم إذا كان لله في ذلك رضا، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات"المرجع السابق.
وتحدث الشيخ: يوسف القرضاوي عن حكم المشاركة في حكم غير إسلامي وذكر أنه: "لا ريب أن الأصل في هذه القضية: ألا يشارك المسلم إلا في حكم يستطيع فيه أن ينفذ شرع الله فيما يوكل إليه من مهام الولاية أو الوزارة وألا يخالف أمر الله تعالى ورسوله، الذي يجب أن يخضع لهما بمقتضى إيمانه"من فقه الدولة في الإسلام، ص (178).
ثم ذكر أنه يجوز الخروج عن ذلك الأصل في بعض الحالات، وذكر لذلك شروطاً قال فيها: "ثالثها: أن يكون له حق معارضة كل ما يخالف الإسلام مخالفة بيّنة، أو على الأقل: التحفظ عليه. فالوزير قد يقيم العدل الممكن في وزارته، ولكنه يطلب منه في مجلس الوزراء باعتباره واحدًا منهم: أن يوافق على قوانين أو اتفاقيات أو مشروعات مخالفة لقواطع الإسلام، فهنا يجب عليه أن يعترض أو يتحفظ، بقدر نوع المخالفة وحجمها"المرجع السابق، ص (185).
فهذه التقريرات تدل دلالة ظاهرة على أن العلماء المؤيدين للدخول في البرلمانات يعلنون صراحة إنكار الشرك الذي قامت عليه وأن دخولهم إليها إنما كان للضرورة، ويصرحون بعدم إقرارهم ورضاهم عما يطرح فيها مما يناقض حكم الله ويوجبون إنكاره والسعي إلى إزالته.
فتعارض عندنا أمران:
الأول: المعنى الذي يُفهم من فعلهم ويستنبط من تصرفاتهم.
والثاني: المعنى الذي يُصرّحون به ويدل عليه صريح قولهم وواضح فعلهم.
والمنهج الشرعي الصحيح يقتضي أن يُقدّم المعنى الذي يدل عليه صريح قول المعيّن على ما يفهم من قوله ويستنبط منه.
فلدينا قضية شرعية مركّبة يصرّح فيها المسلم بأنه يُنكر جميع المناطات التي توجب الشرك، ويتبرأ من كل المعاني الموجبة للكفر، ويذكر بأنه يعتقد أنه يمكن الانفكاك فيها بين موجبات الكفر وبين المشاركة في البرلمانات وأنه إنما أقدم على فعله لاعتقاده بتحقق ذلك الانفكاك.
فهذه المعاني توجب دخول الاحتمال في ذلك الفعل وتحرّم على الناظر إطلاق التكفير فيه بدون تفصيل وبيان.
فإن قيل: إن العبرة بأصل ما هو معروف من نشأة تلك المجالس، وبتنظيرات من أسسها من المنظرين الكفرة، فتلك التنظيرات تدل على أن المجالس البرلمانية مؤسسة على الشرك بالله لا تنفك عنه أبداً، وهو ما يدل عليه واقعهم التطبيقي، فلا يقبل فيها كلام الإسلاميين الذين دخلوا فيها بنيّة مخالفة وغرض مختلف.
قيل: لا ننكر بأن أصل نشأة تلك المجالس مبني على الشرك بالله تعالى، ولا ننكر أن واقعها عند أصحابها كذلك، وهذا ليس محل بحثنا، وإنما محل بحثنا في صورة سعي عددٍ من علماء المسلمين ومفكريهم إلى محاولة استحداثها وجعلها واقعاً مؤثراً في تلك المجالس، فإنهم قالوا: إن تلك المجالس منظومة مركبة من معاني متعددة، ويمكننا أن نشترك فيها من غير أن نقع فيما هو مخالف للشريعة.
فنحن نقول: الأصل أن تلك المجالس التشريعية قائمة على الشرك الأكبر المخرج من الملة في أصل نشأتها، إلا أنه لا يصح أن يطلق هذا الحكم على كل صور الاشتراك فيها، لدخول الاحتمال والإجمال في استعماله عند كثير من العلماء والمفكرين المعاصرين، فنحن لا نبحث في حكمه من حيث أصل نشأته، وإنما بحث في حكمه في حاله وتطوره في العالم الإسلامي.
والقاعدة التي يقوم عليها هذا التقرير ترجع إلى قاعدة التعامل مع المصطلحات المحتملة، فإن المقرر عند المحققين من العلماء أن المصطلح المجمل والمحتمل لا يطلق فيه الحكم بالنفي ولا بالإثبات حتى يستفصل في معناه، ويفرق بين المرادات منه، وهذه القاعدة لا فرق فيها بين المصطلح الذي يكون مجملاً من أصله وبين المصطلح الذي يطرأ عليه الإجمال مع الاستعمال، فلو وُجد مصطلح له معنى معروف في أصل وضعه، ثم طرأ عليه الاحتمال والإجمال مع مرور الوقت، فإن قاعدة الاستفصال منطبقة عليه.
وفي بيان هذه القاعدة يقول ابن تيمية: "الألفاظ التي تنازع فيها من ابتدعها من المتأخرين، مثل لفظ الجسم والجوهر والمتحيز والجهة ونحو ذلك، فلا تطلق نفياً ولا إثباتاً حتى ينظر في مقصود قائلها، فإن كان قد أراد بالنفي والإثبات معنى صحيحاً موافقاً لما أخبر به الرسول صوّب المعنى الذي قصده بلفظه، ولكن ينبغي أن يعبر عنه بألفاظ النصوص، لا يعدل إلى هذه الألفاظ المبتدعة المجملة إلا عند الحاجة، مع قرائن تبين المراد بها"منهاج السنة النبوية (2/554)، ومجموع الفتاوى (17/304).
فهذا التقرير من ابن تيمية تضمن أموراً مهمة، منها:
الأول: أن قاعدة الاستفصال شاملة للألفاظ المبتدعة والمنقولة عن الغير.
والثاني: أن وجوب الاستفصال يتعلق بحال استعمال اللفظ لا بحال أصله، فقد يكون أصل معنى اللفظ ظاهراً في البطلان، ولكن طرأت عليه استعمالات أخرى أدخلت عليه الإجمال والاحتمال، كلفظ الجسم، فإنه يعني في لغة العرب البدن المكون من اللحم والعظم والعصب، وقد نقل ابن تيمية عن عدد من علماء العربية ما يدل على ذلك، وهذا معنى باطل لا يليق بالله تعالى، ومع ذلك حكم عليه بأنه أصبح لفظاً مجملاً، ولم يطلق التكفير في من استعمله في حق الله من الكرّامية وغيرهم.
بل ذكر أنه لا يجوز إطلاق الكفر في حقه حتى يستفصل من معناه، فإنه حين ذكر أن الألفاظ نوعان: نوع جاءت به النصوص وعلّقت عليه الأحكام، ونوع لم تأت به النصوص، قال: "وأما الألفاظ التي ليس لها أصل في الشرع فتلك لا يجوز تعليق المدح والذم والإثبات والنفي على معناها، إلا أن يبيّن أنه يوافق الشرع، والألفاظ التي تعارض بها النصوص هي من هذا الضرب، كلفظ الجسم والحيّز والجهة والجوهر والعَرَض، فمن كانت معارضته بمثل هذه الألفاظ لم يجز له أن يكفّر مخالفه، إن لم يكن قوله مما يبين الشرع أنه كفر، لأن الكفر حكم شرعي متلقي عن صاحب الشريعة"درء تعارض العقل والنقل (1/241).
ومحصّل هذا التقرير: أن المعنى الذي ذهب إليه بعض علماء المسلمين ومفكريهم من أنه يمكن الدخول في البرلمانات لا يلزم منه الوقوع في الشرك يجعل ذلك المصطلح لفظاً مجملاً في الحال الإسلامي، فلا يصح إطلاق القول بأنه موجب للتكفير في كل صوره.
فإن قيل: إن هذا التعامل يوجب إلغاء باب التكفير بالأفعال لأن كل أحد يمكنه أن يقول: إني لم أقصد المناط المكفّر في الفعل، فلا يحق لنا بعد ذلك إن نطلق القول على أي فعل بأنه موجب للكفر الأكبر حتى نستفصل ونقسم.
قيل: ليس الأمر كذلك، فإننا لم نقل إن كل فعل لا بد أن نقوم فيه بالاستفصال والتفريق، فبعض الأفعال دالة بالضرورة على المناط المكفّر، كسبّ الله ورسوله، والاستغاثة بالله فيما لا يقدر عليه إلا الله، وغيرها من المفّكرات، وإنما قلنا بوجوب ذلك في الأفعال التي لا تدل على المناط المفكر دلالة ظاهرة، وإنما هي محتملة في صورتها ومترددة في أشكالها.
فالبحث ليس في المناطات الموجبة للكفر الأكبر، وإنما في تحقيق دلالة الفعل عليها، فنحن لا نبحث في حكم التشريع من دون الله ولا في حكم تأييده وتقويته، ولا في حكم الرضا به، فهذه المناطات متفق عليها، وإنما نبحث في صورة محددة تصدر من بعض المسلمين وفي ظروف معينة هل توجب التلبس بأحد تلك المناطات أم لا؟
الأمر الثالث:
إذا تقرر حكم المترشح إلى المجالس التشريعية، فإن حكم المنتخب فيها لا يختلف عن حكمه، فإن المنتخب لا يذهب إلى الانتخاب وهو راض بما تقوم عليها تلك البرلمانات من التشريع من دون الله، ولا يقصد بانتخابه تحديد المشرّع لها من دون الله، ولا يقصد بهم استبدال المرشحين بشرع الله، وإنما يقصد انتخاب رجل مسلم يرى فيه القدرة على معارضة التشريع من دون الله والتصدي له وإبلاغ تشريع الله لمن عارضه بالقوة، ويرى فيه القدرة على تسهيل الطرق لتطبيق شرع الله في المستقبل.
فالمنظمون للانتخابات لا يقولون للناس: صوّتوا هل تريدون تطبيق الشريعة أم لا؟ فهذه القضية ليست محل تفكير عند العلمانيين الديمقراطيين، وإنما يقولون لهم: صوّتوا على من تختارون ليحدد التشريعات المناسبات لكم، فالأصل أن المسلم المنتخب في هذه الحالة لا يختار من يشرع له من دون الله ولا من يرضى بذلك، وإنما يختار من يعارض ذلك ويسعى إلى مناقضته والتصدي به.
فالمناطات الموجبة للتكفير بالتشريع بدون الله منتفية في حقه بالضرورة، فإن المنتخب لا يباشر التشريع بنفسه، ولم يختر من يشرع من دون الله، ولم يرض به، بل صوّت ضد ترشحه، ولم يرض بالتصويت على الشريعة ولا يؤيد تسلّط الناس عليها، وإنما رشّح من يسعى إلى تطبيق دين الله ويتصدى لمن يعارض ذلك، فهو لم يباشر التشريع ولم يرضه ولم يؤديه.
فكل مناطات التكفير بالتشريع لم تحقق فيه حاله،، فلا يصح تكفيره بذلك، ويبقى بعد ذلك البحث في حكم فعله من جهة الإباحة والتحريم والمصلحة والمفسدة، وهي مناطات أخرى مختلفة عن مناطات التكفير.
ونحن لا ننكر أن بعض المسلمين ينتخب ويكون قصده تحديد من يشرّع له من دون الله، ولكن ليس محل بحثنا، وإنما محله في دعوى أن ثمّ تلازماً بين الانتخاب وبين اختيار المشرّع من دون الله، وأن كل منتحب يختار مشرعاً من دون الله تعالى، وهذا ليس بلازم بالضرورة الواقعية والتصورية كما سبق بيانه.
وحاصل ما تقرر في الكلام السابق: أنه لا تلازم بين المشاركة في المجالس البرلمانية ترشحاً وانتخاباً، وبين الوقوع في الشرك، وإنما ثمّة صوراً عديدة قد يمارسها المسلم من اشتراكه في تلك المجالس من غير أن يكون واقعاً في الشرك.
الأمر الرابع:
أن التكفير بالمشاركة في البرلمانات اعتماداً على أنها قائمة على الشرك بالله وأن المشترك فيها يلزمه أن يكون واقعاً في التشريع أو راضياً به أو مؤيداً له يلزم منه لوازم باطلة شنيعة في التكفير، ومن تلك اللوازم:
اللازم الأول: أن يُحكم على كل من اشترك في أدوات التواصل الحديثة، كالفيس بوك وتويتر وهوتميل وجيمل وغيرها بأنه واقع في الشرك، لأن كل هذه البرامج يتضمن شرط الاشتراك فيها شرط القبول بالتحاكم إلى المحاكم الوضعية عند الاختلاف، ولا يمكن لأحد أن يحقق الاشتراك فيها إلا بالضغط على رز مواقف، فحالهم لا يختلف عن حال المشترك في البرلمانات من حيث إعلان القبول بالطاغوت، بل حالهم أشد، لأنهم يدخلون إليها مختارين غير مضطرين.
والغريب حقاً أن عدداً من المنظرين الذين جزموا بأن الدخول في البرلمانات شرك أكبر في كل صوره فصّل في التعامل مع تلك الشركات وذكر بأنه لا تلازم بين الاشتراك معهم وبين الوقوع في الشرك!!
اللازم الثاني: أن يُحكم على كل من يعيش في بلاد الكفار بأنه واقع في الشرك، لأن فعله يتضمن إما الوقوع في التشريع من دون الله أو الرضا به أو تأييده، ونتيجة ذلك أن مجرد العيش في بلاد الكفار فعل موجب للخروج من الإسلام، وليس محرّماً فقط.
وصرّح المقدسي بأنه لا فرق بين بلاد النصارى وبين الردة فكلها دول كفر، حيث يقول: "بالنسبة لموضوع التجنس، فنحن لا نرى فرقاً بين الجنسية الأمريكية وبين جنسيات دول الردة عندنا، بل على العكس، فمعلوم أن النصارى أقل شراً من المرتدين، بشرط: أن لا يؤدي التجنس بهذه الجنسية إلى فتنة حاملها وأولاده وضياع دينهم كما حصل عند الكثيرين، وبشرط: أن لا يكون في الحصول عليها عمل مكفر، كالقسم على الولاء للكفار وقوانينهم"مجموعة فتاوى المقدسي، ص (122).
ومقتضى هذا التقرير أنه يلزم المقدسي أن يحكم على جميع المسلمين بأنهم واقعون في الشرك الأكبر، لأن التجنس يلزم منه الوقوع في التشريع من دون الله أو تأييد الطاغوت أو الرضا به.
فإن قال: لا يلزم ذلك، فالمرء قد يأخذ الجنسية ولا يكون متلبساً بشيء من تلك المناطات.
قيل: وكذلك الحال في المشاركة في المجالس التشريعية، فالمرء قد يكون داخلاً فيها ولا يلزم أن يكون متلبساً بتلك المناطات.
- الأساس الثاني من الأسس التي قام عليه التكفير المطلق للمشاركة في البرلمانات:
أن الاشتراك في البرلمانات يتضمن التأييد والتقوية للتشريع من دون الله، فالمسلم وإن خالف ما فيه القرارات المناقضة لحكم الله إلا انه بمجرد دخوله في تلك المجالس فقد أعطى لها الشرعية، وساعد على تقويتها واستمرارها، وزاد من قيمتها.
وفي بيان هذا الوجه يقول أبو قتادة الفلسطيني: "مما ينبغي التنبيه عليه هنا هو أن الأحكام الصادرة من البرلمان قد اكتسبت قوتها من طرفين في البرلمان وليس من طرف واحد، هذان الطرفان هما الأغلبية والمعارضة، فالمعارضة وإن عارضت القانون قبل صدوره إلا أنها ملزمة به بعد إقراره بالأغلبية، وهي قد أكسبت القانون قوة بكونها جزء في البرلمان المشرّع، فعلاقة الأعضاء في البرلمان -أغلبية ومعارضة- علاقة تضامنية، فلولا وجود المعارضة لما اكتسب القانون قوته في المفهوم الديمقراطي، فالإسلاميون وإن زعموا المعارضة في البرلمان فهم جزء من المشرِّع، والقانون يصدر باسمهم كما يصدر باسم الأغلبية المؤيدة، وهم شركاء في إصدار القرار وإكسابه القوة الدستورية ليكون شرعياً دستورياً قانونياً، صادراً من الشعب صاحب السيادة، فلو صدر قانون إباحة الخمر للناس فالإسلاميون -المعارضة- وغيرهم هم أصدروا هذا القانون كما أصدره الأغلبية الموافقة، لأن علاقة القانون بهم واحدة بعد صدور القانون وإن اختلفت مواقفهما قبل إقرار القانون، ولو صدر قانون حرمة الخمر للناس فلا يجوز أن يقال إن الحكومة قد قررت تطبيق الحكم الشرعي، لفقْدِه التكييف الشرعي كما قدمنا"الجهاد والاجتهاد، ص (80).
والفرق بين هذا الأساس والأساس الأول: أن هذا الأساس لا يعتمد على معنى المشاركة في التشريع ولا على الرضا به، وإنما يعتمد على معنى التضمن في عمل المجالس والتقوية للشرك بالله ودعمه وإعطاء القيمة له. ولكن الاعتماد على هذا الأساس في إطلاق التكفير بالاشتراك في البرلمانات غير صحيح، بل هو في الحقيقة قائم على فهم خاطئ ويلزم منه لوازم باطلة، ويتحصل ذلك في الأمور التالية:
الأمر الأول: أن أبا قتادة يصوّر للقراء بأن الإسلاميين لو لم يدخلوا في البرلمانات لما كان فيها معارضة، ولما وجد من يقوم بمعناها، وهذا خطأ ظاهر، فالمجالس البرلمانية مليئة بالمعارضة من غير الإسلاميين، فمن المعلوم أن أصحاب المشاريع العلمانية مختلفون كثيراً في برامجهم وتوجهاتهم، فسواء شارك الإسلاميون في تلك المجالس أو لم يشاركوا فإن المعارضة متحققة، وهذا يعني أنها سيبقى وستتمر في عملها.
فدخول الإسلاميين إذن ليس هو الذي أعطى القيمة والشرعية لتلك المجالس، لأن دخولهم لم يتحقق به أصل المعارضة، فذلك حاصل بغيرهم، وإنما تحقق بدخولهم نوع مخصوص من المعارضة، وهي المعارضة الإسلامية.
ولا يكون كلام أبي قتادة متجهاً إلا في صورة واحدة، هي أنه لو فرض وجود مجلس تشريعي لا توجد فيه معارضة ولو لم يشارك فيه الإسلاميون سيزول ولا تبقى له قيمة، ففي هذه الصورة يكون كلامه متجهاً، ولكن هذه الصورة لا وجود لها!
الأمر الثاني: إذا ثبت المعنى السابق، فإنّ ما ذكره أبو قتادة من التكفير بمعنى التضامن مع الشرك غير صحيح، لأنه لم يبق في معنى التضامن أي مناط من مناطات التكفير بالتشريع من دون الله، فالإسلاميون المشاركون في البرلمان لم يباشروا التشريع من دون الله، ولم يرضوا به ولم يؤيدوه، وإنما عارضوه وناقضوه، ولم يسكتوا، بل أظهروا المخالفة له وأعلنوا البراءة مما يناقض شرع الله أمام الملأ، وليسوا هم الذين أعطوا القيمة للبرلمان لأنه سيقوم بغيرهم لا محالة.
فهم في الحقيقة ليسوا جزءًا من المشرّع من دون الله، والناس يعلمون أنهم معارضون له وساعون إلى مناقضته، ومجرد اشتراكهم في الاسم الذي صدر به القانون لا يعني أنهم متلبسون بمناطات التكفير، وجزء منه.
فإذا صدر قانون بإباحة الخمر باسم البرلمان، فالناس يعلمون أن ذلك التشريع لم يصدر من الإسلاميين الذي شاركوا فيه، ويعلمون أنهم دخلوا إلى البرلمان لإلغائه ولكنهم عجزوا عن ذلك.
إن مثل هذه الصورة مثل جماعة من الناس قرروا قتل أهل قرية وركبوا سفينة من أجل ذلك فعارضهم عدد منهم وأعلنوا ذلك أمام الناس وركبوا معهم السفينة ليقنعوهم بالكف عن فعلهم، وذهبوا معهم إلى مكان القرية ليمنعوا قومهم من ارتكاب جريمة القتل، ولكنهم عجزوا وتحقق القتل، وشهد بعض من بقي من القرية حياً ببراءة أولئك النفر الممانعين، فجاء قاض وحكم على جميعهم بأنهم جميعاً مشتركون في القتل لأنهم أتوا جميعاً في سفينة واحدة وينتسبون إلى قبيلة واحدة. ولا يكاد يشك عاقل بأن حكم ذلك القاضي خطأ، لأنه بناء على مناطات لا أثر لها في الحكم.
الأمر الثالث: أنّ بناء الحكم بالتكفير على معنى التضامن وإعطاء القيمة يلزم منه لوازم باطلة، وبطلان اللازم يقتضي بطلان الملزم بالضرورة.
ومن تلك اللوازم: لو أن جماعة من الكفار أعلنوا رغبتهم في الحوار عن الإسلام وتحدوا على ذلك، وأشاعوا خبر ذلك في العالمين، فقبل جماعة من المسلمين التحدي وانتدبوا واحداً منهم ضعيف في الحجاج والجدل والعلم، ونبهه بعض المسلمين على ضعفه وقلة بضاعته، فأصرّ على المناظرة، واتفق الطرفان على أن يصدر بياناً بالنتيجة التي انتهى إليها بالحوار، فقامت جولات الحوار وانتصر الكفار على المسلمين بالحجة والبرهان، فبناء على معنى التضامن يلزم أن يحكم على أولئك النفر من المسلمين بأنهم وقعوا في الكفر الأكبر، لأنهم دخلوا مع الكفار وتضامنوا معهم، ولو لم يدخلوا معهم لما كان لحوار قيمة ولا اعتبار.
والتكفير بهذا الأمر خطأ، ولا قائل به، ثم يبقى البحث في حكم ذلك الفعل الصادر من أولئك النفر من المسلمين من جهة الإباحة والتحريم.
ومن تلك اللوازم: أن كل الأفراد في الشعوب الإسلامية كفار، وبيان ذلك أن الأمة في النظام الديمقراطي هي التي تملك حق التشريع، وهذا حق يملكه كل من له حق التصويت ولو لم يصوت، فإذا سكت ولم يبد المعارضة فهو في الحقيقة قد أعطى قوة للبرلمان وتضامن معه في الحكم، لأن القوانين ستصدر باسم الشعب وهو جزء منه، ولا يزول ذلك التضامن إلا بالتخلص من الجنسية التي يطبق فيها النظام الديمقراطية.
فإن قال: إن معنى التضامن يزول بالإعراض والسكوت.
قيل: إن إعراضه وسكوته يساعد بالضرورة على بقاء البرلمان وسيصدر القانون باسمه.
وإن قال: إن معنى التضامن يزول بالاعتراض وإبداء البراءة.
قيل: وكذلك يفعل المشاركون في البرلمان، فهم لم يدخلوا فيه إلا لأجل هذا الغرض!
ومن تلك اللوازم: أنه يلزم الحكم بالكفر على كل فعل فيه تقوية للكفار ومعاضدة لهم في جميع شؤون الحياة، لأنه إذا كانت العلة الموجبة للتكفير هي المعاضدة، فإنه يجب طردها في كل الصورة، وهذا قول بعيد، يوجب التكفير بأفعال كثيرة ليست مجالاً للتكفير.
نقض الأدلة التفصيلية للمكفرين بالاشتراك في البرلمان:
استدل المانعون من المشاركة في البرلمانات بعدد من الأدلة بعضها يدل على التكفير في نظرهم وبعضها يدل على التحريم، وسنقتصر في هذا المقام على مناقشة الأدلة الدالة على التكفير فقط لكونها المتعلقة بأصل البحث.
الدليل الأول: أن الدخول في البرلمان يتضمن القَسَم على احترام الدستور الكفري، وهذا مناقض لحقيقة الإقرار بالإسلام، وفي بيان هذا المعنى يقول أبو بصير الطرطوسي: "أول ما يجب على النائب الفائز أن يقوم به هو إعطاء القسم والأيمان والعهد -حراً مختاراً غير مكره- على الوفاء والإخلاص للدستور الكفري الجاهلي الذي يحكم ويحدد سياسة البلاد الداخلية والخارجية، والذي يعتبر في نظر الإسلام طاغوت كبير يجب الكفر به والبراء منه ومن أنصاره وأوليائه وأتباعه. وهذا مزلق عقدي خطير ينفي مطلق الإيمان عن صاحبه"حكم الإسلام في الديمقراطية والتعددية الحزبية، ص (152).
وهذا الدليل ليس لازماً للوقوع في الكفر الأكبر من الحالف على الدستور، لأن المسلم الذي أُجبر على الحلف على احترام الدستور يمكنه أن يخرج منه بمخارج تجعله غير متلبس بالكف.
ومن تلك المخارج: أن ينوي بالقسم احترام ما وافق الشريعة من الدستور، أو ينوي احترام المادة التي تنص على أن الشريعة هي المصدر الرئيسي للدستور، أو يقصد بالدستور الكتاب والسنة، وقد قرر كثير من الفقهاء أن الحالف إذا كان مظلوماً فإن الحلف يكون على نيته لا على نية المستحلِف، يقول إبراهيم النخعي: "إذا كان مظلوماً فله أن يورك بيمينه وإن كان ظالماً فليس أن يورك بيمنه"أخرجه ابن أبي شيبة، رقم (12734)، والتوريك في اليمين: نية ينويها الحالف غير ما ينويه مستحلفه.
وهذا ما ذهب إليه البخاري، حيث يقول: "باب يمين الرجل لصاحبه إنه أخوه إذا خاف عليه القتل، أو نحوه، وكذلك كل مكره يخاف، فإنه يذب عنه المظالم ويقاتل دونه ولا يخذله، فإن قاتل دون المظلوم فلا قوَد عليه ولا قصاص، وإن قيل له لتشربن الخمر أو لتأكلن الميتة أو لتبيعن عبدك أو تقر بدين أو تهب هبة وتحل عقدة أو لنقتلن أباك أو أخاك في الإسلام: وَسِعَهُ ذلك، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (المسلم أخو المسلم)صحيح البخاري (9/28).
ونسب ابن حجر هذا القول إلى جمهور العلماء حيث يقول: "قال ابن بطال: قول النخعي يدل على أن النية عنده نية المظلوم أبداً، وإلى مثله ذهب مالك والجمهور"فتح الباري، (12/325)، وانظر: أحكام اليمين بالله، خالد المشيقح، ص (306). ويدل على هذا حديث سويد بن حنظلة قال: "خرجنا نريد رسول الله ومعنا وائل بن حجر، فأخذه عدو له، فتحرج القوم أن يحلفوا وحلفت أنه أخي، فخلى سبيله، فأتينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخبرته أن القوم تحرجوا أن يحلفوا وحلفت أنه أخي قال: (صدقت، المسلم أخو المسلم)أخرجه أبو داود، رقم (3258)، وابن ماجة، رقم (2119)، وصححه الألباني.
ومن تلك المخارج: أن يغير أو يضيف في صيغة اليمين سراً ما يخرجه من الفعل المكفّر بأن يقول سراً بشرط ألا يخالف شرع الله، أو عبارة نحوها، وهذه الطريقة أشار إلى إباحتها عدد من العلماء، يقول ابن القيم: "إذا استحلف على شيء، فأحب أن يحلف ولا يحنث، فالحيلة أن يحرك لسانه بقول: "إن شاء الله " وهل يشترط أن يسمعها نفسه؟ فقيل: لا بد أن يسمع نفسه، وقال شيخنا: هذا لا دليل عليه، بل متى حرك لسانه بذلك كان متكلماً، وإن لم يسمع نفسه"إعلام الموقعين، (5/351).
وقد قال المقدسي في فتوى له عن القسم على الجنسية: "وما يفعله بعض الشباب من قراءة القرآن أو تحريك الشفتين بأي كلام غير القسم أثناء القسم الجماعي الذي يؤدى قبل الحصول على الجنسية، جائز للضرورة، والله أعلم، لأنه لم ينطق بالكفر، بل أوهمهم، وهو من جنس التورية التي تجوز مع الكفار"مجموع فتاوى المقدسي، ص (122).
وقد اعتُرض على هذا التخريج بعدد من الاعتراضات، منها:
الأول: أن هذا مخالف لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "يمينك على ما يصدقك به صاحبك"أخرجه مسلم، رقم (4373).
ولكن هذا الاعتراض غير صحيح، لأننا لا نقول إن اليمين على نية الحلف في كل الأحوال، وإنما في حال الظلم والقهر فقط، ولذلك فحديث مسلم محمول على غير المظلوم والمقهور، وقد نبّه على هذا المعنى عدد من العلماء، كالبيضاوي وابن هبيرة وابن رجب وابن الوزير وغيرهم جمعاً منهم بين هذا الحديث وحديث سويد ابن حنظلة، وحمله الشافعية على حال الحلف عن القاضي فقطانظر في هذه الأقوال: تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة، البيضاوي (2/237)، والإفصاح عن معاني الصحاح، ابن هبيرة (8/82)، وجامع العلوم والحكم، ابن رجب، ص (92).
الثاني: أن في ذلك تضليلاً لعوام المسلمين، لأن العامة يرون النائب يقسم في العلن على مواقف موالية للكفر ولا يدرون عن باطنه وما يوري به في نفسهانظر: حكم الإسلام في الديمقراطية والتعدد الحزبية، أبو بصير الطرطوسي، ص (154).
ولكن هذا الاعتراض غير صحيح، لأن الأصل في العامة أنهم يعلمون أن النائب الإسلامي إنما دخل إلى البرلمان ليغير ما يخالف حكم الله، وعلى التسليم بأنهم لا يعلمون ذلك، فإن فعله ذلك لا يوجب الكفر، وغاية ما يوجب أن بعض عوام المسلمين يقع في التضليل ويمكن كشفه مع الزمن.
الدليل الثاني: أن المجالس النيابية لا تخلو من مظاهر الطعن والاستهزاء والكفر بآيات الله وأحكامه، وذلك عن طريق إخضاع شرع الله -تعالى- للتصويت والاختيار، وعملية رفع الأيدي وخفضها، والنائب مهما حسنت نيته لا مناص له من مشاركة القوم على كفرهم هذا ولو بمجرد الجلوس، والجلوس في مجالس الكفر والاستهزاء بالدين -من غير إكراه ولا إنكار- كفر، لتضمنه الرضى بالكفر، والرضى بالكفر كفر بلا خلاف.
قال تعالى:{وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِه إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا}[النساء:140]، وقال تعالى: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ}[هود:113].
ولكن الاعتماد على هذا الدليل في إطلاق التكفير بالمشاركة في البرلمان غير صحيح، لأن من اشترك فيه من المسلمين إنما فعل ذلك لأجل الإنكار ومعارضة ما يقومون به من شرك وتقليل شرحه على المسلمين.
وحال النائب المسلم في البرلمان لا يختلف عن حال المسلم الذي جلس مع ملحدين في مجلس واحد، وطفق الملاحدة يصرخون بسبّ الله وإنكار وجوده، والمسلم يستمع إليهم حتى انتهوا من قولهم، ثم أخذ في مناقضته وإبداء الاعتراض عليه. فالمسلم لا يأخذ حكم الكفار الذي جلس معهم إلا إذا كان راضياً بما يقولونه في المجلس، وأما إذا لم يكن راضياً فهو ليس بكافر، وعدم إظهار إنكاره للكفر في المجلس ليس مكفّراً، لأن ذلك قد يكون راجعاً إلى جهله أو تقديره لمصلحة أو غير ذلك.
وأما الاستدلال بآية النساء، فهو غير مستقيم لأمرين:
الأول: أن تلك الآية مقيدة بالرضا بما هم عليه، وقد حملها على ذلك عدد من المفسرين، يقول الواحدي: "وقوله: {إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ} يعني: إن قعدتم معهم راضين بما يأتون من الكفر بالقرآن والاستهزاء به". ويقول السمعاني: "وما حكم القعود معهم؟ أما إذا قعد معهم ... ورضى بما يخوضون فيه، فهو كافر مثلهم، وهو معنى قوله: {إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ}، وإن قعد، ولم يرض بما يخوضون فيه، فالأولى أن لا يقعد، ولكن لو قعد كارهاً، فلا يكفر".
وعلى هذا الوجه فإن الآية لا علاقة لها بحال المسلم في البرلمان، لأنه إنما جاء لينكر عليهم ويبلغهم حكم الله ويقلل شرهم عن المسلمين.
الثاني: أن المثلية هنا ليس في تحقق الكفر، وإنما في تحقق المعصية، فهم مثلهم في الوقوع في معصية الله، فالآية لا تدل على كفر من جلس مجلس الكفار الذين يستهزؤون فيه بالقرآن، وإنما تدل على وقوعه في المعصية، وهذا ظاهر كلام ابن جرير حيث يقول: "وقوله: {إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ} يعني: وقد نزل عليكم أنكم إن جالستم من يكفر بآيات الله، ويستهزئ بها وأنتم تسمعون فأنتم مثله، يعني: فأنتم إن لم تقوموا عنهم في تلك الحال مثلهم في فعلهم، لأنكم قد عصيتم الله بجلوسكم معهم، وأنتم تسمعون آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها، كما عصوه باستهزائهم بآيات الله، فقد أتيتم من معصية الله نحو الذي أتوه منها، فأنتم إذا مثلهم في ركوبكم معصية الله، وإتيانكم ما نهاكم الله عنه"جامع البيان في تأويل القرآن، (7/602).
ويقول ابن عطية: "وهذه المماثلة ليست في جميع الصفات، ولكنه إلزام شبّه بحكم الظاهر من المقارنة". ويقول البيضاوي: "{إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ} في الإثم لأنكم قادرون على الإعراض عنهم والإِنكار عليهم، أو الكفر إِن رضيتم بذلك"، ويقول النسفي: "{إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ} أي في الوزر إذا مكثتم معهم، ولم يرد به التمثيل من كل وجه، فإن خوض المنافقين فيه كفر، ومكث هؤلاء معهم معصية".
وعلى هذا الوجه فإن لا يصح الاعتماد على الآية في إطلاق التكفير، لأن غاية ما فيها الدلالة على التحريم، وبحثنا في التكفير وليس في التحريم.
وأما الاستدلال بآية هود، فهو غير صحيح أيضاً، وذلك لأمرين:
الأول: أنّ الركون في الآية يتضمن معنى المحبة والرضا، وقد فسّرها بذلك كثير من المفسرين، يقول الواحدي: "قوله: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} لا تُداهنوهم ولا ترضوا بأعمالهم يعني: الكفَّار {فتمسكم النار} فيصيبكم لفحها". ويقول السمعاني: "قوله تعالى: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} الركون: هو المحبة والمودة والميل بالقلب. وعن أبي العالية الرياحي قال: هو الرضا بأعمالهم. وعن السدي قال: هو المداهنة معهم. وعن عكرمة قال: هو طاعتهم. وقوله: {فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} أي: فتصيبكم النار".
وعلى هذا الوجه فالآية لا دلالة فيها على التكفير بالاشتراك في البرلمان، لأن المسلم المشترك فيها لا يرضى بما فيه من الكفر ولا يحبه، بل يعارضه ويناقضه ويتبرأ منه.
الثاني: أن الآية ليس فيها حكم بالكفر، وإنما غاية ما فيه الحكم بالنار، ومجرد الحكم بالدخول في النار ليس دليلاً على الكفر، لأن هذا الحكم جاء في عدد كبير من الكبائر.
وعلى هذا الوجه فالآية لا تدل على التكفير بالدخول في البرلمان وإنما غاية ما يدل عليه التحريم لذلك، وبحثنا ليس في التحريم وإنما في التكفير.
الدليل الثالث: أن الاشتراك في البرلمان يناقض عقيدة الولاء والبراء، وما يجب على المسلم من إظهار العداوة والبغضاء والمفاصلة مع ملل الكفر وأربابها، فالمشترك فيها لا بد أن يوالي من حادّ الله ورسوله، ويكثّر سوادهم، ومن والى من حادّ الله ورسوله فقد وقع في الكفرانظر: حكم الإسلام في الديمقراطية والتعددية الحزبية، أبو بصير الطرطوسي، ص (159)، والإسلاميون وسراب الديمقراطية، عبدالغني الرحال، ص (441).
وهذا الدليل غير صحيح، بل هو مناقض لصورة المسألة تمام المناقضة، فالمسلم الذي يدخل في البرلمان لا يدخله لأنه يحب الدخول فيه، ولا لأنه يؤيده، وإنما لأنه يراه الطريق الوحيد لمعارضة العلمانية الذين يفرضون على الأمة الإسلامية قوانينهم، فيدخل فيه ليشكّل سدّاً بقدر استطاعته ليقلل من الشر الذي يفرضونه على الأمة أو يزيله، وهو يعلن البراءة من قولهم صباح مساء، ويصرّح بأنه مناقض لهم في مشرعهم ومنطلقاتهم، ويظهر لهم المخالفة والمناقضة في مشاهد كثيرة. فالمشاركة في البرلمان ليست إلغاءً لمبدأ الولاء والبراء، بل هي في الحقيقة فتح لمجال جديد لإظهار الولاء للإسلام والبراءة من كل من عداه.
وبهذه المناقشة المطولة تجلى بوضوح أن القول بأن ثمة تلازم ضروري بين المشاركة في البرلمانات وبين الوقوع في الشرك أو الرضا به أو تأييد قول غير صحيح، ولا يقوم على حجة مستقيمة، وإنما هو مبني على توهّمات وتصورات جعلت قوانين عامة، ثم حكم بها على أفعال كثير من المسلمين بالكفر والشرك.
وفي ختام هذه الورقة أوصي نفسي وأخواني الكرام، بأن يدققوا في العلم ولا يتأثروا بالعبارات العاطفية والأحكام المجملة، وإنما علينا جميعا أن نمحّص في الأقوال ونحرر أقوال أهل العلم وأصولهم ونستخرج نتائج تنظيراتهم، ونبتعد عن المغالين المتساهلين في أحكام التكفير وإطلاقاتها على المسلمين، وأن لا نتأثر إلا بالدليل ولا نخضع إلا للبرهان، مهما كانت مكانة القائل وسنه وتاريخه.
اقرأ أيضاً : الغلو المعاصر.. والتكفير بالمشاركة في الديمقراطية!