شبهات تنظيم الدولة وأنصاره والرد عليها: الشبهة الحادية عشرة: تنظيم (الدّولة) هو الوحيد الذي يهدف إلى إقامة دولةٍ إسلاميّةٍ واضحةِ الرّاية
تقول الشُّبهة:
تنظيم (الدّولة) يطمح إلى دولةٍ إسلاميّة على منهاج النّبوة، واضحة الراية، أمّا الفصائل الأخرى فهي فصائل تُقدِّم الوطنيةَ على الإسلام، وتلتزم بحدود سايكس- بيكو، رايتُها جاهلية، غيرُ معروفة الأهداف ولا النّتائج، وهي تريد تطبيق العلمانية والدّيمقراطية. بالإضافة إلى أنَّ العلَم الذي يرفعونه هو علَمٌ جاهلي مِن أيام الاستعمار الفرنسي!
الإجابة عن هذه الشبهة: تحوي هذه الشبهة عدّةَ مسائل هامّة تحتاج لبيان، كما يلي:
- أولًا:
بدايةً لا بدّ مِن تحرير مصطلح الرَّاية، والذي يخطئ فيه كثيرون ، فالراية الواردة في الشرع وكلام أهل العلم هي: الغاية والهدف مِن القتال، وليست قطعةَ القماش التي تسمّى الآن بالعلَم، قال صلى الله عليه وسلم: (مَن قاتل تحت راية عُمِّيَّةٍ: يغضب لعصبةٍ، أو يدعو إلى عُصبةٍ، أو ينصر عصبةً؛ فَقُتِلَ فَقِتْلَةٌ جَاهِليّة)أخرجه مسلم (3/1476، برقم 1848)..
فالهدفُ مِن القتال هو الذي يحدّد شرعيةَ هذه الراية وصحّتَها، فمَن كان قتالُه لحماية الضرورات التي جاءت الشّريعةُ الإسلامية بالحفاظ عليها، وهي: النّفس، والعرض، والدّين، والمال؛ فرايتُه وغايتهُ شرعية، قال تعالى: {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا} [النساء:75]، وقال صلى الله عليه وسلم: (مَن قُتل دون ماله فهو شهيدٌ، ومَن قُتل دون دمه فهو شهيد، ومَن قتل دون دينه فهو شهيد، ومَن قُتل دون أهله فهو شهيد)أخرجه أبو داود (4/246، برقم 4772)، والترمذي (4/30، برقم 1421)، والنسائي (7/116، برقم 4095)..
وقد تضمّنت تصريحاتُ وبياناتُ ومواثيق الفصائل الثورية النصّ على أهدافٍ وغاياتٍ مشروعة؛ مِن إسقاط النّظام، وتحرير الإنسان والأوطان، وإقامةِ دولة يتحقق فيها العدل والحرية والأمان؛ فاتّهامُها بأنها (غيرُ معروفة الأهداف ولا النتائج) اتهامٌ لا أساس له مِن الصّحّة أو الواقع، وهو اتهام قائم على الشُّبه والظّنون، واحتكار الحقّ، وتزكية النّفس.
- ثانيًا:
هناك فرقٌ بين الرّايات التي كانت تُرفع في الحروب قديمًا، وبين الأعلام التي تتخذها الدّول اليوم؛ فالرّاياتُ والأعلام في الحرب سُنّة نبويَّة مستحبّة، فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يتّخذ الرايات في غزواته وحروبه، وكان لكلٍّ قبيلةٍ وقومٍ رايةٌ فكان للمهاجرين راية، وللأنصار راية، وكان صلى الله عليه وسلم يحبّ لكلّ أحدٍ أن يقاتل تحت رايةِ قومِه وجماعته؛ لغرضٍ جليل هو اجتماعُ المقاتلين واتحاد قلوبهم عندما يكونون مِن قبيلة واحدة فيكونون كالجسم الواحد، فيحرصون أن تبقى رايتُهم مرفوعةً، فلا يأتي العدو من قِبَلهم.
أمّا الأعلامُ التي تتخذها الدّول اليوم لتكون رمزًا لها فهي محدَثة لم تكن معروفة في العهود السابقة، والأصلُ فيها الإباحة، ما لم تتضمّن إشارةً أو دلالةً على مخالفة شرعيَّة.
- ثالثًا:
لم يَرِد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه اتخذ لونًا واحدًا أو شكلًا واحدًا لرايات الحرب، فقد ثبت أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم كانت له رايةٌ سوداء، وأحيانًا بيضاء، وقيل أيضًا صفراء، وقد علَّل الحافظ ابن حجر ذلك بحسب اختلاف الأوقات والحالاتفتح الباري (6/126)..
ولم يثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان يكتب شيئًا في تلك الرايات كما قد يتوهمه بعضُ المتأخرين، وما رُوي عن ابن عباسٍ -رضي الله عنهما- أنّ راية النبي عليه الصلاة والسلام كان مكتوبًا فيها: (لا إله إلا الله محمد رسول الله)، فإنه حديثٌ باطل كما قال العلماءومن ذلك الرواياتُ التي تسمّي راية النبيعليه الصلاة والسلام - بالعُقاب، لكنها أحاديثُ ضعيفةٌ، لا يصحّ الاستدلال بها..
- رابعًا:
ما يتعلَّق بعلم الاستقلال الذي اختاره عامَّةُ الشعب السوري في أول الثورة، ورضوا به، فهذا راجعٌ إلى كونه علمَ الدّولة في مرحلةِ ما قبل اغتصاب نظام البعث للسّلطة، وفيه رسالةٌ إلى إسقاط هذا النّظام، والانخلاع عنه بجميع مراحله ورموزه، وعدم شرعيته، وعدم القبول أو الاعتراف به بأيِّ شكلٍ مِن الأشكال.
وأمَّا ما يُقال إنَّه علمٌ مِن حقبة الاستعمار، وكان برضا فرنسا: فهذا غير صحيح؛ إذ العلم الحالي وُضع بعد الثّورة على الفرنسيين.
فقد كان علم الاستعمار الفرنسي في أول الأمر (سنة 1338ه-1920م) أزرق وفي زاويته اليسرى العليا علم فرنسا المصغَّر، وبعد الثورة السورية الكبرى (سنة 1343هـ- 1925م) غيّره الفرنسيون فصار خطين أخضرَين بينهما مساحة بيضاء وبقي العلم الفرنسي المصغر في الزاوية، وعندما وقّعت فرنسا اتفاقية الاستقلال (الأول) سنة (1355هـ - 1936م) ألغيت الأعلام الفرنسية، واعتُمد العلم الذي صمّمته الثورة السورية الكبرىينظر مقال: حوار مع داعشي، أ. مجاهد ديرانية http://cutt.us/G6zA..
وبقي هذا العلم مستعملًا، حتى جاء حزبُ البعث إلى السّلطة، ووضع مكانه علمًا جديدًا، فلمَّا قامت الثّورة الحالية عبَّر الناس عن رفضهم للنّظام بترك علمه، والأخذ بما قبل نظام البعث.
وما يُقال عن اعتماد فرنسا لهذا العَلَم لو صحّ لا يجعله عَلَمًا فرنسيًا محرّمًا، أو علمًا استعماريًا، مثلُه في ذلك مثلُ جميع مؤسسات الدّولة، وأنظمتها، ومراتب الوظائف، ومسمّى العملة التي وُجدت في عهد الاستعمار، إلى غير ذلك.
والخطأُ الذي يقع فيه الغلاةُ: اعتبار كلّ تصرفٍ أو تعاملٍ مع الاستعمار رضىً بالكفر والكفار، ثم الحكم عليه بالخيانة لذلكسيأتي مزيد تفصيل لهذه المسألة ص ( )..
كما أنَّ الحديث عن العَلَم مِن هذه النّاحية يظهر منه الغلوُّ في فهم العلَم، والمقصود منه، واعتباره جزءًا مِن الدّين، كما سبقت الإشارة إليه.
وعليه: فإنَّ العَلَم الذي يرفعه المجاهدون (علم الاستقلال) ليس فيه ما يخالف الشّرعَ، والهدف منه معروفٌ ومشروعٌ، وهو عَلَم مؤقت لهذه المرحلة مِن تاريخ سورية، لا ينبغي الاختلافُ حوله، ثم بعد التحرير يكون اجتماع النّاس على ما يرونه أو يختارونه من عَلَموللمزيد ينظر فتوى: (هل هناك راية محددة يجب أن يلتزم بها السوريون ؟) http://islamicsham.org/fatawa/275..
- خامسًا:
اتهام الكتائب والفصائل والقوى الثورية أنها تريد العلمانية: اتهامٌ غير صحيح، وباطل، لما يليللمزيد ينظر: الأحكام الشرعية للنوازل السياسية، د. عطية عدلان، ص (152-223).:
-
أنَّ الفصائل قد أعلنت على مدى السّنوات الماضية وبتصريحات وبيانات ومواثيق تنفي ذلك مرارًا، ولم يثبت مِن هذه الاتهامات القائمة على الشُّبه والظنون شيءٌ.
-
أنَّ ما يَرِدُ عن بعضهم مِن ترديد ألفاظ "الديمقراطية"، و "الدّولة المدنية" ونحوها: فيُرادُ بها أحدُ معنيين:
الأول: معنى فلسفي عقدي، وهو الذي يجعل التشريع حقًا للعباد، ولا يختص بالله تعالى.
الثاني: معنى إجرائي يتعلَّق ببعضِ الأدوات التي يُراد منها تحقيقُ العدالة، ومنع الظلم، واستغلال السّلطة.
ولا شكَّ أنَّ المعنى الأول مخالفٌ للشّرع، وينازع الله تعالى في حقّه في التشريع، أمّا الثاني فهو محل اجتهادٍ ونظرٍ، وهو غالب استخدام عامة الناس حاليًا.
وبسبب اشتمالِ هذه الألفاظ على معانٍ باطلةٍ، وأخرى محتملة للصّحّة فإنَّه لا بدَّ مِن الاستفسار مِن قائلها عن مراده، وهذا هو المنهج الحق في التعامل مع (الألفاظ المجملة).
قال ابنُ تيمية رحمه الله: "وأمّا الألفاظ التي ليست في الكتاب والسنّة، ولا اتفق السّلف على نفيها أو إثباتها، فهذه ليس على أحدٍ أن يوافق مَن نفاها أو أثبتها حتى يستفسر عن مراده: فإنْ أراد بها معنى يوافق خبرَ الرسول عليه الصلاة والسلام أقر به، وإن أراد بها معنى يخالف خبر الرسول عليه الصلاة والسلام أنكره".
ثم التعبيرُ عن تلك المعاني إن كان في ألفاظه اشتباه أو إجمال عَبّر بغيرها، أو بيّن مرادَه بها بحيث يحصل تعريفُ الحقّ بالوجه الشّرعي"مجموع الفتاوى (12/114)..
- ضوابط التكفير:
أنّ المنادي "بالديمقراطية" و "الدّولة المدنية" لو كان يقصد بها المعنى الباطل شرعًا: لا يجوز تكفيرُه والحكم بردَّته إلا بعد استيفاء الشّروط، وانتفاء الموانع.
فقد نصَّ أهلُ العلم، على أنَّ للحكم بالكفر والردة شروطًا، وضوابط، وموانع لا بدَّ من تحققها، فمِن أهم الضّوابط: التّفريق بين كون القول أو الفعل أو الاعتقاد كفراً وبين الحكم على المُعين بالكفر، والذي لا يكون إلا بعد إقامةِ الحجّة، والتّأكّد مِن توفّر الشّروط وانتفاء الموانع.
قال ابن تيمية رحمه الله: "وحقيقةُ الأمر في ذلك: أنَّ القولَ قد يكون كفرًا فيُطلق القولُ بتكفير صاحبه، ويقال: مَن قال كذا فهو كافر، لكنّ الشّخصَ الـمُعيّن الذي قاله لا يُحكم بكفره حتى تقوم عليه الحجّةُ التي يكفر تاركُها"مجموع الفتاوى (7/619)..
وقال: "الأصل الثاني: أنَّ التّكفير العام -كالوعيد العام- يجب القولُ بإطلاقه وعمومه. وأمّا الحكمُ على المعيّن بأنّه كافر أو مشهودٌ له بالنّار: فهذا يقف على الدّليل المعيّن؛ فإنّ الحكمَ يقف على ثبوت شروطه، وانتفاء موانعه"مجموع الفتاوى (12/498)..
- وموانع تكفير الـمُعيَّن:
- الخطأ: وهو أن يصدر منه القول أو الفعل دون قصدٍ له.
- الجهل: بأن يعتقدَ اعتقاداً، أو يقولَ قولًا، أو يعملَ عملًا لا يعلمُ أنَّه مِن موجبات الكفر، ولا أنّه مخالفٌ للدين.
- الإكراه: وهو إلزامُ الغير بما لا يريده قهرًا، بحيث لا يبقى له قدرةٌ ولا اختيار.
- التّأويل: وهو أن يفعل الكفرَ لاعتقاده أنّه صوابٌ وحقّ؛ اعتمادًا على شبهةٍ يستدلّ بها.
وإذا كانت هذه موانعَ عامّةً للتّكفير، فكيف بالأمور الدّقيقة التي يحصل بها الخطأ، واللبس، وتخفى على كثيرٍ مِن الفضلاء؟ينظر: تحذير المتبع الحر من تكفير الجيش الحر، د. مظهر الويس http://syrianoor.net/research/10520..
- ومن أقوال أهل العلم في ذلك:
قال الإمام الشافعي رحمه الله: "لله أسماءٌ وصفاتٌ لا يسع أحدًا ردَّها، ومَن خالف بعد ثبوت الحجّة عليه فقد كفر، وأمّا قبل قيام الحجّة فإنّه يُعذر بالجهل؛ لأنّ علمَ ذلك لا يُدرك بالعقل، ولا الرويّة والفِكر"فتح الباري (13/407)، ونسبه لابن أبي حاتم في مناقب الشافعي..
وقال ابن تيمية رحمه الله: "وأمّا التّكفيرُ: فالصّوابُ أنَّه مَن اجتهدَ من أمةِ محمد صلى الله عليه وسلم وقصدَ الحقَّ، فأخطأَ لم يَكفُر، بل يُغفر له خطؤه"مجموع الفتاوى (12/180)..
وقال: "كان الإمام أحمد يكفِّر الجهمية المنكرين لأسماء الله وصفاته؛ لأنّ مناقضةَ أقوالهم لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ظاهرةٌ بيّنةٌ ... لكن ما كان يكفّر أعيانهم ... ومع هذا فالّذين كانوا مِن ولاة الأمور يقولون بقول الجهمية، ويدعون النّاسَ إلى ذلك ويعاقبونهم، ويكفّرون مَن لم يجبهم، ومع هذا فالإمامُ أحمد ترحّم عليهم، واستغفر لهم؛ لعلمه بأنّهم لم يبين لهم أنّهم مكذّبون للرّسول عليه الصلاة والسلام، ولا جاحدون لما جاء به، ولكن تأوّلوا فأخطأوا، وقلّدوا مَن قال لهم ذلك"مجموع الفتاوى (23/23/348)..
وقال ابن القيم -رحمه الله- بعد أنْ ذكر كفرَ مَن جَحَدَ فريضةً مِن فرائضِ الإسلام: "وأمّا مَن جحد ذلك جهلاً، أو تأويلاً يُعذر فيه صاحبُه: فلا يُكفّرُ صاحبُه به، كحديث الذي جحد قدرةَ الله عليه، وأمر أهلَه أنْ يحرقوه ويذروه في الرّيح، ومع هذا فقد غفر الله له، ورحمه لجهله، إذ كان ذلك الذي فعله مبلغَ علمه، ولم يجحد قدرةَ الله على إعادته عناداً أو تكذيبًا"مدارج السالكين (1/3348)..
- إقامة الحجّة والعذر بالجهلنازع بعضُ أهل العلم -لا سيما المتأخرون والمعاصرون - في وجوب إقامة الحجة في بعض المسائل المتعلقة بأصول الدين والشّرك الأكبر، وذكروا أنَّ مرتكبها لا يُعذر بالجهل، ويُحكَم بكفره دون إقامة الحجّة عليه، وعند التّحقيق في المسألة من النصوص الشرعية، وأقوال السلف يتبيَّن أنّ الرّاجحَ في المسالة على خلاف ما قرّره هؤلاء، وأنّ إقامة الحجة شاملٌ لأصول الدين وفروعه كما ستأتي الإشارةُ إليه في بعض النقول. بل إنَّه قد نُقل عن بعض أهل العلم المتأخرين خلافُ ما نُسبَ إليهم، ومِن ذلك قول الشيخ محمد بن عبد الوهاب كما في الدّرر السّنية (1/104): "وأمَّا الكذب والبهتان، فمثلُ قولهم: إنَّا نكفِّر بالعموم، ونوجب الهجرة إلينا على مَن قدر على إظهار دينه، وإنَّا نكفِّر مَن لم يكفّر ومَن لم يُقاتل، ومثل هذا وأضعاف أضعافه، فكلُّ هذا مِن الكذب والبهتان الذي يصدُّون به النّاس عن دين الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وإذا كنَّا لا نكفِّر مَن عبَد الصّنمَ الذي على عبد القادر، والصّنم الذي على قبر أحمد البدوي وأمثالهما؛ لأجل جهلِهم، وعدم مَن يُنبِّههم، فكيف نكفِّر مَن لم يشرك بالله إذا لم يُهاجر إلينا، أو لم يكفّر ويُقاتل، سبحانك هذا بهتان عظيم". وقال كما في "مجموع مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب" (3/14): "أماّ ما ذكره الأعداء عني، أنّي أكفر بالظّنّ وبالموالاة، أو أكفِّر الجاهل الذي لم تقم عليه الحجّة، فهذا بهتان عظيم، يريدون به تنفيرَ النّاس عن دين الله ورسوله صلى الله عليه وسلم". وللمزيد في المسألة ينظر كتاب: إشكالية الإعذار بالجهل في البحث العقدي، لسلطان العميري.:
من أعظم الأصول التي تجب مراعاتها عند الحكم بالكفر والرّدّة: عدمُ التّكفير إلا بعد إقامة الحجّة، ورفع الجهل عن الشّخص المتلبّس بالكفر، ومِن أقوال أهل العلم في ذلك إضافةً لما سبق:
قال ابن حزم رحمه الله: "وَأما مَن قَالَ : إنّ الله -عز وَجل- هُوَ فلَانٌ لإِنْسَان بِعَيْنِه، أَو أَن الله تَعَالَى يحل فِي جسم من أجسام خلقه، أَو أَن بعد مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم نَبيًا غير عِيسَى بن مَرْيَم، فَإِنَّهُ لَا يخْتَلف اثْنَان فِي تكفيره لصِحَّة قيام الْحجَّة بِكُلِّ هَذَا على كلِّ أحدٍ، وَلَو أمكن أَن يُوجد أحدٌ يدين بِهذا لم يبلغهُ قطُّ خِلافُه لما وَجب تكفيرُه حتّى تقوم الحجَّة عليه"الفصل في الملل والأهواء والنحل (3/139)..
وقال ابنُ تيمية رحمه الله: "الأقوالُ التي يكفر قائلُها قد يكون الرّجلُ لم تبلغْه النّصوصُ الموجبةُ لمعرفة الحقِّ، وقد تكون عنده ولم تثبتْ عنده، أو لم يتمكن مِن فهمها، وقد يكون قد عرضَتْ له شبهاتٌ يعذره اللهُ بها، فمَن كان مِن المؤمنين مجتهدًا في طلب الحقِّ وأخطأ، فإنّ اللهَ يغفر له خطأه كائنًا ما كان، سواء كان في المسائل النّظرية أو العملية، هذا الذي عليه أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، وجماهير أئمة الإسلام، وما قسموا المسائل إلى مسائلِ أصولٍ يكفر بإنكارها، ومسائلِ فروعٍ لا يكفر بإنكارها ..."مجموع الفتاوى (23/346)..
وذكر أنَّ معالمَ الدّين قد تندرس وتُنسى لظروفٍ معيّنة، وهذا هو المشاهَد في كثيرٍ من البلاد الإسلاميّة التي قد يغيب عن كثيرٍ مِن أهلها جوانبُ مهمّة مِن العلم بالشرع، قال رحمه الله: "وكثيرٌ مِن النّاس قد ينشأ في الأمكنة والأزمنة الذي يَندَرِس فيها كثيرٌ مِن علوم النّبوّات، حتى لا يبقى مَن يُبلّغ ما بعث اللهُ به رسولَه مِن الكتاب والحكمة، فلا يعلم كثيراً مما يبعث اللهُ به رسولَه عليه الصلاة والسلام، ولا يكون هناك مَن يبلّغه ذلك، ومثلُ هذا لا يكفر؛ ولهذا اتّفق الأئمّةُ على أنَّ مَن نشأ بباديةٍ بعيدةٍ عن أهل العلم والإيمان، وكانكذا في مجموع الفتاوى، ولعلّها: (أو كان) ؛ إذ المقصود إحدى الحالتين، لا الجمع بين الوصفين (د. عمار العيسى). حديثَ العهد بالإسلام فأنكر شيئًا مِن هذه الأحكام الظّاهرة المتواترة فإنّه لا يُحكم بكفره حتى يعرف ما جاء به الرسولُ عليه الصلاة والسلام"مجموع الفتاوى (11/407). .
فاتّهامُ الفصائل بأنها مريدةٌ للعلمانية، ثمّ بناءُ أحكام التّكفير على ذلك مِن غير استفصالٍ ولا نظرٍ للشّروطِ والموانعِ غيرُ صحيح، ولعلّ سببَه منهجُ التّنظيم في الطعن بكلٍّ مشروع غير مشروعه، واعتباره مشروعَ فسادٍ وعلمانية أو ردّة، وتبرئة مشروعه فحسب! كما سبقت الإشارة إليهينظر فتوى (حكم المجالس والتشكيلات التي تحوي مبادئ تخالف الشريعة، والتعاون معها)، http://islamicsham.org/fatawa/2413، وسيأتي مزيد تفصيل عند مناقشة الشبهة العشرين ص ()..
- سادسًا:
اشتراطُ أن تكون الدّولة المسلمةُ دولةً مُطلقة عامّةً لا حدود لها غيرُ صحيح لما يلي:
- لم يرد هذا الاشتراط في كتاب ولا سنّةٍ، ولا قول أحدٍ مِن أهل العلم، ولا يمكن أن تكون الدّولة إلا بحدودٍ واضحةٍ معلومة. فما كانت الدّولة في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام في المدينة، ثم الجزيرة العربية إلا بحدودٍ بين المسلمين وغيرهم، وهكذا كانت في عهد المسلمين طوال تاريخهم. بل إنّ أهل العلم بحثوا في أحكام الثّغور، وهي الأقاليم التي تقع على الحدود مع بلاد الكفار، ومِن المعلوم أنّ هذه الحدود لم تكن باختيار المسلمين، ولا رغبتهم أو تخطيطهم في أكثر الأحيان، بل كانت بسبب عدم قدرتهم على فتح تلك البلاد، فقبلوا بتلك الحدود ورضوا والتزموا بها. وسواء أكان الوقوف عند هذه الحدود بسبب عدم القدرة على قتال الكفار وفتح بلادهم، أو تقسيمها بالاتفاقيات والمعاهدات، فالمؤدَّى والمعنى واحدٌ، فضلاً عن العجز عن تغييرها.
-
العمل داخل نطاق الحدود الحالية لا يعني الرضا والقبول بتقسيم الكفار لبلاد المسلمين، أو الموافقة لهم، فضلًا عن الخضوع لهم، والعمالة لهم، فهذا مِن باب الإلزام بما لا يلزم، وهو باطلٌ شرعًا. قال ابن تيمية رحمه الله: "لازمُ مذهبِ الإنسان ليس بمذهب له إذا لم يلتزمه؛ فإنه إذا كان قد أنكره ونفاه كانت إضافتُه إليه كذبًا عليه"الفتاوى (20/217).. وقال ابنُ حزم رحمه الله: "مَن كفّر النَّاس بِما تؤول إليه أقوالهم فخطأ؛ لأنّه كذبٌ على الْخصم، وتقويلٌ لَهُ ما لم يقل بِهِ"الفَصل في الملل والأهواء والنحل (3/139).. ولا يُعرف عن حركة أو منظّمة جهادية أنها ترضى بهذه التقسيمات الحدودية بين بلدان المسلمين، أو تقدِّم أخوة (الوطن) على أخوة الدّين في التعامل، لكن طبيعة العمل تفرض الالتزامَ بذلك كما سبق في الحديث عن الهجرة والمهاجرين.
-
يلزم مِن هذا الطعن بجميع حركات المقاومة والجهاد التي قامت في العالم الإسلامي بدءًا مِن التحرر مِن الاستعمار إلى اليوم، مِن شرق العالم الإسلامي إلى غربه؛ لأنها كانت حركات وطنية في بلدانهامن شؤم الغلاة أنَّهم أصبحوا مشاريع تقسيم للبلاد الإسلامية وتفتيتها بعكس ما ينادون به، علموا أم لم يعلموا، فلأجل عدم التزامهم بهذه الحدود فإنَّهم يعمدون إلى إعلان إمارات أو ولايات داخل هذه الحدود، أو عابرة لها، مما يؤدي إلى زيادة الانقسام، واستعداء الأعداء، ومن ثم فشل هذه الجماعات كما هو مشاهد معروف؛ لعدم صلاحية مشاريعها للتطبيق..
-
لو كان الالتزام بهذه الحدود محرمًا في أصلِه لكان مشروًعا لما فيه من المصالح المترتبة عليه، وما في عدم الالتزام به من مفاسد، قال العز بن عبدالسلام رحمه الله: "قد يجوزُ الإعانةُ على المعصيةِ لا لِكونها معصيةً بل لكونها وسيلةً إلى تحصيلِ المصلحة الرّاجحة، وكذلك إذا حصلَ بالإعانةِ مصلحةٌ تربو على مصلحةِ تفويتِ المفسدة"قواعد الأحكام (1/87). ومن أسس السياسة الشرعية تقليلُ الشرّ بالإبقاء على الوضع الحالي (ولو كان غير مشروع) تحاشيًا للوقوع فيما هو أسوأ وأشدّ؛ وعملاً بقاعدة (يُغتفر في البقاء ما لا يُغتفر في الابتداء)..
- لو كانَ التزامُ هذه الحدودِ مراعاةً للمصلحةِ والإمكانِ خطأً فهو اجتهادٌ معتبر صَدَر من أهله، أما التكفير به، أو التبديع فهو من جنسِ معتقداتِ الخوارجِ في التَّكفيرِ بالذنوب.
- سابعًا:
تنظيم الدّولة قد التزم فعليًا بحدود الدّول التي ظهر فيها، فسمَّى نفسه (دولة العراق الإسلامية)، ثم (الدّولة الإسلامية في العراق والشام)، فهل كان راضيًا بحدود سايكس-بيكو ثمّ تاب مِن ذلك؟!
فإن قيل: إنَّ المراد النّسبة إلى أقاليم طبيعية كالشام أو العراق، أو بلاد المغرب، أو أرض الكنانة، ونحو ذلك.
فالجوابُ: أنَّها لم تخرج مِن الإقليمية ولا الوطنية اسمًا، كما أنها لم تستطع أن تخرج منها فعلًا.
فإن قيل: إنها ستخرج منها وتمتدُّ حين تملك القدرة على ذلك، وتتوافر الشروط الملائمة.
فيقال: المهم أنَّهم قبلوا بذلك واقعًا، واضطروا إليه، وعاشوه فعليًا، وهذا يعني في فكرهم الرضا به!
ويُلحظ: أنَّ تنظيمَ الدّولة وأشباهه أجاز لأعضائه الالتزام بما يتعلق بهذه الاتفاقيات، مِن استخراج جوازات سفر، والحصول على تأشيرات دخول، والالتزام بقوانين المطارات التي نزلوا فيها....إلخ.
فإن قالوا: كنا مضطرين لذلك حتى نصل لأرض الجهاد!
قيل: والأمة الإسلامية وشعوبها في مرحلة استضعاف واضطرار، وليست في عصر تمكين وسعة وقوة!
بل إنَّ ثورات الحرية تكاد تُختطف أو اختُطفت في عدّة بلدان، والثورةُ السورية يُكاد لها الكثير، وهي لم تنته من تحرير البلاد، وهي في حال اضطرارٍ فعلي. فلماذا يجوز لهذه التّنظيمات وأفرادها في حال اضطرارهم الشّخصي ما لا يجوز لبقية المسلمين في حال الاضطرار العام الذي هو أشدُّ وأعظم؟
بل إنّ تنظيم (الدّولة) قد وقع فيما هو أخطر مِن ذلك، بحيث أصبح تقديم (المهاجرين) على أهل البلاد في المناصب الشّرعية، والدعوية وغيرها أصلًا وقاعدةً ، فوقع في غلوٍّ آخر من هذه الجانب. واحتكر بعض المناصب والقيادات لجنسيات (قُطرية) معينة؛ لضمان الولاء، وعدم ثقته بالآخرين!
- ثامنًا:
إن كانت (العالمية) دليلًا على الحقّ وصحة المنهج، فكثيرٌ مِن الحركات والجماعات المنتسبة للإسلام تعلن أنها حركاتٌ أو جماعاتٌ عالمية، وتمتدَّ أنشطتها وفروعها لبلاد غير المسلمين، وبعضها ، بل خارج عن الإسلام، كالقاديانية، وغيرها. كما أنَّ العديد مِن الحركات والنظريات المعادية للدّين تحمل شعارات ومخططات عالمية، وتعمل على مدِّ نفوذها عبر العالم. فثبت أنَّ مجرَّد رفع شعار (العالمية) لا يدلُّ على صحة المعتقد، أو سلامة المنهج.
- تاسعًا:
تمدّد تنظيم (الدّولة) خارج الحدود لم يأت على المسلمين إلا بنتائج عكسية وخيمة، وذلك لأنَّ تمدّده كان على حساب حركات ومنظمات مقاومة أخرى، عمل على تكفيرها، وتخوينها، ومِن ثَمّ الطّعن فيها أثناء مقاومتها، ومِن أظهر صور ذلك تمدده في سورية، وأفغانستان، وفلسطين!
بل إنَّ إعلان انهيار الحدود مع كلٍّ مِن العراق ولبنان قابله إعلانٌ سافر بالتّدخل الإيراني في سورية عن طريق العراق، وتدخل ميليشيات حزب الله عن طريق لبنان، وقد أعطى تنظيم (الدولة) بفعله ذلك الذّريعة لهؤلاء لإعلان التدخل صراحةً، مع الحصول على موافقة صريحة أو ضمنية مِن العالم بدعوى محاربة الإرهاب لم يحدث إلا بعد هذه الحوادث.
أمّا تمدَّد هذا التّنظيم لدول غير إسلامية بالتفجير والقتل والاغتيال: فبالإضافة إلى أن فيه نقضًا لعهود الدّخول إلى تلك البلاد بالكذب والخديعة، وقتل مَن لا يستحقّ القتل فيها مِن عامة الناس، فإنَّ فيه استعداءً لتلك الدول، ودفعًا لها للدّخول في حربٍ علنيّة (مشروعة) مع المسلمين، والتّضييق على المسلمين في تلك البلاديستدل العديد مِن الغلاة على مشروعية القيام بأمثال هذه العمليات التفجيرية في بلاد المسلمين وغير المسلمين، بأنَّه قد قام بالمطلوب منه وهو الإثخان في العدو أو التسبب بخسارتهم، وإن لم تكن النتائج كاملة، كما يزعمون. وعلى الرغم من بطلان هذا الكلام شرعًا، وعدم صحته واقعًا، وجهل قائله بأصول الجهاد، والسياسة الشرعية ومراعاة المآلات، فإن في تصرفاتهم شبهًا بالخوارج الأولين. فقد جاء في "التذكرة الحمدونية": " كبِر رجلٌ مِن الخوارج وهرم حتى لم يكن فيه نهوضٌ، فأخذ منزلًا على ظهر الطريق، فلما جاء مطرٌ، وابتلّت الأرض أخذ زجاجًا وكسره ورماه في الطريق، فإذا مرّ به رجلٌ وعقر رجلَه الزجاجُ، قال الخارجي مِن وراء الباب: لا حكم إلا لله، اللهمّ هذا مجهودي! وكان بالمدينة آخر منهم فرئي وهو يحذف قناديل المسجد بالحصباء فيكسرها، فقيل له: ما تفعل؟ قال: أنا كما ترى شيخ كبير لا أقدر على أكثر من هذا، أغرّمهم قنديلًا أو قنديلين في كلّ يوم" (التذكرة الحمدونية، 9/330)..
ومصلحةُ هذا التّمدد -إن كانت موجودة- فهي أقلُّ بكثيرٍ مِن المفاسد المترتبة على ذلك.
- والخلاصةُ:
أنَّ الراية هي الغاية من القتال، وغاية الفصائل في سوريا في مدافعة العدو غاية مشروعة، ولا يشترط لصحة هذه الغاية أن ترفع شعارات معينة، أو أن تكون عامةً لجميع البلدان، كما ظن ذلك تنظيم (الدّولة) بغلوه وجهله، وما ترتب على ذلك من تكفير سائر الفصائل وطعنه بها.
المصدر: كتاب "شُبهات تنظيم "الدولة الإسلامية" وأنصاره والرَّد عليها" الشُّبهة الحاديةَ عشرةَ ، د. عماد الدين خيتي
إضافة تعليق جديد