الأربعاء 13 نوفمبر 2024 الموافق 11 جمادي اول 1446 هـ

بحوث ودراسات

الأصول التي يقوم عليها الغلط في باب التكفير

08 شعبان 1437 هـ


عدد الزيارات : 7991
سلطان العميري

    لا بد من التأكيد في بداية هذه الورقة على أن التكفير حكم شرعي ثابت بالنص والإجماع، لا يصح إنكاره أو التقليل من شأنه، وهو أصل شرعي تترتب عليه أحكامٌ كثيرة في الدنيا والآخرة.

وإذا كان الأمر كذلك فإنه يجب الاهتمام به وبضبطه كما يجب الاهتمام بكل الحقائق الشرعية الأخرى، وكما أن الحقائق الشرعية الأخرى قد يقع الخطأ والانحراف عند كثير من الدارسين لها، فكذلك قضية التكفير قد يحصل فيها ذلك الأمر.

ولا زالت قضية التكفير منذ عقود من أشد القضايا التي يشتعل حولها الخلاف والجدل، وتتصارع في حلبتها التيارات والمذاهب، وقد اختلفت فيها الآراء بين غالٍ في التكفير متوسع في إطلاقه على المسلمين، وبين مفرط فيه ومضيق لحدوده التي قررها علماء أهل السنة.

وقد كُتِبَتْ بحوث كثيرة في باب التكفير، شرحت شروطه وضوابطه، وبيّنت مظاهر الغلو والجفاء فيه، وكشفت عن آثار الانحراف في تأصيله أو في تطبيقه.

ولستُ هنا في مقام التحذير من التساهل في تكفير المسلمين والمسارعة فيه، فقد كتبتُ فيها ورقة سابقة منشورة في عدد من المواقع الإلكترونية بعنوان (علماء المسلمين ومهلكة التكفير).

وفي هذه الورقة سيتركز الحديث عن الأصول التي يقوم عليها الغلط في باب التكفير من جهة التساهل فيه والمسارعة إلى إنزاله بالمعينين والحكم عليهم بالخروج من الدين، وذلك لمسيس الحاجة إليها وكثرة السؤال عنها.

ودراسة هذه الأمور من أهم ما يبين موطن الخلل في ظاهرة التشدد في التكفير، ومن أقوى ما يكشف عن مقدار الخلل والبعد عن منهاج أئمة أهل السنة والجماعة.

والوقوف عليها من أنفع ما يساعد طلبة العلم الذين يقصدون إلى دراسة هذه القضية وفهمها، أو الذين أشكلت عليهم بعض التنظيرات أو التطبيقات.

والأصول التي يقع بسببها الغلط في باب التكفير كثيرة، وهي منتشرة عند عدد من جماعات التكفير وغيرها عبر التاريخ الإسلامي، ولكن لن نذكر في هذه الورقة إلا أهم الأصول التي لها حضور ظاهر وبيّن في ساحاتنا الشرعية ونوادينا الفكرية.

وقبل الولوج في تفاصيل تلك الأصول لا بد من التأكيد على أن الصور المندرجة ضمنها متفاوتة فيما بينها، فبعضها بعيد جدًا عن النصوص الشرعية لم يقبل بها أحد من العلماء، وإنما قال بها الغلاة من التكفيريين فقط، وبعضها قريب جدًا، وهي محل بحث وخلاف واجتهاد بين العلماء، والجمع بين كل تلك الصور هنا ليس المقصود منه المساواة بينها في الحكم بالتخطئة، وإنما جُمع بينها باعتبار موضوع الورقة فقط.

ويمكن تحصيل الأصول التي وقع فيها الغلط في التكفير على تفاوت صوره في الأصول التالية:

الأصل الأول: التكفير بالظن.

ومعنى التكفير بالظن ألا يكون عند الشخص في تكفير أخيه المسلم إلا الظن، ولا يملك بيّنة يقينية ظاهرة في تكفيره.

ومثل هذا الصنيع يعد مخالفة ظاهرة، لتحذير أئمة أهل السنة وفقهاء الإسلام من أنه لا يصح التساهل في التكفير، ولا الاعتماد فيه على حجج ضعيفة لا تؤهل المرء إلى أن يحكم على شخص ثبت له وصف الإسلام بالدليل اليقيني.

وفي النهي عن الاعتماد على الظن في التكفير يقول ابن عبد البر: "القرآن والسنّةُ ينهيَان عن تفسيقِ المسلم وتكفيرِه ببيان لا إشكالَ فيه... فالواجبُ في النّظر أن لا يكفَّر إلاّ من اتّفق الجميعُ على تكفيرِه، أو قامَ على تكفيره دليلٌ لا مدفعَ له من كتابٍ أو سنّة"التمهيد (17/22)..

وهذا الحكم من ابن عبد البر من أقوى ما يدل على أهمية التثبت في التكفير ومن أشد ما ينهى عن الاعتماد فيه على الظنون والأوهام.

وفي تأكيد ذلك يقول ابن تيمية: "ليس لأحد أن يكفر أحداً من المسلمين وإن أخطأ وغلط حتى تقام عليه الحجة وتبين له المحجة. ومن ثبت إيمانه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشك، بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة وإزالة الشبهة"مجموع الفتاوى (12/501)..

وينقل ابن حجر الهيتمي عن أئمة الشافعية بأنهم كانوا يحتاطون كثيراً في باب التكفير فيقول: "ينبغي للمفتي أن يحتاط في التكفير ما أمكنه، لعظم خطره وغلبة عدم قصده، سيّما من العوام، وما زال أئمتنا على ذلك قديمًا وحديثًا"تحفة المحتاج في شرح المنهاج (4/84)..

فهل يكون الاحتياط والتحوّط مع الاعتماد على الظنون في تكفير المسلمين؟!!

وأما أئمة الحنفية فإنهم أكدوا على أهمية الاحتياط الشديد في باب التكفير، وذكروا بأنه لا يحق للمفتي أن يقدم عليه إلا بيقين، وأن الأولى أن ينصرف عنه ما وجد إلى ذلك سبيلًا، ونقل ابن عابدين بعض نصوص أئمة مذهبه فقال: "في الفتاوى الصغرى: الكفر شيء عظيم، فلا أجعل المؤمن كافرًا متى وجدت رواية أنه لا يكفر".

وفي الخلاصة وغيرها إذا كان في المسألة وجوه توجب التكفير، ووجه واحد يمنعه، فعلى المفتي أن يميل إلى الوجه الذي يمنع التكفير تحسيناً للظن بالمسلم، زاد في البزازية: إلا إذا صرح بإرادة موجب الكفر فلا ينفعه التأويل، وفي التتارخانية: لا يُكفّر بالمحتمل، لأن الكفر نهاية في العقوبة، فيستدعي نهاية في الجناية، ومع الاحتمال لا نهاية"حاشية ابن عابدي (4/224)..

فلاحظ أخي المسلم كيف أن أئمة الحنفية ربطوا وجوب التشدد في التكفير والاحتياط الشديد في إنزاله بالمسلم بعظمة الآثار المترتبة عليه في الدنيا والآخرة.

ومن العلماء الذين حذّروا من الاعتماد على الظنون في باب التكفير الشوكانيُ حيث يقول: "اعلم أن الحُكم على الرجل المسلم بخروجه من دين الإسلام ودخوله في الكفر لا ينبغي لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يُقدم عليه إلا ببرهان أوضح من شمس النهار"السيل الجرار (978)..

ويقول الشيخ العثيمين مقرراً ذلك الأصل: "الأصل فيمن ينتسب إلى الإسلام بقاء إسلامه حتى يتحقق زوال ذلك عنه بمقتضى الدليل الشرعي"شرح كشف الشبهات (55)..

وكل هذه النصوص تدل على أن أئمة المذاهب الإسلامية كانوا يحذرون غاية التحذير من الاعتماد على الظنون في تكفير المسلمين ويلزمون فيه الأخذ بالتحوّط الشديد والبحث عن اليقين والبرهان البيّن الذي لا لبس فيه ولا إشكال.

وقد ذكر الغزالي في أثناء حديثه أنه يجوز الاعتماد على غلبة الظن في التكفير، ولكنه مع ذلك نبّه على أنه يجب على المسلم أن يبتعد عنه ما أمكنه، حيث يقول: "التكفير حكم شرعي يرجع إلى إباحة المال وسفك الدماء والحكم بالخلود في النار، فمأخذه كمأخذ سائر الأحكام الشرعية، فتارة يدرك بيقين، وتارة يدرك بظن غالب، وتارة يتردد فيه، ومهما حصل تردد فالتوقف عن التكفير أولى، والمبادرة إلى التكفير إنما تغلب على طباع من يغلب عليهم الجهل"فيصل التفرقة، ضمن مجموع رسائل الغزالي (248)..

وإذا تقرر أنه لا يصح الاعتماد على الظنون في باب التكفير فإن الصور الظنية التي يعتمد عليها المتساهلون في التكفير كثيرة متعددة، ومن أهمها:

      الصورة الأولى: التكفير بالأعمال المحتملة، فتجد بعض الأشخاص يبادر إلى تكفير أخيه المسلم بمجرد أن صدر منه عمل محتمل لمعاني كثيرة ليس متمحّضًا في المعنى الكفري البيّن، كمن يكفر المسلم بمجرد جلوسه أو حواره مع الكافر المقاتل، بحجة أن هذا الفعل يتضمن الخيانة للمسلمين أو الموالاة للكافر!

ومن المعلوم أن الجلوس مع الكافر الأصلي مباح من حيث الأصل، ثم هو يحتمل معاني كثيرة، فقد يكون الجلوس معه لأجل تحذيره وتهديده، وقد يكون لأجل إيصال رسالة من المسلمين، وقد يكون لأجل معرفة ما يخطط له في محاربته للمسلمين، وقد يكون لأغراض أخرى.

فالقول بأن الجلوس مع الكافر الأصلي لا يحتمل إلا معنى واحدًا فقط، هو نوع من تكفير المسلمين بالظنون التي حرّمها ومنع أئمة المسلمين منها.

وكذلك تكفير المسلم لأجل مدح الكفار له، فمدح الكافر ليس دليلًا بيّنًا على أن المسلم وقع في الكفر، فقد يكون مدحه لأجل صدقه وأمانته، ويكون يكون لأجل حنكته ومهارته، وقد يكون خبثًا من الكافر ومكراً، فالمسارعة إلى تكفير المسلم بمجرد سماع مدح الكافر له ضلال مبين.

وكذلك تكفير من يثني على النظام الديمقراطي، بحجة أنه يثني على الكفر، مع أن النظام الديمقراطي منظومة كبيرة تحتوي عددًا من المبادئ والأصول، وكثير منها موافق لأصول الشريعة الإسلامية، فمن يثني على الديمقراطية يحتمل أنه يقصد تلك المعاني الصحيحة.

وكذلك تكفير من يطالب بالدولة المدنية، بحجة أنه يطالب بالكفر، ومن المعلوم أن مصطلح الدولة المدنية محتمل لمعاني متعددة، ومنها الدولة التي لا يحكمها النظام العسكري، وهذا المعنى صحيح صائب.

     الصورة الثانية: تكفير الطائفة بأفعال بعض أفرادها، فقد تصدر أفعال كفرية من بعض الأفراد المنتسبين إلى طائفة كبيرة، فيبادر بعض الأشخاص إلى تكفير كل الطائفة بحجة أن بعض أفرادها كفار.

وهذا من التساهل المحرم في التكفير، ومن اتباع الظنون والتوهمات التي ما أنزل الله به من سلطان.

     الصورة الثالثة: الاعتماد على الأخبار غير المحققة في التكفير، فتجد بعض الأشخاص يحكم على عدد كبير من إخوانه المسلمين بالكفر بمجرد أنه سمع خبراً لا يملك دليلاً على صحته وثبوته، بل قد يكون مصدر الخبر كافر محارب! ، ومع ذلك يعتمد عليه ويكفر إخوانه المسلمين.

     الصورة الرابعة: التكفير بالجملة بلا بينة ولا برهان، فقد قال بعض المعاصرين: "كنا نظن أن هذا البلد –السعودية- أنه مصان من البدع والضلالات والشركيات والكفريات، فوجدنا أن من ينتسب إلى العلم كثير منهم إن لم يكونوا مرتدين فهم فسقة مبتدعة" !! ولما روجع في هذا الحكم ذكر أنه يقصد بالمنتسبين إلى العلم: من يعمل في التعليم الأكاديمي!!

وهو في هذا التكفير بالجملة لم يقدم أي دليل!، ومن المستبعد جدًا أن يكون قام بدراسة شاملة لكل من هو منتسب إلى التعليم وتحقق من حالهم، ومن ثَمّ توصل إلى الحكم على أكثرهم بالردة والفسق!!

  • الأصل الثاني: التكفير باللازم.

ومعنى هذا الأصل أن يكفّر الشخصُ أخاه المسلم بلازم القول أو الفعل الذي صدر منه، وليس بالقول أو الفعل ذاته.

وقد اختلف العلماء في بحث مسألة لازم القول هل هو قول لصاحب القول أم لا ؟! على أقوال متعددة.

والصحيح الذي عليه المحققون من العلماء على أن لازم القول ليس بقول، وأنه لا يصح أن يُنسب إلى صاحب القول إذا لم يلتزمه بنفسه.

وأقوال العلماء التي قررت هذا القول كثيرة جداً، ومن ذلك قول ابن تيمية: "الصواب: أن لازم مذهب الإنسان ليس بمذهب له إذا لم يلتزمه، فإنه إذا كان قد أنكره ونفاه كانت إضافته إليه كذبًا عليه، بل ذلك يدل على فساد قوله وتناقضه في المقال غير التزامه اللوازم التي يظهر أنها من قبل الكفر والمحال مما هو أكثر، فالذين قالوا بأقوال يلزمها أقوال يعلم أنه لا يلتزمها لكن لم يعلم أنها تلزمه، ولو كان لازم المذهب مذهباً للزم تكفير كل من قال عن الاستواء أو غيره من الصفات أنه مجاز ليس بحقيقة، فإن لازم هذا القول يقتضي أن لا يكون شيء من أسمائه أو صفاته حقيقة"مجموع الفتاوى (20/217)..

فابن تيمية هنا يؤكد على أن لازم الكفر ليس بقول، ثم يؤكد بوضوح على أنه لا يصح الاعتماد على اللازم في تكفير المسلمين، وضربَ أمثلةً واضحة على ذلك.

وينكر ابن حزم تكفير المسلمين بالمآل -باللازم- ويحذر منه غاية التحذير فيقول: "وَأما من كفر النَّاس بِمَا تؤول إِلَيْهِ أَقْوَالهم فخطأ، لِأَنَّهُ كذبٌ على الْخصم وتقويلٌ لَهُ مَا لم يقل بِهِ، وَإِن لزمَه فَلم يحصل على غير التَّنَاقُض فَقَط، والتناقض لَيْسَ كفراً بل قد أحسن إِذْ فر من الْكفْر... فصحّ أنه لا يكفر أحد إلا بنفس قوله ونصّ معتقده، ولا ينتفع أحد بأن يعبر عن معتقده بلفظ يحسن به قبحه، لكن المحكوم به هو مقتضى قوله فقط"الفصل في الملل والأهواء والنحل (3/294)..

ويحذّر الذهبي من الاعتماد على اللازم في التكفير ويبيّن الآثار المترتبة على ذلك فيقول: "ولا ريب أن بعض علماء النظر بالغوا في النفي والرد والتحريف والتنزيه بزعمهم حتى وقعوا في بدعة أو نعت الباري بنعوت المعدوم.

كما أن جماعة من علماء الأثر بالغوا في الإثبات وقبول الضعيف والمنكر ولهجوا بالسنة والإتباع فحصل الشغب ووقعت البغضاء، وبدّع هذا هذا، وكفّر هذا هذا.

ونعوذ بالله من الهوى والمراء في الدين، وأن نكفر مسلمًا موحدًا بلازم قوله وهو يفر من ذلك اللازم وينزه ويعظم الرب"الرد الوافر, ابن ناصر الدين الدمشقي (20)..

وممن نهى عن الاعتماد على اللازم في تكفير المسلمين: ابن حجر حيث يقول: "والذي يظهر أن الذي يُحكَم عليه بالكفر مَنْ كان الكفرُ صريحَ قوله، وكذا من كان لازم قوله وعرض عليه فالتزمه، أما من لم يلتزمه وناضل عنه فإنه لا يكون كافراً ولو كان اللازم كفرًا"فتح المغيث, السخاوي (1/334), وانظر مزيداً من أقوال العلماء في: نواقض الإيمان القولية والعلمية, عبدالعزيز العبداللطيف (81-84)..

والصور التي يمكن أن تدخل تحت التكفير باللازم كثيرة جدًا، وقد ذكر الفقهاء أمثلة عديدة عليها، ومن ذلك ما ذكره المقبلي من أن بعض المتفقهة كفّر أحد الناس لأنه منعه من نعله، بحجة أنه أهان العلماء ومن أهان العلماء فقد أهان الشريعة!!انظر: العلم الشامخ (413)..

ومن الصور المندرجة ضمن التكفير باللازم: تكفير من يعارض تأسيس حكومة معينة تعلن إعادة الخلافة الإسلامية، بحجة أن من يعارضها يعارض حكم الشريعة!!، وكذلك تكفير من لم يرض بالتحاكم إلى محاكم مُعيّنة، بحجة أنه لم يرض بحكم الشريعة!! وتكفير من يقاتل فصيلًا معينًا بحجة أنه يقف ضد تحكيم الشريعة!! وتكفير الجبهات الإسلامية التي حمت بعض مقرات الدولة الكافرة، بحجة أنها تحامي عن الكفر وتدافع عنه!!

  • الأصل الثالث: التكفير بالأمر غير المُكفّر.

ومعنى هذا الأصل: أن يعتمد الشخصُ في تكفير إخوانه المسلمين على أعمالٍ ليست داخلة في جنس المكفرات، أو أن دخولها مشكوك فيه ولا يعتمد على بينة ظاهرة.

وقد ذكر أئمة أهل السنة على أنه لا يجوز للمسلم أن يُدخل شيئًا من الأعمال في جنس المكفرات إلا بدليل بيّن ظاهر لا لبس فيه، وكل أقوالهم التي تدل على وجوب الاحتياط في التكفير تتضمن بالضرورة الدلالة على وجوب الاحتياط في تحديد الأعمال المُكفّرة.

فإذا كان التكفير أمر خطير في دين الله، وتترتب عليه آثار عظيمة فإنه يجب الاحتياط الشديد في أسبابه وموجباته كما يجب الاحتياط الشديد في تحققه في المعين.

ومن شروط تكفير المُعيّن الضرورية عند أهل السنة والجماعة: التأكد من فعله، وإثبات كونه كفراً ظاهراً لا لبس فيه، وفي بيان ذلك يقول الشيخ العثيمين: "الواجب قبل الحكم بالتكفير أن يُنظر في أمرين: الأول: دلالة الكتاب والسنة على أن هذا مُكفّر، لئلا يفتري على الله الكذب، والثاني: انطباق الحكم على الشخص المعين، بحيث تتم شروط التكفير في حقه وتنتفي الموانع"شرح كشف الشبهات (57)..

ومن أكثر الطوائف التي وقعت في هذا الخلل المنهجي: فرقة الخوارج، فإنها بادرت إلى تكفير المسلمين بفعل الكبيرة، فخالفوا بذلك دلالة الكتاب والسنة القطعية والإجماع القطعي المنقول عن الصحابة.

ولكن هذا الخلل ليس خاصاً بالخوارج ولا بالتكفير بالكبيرة، وإنما يدخل فيه من يبادر إلى تكفير المسلمين بأعمال محتملة في الدلالة على الكفر، وبأعمال لا يملك عليها دليلًا بيّناً في كونها من جنس المكفّرات.

ومن أمثلة ذلك: تكفير بعض المعاصرين لمن يقيم في بلاد الكفار ومن يترك الهجرة من بلادهم، ويعتمد في حجة ضعيفة بيّنة الضعفانظر: الغلو في الدين, عبدالرحمن اللويحق (308).، وكذلك تكفير بعضهم كل من خرج عن جماعتهم التي يعدونها الجماعة الممثلة للمسلمين!انظر: المرجع السابق (303)..

ومن ذلك أيضًا: تكفير كل من يعمل في الوظائف الحكومية في الدول التي لا تحكم بشرع الله، بحجة أن العمل فيها عمل بالكفر وإقرار به، وبناء على ذلك كفّر بعض الغلاة في التكفير المجتمعات الإسلامية! وهذا كله غير صحيح، فإن الأعمال والوظائف كثيرة الأنواع ومختلفة الأصناف، فبعضها كفر صريح، وبعضها ليس كذلك وإنما هي بعيدة كل البعد عن التشريع والكفر، فالعمل بها ليس عملاً بالكفر من حيث الأصل.

  • الأصل الرابع: التوسع في تطبيق قاعدة من لم يكفر الكافر.

ومعنى هذا الأصل أن بعض الأشخاص يترجح لديه كفر عددٍ من المعينين، ولكنه لا يقتصر على ذلك وإنما يحكم بالكفر على كل من لم يكفرهم.

وقاعدة (تكفير من لم يكفر الكافر) مشهورة عند العلماء، وهي أصل صحيح مجمع بينهم، وقد قرره جملة من الفقهاء، ولكنهم في الوقت نفسه يؤكدون على أن هذا الأصل ليس مطلقًا، وإنما هو مقيد بشروط محددة، مثل أن يكون كفر الكافر ثابت بنص شرعي بيّن، أو بإجماع قطعي لا لبس فيه ولا اضطراب، وأما إذا كان كفر المُعيّن ليس ثابتًا بنص شرعي وبإجماع قطعي لا لبس فيه فإنه لا يصح تكفير من لم يكفره، وما زال العلماء والفقهاء يختلفون في مسائل كثيرة، بعضهم يعدُّها كفراً والآخرون لا يعدونها كفراً، ومع ذلك لم يكفر بعضهم بعضًاوقد كتبت ورقة بحثية في تحرير هذا الأصل وتحديد أقسامه وضوابطه, ستنشر قريبًا..

وصور الغلط التي تندرج تحت هذا الأصل كثيرة  ومن ذلك أن بعض المثقفين ذكر أنه يجوز الاعتراض على الله، فقام أحد الشيوخ بتكفيره، ولم يقتصر على ذلك، وإنما قال: ومن لم يكفره فهو كافر!!

مع أن ذلك المثقف لم يكن كلامه صريح في أنه يقصد المعنى المكفّر، وسياق حديثه يدل أيضًا على أنه كان يقصد معنى خارجاً عما يتبادر من ظاهر لفظه.

ومن الصور المندرجة ضمن هذا الأصل: أن بعض المعاصرين يحكم بالكفر على كل من يخالفه في الحكم بغير ما أنزل الله، بحجة أنه لم يكفر الكافرانظر: الغلو في الدين, عبدالرحمن اللويحق (314).، مع أن قضية الحكم بغير ما أنزل الله تندرج تحتها صور كثيرة، وفي كثير من صورها خلاف مشهور معتبر بين العلماء.

ومن الصور المندرجة ضمن هذا الأصل: أن بعض المعاصرين اختار القول بأن الجهل ليس عذراً في مسائل الشرك -ومع أن قوله هذا ليس بصحيح وإنما الصحيح أن الجهل عذر معتبر في مسائل الشرك وغيرها- إلا أنه لم يكتف بذلك وإنما أخذ يقرر بأن من عَذَرَ بالجهل كافرُ بإجماع الأمة!!

وقوله هذا توسع ظاهر في قاعدة عدم تكفير الكافر، ويستلزم تكفير كل العلماء الذين ثبت عنهم الإعذار بالجهل، بل يستلزم تكفير العلماء الذين نصوا على أن قضية الإعذار بالجهل من مسائل الاختلاف، كالشيخ العيثمين وغيره، فهؤلاء العلماء -وإن سلمنا- أنهم ممن يقول بعدم الإعذار بالجهل فإنهم ينصّون على أنها مسألة خلافية.

وقد ذكرت اللجنة الدائمة ممثلة في الشيخ عبدالعزيز بن باز والشيخ عبدالرزاق عفيفي أنه "لا يجوز لطائفة الموحدين الذين يعتقدون كفر عباد القبور أن يُكفّروا إخوانهم الموحدين الذين توقفوا في كفرهم حتى تقام عليهم الحجة، لأن توقفهم عن تكفيرهم له شبهة، وهي اعتقادهم أنه لا بد من إقامة الحجة على أولئك القبوريين قبل تكفيرهم، بخلاف من لا شبهة في كفره كاليهود والنصارى والشيوعيين وأشباههم، فهؤلاء لا شبهة في كفرهم ولا في كفر من لم يكفرهم"فتاوى اللجنة الدائمة (2/151)..

  • الأصل الخامس: فتح باب تكفير المسلمين لكل من لم يتأهل للحديث فيه.

ومعنى هذا الأصل: الدعوة إلى ممارسة التكفير وإنزاله بالمعينين من المسلمين لكل من لم يكن متأهلاً للنظر في الأحكام الشرعية، كمثل دعوة العوام وصغار طلبة العلم إلى التكفير وفتح الباب لهم.

وهذا المنهج مخالف لطريقة أئمة أهل السنة، فإن التكفير حكم شرعي، والأحكام الشرعية لا يجوز أن يخوض فيها إلا من يحسن الكلام في الأحكام الشرعية وحاز قدراً كبيراً من العلم، بل إنَّ هناك أبواباً من الأحكام الشرعية تتطلب مزيد اختصاص ومعرفة بأصول الشريعة ومقاصدها، والكلام فيها لا يكون إلا لخاصة العلماء.

ومن هذه الأبواب: باب التكفير، لأنه باب يحتاج إلى موازنات بين الأصول المتعارضة في حق المسلم الواقع في الكفر، ويتطلب قدراً كبيراً من الفقه في الترجيح بينها، ولأنّه تترتب عليه نتائج خطيرة وآثار عظيمة، ولأن فيه تحديداً لمصير المسلم عند الله والحكم عليه بالعذاب الأبديّ، فلما كان كذلك أكّد عدد من العلماء على أنه لا يصح أن يُفتح فيه البابُ للعوام ولا لغيرهم ممن لا يُحسن الحديث في الأحكام الشرعية، وفي بيان ذلك يقول ابن تيمية: "إن تسليط الجهّال على تكفير علماء المسلمين من أعظم المنكرات، وإنما أصل هذا من الخوارج والروافض الذين يكفرون أئمة المسلمين لما يعتقدون أنهم أخطئوا فيه من الدين"مجموع الفتاوى (35/102-103)..

إنّ تكفير المسلم مختلف تمام الاختلاف عن تكفير الكافر الأصلي كاليهودي والنصراني، فالكافر الأصلي الأمرُ فيه ظاهر ولا لبس في حاله، ولم تتعارض في حقه الأصول والظواهر، وليس في تكفيره رفع لأحكام شرعية ثابتة له، وأما تكفير المسلم فالأمر فيه مختلف، فقد تعارضت في حقه الأصول والظواهر، وفي تكفيره رفعٌ لأحكام ثابتة له، وإلحاقُ أحكامٍ أخرى به، ففيه نفيٌ لمحبة الله له وإثباتٌ لغضب الله عليه، وفيه رفعٌ لجميع الأحكام المتعلقة بالإسلام في الدنيا والآخرة وإثبات أحكام الكفر.

ومثل هذه الأحوال تتطلب قدراً عالياً من الإثباتات والاحتياطات وفقهاً في الموازنات، وهي ليست من الأمور المتاحة لكل أحد.

ولكن بعض المعاصرين يُصّور باب تكفير المسلم الواقع في الكفر على أنه شبيه بالمعادلات الرياضية المحضة، وأنه باب سهل المراس وأنه لا يحتاج إلا أن يحفظ الشخص القواعد ثم يُنزّلها على المعينين من المسلمين تنزيلاً رياضياً، ولهذا تراه يدعو إلى ولوج العوام وصغار طلبة العلم في باب التكفير، ويصوّر لهم الأمر بأنه سهل خفيف المؤونة!

وكل ذلك مخالف لمنهج أهل السنة والجماعة في التعامل الحذِرِ مع باب التكفير، وتخويفهم من الولوج فيه إلا لمن يدرك مآخذ الأحكام الشرعية.

وقد سأل رجل الشيخَ صالح الفوزان -وهو ممن لا يَعذر بالجهل في مسائل الشرك- عن رجل يدعو غير الله، فأخبرته إن هذا العمل شرك، فلم يستجب لي، فهل أحكم عليه بالشرك ؟! أم لا بد أن يحكم عليه بذلك عالم من العلماء؟!

فأجاب: "ما نحكم عليه بالشرك حتى نسمع كلامه، ونستقرئ حالته، هل هو صحيح العقل أو مخبول؟! هذا لا بد يرجع فيه إلى أهل العلم، ويبلغ عنه أهل العلم في بلده، من أجل أن يتخذوا معه الإجراء اللازم"دروس في شرح نواقض الإسلام (57)..

  • الأصل السادس: التركيز على باب التكفير والإكثار من الإلحاح عليه.

ومعنى هذا الأصل: التعامل مع قضية إنزال حكم الكفر بالمسلمين الذين يقعون في المكفرات على أنه أمر مقصود لذاته في الشريعة، وعلى أن تكفير المسلمين أمر أساسي من أساسيات الدين، والإنكار على المعاصرين بأنهم لم يكثروا من الحديث عنه.

وقد حدث من بعض المعاصرين أن ألغى كثيراً من دروسه العلمية وأخذ في التركيز على باب التكفير وعقد فيه عشرات الدروس والمحاضرات، وطفق يصوّر لطلاب العلم بأن قضية تكفير المسلمين الواقعين في المكفرات وإنزال أحكام الكفر بهم الجزء العظيم من الدين، فرّط فيه المعاصرون وصرفوا الأنظار عنه، ويصور أن صنيعهم ذلك يدخل في تحريف دين الله.

وبات يصور لهم بأن معرفة مسألة تكفير من وقع في الكفر من المسلمين من أول الأساسيات التي يجب أن يتعلمها طالب العلم في دراسة العقيدة، وأن عدم تعلمها دليل على فساد المنهج التعليمي!

ولا شك أن مسألة التكفير -تكفير المسلمين الذين يقعون في المكفرات- قضية مهمة في الدين ولا أحد ينازع في ذلك من المسلمين، ولكن تصويرها بصورة أكبر من حجمها، وإدراجها في الأساسيات الأولية في دراسة علم العقيدة، وتركيز الكلام حولها على أنها من أوجب الواجبات التي لا يتحقق التوحيد إلا بها، كل ذلك داخل في أصول الغلط في باب تكفير المسلمين.

  • الأصل السابع: إلغاء موانع التكفير أو تضييق حدودها الشرعية.

ومعنى هذا الأصل: أن يعمد الشخص إلى تضييق موانع التكفير التي جاءت بها النصوص الشرعية، ويصل بها إلى حد قريب من الإلغاء، أو أن يلغي اعتبارها في أبواب كاملة من الدين.

فكثير من الناس يقرّ بمشروعية موانع التكفير ويسلّم بها، ولكنه مع ذلك يسعى إلى تضييقها إلى درجة تكاد تصل إلى الإلغاء، ولا يكون لها أثر بيّن في دفع حكم الكفر عن المسلمين.

وهذا الأصل له صور عديدة، ومن تلك الصور:

     الصورة الأولى: إلغاء بعض جماعات التكفير لمانع الإكراه، وقولهم بأنه لا إكراه في الإسلام!، وانتهوا بذلك إلى تكفير المجتمعات الإسلامية بحجة أنه نفذت فيها أحكام الشرك من قبل حُكامها ولم يراعوا حالة الاستضعاف والإكراه!انظر: شبهات التكفيريين, عمر قريشي (397)..

     الصورة الثانية: القول بأن الحجة الرسالية تقوم بمجرد إمكان بلوغ النص، فهذا القول مع أن عدداً من العلماء قال به إلا أنه مخالف للنصوص الشرعية التي تدل على أن الحجة إنما تقوم على المكلّف بفهم النص الشرعي وإدراك معناه الصحيح، ولا تقوم عليه حكماً إلا إذا فرّط وقصّر في البحث عن الحجةانظر: إشكالية الإعذار بالجهل في البحث العقدي, للباحث (143-165) و (176-190)..

وقد ترتب على هذه الصورة من الخطأ في التعامل مع موانع التكفير: تكفير جماعات كبيرة من المسلمين بحجة أن الحجة الرسالية قامت عليهم بمجرد البلوغ وأن الحجة كانت ممكنة في حقهم.

     الصورة الثالثة: إلغاء موانع التكفير في أبواب كاملة من الدين، فقد ذهب بعض أهل العلم إلى أنه لا يُعذر بالجهل والتأويل في المسائل الظاهرة، وإنما موانع التكفير خاصة بالمسائل الخلافية فقط، وهذا القول غير صحيح، وهو مخالف للأدلة الشرعية وللأصول التي يقوم عليها التكليف في الدين، ومعارض لتقريرات كثير من المحققين من أهل السنة.

وقد بيّنتُ مواطن الخطأ في هذه الصورة والتي قبلها في كتاب "إشكالية الإعذار بالجهل في مسائل الشرك" بكلام مفصل ومطوّل.

وقد ترتب على هذه الصورة مثل ما ترتب على الصورة السابقة من الحكم على جماعات كبيرة من المسلمين بالكفر والخروج من الدين بحجة أنهم خالفوا في مسائل ظاهرة.

ومن خلال استعراض الأصول التي يقوم عليها الغلط في باب التكفير ندرك بأنها في جملتها راجعة إلى الخلل في ضبط قضية شروط التكفير وموانعه، وأن منبع الخطأ فيها راجع إلى تقصير النظر والبحث في حقيقة مذهب أهل السنة والجماعة في تلك القضية.

1 - التمهيد (17/22).
2 - مجموع الفتاوى (12/501).
3 - تحفة المحتاج في شرح المنهاج (4/84).
4 - حاشية ابن عابدي (4/224).
5 - السيل الجرار (978).
6 - شرح كشف الشبهات (55).
7 - فيصل التفرقة، ضمن مجموع رسائل الغزالي (248).
8 - مجموع الفتاوى (20/217).
9 - الفصل في الملل والأهواء والنحل (3/294).
10 - الرد الوافر, ابن ناصر الدين الدمشقي (20).
11 - فتح المغيث, السخاوي (1/334), وانظر مزيداً من أقوال العلماء في: نواقض الإيمان القولية والعلمية, عبدالعزيز العبداللطيف (81-84).
12 - انظر: العلم الشامخ (413).
13 - شرح كشف الشبهات (57).
14 - انظر: الغلو في الدين, عبدالرحمن اللويحق (308).
15 - انظر: المرجع السابق (303).
16 - وقد كتبت ورقة بحثية في تحرير هذا الأصل وتحديد أقسامه وضوابطه, ستنشر قريبًا.
17 - انظر: الغلو في الدين, عبدالرحمن اللويحق (314).
18 - فتاوى اللجنة الدائمة (2/151).
19 - مجموع الفتاوى (35/102-103).
20 - دروس في شرح نواقض الإسلام (57).
21 - انظر: شبهات التكفيريين, عمر قريشي (397).
22 - انظر: إشكالية الإعذار بالجهل في البحث العقدي, للباحث (143-165) و (176-190).

إضافة تعليق جديد