مسألة التكفير: بين منهجين
لطالما وقفتُ في خطاب الفضلاء الذين أرادوا علاج ظاهرة الغلو في التكفير على نصوص جليلة من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، ثم من كلام أهل العلم من الفقهاء وشرّاح الحديث ونحوهم، تُبين خطورة التكفير لما يترتب عليها من أحكام دنيوية وأخروية، ولِمَا ينبني عليها من آثار في فهم واقع المجتمعات والجماعات والأفراد، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يرمي رجلٌ رجلًا بالفسوقِ ولا يرميهِ بالكفرِ إلا ارتدّتْ عليهِ إنْ لم يكنْ صاحبُه كذلك)، وكقوله: (ومنْ قذفَ مؤمنًا بالكفرِ فهُو كَقَتْلِه).
ولا شك أن هذا النوع من الخطاب يُورث لدى المؤمن رهبةً وخشيةً من الإقدام على التكفير، إلا أن الذي يتأمل في حال المقصودين بهذا الخطاب يجد ضعف أثره وقلة جدواه، مما يجعلنا نقول: إن الاقتصار على هذا النوع من الخطاب لا يحسم مادة الداء ولا يستأصل أصل البلاء، بل ثمة معارض قوي في قلوب أولئك المخاطَبين يمنع من قبول هذا الخطاب، والبحث في هذا المقال في هذا المُعارض وعلاجه.
إن المؤمن يعلم أنَّ مُطلق الإفتاء في دين الله أمر خطير، ويعرف طالبُ العلم ما جاء عن السلف رضوان الله عليهم في تدافع الفتيا وكثرة اعتذارهم بـ "لا أدري"، ومسألة التكفير أقلّ أحوالها أن تكون إفتاءً في مسألة من المسائل الفقهية، فلا أقلَّ من أن تُعامل بتروٍّ وأناة كما تُعَامل سائر المسائل الفقهية، إلا أن الذي يستوقفك في حال هؤلاء المكفِّرين بالباطل والعدوان، أنك تجدهم يتسارعون إلى الإفتاء في هذه المسألة دون غيرها من المسائل الفقهية، فلا تجد فيهم حماسًا واندفاعًا للإفتاء في مسائل الصلاة والزكاة والحج والبيوع والزواج والطلاق كما تجد فيهم حماسًا واندفاعًا للإفتاء بالكفر والردة!
وقد يبادر الناظر في تفسير هذه الظاهرة إلى إرجاع السبب إلى الهوى والتشهي، فيعالجها بالخطاب النبوي وكلام أهل العلم كما تعالج أي معصية من المعاصي التي يرتكبها الإنسان بدافع الهوى والشهوة، لكن من نظر في حال هؤلاء المكفِّرين، وتتبع مدوَّناتِهم، يجد أن قَصْرَ السبب على هذا لا يكشفُ حقيقة الحال، بل ثمَّة سبب فكريٌّ منهجيٌّ لهذا الاندفاع إلى الحكم بالكفر والردة دون غيرها من مسائل الفقه.
ولإيضاح هذا السبب أقول: لا يخفى أن الله تعالى أمرنا بالمسابقة إلى الخيرات والمسارعة إليها، كما قال تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ}[المائدة: 48]، وقال: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}[آل عمران: 133]، وقال في وصف أنبيائه: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا}[الأنبياء: 90]، ولهذا كان الأنبياء حريصينَ أشدَّ الحرص على هداية أقوامهم، وكانت عزيمتهم في ذلك قويةً لا تلين، ولذا قال الله –تعالى- لنبينا صلى الله عليه وسلم: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آَثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا}[الكهف: 6]، وقال: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}[الشعراء:3]، وفي قصة المعراج في الصحيح أن موسى عليه السلام يبكي بعد أن يسلم عليه نبينا -صلى الله عليه وسلم- ويجاوزه، فيقال له: ما أبكاك ؟ فيقول: (يا ربّ، هذا الغلام الذي بُعثَ بعدي، يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخل من أمتي).
فهذه الحقائق تُورِث المسلم رغبةً في المسارعة في الخيرات والسعي في هداية الناس وإرشادهم لما يرضي ربهم، ليرضي المسلم ربه، كما قال موسى عليه السلام: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى}[طه: 84].
فيقال بعد هذا: إن أولى ما يسارع إليه العبد، هو أكثر الأمور التي يحبها الله تعالى له، وبناء على هذا تكون دعوة الناس، فلا يصح أن يُدعى الكافر إلى الإتيان بالصلاة والزكاة وصلة الرحم وحسن الجوار وهو لم يأت بالشهادتين، ولا يُدعى تارك الصلاة إلى ما دون ذلك من الأعمال قبل أن يدعى إلى الصلاة، فترتيب الأولويات بحسب منزلتها في دين الإسلام، وهنا نكون قد وصلنا إلى الكشف عن حقيقة السبب الذي يدعو المُتعجِّلين في التكفير إلى عجلتهم، وذلك أن من اختلَّ لديه موقعُ مسألة التكفير في دين الإسلام، فاعتقدَ أن مسألة التكفير هي من أولى أولويات -بل من لوازم الشهادتين- لا يمكن البتَّة أن يؤثر فيه أي خطاب يدعو إلى التريُّث والاحتياط وعدم العجلة والإقدام في التكفير؛ لأنه يعتقد أن العجلة في التكفير والمسارعة فيها هو من العجلة والمسارعة في مرضاة الله تعالى والقيام بدينه.
ويقول قائلهم: إنّ تكفير المشركين والمرتدين من حقيقة الكفر بالطاغوت، وعدم تكفيرهم ناقض من نواقض الدين، واجتناب نواقض الدين من لوزام "لا إله إلا الله"، وهذا يقتضي المسارعة في ذلك والعجلة فيه؛ حتى لا يقع المرء في الكفر إذْ لم يُكفِّر الكافرين!
ويقول: لدينا تقريرات أئمتنا التي تعلّمنا منها أن تكفير المشركين من أصل دين الإسلام وقاعدته، ويقولون: إن الله بعث الرسل بتكفير المشركين، فكيف نتريَّثُ ونتأنى في الإتيان بأصل دين الإسلام وقاعدته وما بعث به المرسلون ؟!
فيقال الكلام هنا في ثلاث مقامات:
- الأول:
وهو تقرير أصل مهم من أصول أهل السنة في مسألة الإيمان، خالف فيه المرجئة والجهمية، وهو أن الإيمان الواجب على الخلق هم فيه متفاضلون، بعد اشتراكهم جميعًا في وجوبِ الإقرار الإجمالي بصدقِ الرسول صلى الله عليه وسلم، أمَّا تفاصيلُ ما أخبر به وما أمر به فلا يجبُ على كُلِّ أحد إلا ما بلغه، قال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- في بيان هذا الأصل: "وقد ختم الله الرسل بمحمد صلى الله عليه وسلم، فلا يكون مسلمًا إلا من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، وهذه الكلمة بها يدخل الإنسان في الإسلام، ثم لا بد من التزام ما أمر به الرسول من الأعمال الظاهرة كالمباني الخمس ومن ترك من ذلك شيئًا نقص إسلامه بقدر ما نقص من ذلك.
وهذه الأعمال إذا عملها الإنسان مخلصًا لله تعالى فإنه يثيبه عليها، ولا يكون ذلك إلا مع إقراره بقلبه أنه "لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله"، فيكون معه من الإيمان هذا الإقرار، وهذا الإقرار لا يستلزم أن يكون صاحبه معه من اليقين ما لا يقبل الريب، ولا أن يكون مجاهداً، ولا سائر ما يتميز به المؤمن عن المسلم الذي ليس بمؤمن.
وخلق كثير من المسلمين باطنًا وظاهرًا معهم هذا الإسلام بلوازمه من الإيمان ولم يصلوا إلى اليقين والجهاد، فهؤلاء يثابون على إسلامهم وإقرارهم بالرسول مجملًا، وقد لا يعرفون أنه جاء بكتاب وقد لا يعرفون أنه جاءه ملك ولا أنه أخبر بكذا، وإذا لم يبلغهم أن الرسول أخبر بذلك لم يكن عليهم الإقرار المفصّل به، لكن لا بد من الإقرار بأنه رسول الله، وأنه صادق في كل ما يخبر به عن الله، ثم الإيمان الذي يمتاز به فيه تفصيل وفيه طمأنينة ويقين، فهذا متميز بصفته وقدره في الكمية والكيفية، فإن أولئك معهم من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله وتفصيل المعاد والقدر ما لا يعرفه هؤلاء"مجموع الفتاوى (7/ 269 -270).
وحينئذ فيقال: معرفة من حَكَمَ عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- من الأجناس والأعيان بالكفر والردة هو من تفاصيل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ووجوب الإقرار بذلك يتفاوت فيه الناس بحسب ما بلغهم عن النبي صلى الله عليه وسلم، فنحن لم تبلغنا أسماء عامة الكفار الذين قاتلهم النبي صلى الله عليه وسلم، مع أنه لو بلغنا اسم واحد منهم لوجب علينا اعتقاد كفره، كما نحكم بكفر أبي جهل وأبي لهب ونحوهما؛ لأن الأخبار بلغتنا في ذلك.
- المقام الثاني:
أن الخبر الذي يبلُغنا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في حكمه على فعل من الأفعال بأنه ردة عن الإسلام، هو مِثلَ الأخبار التي تبلغنا عنه في حكمه على فعل من الأفعال بأنه ناقض للصلاة، أو ناقض للطهارة، أو مفسد للصيام، ومِثلَ حكمه على عقد من العقود بأنه صحيح، أو أنه فاسد، أو حكمه على عَينٍ من الأعيان بأنها نجسة أو طاهرة، لا فرق بين الخبر الدال على الحكم بالردة، والأخبار الدالة على هذه الأحكام من جهة وجوب الإيمان بها على من بلغته واحتاج إلى العمل بها، فكما أن الإنسان غير مكلف بمعرفة نجاسة ثوب أو طهارته إن لم يحتج ذلك في عمل واجب عليه كالصلاة، فكذا ليس بمكلف بمعرفة ردة معين أو عدم ذلك إن لم يحتج إلى ذلك في عمل واجب عليه كإقامة الحد عليه إن كان ممن وجب عليه إقامة الحدود مثلاً، أو احتاج إلى ذلك في معاملة من المعاملات التي لا تصح مع المرتد.
قال حسن بن الربيع: سألت ابن المبارك، قلت: طلب العلم فريضة على كل مسلم؛ أيُّ شيءٍ تفسيرُهُ؟ قال: "ليس هو الذي تطلبون, إنما طلب العلم فريضة أن يقع الرجل في شيء من أمر دينه, يسأل عنه؛ حتى يعلمه"أخرجه الخطيب في "الفقيه والمتفقه" (171/1).
وفي تقرير هذا يقول شيخ الإسلام رحمه الله: "فوجوب الإيمان بالشيء المعين موقوف على أن يبلغ العبد إن كان خبرًا، وعلى أن يحتاج إلى العمل به إن كان أمرًا، وعلى العلم به إن كان عِلمًا، وإلا فلا يجب على كل مسلم أن يعرف كلَّ خبر، وكل أمر في الكتاب والسنة، ويعرف معناه ويعلمه، فإن هذا لا يقدر عليه أحد"مجموع الفتاوى (7 / 408).
وقال: "يجب على كل مكلف أن يعلم ما أمر الله به فيعلم ما أمر بالإيمان به، وما أمر بعلمه، بحيث لو كان له ما تجب فيه الزكاة لوجب عليه تعلم علم الزكاة، ولو كان له ما يحج به لوجب عليه تعلم علم الحج وكذلك أمثال ذلك.
ويجب على عموم الأمة علم جميع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، بحيث لا يضيع من العلم الذي بلّغه النبي -صلى الله عليه وسلم- أمته شيء، وهو ما دل عليه الكتاب والسنة، لكن القدر الزائد على ما يحتاج إليه المعيّن فرض على الكفاية: إذا قامت به طائفة سقط عن الباقين"مجموع الفتاوى (3 / 328–329)
وقال: "فلا يجب على كل واحدٍ من العامَّة أن يعرف كلَّ ما أمر به الرسول -صلى الله عليه وسلم- وكل ما نهى عنه وكل ما أخبر به، بل إنما عليه أن يعرف ما يجب عليه هو وما يحرم عليه، فمن لا مال له لا يجب عليه أن يعرف أمره المفصل في الزكاة، ومن لا استطاعة له على الحج ليس عليه أن يعرف أمره المفصل بالمناسك، ومن لم يتزوج ليس عليه أن يعرف ما وجب للزوجة، فصار يجب من الإيمان تصديقًا وعملًا على أشخاص ما لا يجب على آخرين"مجموع الفتاوى (7/196).
- المقام الثالث:
أن الإفتاء بِردّةِ معين هو من جنس الإفتاء في غير ذلك من الأحكام الفقهية، تُسلك فيه آداب الفتوى وأحكامها المقررة في الشرع.
وحينئذ نقول: إن الخلل في إدراك هذه الأصول ووعيها، هو الذي يورث هذا التعامل المتعجل المتسرع مع مسألة التكفير، ويقال لهؤلاء: قولكم: تكفير المرتدين من لوازم "لا إله إلا الله" إن أريد به اعتقاد صدق الأخبار التي جاء بها الرسول -صلى الله عليه وسلم- التي دلّت على إخراج مرتكبي بعض الأفعال من الإسلام، فكذا سائر الأخبار إنما يجب اعتقادها على من بلغته، ويجب العمل بمقتضاها على من يحتاج ذلك، وتكون الفتوى والحكم بموجبها وفق الآداب والشروط التي بيّنها الشرع، ومثل هذه الأحكام لا يصح أن يقال هي من لوازم "لا إله إلا الله" بإطلاق .
ولعله بعد هذا يكون قد اتضح لك أخي القارئ الافتراق بين المنهجين في التعامل مع مسألة التكفير: منهج من يضع مسألة التكفير في موضعها الصحيح من دين الإسلام، متبعًا أصول أهل السنة والجماعة، ومنهج من يضعها في غير موضعها اعتمادًا على تقريرات لبعض المتأخرين.
وأقول عودًا على بدء: إنّ الخطاب الذي يرتكز على بيان خطورة مسألة التكفير والتحذير من التعجل فيها، لن يؤتي أُكُلَه ما لم تُصحح التصوراتُ لدى هؤلاء المخاطبين عن الموقع الصحيح لمسألة التكفير من الدين، لأن هذه التصورات هي التي تدعوهم إلى العجلة والتسرع في التكفير، والتشوّف والتطلع إلى معينين لتكفيرهم، وتنفرهم ممن يدعوهم إلى الاحتياط في التكفير، أو يُبيِّن لهم الموانع من التكفير التي جاءت بها الشريعة كالجهل والتأول، والله تعالى أعلم.
المصدر: كتاب "في جدليات ظاهرة الغلو" |