ما الذي يحدث في العراق والشام ... مجموعة مقالات تفسّر كيفية ظهور داعش، والدور الذي يراد لها أنه تلعبه
في هذه المقالات الأربع (التي جمعناها معاً)، حاول فيها الكاتب أن يفسّر ما يحصل في سوريا والعراق، والذي يلعب فيه "تنظيم الدولة الإسلامية" الدور الرئيس؛ من خلال دراسة الشهادات والشواهد التي اجتمعت خلال سنوات من الصراع.
وقد بنى مقالاته على مقدمات ثلاث، جاء إثبات صدقها جميعها في مقالاته، هذه المقدمات هي: أن داعش سوريا وداعش العراق كيان واحد له قيادة واحدة ورؤية واحدة وسياسة واحدة وأهداف واحدة. وأن هذا التنظيم كيان مخترَق أو مصنوع، وأن الذين يملكون قرار داعش ويتحكمون بحركتها على الأرض أعداء للإسلام والمسلمين، وأن من أهداف داعش الكبرى إعاقة مشروع الإحياء السنّي وتدمير المشروعات الجهادية المستقلّة.
ثم بيّن دور قادة حزب البعث في إنشاء داعش، والعلاقة القائمة بين الحزب والتنظيم، ودور جيش النقشبنديين فيما يحدث، والمتحكم في قرارات داعش، والغاية من السماح للتنظيم أن يسيطر على مناطق معيّنة من العراق والشام، وحدود المشروع الداعشي المرسومة.
وقد وضّح الكاتب النتيجة التي وصل إليها، وهي أن داعش ليست سوى أداة يحركها ويستغلها البعثيون الذين سيطروا على قيادتها، ثم اتفقوا مع الأميركيين على صناعة دولة بعثية جديدة، مع إعادة تقسيم سوريا والعراق.
وأن هذه اللعبة الخطيرة تشترك فيها ثلاثة أطراف:
-
طرف قوي مسيطر يضع قواعدها ويدير فصولها.
-
وطرف ذكي مستفيد يتحرك ضمن تلك القواعد لتحقيق هدفه والعودة إلى الحكم.
-
وطرف غبي هو جسم داعش المكون من جهاديين مغفلين بلا عقول، يقتصر دورهم على تنفيذ المخطط السابق بغباء منقطع النظير، وهم وَقودٌ سيحترق عاجلاً ثم ينكشف الغطاء عن الكيان الجديد الذي صنعته الولايات المتحدة لتحقيق مشروعها الاستعماري الجديد.
كلمة السر هي داعش
تعوم حوادث العراق فوق بحر من الألغاز والمجاهيل التي لا نرى منها -نحن عامّةَ الناس- إلا ما يراه ربابنةُ السفن وركّابها من رؤوس جبال الجليد في بحار الشمال، ومَن كان يقود السفينةَ ولم يَقْدِر تلك الجبال حَقّ قَدْرها فإنها توشك أن تصنع بسفينته ما صنعه جبلٌ منها ببعضٍ من أعظم السفن التي بناها البشر في التاريخ. فمَن اطمأنّ إلى ما يراه من ظواهر الحوادث وظن أنه الحقيقة الكاملة فإنه يخادع نفسه إن كان فرداً ويغامر بمستقبل قومه إن كان قائداً، وأرجو أن لا يكون قادة وأحرار العراق والشام من ذلك الصنف من المغامرين الأغرار.
(1)
تقتسم المشهدَ المعقد المتداخل في سوريا والعراق مجموعةٌ من القُوى التي تحدد طبيعةَ الصراع الحاضر وترسم مستقبله في الآتي من الأيام، ومن بينها سأختار "داعش" لأبدأ منها محاولة فهم حاضر البلدين ومحاولة استقراء مستقبلهما، فهي اللاعب المشترك الأعظم خطورةً في الساحتين، ولا يمكن لأي واحد أن يجيب عن السؤال الذي ورد في رأس المقالة إلا بفهم حقيقة داعش ومعرفة دورها في الحوادث السورية والعراقية.
سوف أبدأ "محاولة الفهم" بالمقدمات الآتية:
-
إن داعش سوريا وداعش العراق كيان واحد له قيادة واحدة ورؤية واحدة وسياسة واحدة وأهداف واحدة.
-
إن داعش كيان مخترَق أو مصنوع، وإن الذين يملكون قرار داعش ويتحكمون بحركتها على الأرض أعداء للإسلام والمسلمين.
-
إن من أهداف داعش الكبرى إعاقة مشروع الإحياء السنّي وتدمير المشروعات الجهادية المستقلّة، وقد رأينا مصداق ذلك في العراق أولاً، ورأيناه في سوريا ثانياً، ونوشك أن نراه في العراق وسوريا معاً من جديد لا قدّر الله.
أرجو من الذين يختلفون معي في الفرضيات الثلاث السابقة، ولا سيما الأخيرة منها، أن يوفّروا على أنفسهم عناء قراءة ما تبقى من هذه المقالة، فإنها بناءٌ بَنَيتُه على هذا الأساس، وإذا سقط الأساس انهار البناء.
(2)
إن داعش من ألدّ أعداء الأمة وجهادها ومشروع نهضتها الجديدة، ورغم ذلك فإنها تتمتع بمزية ليست لغيرها من أعداء الأمة الكثيرين، وهي أنها قادرة على تدمير الجسم الإسلامي من داخله، لأن أبواب الحصن الإسلامي التي يتعاون المسلمون كلهم على إغلاقها بإحكام في وجه الأعداء والغزاة يفتحها لداعش بأيديهم جماعةٌ مغفلون منّا، فقدوا القدرة على التمييز ورفضوا كل مساعدة من شأنها أن تعينهم على الفهم، فخيّلَ إليهم خيالُهم السقيم أن داعش تناصر الإسلام وأصرّوا على تجاهل الحقيقة، وهي أنها عدو فاجر غادر يعمل على تدمير المشروع الإسلامي وإضعاف شوكة المسلمين.
هؤلاء ليسوا جَهَلة فحسب، بل إنهم مجرمون أيضاً، لأن أذاهم لم يقتصر على أنفسهم حينما فتحوا لأعداء الأمة أبوابَ الحصن الإسلامي، بل امتدّ أذاهم ليشمل الأمة كلها. وإن هؤلاء المجرمين (وفيهم من يقرأ مقالتي الآن) سيُحاسَبون على كل قطرة دم أُريقت بغير حق على أرض العراق قديماً، وتُراق اليوم على أرض سوريا، وستُراق غداً على الأراضي العراقية والسورية من جديد، وإني لأرجو أن لا يرحمهم الله ولا يعفو عنهم يوم الحساب الأكبر؛ لأنهم ساهموا في ارتكاب الجريمة رغم ألف إنذار وألف تحذير.
نعم، إن داعش أسوأ وأخطر من نظام بشار ونظام المالكي ومن مليشيات إيران وحالش ومن كل عدو ظاهر؛ لأنها عدو خفي مستتر. إنها تتسلل كالحية الرقطاء من تحت فتحة الباب، أو تتسرب كالغاز السام من الشقوق الضيقة في الشبابيك والحيطان، وأولئك يأتون بحشودهم وجيوشهم في نور النهار فنستعد لهم ونحشد لهم الحشود والجيوش.
(3)
أدرك السوريون منذ وقت طويل أن داعش كيان غريب عن سوريا، وأنه عدو للإسلام والمسلمين، وأنه يريد تدمير جهاد وثورة أهل الشام، ولكنهم لم يستطعيوا الجزم بحقيقة هذا الكيان الغريب على وجه الدقة. قال قوم إنه صناعة إيرانية وقال آخرون إنه عميل للنظام السوري، ولكن تلك الأقاويل كلها توقعات بلا دليل. ثم جَدّ جديد؛ لقد نطق الصامتون الذين يعلمون، وبدأت تخرج من داخل التيار السلفي الجهادي شهاداتٌ مذهلة عن العلاقة الخفية بين داعش والبعث العراقي.
لقد اتضح الآن أن البعثيين اختطفوا داعش منذ أربع سنوات على الأقل، وأنها صارت منذ ذلك الحين "مؤسسة" خاضعة لحزب البعث، يسيطر عليها ويقودها عدد من كبار الضباط البعثيين.
ليس هذا ما أقوله أنا أو غيري من الغرباء عن التنظيم، وإنما هو ما يقوله في شهادات مفصّلة عشراتٌ من السلفيين الجهاديين الذين عاشوا مع تنظيم "الدولة الإسلامية في العراق" قبل أن يصل إلى الشام ويتطور إلى "داعش"، وقد عرفنا من أولئك الشهود أن مفاصل داعش الكبرى تقع تحت سيطرة ضباط بعثيين، على الأقل منذ اغتيال قادة التنظيم السابقين وعلى رأسهم أبو عمر البغدادي وأبو حمزة المهاجر (أبو أيوب المصري) في الثامن عشر من نيسان عام 2010، ومن أشهر أولئك الضباط الذين عرفنا أسماءهم: العقيد حجي بكر (واسمه الحقيقي سمير الخليفاوي)، والعقيد أبو عبد الرحمن البيلاوي (واسمه الحقيقي عدنان إسماعيل نجم)، والعميد محمد الندى الجبوري (الملقب بالراعي)، والعميد إبراهيم الجنابي، والعقيد عدنان لطيف السويداوي (أبو مهند)، والعقيد فاضل عبد الله العفري (أبو مسلم)، والعقيد فاضل العيثاوي (أبو إلياس)، والعقيد عاصي العبيدي، والعقيد مازن نهير، والمقدم نبيل عريبي المعيني (أبو عفيف)، والمقدم محمد محمود الحيالي (أبو بلال).
هذا يعني -ببساطة وباختصار- أن داعش كيان بعثي، أو أنها آلة "صنعها" حزب البعث أو "اختطفها" من أصحابها الذين صنعوها، وأن المغفلين الذين استقطبَتهم داعش لينضموا إلى صفوفها ويحرقوا أنفسهم في سبيل تحقيق مشروعها إنما هم مسامير وصواميل في تلك الآلة الشريرة، علموا أو لم يعلموا. إنهم الحطب الذي يحترق لتوليد دولة البعث الجديدة في العراق والشام.
قد يبدو هذا الاستنتاج غريباً أو صادماً للكثيرين، ولكنه النتيجة الحتمية التي لا بد أن نصل إليها عندما ندرس الشهادات والشواهد التي اجتمعت بين أيدينا خلال الأشهر القليلة الماضية، والتي تتسق مع كل ما نشاهده في سوريا والعراق من تطورات غريبة متلاحقة، وتنسجم أيضاً مع ردود الأفعال المحلية والدولية التي صدرت حتى الآن.
البعث يحكم من جديد
انتهى حزب البعث العراقي نظرياً بقرار الحل الذي كان أحدَ النتائج المهمة للغزو الأميركي، وتكرس هذا القرار بتشكيل "الهيئة الوطنية لاجتثاث البعث" التي تعقّبت البعثيين في مؤسسات الدولة العراقية بالفصل والإقصاء. ولكن الحزب العتيد الذي حكم العراق لمدة ثلث قرن والذي كان يسيطر على الدولة والمجتمع ويُعَدّ منسوبوه بالملايين لم يستسلم، وما إن نُفِّذ حكم الإعدام بقائده السابق، صدام حسين، حتى تداعى كبار البعثيين وأعلنوا إعادة تشكيل الحزب وانتخاب عزّت إبراهيم الدوري أميناً عاماً للقيادة القطرية والقومية لحزب البعث العربي ورئيساً جديداً للعراق.
إن الدوري هو "الأب الروحي وعرّاب حزب البعث الجديد بسبب قدراته القيادية العالية وحنكته السياسية وشبكة علاقاته الواسعة" كما جاء في مقالة نشرتها جريدة التلغراف البريطانية يوم 18/5/2013 بعنوان "عودة عزت الدوري"http://www.telegraph.co.uk/news/worldnews/middleeast/iraq/10065919/Izzat...
وتقول بعض المصادر الأميركية إنه بدأ بالتواصل مع إدارة أوباما منذ أيامها الأولى في عام 2009، كما تتحدث مصادر بعثية معارضة (من الجناح الموالي لسوريا، الذي انشق عن الدوري بقيادة عضو القيادة القطرية السابق اللواء الركن محمد يونس الأحمد البدراني) تتحدث عن اتصالات أجراها مندوب عزّت الدوري، العميد الركن عبد القادر علوان الحمد، مع مسؤولين أميركيين في السفارة الأميركية في بيروت.
ربما كانت تلك الأخبار مجرد إشاعات يستحيل إثباتها، ولكن خطابات الدوري المسجلة لا يمكن نفيها، وقد تضمنت منذ بداية عام 2009 عبارات من التزلف الصريح للرئيس الأميركي الجديد وعروضاً واضحة للمصالحة بين حزب البعث والولايات المتحدة، ابتداء بالخطاب الذي ألقاه في العيد الثامن والثمانين للجيش العراقي في السادس من كانون الثاني (يناير) 2009، حيث خاطب الرئيس الأميركي باراك أوباما قائلاً:
"نقول باسم الشعب لهذه الإدارة ولرئيسها بشكل خاص السيد باراك أوباما، التي جاءت وعلى رأس شعاراتها الانسحاب من العراق، نقول: عليك أيها الرئيس، رئيس أقوى دولة في العالم وأكثر دولة تقدماً وحضارة وأكثرها ادعاء بالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، أن يفي بعهده لله وللشعوب الأمريكية ولضميره ووجدانه، وليحرز بذلك مكانة في التاريخ ترفع ذكره في الحياة الدنيا إلى يوم القيامة. وأقول للرئيس أوباما: إن أردت وأرادت إدارتك المحافظةَ على مصالح الولايات المتحدة الاستراتيجية المشروعة في بلدنا وفي منطقتنا فإن القادر الوحيد على حفظها هو شعب العراق الحر المستقل. نحن في المقاومة الوطنية والقومية والإسلامية وفي القوات المسلحة المجاهدة نتعهد لكم إن أعلنتم الانسحاب الشامل من العراق وتركه لأهله حراً مستقلاً أننا سنتحاور معكم فوراً لإقامة أفضل وأوسع وأعمق العلاقات الاستراتيجية مع أمريكا على أساس المصالح المتبادلة والمشتركة"http://iraq-alahrar-group.blogspot.nl/2009/01/blog-post_08.html.
لقد فاجأ هذا العرضُ الواضح عدداً كبيراً من العراقيين، حتى إن أحد المواقع العراقية المهمة علق عليه قائلاً إن "مساومات عزت الدوري وعروضه المغرية للمحتلين بلغت درجة الابتذال"http://www.dhiqar.net/1921/Makalat/MK-SaadDawo15-01-09.htm. وفي الحقيقة فإنّ لنا أن نتخيل أن علاقات أوثق واتصالات أعمق تجري بين الطرفين وراء الكواليس، فإن حزب البعث الذي عُرف بالبراغماتية والميكافيلية لن يدّخر وسعاً للعودة إلى الحكم بأي طريقة كانت، كما أن الولايات المتحدة التي جرّبته في سوريا والعراق لسنوات طويلة سترحب بالتعامل والتعاون معه بدلاً من غيره من الإسلاميين أو من شرفاء الوطنيين.
—{2}—
ما هي العلاقة بين البعثيين وداعش؟
لكي نبدأ القصة من أولها يتوجب علينا العودة إلى عهد أمير تنظيم دولة العراق السابق: حامد داود الزاوي، المشهور بأبي عمر البغدادي، وهو ضابط أمن سابق في نظام صدام حسين، ترك الخدمة وتحول إلى الفكر السلفي منذ أواخر الثمانينيات حيث أنشأ جماعة سلفية صغيرة، ثم انضم إلى فرع القاعدة في بلاد الرافدين بعد تأسيسه، وعندما قُتل أبو مصعب الزرقاوي عام 2006 انتُخب أميراً لمجلس شورى المجاهدين الذي تحول إلى تنظيم دولة العراق الإسلامية في وقت لاحق.
استطاع أحد الضباط البعثيين الكبار أن يتقرب من أبي عمر الذي منحه ثقته الكاملة بعدما حصل منه على أسرار ومعلومات عسكرية مهمة. ذلك الضابط هو العقيد الركن حجي بكر (واسمه الحقيقي سمير الخليفاوي)، وقد أظهر التديّن والتوبة الصادقة من انتمائه لحزب البعث، ولعل هذا كان مدخلاً مناسباً للرجل الذي كان هو نفسُه ضابطَ أمن قبل توبته وتدينه، فإذا قَبِل التوبة من نفسه فلماذا لا يقبلها من أمثاله؟ وسرعان ما قدّم العقيد حجي بكر لأبي عمر البغدادي مزيداً من الضباط "التائبين" الذين قدّموا المزيد من الخبرات العسكرية والمعلومات المفيدة للتنظيم.
ثم قُتل أبو عمر في هجوم أميركي على موقع سري كان يضم اجتماعاً قيادياً لكبار قادة التنظيم، وقُتل معه عدد من مساعديه على رأسهم نائبه ووزيره الأول أبو حمزة المهاجر (أبو أيوب المصري) كما أُسِرَ بضعة عشر من القادة الذين نجوا من الموت. كانت تلك حادثةً غامضة لم تنكشف أسرارها حتى اليوم، فالمعلوم أن المكان الذي استُهدف بالهجوم لم يكن معروفاً إلا للقيادات العليا في التنظيم، وقد قُتلوا أو أسروا في العملية. وبطريقةٍ ما نجا الرجلُ الذي قُدِّر له أن يلعب الدور الرئيسي في كل ما سيجري بعد ذلك من أحداث، العقيد الركن حجي بكر.
أعاد "حجي بكر" بسرعة ترتيبَ البيت الداخلي للتنظيم، فشكّل مجلساً قيادياً من زملائه الضباط البعثيين، واختار خلفاً لأبي عمر رجلاً يجهله معظمُ قادة الصف الثاني، وكان قائداً صغيراً في الأنبار اسمه إبراهيم عوّاد، ثم قام باتصالات فردية مع قادة الصف الثاني وأعضاء مجلس الشورى الذين نجوا من القتل والاعتقال واستطاع أن يوهم كل واحد منهم أن البقية مُجمعون على اختيار إبراهيم أميراً جديداً للجماعة. لم يستطع أحدٌ أن يتوثق من ذلك الزعم، كما أن الظروف الأمنية الصعبة التي سيطرت على الموقف لم تسمح بالتشاور الحقيقي بين أهل الرأي في التنظيم. وهكذا نجح العقيد في تولية الرجل الذي أراد، وصدر عن التنظيم يوم 16/5/2010 إعلانٌ رسمي سمّى أبا بكر البغدادي أميراً جديداً لدولة العراق الإسلامية.
ما حصل بعد ذلك كان كارثة يصعب تخيل حجمها؛ باختصار: لقد ضاع التنظيم إلى الأبد: عزل العقيد حجي بكر (الذي صار هو الرجل القوي والقائد الفعلي للتنظيم) أبا بكر البغدادي عن القيادات الوسطى، وأعاد تشكيل مجلس الشورى الذي صار يتكون بشكل رئيسي من الضباط البعثيين، ثم أنشأ جهازاً أمنياً يشبه الأجهزة الأمنية التي أنشأها البعث الحاكم أيام صدام. وقد جمع العقيدُ عناصرَ الجهاز الجديد من عناصر الأمن السابقين في الحقبة البعثية، وكُلّف الجهاز بمراقبة أعضاء التنظيم وتنفيذ الاغتيالات داخلَه وخارجه (على النحو الذي عرفناه في سوريا مؤخراً، حيث استمر الجهاز بتنفيذ مهماته القذرة حتى صار مصدرَ رعب للدواعش أنفسهم، الذين باتوا يخشون أمنيّي التنظيم أكثر ممّا يخشون أعداء التنظيم الخارجيين، وقد تأكد هذا الأمر الخطير في شهادات كثيرة صدرت عن دواعش سابقين منشقين).
حرص العقيد حجي بكر على ربط جهاز الأمن به مباشرة، وبدأ الجهاز بالعمل على الفور، فنفذ خلال الشهور التالية عملية "تنظيف وتطهير" ذهب ضحيّتَها عشراتٌ من المجاهدين في تنظيم الدولة وفي غيره من الجماعات الإسلامية التي كانت تقاتل الأميركيين. وقد عرفنا تفصيلات مذهلة في هذا الخصوص عندما نشرت جماعةُ أنصار الإسلام مراسلاتها مع أمير القاعدة: أيمن الظواهري، وتظلّماتها من غدر تنظيم الدولة وعدوانه واغتياله لعشرات القيادات العسكرية والشرعية في الأنصار، أما ما فقده تنظيم الدولة نفسه من كفاءات بسبب تلك الاغتيالات فقد تحدث عنه جهاديون منشقّون عن التنظيم، وأكثرهم من المخضرمين الذي جاؤوا من أفغانستان.
لقد أدرك كثير من أولئك المجاهدين المخضرمين المجرّبين أن البعثيين "سرقوا" تنظيم دولة العراق الإسلامية بدهاء واحترافية عالية، ولعلهم حاولوا إقناع أنفسهم لوقت طويل بأن ما حصل وَهْمٌ لا حقيقة، ولكنهم اضطروا أخيراً إلى الاعتراف بالكارثة والبكاء على "الدولة الإسلامية المفقودة".
—{3}—
بدأت الحوادث العراقية الأخيرة بهجوم مفاجئ على الموصل في السادس من حزيران، وقد صار معروفاً الآن أن داعش، والنقشبندية التي يقودها عزت الدوري هما مَن بدأ بالمعركة. فأمّا داعش فإننا نعرفها حق المعرفة بعد كل الذي كان، فمَن هي القوة الأخرى؟ إنها "جيش رجال الطريقة النقشبندية" الذي سُمع عنه للمرة الأولى في بداية عام 2007، بعد وقت قصير من إعدام صدام حسين، والذي تطور بسرعة ليصبح واحدة من أقوى الجماعات المسلحة في العراق وأكثرها تنظيماً، وقد صار يُشار إليه دائماً باعتباره الذراع العسكرية لحزب البعث العراقي الجديد.
نشر "معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى" قبل ثلاث سنوات دراسة مثيرة عنوانها "حركة جيش رجال الطريقة النقشبندية والتمرد القادم في العراق". المقالة كتبها الخبير الاستراتيجي في الشأن العراقي مايكل نايتس ونُشرت بتاريخ 22 تموز (يوليو) 2011، وجاء فيها في وصف نشأة الجماعة التي يتكون أكثر عناصرها من جيش صدام السابق وأجهزته الأمنية وضباط وعناصر الحرس الجمهوري: "في البداية تم استقطاب نشطاء لحركة جيش رجال الطريقة النقشبندية من مجموعة مختارة من ضباط المخابرات والجيش السابقين في أيام حكم البعث الذين بلغوا رتباً عسكرية تتراوح بين مقدم وعميد، ويبدو أنه قد تم تجنيد الكوادر الأولى من نشطاء الجيش من الحرس الجمهوري ومن ضباط الاستخبارات العسكرية السابقين"http://www.washingtoninstitute.org/ar/policy-analysis/view/the-jrtn-move....
وماذا عن مستقبل تلك الجماعة؟ هل نستطيع أن نتوقع مشاركتها في أي اتفاق سري لتقاسم السلطة في العراق؟ تقول الدراسة المذكورة: "إن حركة جيش رجال الطريقة النقشبندية -مثل زعيمها عزت إبراهيم الدوري- هي حرباء قادرة على أخذ الشكل الذي يخدم مصالحها على النحو الأمثل في كل وقت. إن المزيج الذي تجمعه الحركة والذي يشمل الخطاب الإسلامي والقومي واستغلالها للحنين إلى عهد البعث يعني أنها منسجمة تماماً مع آراء السكان الذين تعتمد عليهم، لكن المشهد الاستراتيجي في العراق سيتغير لأسباب ليس أقلها السّحْب القادم للقوات الأمريكية، فكيف ستتكيف الحركة مع الأشواك المحتملة في الطريق أمامها؟ تقول حركة جيش رجال الطريقة النقشبندية إنها ستكون مستعدة للتفاوض على وقف إطلاق النار مع حكومة العراق والولايات المتحدة، لكن فقط عندما يتم إلغاء التغييرات التي طرأت في العراق منذ عام 2003، وعلى رأسها عودة نصف مليون من أفراد الأمن لمراتبهم السابقة ونقض الاعتراف بجميع الأجهزة والقوانين الحكومية التي أُدخلت منذ بدء الاحتلال"http://www.washingtoninstitute.org/ar/policy-analysis/view/the-jrtn-move....
—{4}—
حسناً، بعدما تعرفنا على جيش النقشبندية الذي بدأ المعركةَ الأخيرة مع داعش بقي أن نسأل السؤال المنطقي التالي: ما هي العلاقة بينهما؟ كيف اجتمعت هاتان القوتان معاً وهما نقيضان: طريقة صوفية وسلفية جهادية؟ في سوريا لا تقبل داعش بأن تقاتل مع النصرة وهي تتقاطع معها في مساحة واسعة من الفكر والمنهج، بل إنها تحكم على مخالفيها من الإسلاميين ومن السلفيين بالفسق، بل بالردة والكفر، فكيف قاتلت في العراق مع البعث وكيف قاتلت مع النقشبندية؟ كيف يختلط الزيت والماء؟ أم أنه لا زيت ولا ماء، إنما هي كلها خَلٌّ قارح جارح؟
نشرت جامعة ستانفورد بتاريخ 15/2/2012 دراسة عن "جيش رجال الطريقة النقشبندية" أشارت فيها إلى تقرير استخباري أميركي يؤكد أن التعاون بين جيش النقشبندية ودولة العراق الإسلامية كان كبيراً جداً خلال السنوات الأخيرة، وأن الجيش كان يموّل تنظيم الدولة بالمال ويقدم له الخطط العسكرية ويكلفه بتنفيذ العمليات التي يحرص على عدم الظهور العلني فيها، ولا سيما أعمال القتل التي كان تنظيم الدولة يُسَرّ بنسبتها إليهhttp://web.stanford.edu/group/mappingmilitants/cgi-bin/groups/view/75.
كما ورد تأكيد لهذا المعنى في دراسة معهد واشنطن التي أشرت إليها آنفاً، حيث يؤكد كاتب الدراسة أن جيش النقشبندية استعمل داعش كمقاول بالباطن: "إن حركة جيش رجال الطريقة النقشبندية تستعين بمصادر خارجية، حيث تعهد ببعض العمليات لحركات متمردة كالجيش الإسلامي، وحماس العراق، وأنصار السنة، وجيش محمد. ويبدو أن الحركة توظّف تنظيم القاعدة في العراق للقيام بهجمات على العراقيين يسهل إنكارها، وتحديداً ضد أهداف مدنية. وفي مثال مشهور اتفقت الحركة مع تنظيم القاعدة على تفجير سيارة في مركز التحكم المشترك في الدور كجزء من استراتيجية ناجحة للقضاء على منافسي قبيلة الدوري في المنطقة. وكذلك كانت حركة جيش رجال الطريقة النقشبندية على علاقة بتفخيخ سيارات قام بها تنظيم القاعدة في العراق في محافظات الرمادي وكركوك وتكريت"http://www.washingtoninstitute.org/ar/policy-analysis/view/the-jrtn-move....
إن هذا كله ينسجم تماماً مع نظرية اختراق البعث العراقي لداعش وسيطرته عليها، فإذا كان هو مؤسس جيش رجال الطريقة النقشبندية وهو المسيطر على تنظيم داعش فإن من المنطقي تماماً أن ينسّق بين القوتين وأن يشركهما في المعركة معاً وصولاً إلى تحقيق هدفه الأعلى، وهو الوصول إلى الحكم وإعادة الدولة البعثية من جديد.
النظرية السابقة لا تمنع أن تكون داعش مخترَقة بواسطة النظام السوري أيضاً، بل لا بد أن للنظام فيها عدداً كبيراً من العملاء والجواسيس كما ينبغي أن نتوقع، فهو متمرس في اختراق كافة أنواع الجماعات والتنظيمات منذ أيام الطاغية البائد حافظ الأسد. وفي الحقيقة فإن النظام السوري ليس وحيداً في هذا الاختراق، فإن من الحكمة أن تفترض الثورة السورية أن أجهزتها العسكرية والثورية كلها مخترَقة من قِبَل عشرات الأجهزة الاستخباراتية العربية والإقليمية والعالمية، ولا أبالغ لو قلت إن العملاء والجواسيس ينتشرون في تلك الأجهزة مثل السوس.
عندما ندرس الحوادث اعتماداً على هذه النظرية فإننا لن نستغرب من اشتراك القوتين (المتناقضتين في الظاهر) في المعركة ذاتها، وكما جاء في مقالة نشرتها جريدة نيويورك تايمز بتاريخ 18/6/2014 فإن "دور البعثيين في المعارك الأخيرة هو العامل الخفي الذي يفسر الانتصارات السريعة التي حققها عدد قليل من مقاتلي داعش لا يتجاوزون بضعة آلاف، وأكثرهم بلا خبرة قتالية ذات شأن". ثم تنقل المقالة عن الخبير الإستراتيجي في الشأن العراقي والباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، مايكل نايتس، قوله: "ما كان بوسع داعش تحقيق معشار ما حقّقته من إنجازات لولا الدعم الذي حصلت عليه من جيش رجال الطريقة النقشبندية، وهو جيش منظم يضم الآلاف من ضباط وجنود الجيش العراقي السابق والحرس الجمهوري وأجهزة المخابرات العراقية"http://www.nytimes.com/2014/06/19/world/middleeast/former-loyalists-of-s....
—{5}—
قد أكون مخطئاً، يمكن جداً أن أكون كذلك، ولكنه ظنٌ مُلِحٌّ ما يزال يطرق باب عقلي منذ بداية الحوادث العراقية الأخيرة حتى لم أجد بُدّاً من قَبوله.
أعترف بأني بِتّ على قناعة من هذه النتيجة المحزنة: لقد عاد البعث إلى الحكم من جديد، ولكن ليس على أكتاف القوميين الذين حملوه قبل ثلثَي قرن، وإنما على أكتاف المسلمين، بل على جثث مَن كان ينبغي أن يكونوا من صَفوة مجاهدي الأمة في الزمان الأخير.
نشرَت داعش صورةً لجرّافة تهدم حاجزاً ترابياً على الحدود كما زعمت، فرقص طرباً كلُّ مغفل من أتباعها وأنصارها وقالوا: انظروا كيف تتمدد دولة الإسلام وتزيل حدود المستعمرين؟ لا سايكس بيكو بعد اليوم.
أرأيتم إلى الخِراف وقد أُعِدَّت للذبح في يوم عيد، فجاء الجزار فقطع بسكينه الحبلَ الذي يربطها في أعناقها، ففرحت بسكينه وطربت وهلّلت لها، وما درت أنها هي السكين التي ستذبحها بعد قليل؟ كم بينَنا من خراف ترقص طرباً للسكين التي فكت الحبل ولا تدري أنها السكين التي ستفكّ رقابها عن أبدانها عمّا قريب!
قبل مئة عام ارتدى عميلٌ بريطاني لباسَ البدو وتحدّث لغة العرب، ثم قاد في البادية جموعاً من الغوغاء الهائجين فرسموا بدمائهم الحدودَ السياسية للدول الجديدة التي ورثت آخر إمبراطورية إسلامية عرفها التاريخ. اليوم، وبعد تلك المأساة بقرن كامل، يخرج من البادية عميلٌ جديد، تنظيمٌ لم ينطق بالعربية فحسب، بل رفع راية إسلامية أيضاً، ثم كرر القصة نفسها، فجمع جموعاً من الغوغاء الهائجين الذين يرسمون بدمائهم الحدودَ السياسية الجديدة لسادة القرن الجديد، المستعمرين الجدد الذين ورثوا إمبراطوريات القرن الغابر.
حروب التقسيم وحدود الدم
تُشارك في الثورة العراقية قُوى متعددة كما هو الشأن في الثورة السورية، وتشكل داعش تهديداً حقيقياً للثورتين، ولكن خطرها في العراق أكبر بسبب فرق جوهري بين ثورتَي البلدين.
في الحالتين بدأت الثورة بحراك شعبي سلمي هائل وانتهت بعمليات عسكرية واسعة، ولكن الثورة السورية بدأت وليس في سوريا جماعة مسلحة واحدة، ثم نشأ العمل العسكري من داخل الحاضنة الشعبية فكان ملكاً للثورة وممثلاً لها، وأخيراً جاءت داعش من خارج الحدود بمشروعها المسموم والمرسوم والمدعوم فصارت حرباً على الثورة كما هو معلوم، ولكن الجماعات المسلحة كانت تملك من القوة ما مكّنها من إرباك المشروع الداعشي ووقف تمدده على كامل الأرض السورية المحررة. أما في العراق فقد سبق العملُ العسكري الثورةَ الشعبية بوقت طويل، فلما بدأت الثورة كانت مجموعةٌ من القوى العسكرية تقتسم الميدان، ويمكننا تصنيفها في أربع مجموعات رئيسية هي:
- الفصائل المستقلة التي يتكون أكثرها من مجاهدين متدينين حملوا السلاح بعد الاحتلال، أي من إحدى عشرة سنة، كجيش المجاهدين، والجيش الإسلامي، وكتائب ثورة العشرين، وجامع، وحماس، وأنصار السنّة.
- جيش رجال الطريقة النقشبندية، الذي يتكون من أتباع الطريقة ومعهم عدد كبير من عناصر الجيش العراقي القديم والحرس الجمهوري والأجهزة الأمنية السابقة، وقد تحدثنا عنه في المقالة الماضية.
- مسلّحو العشائر الذين حملوا السلاح وبدؤوا بتنظيم أنفسهم مؤخراً رداً على البطش الطائفي ومجازر المالكي في ساحات الاعتصام.
- داعش التي عملت طوال السنين الماضية على الفتك بالجماعات الأخرى واستئصالها.
عندما نتأمل الجماعات الأربع السابقة سنجد أن اثنتين منها كانتا في عافية كاملة واستعداد للقتال، فتوافقتا على تحديد زمان ومكان المعركة وبدأتا بها، وما تزالان في موقع القيادة والتوجيه والسيطرة حتى الآن. بالمقابل نجد أن جماعات العشائر المسلحة كانت ما تزال في طور التكوين، ولم يُسمَع أنها استكملت بناء قوة عسكرية منظمة قادرة على المشاركة الفعالة في المعركة. أما الفصائل الإسلامية الأخرى فإنها لم تبرأ قَطّ من الضربات القاسية التي تلقتها من داعش والنظام الطائفي خلال السنوات العشر الماضية، وهي أضعف بكثير من أن تستطيع قيادة معركة على مستوى العراق كله كما يحصل الآن.
المعلومات السابقة تساعدنا على إدراك حقيقة في غاية الأهمية: إن الثوار في العراق اليوم فريقان مختلفان يخوضان معركتين مختلفتين:
الأول: تحالف داعش-البعث الذي بدأ المعركة في الموصل في الوقت الذي اختاره، والذي انسحبت أمام تقدمه السريع قواتُ المالكي (لسبب ما) وسلّمته المواقعَ العسكرية بلا قتال يُذكَر، والذي قرّر (لسبب ما) تركَ منطقة بغداد الكبرى التي يقيم فيها ثلاثة ملايين سنّي تحت الاحتلال الشيعي وتركَ محافظة ديالي ذات الأغلبية السنية والاتجاه نحو الغرب، إلى الحدود السورية.
الثاني: الفصائل المستقلة وقوات العشائر التي تحارب بيأس للتقدم إلى بغداد وديالي منذ عدة أسابيع دون أن تنجح في تحقيق أي إنجاز جوهري يمكن مقارنته بالسيطرة الخاطفة لداعش على معظم محافظات صلاح الدين ونينوى والأنبار.
—{2}—
بدأت المعركة في العراق بعد شهرين من بداية هجوم داعش الجديد في الشرق السوري. خلال هذين الشهرين استطاعت داعش السيطرةَ على الجزء الأكبر من محافظة دير الزور، وكرّست احتلالَها للرقة والقسم الجنوبي من محافظة الحسكة، فصار حوض الفرات كله تحت سيطرتها، من جرابلس إلى البوكمال. بعد ذلك انفجرت العمليات العسكرية في العراق وتساقطت المناطق السنّية في وسط العراق بأيدي الثوار بسرعة خيالية، وفيما كانت الأنظارُ تتجه إلى بغداد، والفصائلُ الضعيفة المنهَكة تخوض معركتها اليائسة في ديالي وعلى أطراف الحزام السنّي المحيط ببغداد؛ انعطفت داعش باتجاه الغرب، ولم تلبث أن سيطرت على عانة، ورَاوَة، والحديثة، والرطبة، والقائم، التي غادرتها قواتُ الجيش العراقي دون أن تطلق طلقة واحدة (كما حصل في أكثر المناطق التي سيطرت عليها داعش منذ بداية المعركة).
لقد اتصلت المناطقُ التي سيطرت عليها داعش شرقَ الحدود مع المناطق التي سيطرت عليها غربَها، وبذلك وُلدت أرضٌ جديدة متصلة عبر البلدين (سوريا والعراق) تخضع لتنظيم يعتبره العالم -نظرياً- إرهابياً ومهدّداً لأمن وسلامة الإقليم. وقد كان رد أميركا "الحاسم" على هذا التهديد الخطير هو إرسال ثلاثمئة خبير أميركي لمساندة حكومة الاحتلال المالكية في العراق، في حين أنها أجلبت بأساطيلها وجيوشها وأرسلت مئات الآلاف من الجنود عندما عبر صدام الحدودَ التي تفصل العراق عن الكويت قبل بضع سنوات. وعندما أعلن هذا التنظيم أنه أقام على تلك الأرض "دولة الخلافة" كان الرد الأميركي هادئاً جداً واقتصر على تأكيد أن هذا الإعلان "لا يعني شيئاً للناس في العراق وسوريا".
عندما نتابع هذه الأحداث الكبيرة ونحاول فهمها فإن علينا أن نستحضر في الذهن قاعدة مهمة: إن تغيير الحدود بين الدول في العالم المعاصر ليس لعبة تلعبها الدول الصغيرة كما تشاء، ولقد دفع صدام حسين حياته ونظامه لأنه لم يستوعب هذه الحقيقة جيداً، وكذلك صنع هتلر من قبله. كما ينبغي علينا أن ندرك أن ما يجري الآن على الأرض من أحداث جسام هو أكبر بكثير من حجم القوى والدول المحلية والإقليمية، وأنه يبلغ من الخطر مبلغاً يحملنا على الظن بأن قوة وحيدة يمكن أن تكون مسؤولة عنه، وهي القوة الكبرى في العالم والتي تسيطر على منطقة الشرق الأوسط بأكملها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
—{3}—
نشرت جريدة نيويورك تايمز في الثامن والعشرين من أيلول (سبتمبر) 2013 مقالة عنوانها "الشرق الأوسط في خرائط جديدة"http://www.nytimes.com/2013/09/29/opinion/sunday/imagining-a-remapped-mi...، ونشرت معها خريطة عنوانها "كيف يمكن لخمسة بلدان أن تصبح 14 بلداًhttp://www.nytimes.com/interactive/2013/09/29/sunday-review/how-5-countr....
أثارت المقالة ضجة كبيرة في العالم العربي وتناقلها كثيرون، ولا بد أن ثلاثة أرباع قرّاء هذه المقالة قد اطّلعوا عليها أو سمعوا عنها، فماذا جاء فيها؟
تقول كاتبة المقالة، روبِن رايت: "إن سوريا -التي تمثل المركز الاستراتيجي للشرق الأوسط- قد تكون القادح الذي سيحرّك عملية إعادة رسم حدود بلدان المنطقة"، وتقول: "كلما طال أمد الحرب في سوريا سيتعاظم الخطر في المنطقة كلها ويهتز استقرارها، فإن حدوداً جديدة يمكن أن تُرسَم في ظلال اليأس والفوضى". ثم تتوقع أن تنتهي سوريا إلى ثلاث دول: دولة علوية تمتد بشريط ضيق من دمشق إلى الساحل، مروراً بحمص وحماة، ودولة كردية في الشمال الشرقي تنضم لاحقاً إلى كردستان العراق، ودولة سنّية في الوسط تنضم إلى الدولة السنّية التي ستتكون في وسط العراق.
قبل تلك المقالة بسبع سنوات نشر موقع "مجلة القوات المسلحة" (وهو موقع أميركي بحثي غير حكومي) في الأول من حزيران (يونيو) 2006 مقالة بعنوان: "حدود الدم: الشرق الأوسط في صورة أفضل"، ونُشرت معها خريطة جديدة لبلدان المنطقة أثارت ضجة كبيرة وانتشرت في عشرات المواقع العربية، وأحسب أن غالبية قرّاء هذه المقالة قد اطلعوا عليها بالتأكيد، وهي تُظهر حدوداً جديدة للعراق وإيران وتركيا والأردن وبلدان الجزيرة العربيةhttp://www.oilempire.us/new-map.html.
أكثر الذين شاهدوا الخريطة لم يقرؤوا المقالة التي نُشرت معها، وقد كتبها الضابط الأميركي المتقاعد "رالف بيترز" (الذي سأتحدث عنه بعد قليل) وقال فيها: "إن الحدود الفاصلة بين البلدان لم تكن عادلة قط، ولعل أكثرها اعتباطيةً وتشوهاً في العالم كله هي حدود دول الشرق الأوسط التي تسبّبُ من المتاعب أكثرَ ممّا يمكن امتصاصه محلياً كما قال تشرشل ذات يوم. وفي غمرة كفاحنا لفهم الانهيار الشامل في المنطقة فإننا نتجاهل "التابو" (المحرَّم) الأساسي، وهو الحدود الجغرافية القبيحة التي يقدّسها الدبلوماسيون الغربيون. لن يجلب أيُّ تعديل للحدود السعادةَ لكل الأقليات في المنطقة، ولكن الحدود الجديدة التي تعرضها الخريطة المرفَقة بهذه المقالة تحاول تصحيح الأخطاء التي عانت بسببها أقلياتٌ عرقية ودينية من أمثال: الأكراد والبلوش والعرب الشيعة، ولكنها لا تقدم الحل الأمثل لأقليات أخرى من أمثال: النصارى العرب، والبهائيين والإسماعيليين، والنقشبنديين"http://www.armedforcesjournal.com/blood-borders/.
أرجو أن تلاحظوا كيف حشر السيد بيترز "النقشبندية" وسط الأقليات التي هضمَت التقسيماتُ السياسية القديمة حقوقَها! متى كانت النقشبندية أقليةً من الأقليات الدينية في الشرق الأوسط؟ ألا يثير ذكرها في هذا السياق الشكَّ في ضوء الصعود المفاجئ والتقدم السريع لجيش رجال الطريقة النقشبندية الذي يقوده نائب الرئيس العراقي السابق والأمين العام الجديد لحزب البعث العراقي، عزت الدوري؟
نعود إلى المقالة؛ يقول الكاتب: "مع ذلك، ورغم عدم تحقيق العدل الكامل من خلال إعادة رسم الحدود وفق الخريطة المقترَحة، فإننا لن نحصل على السلام في الشرق الأوسط إلا بمراجعة جذرية للحدود الجغرافية من النوع الذي اقترحناه. لقد ضيّعت الولايات المتحدة فرصة ذهبية بعد سقوط بغداد، فقد كان ينبغي تقسيم العراق إلى ثلاث دويلات صغيرة على الفور. بعد التقسيم لن تجد الدويلة السنية الضعيفة في الوسط خياراً سوى الانضمام إلى الدولة السنية التي ستتبقى في سوريا بعد أن تنفصل عنها منطقةُ الساحل (التي يمكن أن تتحد مع لبنان لتكوين دولة ساحلية واحدة). إن الخريطة المقترحة تُظهر عدلاً أكثر مقارَنة بالأخطاء الكبيرة التي تظهر في الخريطة الحالية التي رسمها البريطانيون والفرنسيون في القرن الماضي، وإن تصحيح الحدود قد يبدو مستحيلاً الآن، ولكن مع مرور الوقت، ومع الدماء التي لا بُدّ أن تُسفَك، سوف تظهر إلى الوجود حدودٌ طبيعية جديدة على أساس روابط الدم والعقيدة"http://www.armedforcesjournal.com/blood-borders/.
—{4}—
لا نستطيع الجزم بأثر أمثال تلك المقالات والخرائط في السياسة الأميركية الخارجية لأنها لا تمثل رأياً رسمياً، وقد أخطأ كثيرون من الذين تناقلوا الخريطتين عندما نشروهما بعنوان: "خطة أميركية لتقسيم المنطقة"، فليس ما ورد في أيّ من المقالتين سوى رأي أو توقّع (أو رغبة ورجاء، أو تحفيز وإيحاء) لما يمكن أن تؤول إليه الأمور على الأرض من منظور كاتبها، وأمثالُ هذه المقالات (وما يشبهها من أبحاث ودراسات) يكون بعضُه ثمرةَ اطّلاع على ما يدور وراء الكواليس السياسية، وبعضه الآخر يُطرَح على شكل رؤى مُلهِمة للساسة وصانعي القرار.
نحن نعلم أن في الولايات المتحدة طبقةً عاليةً من المفكرين والأكاديميين والدارسين الاستراتيجيين الذين يساهمون في صناعة السياسة الأميريكية، كهنري كيسنجر، وبريجنسكي اللذين ساهما في رسم معالم العصر الأميركي الجديد، وبرنارد لويس الذي كان له دور مباشر في صياغة السياسة الأميركية الشرق أوسطية من بعد الحرب العالمية الثانية، وليو شتراوس الذي يُعتبَر الأب الروحي للمحافظين الجدد أصحاب المشروع الأميركي الاستعماري الجديد، وصموئيل هنتنغتون الذي ساهم في تحويل العدو الاستراتيجي للغرب الرأسمالي المسيحي من المعسكر الشرقي الاشتراكي إلى العالم الإسلامي … لكن قائمة المؤثرين في مطابخ القرار الأميركي ليست حكراً على أولئك المشاهير بالتأكيد، فإن كثيراً من المفكرين والأكاديميين المستقلين وكثيراً من مراكز الدراسات وبيوت الخبرة (ثِنْك-تانكس) تساهم بشكل تراكمي في صياغة الرأي والقرار ضمن مؤسسات الحكم الأميركية المتعددة بمستوياتها المختلفة، أي أن الأمر ليس ببساطةِ أن يقترح أحدُ المفكرين المتعصبين أو العنصريين خطةً لضرب العالم الإسلامي فتتحرك جيوش وأساطيل أميركا في اليوم التالي لتنفيذ المؤامرة!
ما سبق استطراد (أرجو أن يكون مفيداً) وأعود إلى موضوعنا: من المناسب أن يتعرف قراء هذه المقالة على كاتبَي المقالتين (وراسمَي الخريطتين) اللتين أشرت إليهما آنفاً، ومن ثَمّ سوف يستطيع كل قارئ أن يقدّر بنفسه مدى خطر وتأثير هذا الكاتب في صياغة السياسة الأميركية الخارجية أو مدى تأثّره بها واطلاعه على أسرارها وخفاياها.
المقالة الأولى (التي نشرَتها جريدة نيويورك تايمز قبل تسعة أشهر) كتبتها روبِن رايت، وهي صحفيّة عاشت في المنطقة العربية لخمس عشرة سنة، لها دراسات ومقالات نشرتها في صحف أميركية متنوعة خلال ثلاثة عقود، كما نشرت قبل سنتين كتاباً عنوانه: "الإسلاميون قادمون". إنها أقل من أن يكون لها تأثير حقيقي في مطابخ صنع القرار، ولكن لا يُستبعَد أن تكون قد اطّلعت على شيء من خفايا السياسة الأميركية في المنطقة العربية بحكم عملها، لا سيما وأنها تخصصت في الفترة الأخيرة في تغطية موضوعات "السياسة الأميركية الخارجية" لجريدة الواشنطن بوست.
المقالة الثانية (التي نشرتها مجلة القوات المسلحة قبل ثماني سنوات) كتبها رالف بيترز، وهو ضابط أميركي متقاعد وباحث عسكري واستراتيجي شهير، ومن مؤيدي الحروب التوسعية الأميركية، ومن أكبر مناصري الحرب على العراق، خدم عشر سنوات في الاستخبارات العسكرية وكان يشغل منصباً في مكتب نائب رئيس هيئة الأركان لشؤون الاستخبارات عندما تقاعد من الخدمة عام 1998، وقد نشر مئات المقالات في عشرات المجلات والصحف العسكرية والسياسية الكبرى في الولايات المتحدة، وله ثمانية كتب منشورة تعبر عن مذهبه العسكري الاستعماري، منها: "الحرب من أجل المستقبل: هل ستنتصر أميركا؟" و"المجد الجديد: توسيع السيادة الأميركية على العالم" و"حرب لا تنتهي"، وقد وسّع أفكارَ المقالة التي اقتطفنا منها الفقرات السابقة ونشرها في كتاب مستقل بعنوان "حروب الدم والعقيدة: النزاعات التي ستعيد تشكيل القرن الحادي والعشرين"، كما أن خريطته المقترَحة لإعادة تقسيم الشرق الأوسط تمثل العمود الفقري لكتابه الذي نشره عام 2006، "لا تتوقف أبداً عن القتال".
رغم أن خريطة رالف بيترز لا تمثل التوجه الرسمي لوزارة الدفاع الأميركية إلا أنها استُعملت -مع خرائط أخرى مشابهة- في الأكاديمية الحربية الوطنية وفي دوائر التخطيط العسكرية الأميركية لعدة سنوات، كما أنها عُرضت في برنامج تدريبي عقدته كلية الدفاع التابعة لحلف الناتو في روما في أيلول (سبتمبر) 2006، وكان ضمن المشاركين في البرنامج عدد من الضباط الأتراك الذين أظهروا استياء كبيراً بسبب تغيير حدود تركيا الدولية في الخريطة، مما دفع الحكومة التركية إلى التنديد العلني بها في مؤتمر صحفي عُقد في إسطنبول في الخامس عشر من الشهر، كما اتصل رئيس الأركان التركي، الجنرال بويو كانيت، برئيس هيئة الأركان المشتركة الأميركية، الجنرال بيتر بيس، واستنكر عرض الخريطة في برنامج الناتو، مما دفع البنتاغون إلى تطمين تركيا وتأكيد أن الخريطة لا تعكس السياسة الأميركية الرسمية في المنطقة.
—{5}—
لن نستطيع الجزم بأثر الخرائط والمقالات السابقة في السياسية الأميركية، لكننا نستطيع الحصول على الكثير من تتبّع ما يصدر عن الأشخاص الذين يمثّلون المؤسسةَ السياسية الرسمية، فماذا عن هؤلاء؟ لنعد قليلاً إلى الوراء.
خاضت الولايات المتحدة أكبرَ معاركها في القرن الجديد فخسرت آلاف المقاتلين وأنفقت آلاف الملايين من الدولارات لتثبيت أركان "الإمبراطورية الأميركية الثالثة" (وهو مصطلح خاص قد أشرحه في مقالة ما ذات يوم)، وكان الهدف الواضح هو "أرض النفط" التي بسطت سيطرتَها عليها بشكل كامل، ولا سيما من خلال الوجود العسكري المباشر في العراق. بعد ذلك سحبت أميركا قواتها من الأرض، ولكنها لم تسحب نفوذها وسيطرتها على العراق وعلى الإقليم، فبقيت اللاعبَ الرئيسي في هذه المنطقة المهمة من العالم إلى اليوم، ولا يبدو أنها مستعدة للتنازل عن هذا المكسب ولو اضطرت إلى الدخول في حرب أخرى، كما أن الدلائل التاريخية تشير إلى أن الإدارات الأميركية المتعاقبة لا يلغي بعضُها إنجازات بعض وإنما هو يبني عليه، وهكذا فإن إدارة أوباما الجديدة ما كان لها إلا أن تكمل المشوار الذي بدأته إدارة بوش قبلها بسنوات.
اعتمد جوزيف بايدن (الذي صار نائب الرئيس الأميركي الجديد) في حملته الانتخابية الفاشلة سنة 2007 على ترويج خطة تقسيم العراق إلى ثلاث دول، وقد دافع عن هذه الخطة وقدمها لمجلس الشيوخ حينما كان رئيس لجنة العلاقات الخارجية فيه، وتكللت جهوده بمصادقة المجلس عليها في خريف عام 2007.
نشرت جريدة واشنطن بوست يوم 26/9/2007 مقالة عنوانها: "مجلس الشيوخ يصادق على خطة لتقسيم العراق" جاء فيها: "قدم جوزيف بايدن، رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ، خطة لتقسيم العراق إلى ثلاث مناطق متساوية تقريباً، وقد اعتمدها المجلس بأغلبية 75 صوتاً ضد 23، وهي خطة غير ملزِمة، بمعنى أن الرئيس بوش ليس ملزَماً بتطبيقها، ولكنها تمثل مَعلماً بارزاً في الجدل المستمر بشأن المشكلة العراقية. وكما قال هاتشيسون، النائب الجمهوري عن تكساس: لا نستطيع أن نعطي ظهورنا للعراق، إن هذا سيجعل كل ما قدمناه من تضحيات بلا معنى، هذا الاقتراح -التقسيم- من شأنه أن يوفر حلاً مناسباً دون أن نعرض حياة جنودنا إلى الخطر"http://www.washingtonpost.com/wp-dyn/content/article/2007/09/26/AR200709....
كما نشر موقع "إمبراطورية النفط" (وهو موقع أميركي غير حكومي) في بداية عام 2009 -عقب فوز أوباما بالرئاسة- مقالة عنوانها: "تدمير العراق بين الشرطيّ الجيد والشرطي السيء"، جاء فيها: "لقد كان هذا الموقع مَعنياً منذ عام 2003 بتأكيد أن جغرافية النفط في الشرق الأوسط هي محرك رئيسي للسياسة الأميركية، وإن اختيار جو بايدن نائباً للرئيس الأميركي يؤكد هذا الاستنتاج، لأن حملته الانتخابية الفاشلة عام 2007 كانت تقوم بشكل رئيسي على فكرة تقسيم العراق بحيث تصبح الولايات المتحدة في وضع أفضل للسيطرة على موارد النفط. ولكن إنجاز هذا الهدف يحتاج إلى رئيس أميركي أفضل سمعةً من بوش؛ لقد كان بوش هو شرطي الإمبراطورية السيّئ، فيما يحمل أوباما المؤهلات الكافية ليكون شرطيّها الجيد الذي سيقوم بتنفيذ خطة التقسيم"http://www.oilempire.us/index.html.
—{6}—
حسناً، لقد طال الطريق كثيراً لأصل إلى الخلاصات والنتائج، فآثرت أن أتركها لمقالة مستقلة، لأنها لُبّ الموضوع وبيت القصيد، وحتى ذلك الحين أترككم مع بعض التمارين العقلية المفيدة التي سأطرحها في صيغة أسئلة تبحث عن أجوبة:
-
إذا كانت الولايات المتحدة قد أنفقت سنوات من التخطيط والعمل وبذلت المليارات من أجل تمكين مشروعها في العراق، فهل ستتخلى عنه في يوم وليلة وتتركه لدولة إسلامية أصولية ترفع شعار الخلافة وتنادي بفتح روما وغزو واشنطن؟
-
إذا كان مشروع داعش في سوريا والعراق مشروعاً إسلامياً مستقلاً فلماذا ساعده نظام المالكي بالانسحاب الغريب المريب وتسليم المناطق بلا قتال، ولماذا تواطأ معه نظام الأسد ضد الثوار، ولماذا طبقت أميركا على الفصائل المجاهدة التي بدأت بقتال داعش في سوريا مؤخراً حصاراً خانقاً ومنعت عنها كل أنواع الذخيرة والسلاح؟
-
إذا كانت داعش مشروعاً جهادياً حقيقياً فلماذا تركت مناطق الشيعة في العراق ومناطق النظام في سوريا وركّزت حروبها وسيطرتها على مناطق السنة في العراق والمناطق المحررة في الشام؟ ولماذا تجنبت الاقتراب من العاصمتين التاريخيتين لدولة الإسلام، بغداد ودمشق، وأسست عاصمتين جديدتين لدولتها المزعومة: الرقة والموصل؟
-
إذا كان مشروع داعش مشروعاً محلياً محدوداً فلماذا قابلته تركيا وإيران وبقية دول الإقليم بالسكوت والاستسلام رغم أنه يشكل في الظاهر خطراً عليها جميعاً، ولماذا لم تحاول أي دولة من دول الإقليم محاصرة هذا المشروع واتقاء شرّه وضرره عليها بأي طريقة؟
هل يمكن أن يكون جواب الأسئلة السابقة كلها: لأن القوة التي تدير معارك داعش في سوريا والعراق والتي رسمت لها مسارها وحدودها ليست قوة محلية ولا قوة إقليمية، لا هي قوة داعش الذاتية ولا أيّ من نظامَي المالكي أو الأسد ولا حتى إيران، وإنما هي الولايات المتحدة الأميركية، ولأن الهدف من حروب داعش ليس إنشاء دولة إسلامية ولا تحرير أراضي المسلمين من الاحتلال الإيراني المالكي الأسدي، وإنما هو إعادة تقسيم المنطقة إلى بلدان جديدة بما يوافق السياسة الاستعمارية الأميركية الجديدة؟
وإذا كان هذا صحيحاً فماذا ينبغي أن نفعل وماذا نستطيع أن نفعل؟ الجواب: إذا كان صحيحاً فينبغي أن نفعل الكثير، ونستطيع أن نفعل الكثير.
الخلاصة: موت محتوم أو ولادة جديدة
لن نستطيع أن نفهم حوادث سوريا والعراق إلا إذا أدركنا أن في كل منهما معركتين لا علاقةَ لأي منهما بالأخرى، معركتين مختلفتين يخوضهما فريقان مختلفان.
فأما معركتا سوريا فهما معركةٌ ضد النظام يخوضها الثوار بهدف تحرير سوريا من الاحتلال الأسدي الطائفي، ومعركة ضد الثوار تخوضها داعش بهدف الاستيلاء على المناطق المحررة وإنشاء كيانها المشبوه فيها.
وأما العراق فإن فيه معركة سهلة هي أقرب إلى التمثيلية أو الترتيبات والتفاهمات المسبَقة وتهدف إلى تسليم داعش مساحات واسعة من أرض العراق، ومعركة حقيقية شرسة تخوضها قوات العشائر المسلحة بالاشتراك مع الفصائل الإسلامية المستقلة بهدف تحرير مناطق السنّة في ديالي وبغداد.
* * *
يبدو أن الولايات المتحدة ترعى المشروع الذي تنفذه داعش على الأراضي العراقية، وهذه الرعاية تفسر اللغز وتجيب عن السؤال الجوهري: لماذا سلّم نظام المالكي لداعش مساحات واسعة في وسط البلاد بلا قتال؟ ولكن ماذا عن سوريا؟ تذكرون أن إحدى مقدّمات المقالة الأولى في هذه السلسلة (كلمة السر هي داعش) كانت تنص على أن "داعش سوريا وداعش العراق كيان واحد له قيادة واحدة ورؤية واحدة وسياسة واحدة وأهداف واحدة". ومن ثَمّ فإننا لا نملك إلا أن نطبق الفهمَ السابق نفسه على سوريا ونقول: "إن الولايات المتحدة ترعى المشروع الذي تنفذه داعش على الأراضي السورية".
إن تطبيق القاعدة نفسها في البلدين سوف يقدم إجابة معقولة عن السؤال الذي يسأله السوريون منذ بعض الوقت: لماذا سكت النظام السوري عن تمدد داعش في مساحات واسعة من سوريا، بل وتدخّل في مرات كثيرة لمساعدتها ضد الفصائل المجاهدة؟ إن التفسير الظاهر الذي كنا نلجأ إليه عادة هو تقاطع المصالح واتحاد العدو، حيث يمثل المجاهدون خطراً حقيقياً على مشروع داعش كما يمثلون خطراً حقيقياً على نظام الأسد. ولكن ماذا لو كان الجواب مختلفاً؟ ماذا لو كان هو نفسه السبب الذي دفع المالكي إلى إتمام عملية "التسليم النظيف" لداعش بلا قتال؟
جواب هذا السؤال يطرح احتمالاً مخيفاً: إن الولايات المتحدة التي بدا -ممّا استعرضناه في المقالتين السابقتين- أنها ترعى المشروع الداعشي في العراق ترعاه في سوريا أيضاً، وكما اضطُرّ المالكي إلى الرضوخ للإملاء الأميركي ضمن تفاهمات معينة ستعيد توزيع المساحات والنفوذ في العراق فكذلك رضخ الأسد للإملاء الأميركي ضمن تفاهمات معينة ستعيد توزيع المساحات والنفوذ في سوريا.
* * *
إذا كانت النظرية السابقة صحيحة فإنها لا بد أن ترتبط بلحظة حاسمة في عمر الأزمة السورية، حيث كان من الواضح أن الإدارة الأميركية تسعى بقوة إلى إخراج الأسد من المعادلة وإحلال بديل آخر محله، بديل يأتي من داخل النظام أو من داخل الطائفة (أرجو مراجعة مقالة "الضربة الأميركية: ما الهدف ومن المستهدف؟"). ثم تغير المزاج الأميركي فجأة وتغيرت مفردات خطابه السياسي، فتوقف الحديث عن "مصير الأسد" وتحول عنوان المعركة إلى مانشيت جديد: "الأسلحة الكيماوية". هذا الانقلاب المفاجئ في الأمزجة والعناوين حصل في أواخر آب (أغسطس) 2013.
خلال الأسابيع التالية ظهرت معالم الصفقة الجديدة التي لم ألاحظ الرابطَ بين أجزائها أبداً، ولا يبدو أن أحداً استطاع ملاحظته أيضاً: بدأ النظام بإجراءات جادة لتسليم مخزونه الكيماوي، وبدأت داعش بالانتشار في المناطق المحررة، ولمدة أربعة أشهر استمر تسليم السلاح الكيماوي واستمر الاجتياح الداعشي للرقة والحسكة ودير الزور وحلب وإدلب! كان النظام يراقب تقدم داعش الحثيث من بعيد، ولم يُضطر إلى التدخل إلاّ في مرات قليلة، عندما تعثر تقدم داعش في بعض المناطق بسبب مقاومة المجاهدين فساعدها بقصف كتائب المجاهدين بالمدفعية والطيران.
إنني أكاد أجزم بأن كل ما رأيناه بعد الهجوم الكيماوي على الغوطة الشرقية كان نتيجةً لصفقة سرّية عقدها نظام الأسد مع الإدارة الأميركية: بقاؤه في السلطة حاكماً لقسم من سوريا مقابل الرضا بسيطرة داعش على القسم الآخر وفصله في كيان سياسي جديد.
وإنني أجازف أيضاً بالاستنتاج: لقد كاد هذا المخطط يبلغ ذروته أواخر عام 2013 لولا الوقفة المشرّفة للفصائل التي كوّنت على عَجَل تحالف "جيش المجاهدين" الجديد الذي وقفَ تمددَ داعش واستنفر بقية الفصائل لقتالها، فقاتلَتها وأجْلَتها عن أكثر المناطق التي كانت تسيطر عليها في إدلب وحلب ودير الزور. ولولا أن الأميركيين سارعوا إلى مساعدة داعش -فمنعوا السلاح والذخيرة عن المجاهدين- لنجح المجاهدون في تعقّب داعش إلى الرقة والقضاء عليها هناك.
هذا التدخل لصالح داعش قامت به الولايات المتحدة مرة أخرى مع بداية التمدد الداعشي الجديد في أول نيسان (أبريل) الماضي، وهذه المرة كان الإجراء الأميركي حاسماً جداً وفعّالاً جداً. لا يعرف أكثر قراء هذه المقالة ما حصل في الواقع، ولكن الإخوة المجاهدين في الفصائل المختلفة يعرفون، ولو سألتموهم لأخبروكم بما حصل. لقد تدخل الأميركيون بصورة سافرة، وبعدما كانوا "يشرفون" على دخول السلاح الذي يصل من مصادر مختلفة: تركية وقطرية وسعودية، تحولوا من الإشراف إلى السيطرة الكاملة، فأوقفوا كل القنوات وسيطروا بشكل مباشر على دخول السلاح من الجنوب (الأردن) ومن الشمال (تركيا) عبر "غرف" السلاح الأميركية، وترافق ذلك مع إغلاق محكم للحدود ومنع صارم لدخول أي شيء من الذخيرة أو السلاح، ولا حتى طلقة واحدة.
وهكذا تُرك المجاهدون بلا ذخيرة ليقاوموا عدواً تتدفق عليه من الشرق، من العراق، الدبابات والمدرعات والصواريخ والمدافع وكميات يصعب حصرها وعَدّها من الذخائر.
* * *
إلى أين سيمضي المشروع الداعشي؟ ما هي حدوده المرسومة؟
التمدد الأول توقف عندما بدأت معركة الأتارب في آخر كانون الأول (ديسمبر) 2013، وأحب أن أذكّر الإخوة القرّاء بأن شرارة معركة الأتارب كانت هجوم داعش على آخر المعابر الحدودية من جهة الغرب: باب الهوى. اليوم تزحف داعش بمحاذاة الحدود السورية التركية وتوشك أن تستولي على معبر باب السلامة القريب من إعزاز، وإذا ما سقط المعبر (لا سمح الله) فأخشى أنها ستتقدم إلى المعبر الأخير كما صنعت أولَ مرة.
أرجو أن تعودوا إلى مقالة "داعش تضرب من جديد" التي نشرتُها بتاريخ 26/4/2014، وفيها: "لكن داعش لا تستسلم بسهولة، فإن الذين "صنعوها" لن يتراجعوا عن هدفهم الذي صنعوها من أجله، لذلك لم يكن انسحاب داعش من تلك المناطق كلها هزيمة لها، بل كان يمثل التطبيق الحقيقي لمصطلح مشهور كثيراً ما أُسيء استخدامه في حربنا الثورية: "الانسحاب التكتيكي". وهنا ارتكب المجاهدون أكبر أخطائهم الاستراتيجية في المعركة، فقد توقفوا عن مطاردة العصابة بعد انكفائها إلى الرقة وتركوها لتعيد تنظيم قواها وتعويض خسائرها، فما لبثت أن صارت جاهزة للهجوم من جديد. وتشير البدايات المقلقة للمعركة الجديدة إلى أن داعش ستحاول إعادة خطة الغزو الأولى التي طبّقتها في العام الماضي، فتبدأ بمحافظتَي الدير والحسكة، ثم تتوجه إلى غزو حلب انطلاقاً من الشمال الشرقي باتجاه الغرب".
إن داعش تقتفي في تمددها الجديد آثارَ تمددها الأول، وهذا يشير إلى احتمال مرعب: إن الدولة الداعشية التي ترعاها الولايات المتحدة ستسيطر على كامل الحدود السورية التركية. هذا يعني أن الثورة سوف تختنق حتماً لأن تركيا هي الرئة التي تتنفس منها، فهل هذا معقول؟ نعم، إنه معقول جداً، فإذا كانت الصفقة الأميركية-الأسدية تقتضي إعادة توزيع المساحات والنفوذ (كما جرى في الصفقة العراقية المماثلة) فإن من الضروري القضاء على الثورة السورية بالكامل، وتسليم جزء من سوريا لداعش (دولة البعث الجديدة) وتسليم ما بقي منها للنظام.
* * *
ماذا ينبغي أن نفعل؟ وماذا نستطيع أن نفعل؟
ينبغي أن نفعل الكثير، ونستطيع أن نفعل الكثير إن شاء الله إذا صَدَقت النياتُ وأُحسن التنظيم والتخطيط والتنفيذ.
إننا بحاجة إلى خطة عاجلة، خطة طوارئ من نوع خطط إطفاء الحرائق، يجب تنفيذها على وجه السرعة مهما تكن الصعوبات، وبعد ذلك تأتي خطوات التصحيح وإعادة البناء.
تقوم خطة الطوارئ على دفع قوات كبيرة بقيادة موحّدة إلى الشمال لتطهير الشريط الحدودي من داعش وحمايته من السقوط، من جرابلس إلى باب الهوى، لأن سقوط هذا الشريط هو بداية نهاية الثورة لا قدّر الله. وبعد ذلك يتوجب تمديد مناطق السيطرة إلى الطرف الشرقي من الفرات، باتجاه عين العرب وتل أبيض، لإجلاء داعش نهائياً عن الحدود السورية التركية.
بعد هذه الخطوة العاجلة (العاجلة جداً، حيث يُعَدّ الوقت الذي نملكه لتنفيذها بالأيام لا بالأسابيع والشهور)، بعدها ينبغي على الثورة أن تنتقل بسرعة إلى إعادة البناء وتصحيح المسار، وهذه بعض الأفكار الأساسية التي تحضرني (وأرجو أن يقوم قادة الثورة ومفكروها بعصف ذهني لتقديم تصورات أوضح وأشمل):
أولاً: عسكرياً:
-
تحالُف القوى العسكرية على الأرض (ولا ضرورة لتوحيدها لأنه هدف بعيد المنال) وإنشاء غرفة عمليات كبرى تغطّي جبهات الحرب كلها في جميع أنحاء سوريا وتكون بمثابة "هيئة أركان الحرب العليا"، وأتمنى أن يستفيد الإخوة المجاهدون في الفصائل من خبرات الضباط المنشقين الذين تخرجوا في كلية الأركان لأن إدارة الحرب فن مختلف عن إدارة معارك صغيرة في جبهات محدودة.
-
تطهير المناطق المحرَّرة والمحاصَرة من خلايا داعش الصغيرة التي تنتشر فيها، وتشمل هذه الخطة الغوطتين الشرقية والغربية (وقد بدأ مجاهدو الشرقية بتطبيقها، وفّقهم ونصرهم الله) وحوران وريف حماة وريفَي حمص الشرقي والشمالي. ولن تكتمل العملية إلا بقتل رؤوس الدو اعش وسحب السلاح من عامّتهم ومنعهم من أي نشاط قتالي أو إعلامي ولو بالقوة والقتال.
-
شنّ حملة مركّزة على خزّان داعش البشري في البادية الممتدة بين حمص ودير الزور، فهو مصدر الخطر الكبير والدائم على الشرق السوري (ولا سيما على محافظة دير الزور التي أخشى أن نفشل في استرجاعها نهائياً) وعلى ريف دمشق الشرقي والقلمون، ولن تنكسر شوكة داعش إلا باجتثاثها من البادية.
ثانياً: سياسياً وإدارياً
-
القيام بإجراء سياسي حاسم لا يحتمل التأخير، وهو إطلاق رصاصة الرحمة على الائتلاف الوطني الذي صار أداة لخيانة الثورة وبيعها على طاولات المفاوضات، والذي تحوّل أكثرُ أعضائه (ولا أقول كلهم) إلى كائنات طفيلية تتصارع على المكاسب والمناصب فيما تضيع سوريا كلها من أيدينا إلى الأبد لا سمح الله.
-
سينشأ عن ذلك "فراغ سياسي" يتوجب على الثورة أن تملأه بلا تأخير بكيان ثوري سياسي جديد نظيف يمثّل الثورة تمثيلاً حقيقياً، ويستطيع محاورةَ القُوى الخارجية بقوة واحترافية وبشرف وكرامة ورؤية واضحة لا تضيّع ثورتنا وتضحياتنا كما يوشك أن يصنع الائتلاف.
-
الخطوة الأخيرة الكبيرة التي ستنقذ سوريا بإذن الله هي "إعادة إنتاج الثورة" في نسخة جديدة تتدارك أخطاء الثورة الأولى التي أوشكت على التلاشي، سواء في ذلك الأخطاء العسكرية والسياسية والإدارية، على أن تكون "ثورة تكنوقراط"، بمعنى احترام الاختصاص وعدم خلط العمل المسلح بالإدارة المدنية، وإنشاء أجهزة اختصاصية احترافية للإدارة المدنية والقضاء والسياسة والإعلام يقوم عليها مختصون من أهلها لا هواةٌ متطفّلون من أهل التغلّب والجاه والسلطان، ولنا عودة مفصلة إلى هذا الموضوع المهم إن شاء الله.
* * *
الوصايا الأخيرة هي لإخواننا المجاهدين في العراق. لا جدال في أن الحالة التي يعيش فيها المسلمون السنّة في العراق هي أسوأ حالة يمكن أن يتخيّلها الإنسان، وهذا يعني أن أي حل -مهما يكن سيئاً- سيكون أقل سوءاً من الواقع المرير، ولو كان البديل هو داعش أو البعث أو حتى الاحتلال الأجنبي. هذا كله مفهوم، وهو يبرّر قبولهم بالإقليم السنّي وسعيهم إليه بعدما عارضوه في البداية، ولا يُلامون في الحالتين، ولكن تبقى مسألتان في غاية الأهمية والخطورة يجب أن ينتبهوا إليهما:
-
إن داعش عدو مجرَّب معروف، وقد بطشت سابقاً بالمجاهدين في العراق وقتلت خيارهم وكسرت شوكتهم وأعانت عليهم عدوهم وأخرجتهم من المعركة حتى تستأثر وحدها بالميدان، ثم حاولت أن تصنع ذلك كله في سوريا لولا أن وقف لها مجاهدو سوريا بالمرصاد فأعاقوا خطتها وأنقذوا أنفسهم من الفناء. وأخشى أنها ستكرر الخطة نفسها في العراق من جديد لا قدّر الله.
-
إذا كانت النظرية التي قدمَتها المقالات السابقة في هذه السلسلة صحيحةً، فإن السنّة في وسط العراق، في صلاح الدين ونينوى والأنبار، وعددهم قريب من ستة ملايين، سينتقلون إلى واقع أقل بؤساً وسوءاً إن شاء الله، ولكن ماذا عن السنّة الذين يقيمون في ديالي وبغداد وحزامها الكبير (التاجي والطارمية والمحمودية واليوسفية وأبو غريب) وعددهم قريب من خمسة ملايين؟ لأي مصير سيُترَكون؟
النتيجة في ضوء المسألتين السابقتين: حيث إن ديدن داعش هو الغدر والخيانة فلا بد أنها ستغدر عمّا قريب بالعشائر والفصائل الإسلامية المستقلة، فكيف سينجو المجاهدون من غدرها، لا سيما إذا اجتمع عليهم معها نظام المالكي بقواته الأرضية، والولايات المتحدة بالدرونات (الطيارات بلا طيار)؟
إن على مجاهدي العراق المخلصين الكرام أن يستعدوا لذلك كله منذ اليوم، وأن يجمعوا قواهم كلها في قيادة واحدة ويُنشئوا غرفة عمليات عليا، فلا يكرروا خطأهم القديم حينما قاتلوا قوات الغزو متفرقين ولا يكرروا خطأ مجاهدي سوريا الذين أضاعوا بتفرّقهم ألفَ فرصة وطوّلوا الطريق. وعليهم أن يضعوا خطة شاملة تنقذ المسلمين السنّة جميعاً من الاحتلال والاضطهاد، لا أن يفرحوا بإخراج نصفهم إلى دولة جديدة (مهما تكن طبيعتها) ويتركوا النصف الآخر لمصير مظلم مجهول. أما كيف يكون ذلك فأمر لا أعرفه ولن أتطفل عليهم بالتفكير فيه وهم أهل السابقة والخبرة وأصحاب الميدان.
* * *
الخلاصة: يبدو أن داعش ليست سوى أداة يحركها ويستغلها البعثيون الذين سيطروا على قيادتها واتفقوا مع الأميركيين على صناعة دولة بعثية جديدة مع إعادة تقسيم سوريا والعراق. هذه اللعبة الخطيرة تشترك فيها ثلاثة أطراف: طرف قوي مسيطر يضع قواعدها ويدير فصولها، وطرف ذكي مستفيد يتحرك ضمن تلك القواعد لتحقيق هدفه والعودة إلى الحكم، وطرف غبي هو جسم داعش المكون من جهاديين مغفلين بلا عقول يقتصر دورهم على تنفيذ المخطط السابق بغباء منقطع النظير، وهم وَقودٌ سيحترق عاجلاً ثم ينكشف الغطاء عن الكيان الجديد الذي صنعته الولايات المتحدة لتحقيق مشروعها الاستعماري الجديد.
إن سياق الحوادث العراقية ينسجم تماماً مع هذه الفرضية، حيث يبدو أن القوة الرئيسية التي بدأت بالمعركة (البعث-داعش) قد احترمت تفاهماتها مع أميركا وحلفائها ولم تقترب من المناطق المحرَّمة عليها (بغداد وديالي وسامراء والجنوب) في حين أن القوى المستقلة تبذل جهوداً خارقة يائسة لتحقيق مكاسب فيها، وهي قوى لا تخضع لأي تفاهمات مسبقة وتشكّل خطراً على النفوذ الإيراني وعلى نظام المالكي، لذلك فإنها تتعرض لمقاومة شرسة حقيقية من طرف قوات المالكي والمليشيات الشيعية العراقية والإيرانية، التي انسحبت من سوريا لتخوض المعركة مع تلك الفصائل في تلك الجبهات حصراً وليس مع داعش في المحافظات الثلاث التي سلّمها المالكي بلا قتال.
* * *
لقد أرادوا قتل ثورتنا من أول يوم قامت فيه، وإنهم اليوم جادّون في تحقيق ما عجزوا عنه في أربعين شهراً خلت، وإلاّ تولَدْ ثورتُنا ولادة جديدة على أسس صحيحة فإنها سائرة إلى فشل كبير أو أنها صائرة إلى موت محتوم لا قدّر الله.
إن الثورتين -في سوريا والعراق- تمرّان بظروف عصيبة، ولا نجاةَ لثورة العراق إلا بالتخطيط والتنظيم ودرء شر داعش القريب، ولا نجاةَ لثورة الشام إلا بولادة جديدة على أسس صحيحة تتلافى عيوب المرحلة السابقة.
إن الثورات ليست أمراً سهلاً يمكن البدء به كل يوم، وعندما يفشل شعب من الشعوب في ثورته فقد يعجز عن البدء بثورة أخرى قبل نصف قرن من الزمان. هذه الحقيقة الخطيرة يجب أن تعيَها الثورتان، السورية والعراقية، وأن تعقدا العزم على أن لا تُهزَما مهما كان الثمن؛ ينبغي أن نقوّم الأخطاء ونجدد العزائم ونستمرّ بالثورة وصولاً إلى النصر مهما تكن التقدمات ومهما تكن التضحيات.
المصدر: موقع الزلزال السوري
إضافة تعليق جديد