الجمعة 19 أبريل 2024 الموافق 10 شوال 1445 هـ

حكم جهاد الغزو | سلسلة: فقه الجهاد - تجديد واجتهاد (7)

29 ذو الحجة 1443 هـ


عدد الزيارات : 2972
د. عطية عدلان

 

كثيرون هم أولئك الذين قالوا في زماننا هذا بأنّ الجهاد في الإسلام مقصورٌ على الدفع فقط، وأنّه لا وجود لما يسمّى بجهاد الطلب والابتداء، وإنَّ كثيرًا منهم لَذَوُو فضل وشرف وقدم في العلم راسخة. وكثيرة ووفيرة ولها وجاهة لا يستهان بها تلك الأدلة التي يسوقونها على صحّة ما ذهبوا إليه، وتلك الإشكالات التي أثاروها في وجه الذين خالفوهم، ومع ذلك لا يَسْعَدُ تَوَجُّهُهُمْ هذا بأدنى درجات الصحّة والمشروعية، والحمد لله أنّنا من أمّة تفرق بعدل وإنصاف -في دائرة أهل الحقّ- بين القول وقائله، فلا يلزم من فساد القول وبطلانه ووجوب إطّراحه التقليلَ من قيمة قائله أو الحطّ من شأنه.

ولقد قال بهذا القول رجال نحبّهم ونواليهم ونشهد لهم بالعلم والأمانة على العلم والفتوى، من أمثال الإمام العلامة محمد أبو زهرة، وفضيلة الشيخ عبد الوهّاب خلّاف، وغيرهما من الأكابر الفضلاء، ثم جاء مِن بعدهم أقوام قلّدوهم وتوسّعوا في تصريف أقوالهم وتحريف مقاصدهم، حتى صار الانحراف عن خط العلماء السابقين أصلاً لا استثناء، وحتى أصاب أصحابَ الرأيِ الآخر الصحيح رهبةٌ وغربة ووحشة؛ فما عادوا يرفعون أصواتهم أو يجهرون بقولهم إلّا على استحياء شديد.

وقد اتكأ أصحاب هذا الاتجاه على جملة من الآيات والأحاديث فسّروها بغير ما فسّرها به الأوائل، وفهموها على غير الوجه الذي فهمه السابقون، فقالوا: إنّ آيات القتال في القرآن الكريم جاءت في كثير من السور المكية والمدنية مُبَيِّنَةً السببَ الذي من أجله أُذِنَ في القتال، وهو يرجع إلى أحد أمرين: إما دفع الظلم، أو قطع الفتنة وحماية الدعوة، وذلك أن الكفار على عهد الرسول ﷺ -سواء أكانوا من المشركين أم من أهل الكتاب- أمعنوا في إيذاء المسلمين بألوان العذاب فتنةً لهم وابتلاء؛ حتى يردّوا مَن أسلم عن دينه، ويثبّطوا من عزيمة مَن يريد الدخول في الإسلام، وغايتهم من هذه الفتن والمحن أن يُخمدوا الدعوة ويَسُدوا الطريق في وجه الدعاة، فأوجب الله على المسلمين أن يقاتلوا هؤلاء المعتدين دفعًا لاعتدائهم وإزالةً لعقباتهم حتى لا تكون فتنة ولا محنة، ولا يحول حائل بين المدعوين وإجابة الدعوة.

مِن هذه الآيات قول الله تعالى في سورة البقرة: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِين ` وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ ` فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ` وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ﴾[البقرة:190-193]، وفي سورة النساء: ﴿وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا﴾[النساء: 75]، وفي سورة الأنفال: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾[الأنفال: 39]، وفي الحج: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ` الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ﴾[الحج: 39، 40][1].

واستدلوا بالآيات الداعية إلى السلم مثل قوله تعالى: ﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾[الأنفال: 61].، وقوله سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾[البقرة: 208]، وقوله عزّ وجلّ: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾[النساء: 94]، وقوله: ﴿فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا﴾[النساء: 90]، وقوله: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾[الممتحنة: 8][2].

ثم قالوا إنّ وسائل القهر والإكراه ليست من طرق الدعوة إلى الدين لأنّ الدين أساسُه الإيمان القلبي والاعتقاد الوجداني وهذا الأساس تُكَوّنُه الحجة لا السيف، ولهذا يقول الله تعالى: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾[البقرة: 256].ويقول سبحانه: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾[يونس: 99][3].

وساقوا بعض الأحاديث التي ظنوا أنّها تنتج المدعى، مثل قول النبي ﷺ: (أَيُّهَا النَّاسُ لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ وَسَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ)[4]، فالرسول ﷺ ينهي عن الرغبة في الحرب وتمنّيها حتى مع العدو، ويسأل الله أن يديم نعمة السلم والسلام[5]، وقوله ﷺ: (دَعُوا الْحَبَشَةَ مَا وَدَعُوكُمْ، وَاتْرُكُوا التُّرْكَ مَا تَرَكُوكُمْ)[6].

واحتجّوا أيضًا باتفاق جمهور المسلمين على أنّه لا يحل قتل النساء والصبيان والرهبان والشيخ الكبير والأعمى والزمنى ونحوهم لأنّهم ليسوا من المقاتلة، ولو أنّ القتال كان للحمل على إجابة الدعوة وطريقًا من طرقها حتى لا يُوجد مخالف في الدين ما ساغ استثناء هؤلاء، فاستثناؤهم برهان على أنّ القتال إنّما هو لمن يُقاتَل دفعًا لعدوانه، ولو قيل إنّهم استُثنوا لأنّهم لغيرهم تَبَعٌ فهذا إن سَلِمَ في الصبيان والنساء لا يَسْلَمُ في البواقي، وخاصّة في الرهبان[7]، كما احتجّوا بأنّ المسلمين لم يبدؤوا عدوّهم بالقتال إلا بعد دعوته إلى إحدى ثلاث خصال كما ورد في الحديث، فلو كان الأصل الحرب ما خيّروهم[8]، وأنّ الآيات القرآنية قرّرت أنّ الجدال قبل القتال، وأنّ البيان قبل السنان، ولو كان الأصل الحرب ما تأخر القتال عن الجدال، ولا السنان عن البيان[9].

وقالوا: إنّ مَن تتبّع السيرة النبوية من بداية العهد المدني لعَلِم أنّ الجهاد لم يكن إلا لردّ العدوان، واستمر على ذلك دائمًا؛ لأنّ الكفار في كلّ الأقطار لم يتركوا الدعوة الإسلامية تحيا في أمان، وفي بعض الأحيان كان المسلمون يضطرون لاتخاذ الهجوم سبيلاً للدفاع عن طريق الحرب الإجهاضية، واستمرّ الأمر على ذلك حتى كان عهد الاجتهاد، فتأثّر العلماء بالواقع، فأخذوا الحكم من الواقع لا من دلالات النصوص القرآنية والنبوية"[10].

وأجابوا عن الآيات الداعية إلى قتال الناس كافّة والتي فيها عموم بأنّ هذا العموم مخصوص بالآيات التي ساقوها معلّلة بأسباب تقصر القتال على الدفع فقط، فهي من قبيل حمل العامّ على الخاصّ والمطلق على المقيّد، وكذلك الأمر في الأحاديث.

وقبل أن أستعرض الأدلّة على بطلان هذا التوجّه جملة، وعلى مشروعية جهاد الغزو والطلب والابتداء، ووجوبه عند الاستطاعة؛ أحبّ قبل ذلك أن أثير في وجوه القوم الإشكالات الضخمة التي غفلوا عنها، واللوازم القاصمة التي تجاهلوها، فلا ريب أنّ الحق سالم أبلج، وأنّ الباطل في اضطراب يتلجلج، فهل يصمد هذا التوجه أمام الإشكالات التي يثيرها واللوازم التي يفرضها؟ لننظر ..

أوّل سؤال وأبرز استشكال نستعرضه كالآتي: إذا سلّمنا بأنّ الجهاد لم يشرع إلا لردّ العدوان، وأنّه لا وجود في الشريعة لما يسمى بجهاد الطلب والغزو؛ فهل كان الصحابة ومَنْ بَعْدَهم من أهل القرون المفضلة الأولى يعلمون ذلك من شريعة الله؟ فإن كان الجواب بالنفي فقد انقلب الهرم ووقف على رأسه، وتبدّل حال الشجرة فأضحت أغصانها ساربة في أعماق التربة وغدت جذورها ممتدة في جو السماء؛ إذْ كيف يخفى على الجيل الأول ثم الذي يليه ثم الذي يليه حكمٌ شرعيٌ كبير كهذا ثم لا يكتشفه إلا هؤلاء المتأخّرون المتكلفون؟!

أمّا إن كانوا يعلمون ذلك فما بالهم قد أجمعوا عمليًّا وواقعيًّا على مخالفة حكم الله تعالى، وانطلقوا بفتوحهم شرقًا وغربًا وشمالاً وجنوبًا حتى دانت الأرض المعلومة آنذاك كلُّها بالإسلام، عدا تلك البقعة النكدة في غرب أوربا، والتي تقود اليوم هذه الحرب المسعورة على فريضة الجهاد وعلى الشريعة كلّها! أم تراهم استمرّوا في الدفاع حتى بلغوا أسوار الصين في شرق الأرض وشواطئ الأطلسي في غربها!

إنّ هذا الاتجاه يعطي دليلَ إدانة للتاريخ الإسلامي وللحضارة الإسلامية؛ فمِن حقّ الأقلّيات مِن غير المسلمين أن يقولوا لنا: إذا كان الأمر على هذا النحو، وإذا كانت السماء لم تعطِكم إذنًا بالغزو لإعلاء كلمة الله، وإذا كانت الشريعة التي تدعوننا أنتم للدخول تحت سلطانها توقفكم عند حدودكم وتمنعكم من الفتح باسم الدين؛ فَلِمَ غزوتم بلادنا، وهدمتم حضاراتنا؟ إنّكم تاريخيًّا وحضاريًّا مدانون، ودخلاء على هذه البلاد جميعها، وعندئذ سيكون لأمثال القزم الأجوف الموتور "سيد القمني" حجّة عالية على الفاتح العظيم عمرو بن العاص، الذي فتح مصر دون أن تُمثّل أدنى تهديد لدولة الإسلام التي دانت لها الممالك في العراق والشام وعلت قبضتها فوق الأباطرة والأكاسرة.

أمّا السؤال الثاني: فهو سؤال عموم الرسالة وعالمية الإسلام، فمن الأمور المعلومة من الدين بالضرورة أنّ الإسلام رسالة عالمية، وأنّ رسول الله ﷺ أرسل إلى العالمين أجمعين، وهذا ما أجمعت عليه الأمّة، ونقلته بالتواتر جيلاً بعد جيل، واستوى في علمه الخاصّة والعامّة، وقد انطلق الخلفاء وخلفهم الصحابة بعد وفاة نبيهم ﷺ بحركة الغزو هذه لتحقيق هذا المبدأ؛ فكيف كان بإمكان الأمّة أن تقوم بهذا إذا لم يكن جهاد الغزو واجبًا عليها؟ لقد أرسل الرسول ﷺ الرسائل إلى الملوك وإلى كسرى وقيصر والمقوقس والنجاشي؛ فهل استجاب منهم أحدٌ سوى النجاشي؟ وهل استطاع النجاشي إذ اختار الإسلام دينًا أن يبشّر به في مملكته؟ أم إنّ الأمّة يكفيها لكي تقوم بهذا الواجب أن ترسل بين الفينة والفينة رسالة إلى رؤساء الدول وملوك العالم ليلقوا بها في سلّات القمامة ويستمرّوا في إضلال العباد وإبعادهم عن خالقهم جل وعلا؟!

سيقولون -وهم لا يستحون من سماجة ما يطرحون- إنّ الدعوة إلى الإسلام لا يلزم لها جهاد، وإنّ الله فتح بلادًا بالسِنَان وأخرى بالقرآن؛ فَلِمَ لا نتصوّر أنّه بالإمكان فتحها جميعا بالقرآن، وقد يتواقح البعض فيقول: إنّ المسيحية انتشرت وصارت أوّل ديانة في العالم دون الحاجة لفريضة القتال، إلى غير ذلك من الأقوال التي تبلغ من السماجة حدّا تفوق به سماجة الصموغ التي تسكّ الآذان، فوالله ما يغني ولا يجدي البيان بدون السنان، كما لا يغني ولا يجدي الشجب في وجه من يحتلّون الأوطان ويقهرون الإنسان، كلّ ذلك يعلمه ولا يجهله كل من له جَنَان، وعينان تبصران، وأذنان تسمعان.

وإن بقي أنّ لهذه القاعدة الراسية المتينة استثناءات لا تزيدها إلا متانةً ورسوخًا، تمثّلت هذه الاستثناءات في حالات نادرة في التاريخ بعد بعثة النبي محمد ﷺ فُتِحت فيها بلادٌ في الشرق الأقصى وراء الممالك التي تهاوت تحت مطارق الفتح الإسلاميّ، ولولا الدويّ الذي أحدثته الفتوح المتوالية، ولولا زئير الجهاد الإسلامي ما فُتحت هكذا بهذه السهولة بمجرّد البلاغ والبيان؛ فإنّ الشعوب ليست متروكة لما ترغب وتريد، وما لها من خيار حتى تنال حريتها، التي من أجلها شرع الجهاد.

ومن تلك الاستثناءات: حركة المدّ الإسلاميّ الناتج عن تحرّك فطرة الشعوب نحو الإسلام في كثير من بلدان العالم الآن، وهي مقابلة بحركة أشدّ وأعنف، وهي الإمبريالية العالمية التي تدور رحاها على العالم الإسلاميّ خاصّة وحريم العالم الإسلاميّ عامّة، والهيمنة الغربية وبسط السيادة والنفوذ على الأمّة الإسلامية خاصّة وعلى الأمم غير الغربية عامّة، مما نتج عنه وضعٌ غريبٌ مقلوب، وهو أن يُطَارَدَ الإسلامُ وكلّ من يدعو إليه في دياره، بينما تعطى مساحة من الحرّية للإسلام وأهله في ديار الكفر؛ ليبقى الكلّ تحت السيطرة، وتتّسع الحظيرة لتشمل القطعان كلّها وتروّض الساحة الإسلامية بهذه الطريقة الخبيثة.

فإذا وجدت الدعوة للإسلام داخل هذه الحظيرة ثُقْبًا تُطلّ منه على الدنيا وتنفذ من خلاله إلى قلوب العباد؛ فلا يسع المسلمين تجاهله، كما لا يسع المنظّرون منهم أن يقولوا للناس إنّ هذا الوضع هو الوضع الطبيعيّ الذي به تتحقق عالمية الإسلام وسيادة الشريعة وحرّية الدعوة وإعلاء كلمة الله على كلمة الكفر، إنّ هذا الوضع جملة يعد استثناءً لا أصلاً، وحتى هذا الاستثناء يَضمُر ويضمحلّ كلّما شعر الغرب المهيمن أنّ الأمر يوشك أن يخرج عن السيطرة، فالحقيقة أنّ الحرية التي يمنحها لنا الغرب في دياره تابعة لخطّته التي يحجر بها الحرية في ديارنا، وحتى هذه الحرية عليها قيود كثيرة لا يعرفها إلا مَن عايشها، وأنّ السبب الأول في انتشار الإسلام هو عاملان قويان لا حيلة للنظم الغربية تجاههما، الأوّل: القوة الذاتية في هذا الدين، والمتمثّلة في موافقته للفطرة وتلبيته لنداء الإنسانية، الثاني: حالة الإفلاس التي أصابت الفكر الغربيّ كلّه فجعلته عاجزًا عن تلبية حاجات الخلق ورغائب العباد.

أمّا الحرّية الكاملة والدعم الكامل فهما لمراكز الأبحاث الكبرى ومؤسسات التبشير والاستشراق ووسائل الإعلام، تلك التي تمارس الإجرام ضد عقيدة الإسلام وشريعة الإسلام وتاريخ وحضارة الإسلام؛ فتصدّ ملايين الخلق في الغرب والشرق، وآلاف الخلق في قلب الديار الإسلامية، تصدّهم عن سبيل الله وتحول بينهم وبين الدخول في دين الله أو الالتزام بتعاليمه وأحكامه كما أراد الله، فهي لعبة كبرى وفتنة عظمى، والسبب الأول والأكبر -إن لم يكن الأوحد- هو غياب جهاد الغزو تحديدًا.

أجل والله: ما يغني البيان عن السنان، ولو كان الأمر قاصرًا على البيان لما خرجت الدعوة من الحجاز، ولا جاوزت تخوم القرن السابع الميلاديّ، ولكان غاية ميراثنا عن الأمّة الإسلامية بقع من النور متناثرة في ظلام دامس عقيم، ولاطّلع الله على أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الإسلام، ركبوا رؤوس الجبال أو اندسوا في شعاب الصحاري البعيدة عن العمران البشريّ كله، لولا الغزو لما وجدنا مصريًّا أو تونسيًّا أو مغاربيًّا أو هنديًّا يتحدّث اليوم عن الجهاد الإسلاميّ ويقول بعد أن يحمد الله ويثني عليه: إنّ الجهاد لم يشرع إلا لدفع العدوان!. لولا الغزو الذي يتنكّرون له اليوم ويوارون وجوههم منه لكان الصليب على صدر الواحد منهم يتمطّى اليوم مثلما يتمطّى هو على أريكته وهو يدعي هذا المدّعى الساقط، فالحمد لله الذي أنقذنا بفتوح الإسلام، وأمسك به البشرية كلّها من الهلكة العامة.

ولا أستبعدُ بعد ذلك أن يجد أحدهم في جوفه نخاعة فيمجّها في وجوهنا؛ زاعمًا أنّ المسيحية انتشرت في أقطار العالم بالمحبّة والتبشير، وأنّها صارت بذلك الديانة الأولى في العالم، فهو يجهل التاريخ –إذَنْ- أو يعلمه ولا يفهمه، فإنّ المسيحية لم تدخل قلب إنسان يسكن هذا الكوكب إلا بضغط الرغبة أو الرهبة، ولم تنتشر في صقع من الأصقاع إلا مع الحملات الصليبية التي بدأت بالكشوف الجغرافية وانتهت بالحركة الاستعمارية، ولا يخفى إلّا على المساكين تحالف التبشير والاستعمار على مدى التاريخ المجرم للحضارة الغربية الآثمة، والعجيب في البيئة الغربية النكدة التي تجمع كلّ التناقضات أنّ الأنظمة التي لا تؤمن بدين تستعين بالمبشرين لتطويع المستعمرات، "إنّ اليسوعيين المطرودين من فرنسا هم خصوم فرنسا في الداخل وأصدقاؤها الحميمون في مستعمراتها … وكثيرًا ما كان الرجال العسكريون من الإنجليز خاصّة يحضّون حكوماتهم على بث المبشرين في العالم"[11].

أمّا الميلاد الكبير لهذه المسيحية الصليبية الطاغية فكان على يد قسطنطين الذي اعتنق المسيحية وفرضها دينًا رسميًّا في الممالك الرومانية؛ لمآرب سياسية تحدّث فيها المفكّرون الغربيون أنفسهم، وكان المقابل هو محو الديانة الأصلية في "مجمع نيقية" واعتماد ديانة بولس، "فمن الحقائق التاريخية الثابتة أنّ أثر قسطنطين كان حاسمًا في هزيمة الآريوسيين في مجمّع نيقية، ومع ذلك فلا شكّ أنّه ما من مسيحيٍّ يستطيع أن يؤمن -دون مساس بعقيدته- بأنّ فكرة الثالوث إنّما فرض قبولها بمرسوم إمبراطوري"[12].

وجوب جهاد الطلب هو وجوبُ ابتداءِ الدولِ الكافرةِ بالقتال حال الاستطاعة والقدرة، وذلك بعد البلاغ والبيان والدعوة، حتى ولو لم يقع منها عدوان ظاهر على المسلمين، والأدلّة على ذلك متوافرة ومتضافرة، وها هي أهم هذه الأدلة:

الدليل الأول: أنّ الله تبارك وتعالى أمر المؤمنين في محكم كتابه -في آيات محكمة لم تنسخ- أمرًا صريحًا واضحًا بقتال جميع أصناف الكفار، وجعل لهذا القتال غايةً ليست هي مجرد رجوع المعتدين عن عدوانهم، ولا مجرّد حماية الأرض والذبّ عن العرض، ولا حتى مجرّد حماية الدعوة والدعاة، وإنّما هي إنهاء الفتنة، والفتنة الكبرى التي ترعى كلّ الفتن هي سيادة الكفر والشرك، فيكون إنهاء هذه الفتنة بإنهاء الكفر والشرك أو إنهاء سلطانهما، وإدخال الناس في الإسلام أو في الطاعة لسلطان دولة الإسلام؛ وهذا يعني أنّ الأمةَ الإسلاميةَ مفروضٌ عليها الجهادُ ابتداءً، وأنّ عليها أن تطلب الأمم الكافرة بالجهاد وأن تبتدئها بالقتال؛ لأنّ هذه الغايات من شأنها ألا تتوقف على ردود أفعال، وألا تنتظر وقوع العدوان من المستهدفين بها.

وها هي الآيات:

1- قول الله تعالى من سورة البقرة: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ للهِ﴾ [البقرة: 193]. وقوله تعالى في سورة الأنفال: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ﴾ [الأنفال: 39]. فقد أمر الله تبارك وتعالى عباده المؤمنين في هاتين الآيتين بقتال الكافرين إلى غاية هي: ألّا تكون فتنة، وأن يكون الدين لله، ومعنى ألّا تكون فتنة، أي: ألّا يكون شرك أو كفر، وهذا المعنى مروي عن جمّ غفير من السلف من الصحابة والتابعين[13]، ومعنى قوله تعالى: يكون الدين لله أي يكون التوحيد خالصًا لله وتكون العبادة خالصة لله، ويدخل الناس في (لا إله إلا الله)، وهذا المعنى مروي عن جمع كبير من السلف من الصحابة والتابعين أيضًا[14]، ولم يرد عن أحد من السلف ما ينقض ما ورد في المعنيين.

ومعنى قوله تعالى: "فإن انتهوا" قال الطبري: «يعني تعالى ذكره بقوله: «فإن انتهوا»: فإن انتهى الذين يقاتلونكم من الكفار عن قتالكم، ودخلوا في ملّتكم، وأقرّوا بما ألزمكم الله من فرائضه، وتركوا ما هم عليه من عبادة الأوثان؛ فدعوا الاعتداءَ عليهم وقتالَهم وجهادَهم، فإنه لا ينبغي أن يُعتدى إلا على الظالمين، وهم المشركون بالله، والذين تركوا عبادته وعبدوا غير خالقهم»[15].

وما فهمه الطبري هو ما فهمه غيره من المفسرين، قال القرطبي: في معنى قوله تعالى: «فإن انتهوا»: أي: عن الكفر: إمّا بالإسلام كما تقدّم في الآية قبل أو بأداء الجزية…»[16]، وقال الإمام البغوي: «فإن انتهوا عن القتال والكفر»[17]، وقال في موضع آخر «فإن انتهوا عن الكفر وأسلموا»[18]، وقال الإمام أبو السعود: «فإن انتهوا عن القتال والكفر»[19]، وقال الزمخشري: «فإن انتهوا عن الشرك والقتال»[20]، وقال في موضع آخر «فإن انتهوا عن الكفر وأسلموا»[21].

2- قول الله تعالى من سورة براءة: ﴿فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [التوبة: 5].

هذه الآية من سورة التوبة نزلت في العام التاسع من الهجرة؛ وأرسل بها رسول الله ﷺ ضمن الآيات الأولى من السورة إلى أبي بكر في مكّة ليتلوها على الناس في موسم الحج، قال ابن عباس رضي الله عنهما: "حدّ الله للذين عاهدوا رسول الله أربعة أشهر يسيحون فيها حيث شاؤوا، وحدّ أجلَ مَن ليس له عهدٌ انسلاخَ الأربعة الأشهر الحُرُم من يوم النحر إلى انسلاخ المحرّم خمسين ليلة، فإذا انسلخ الأشهر الحُرُم أمَرَه أن يضع السيف فيمن عاهد إنْ لم يدخلوا في الإسلام"[22]، وسياق الآية يدلّ على أنّ الغاية التي ينتهي عندها القتال هي الدخول في الإسلام، قال عز وجل: ﴿فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ﴾ [التوبة: 5].

3- قوله الله تعالى: ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ [التوبة: 29]، ومعنى هذه الآية واضح الدلالة في تقرير حقّ الدولة الإسلامية في قتال دار الحرب ابتداء حتى يخضعوا لسلطان الدولة الإسلامية ولقانونها العام.

4- ﴿فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا﴾ [محمد: 4]، قال ابن جرير: "أي حتى تضع الحرب آثامها وأثقال أهلها المشركين بالله؛ بأن يتوبوا إلى الله من شركهم فيؤمنوا به وبرسوله ويطيعوه في أمره ونهيه"[23].

ولا يصحّ أن يُقال إنّ هذه الآيات مطلقة، والآيات التي تأمر بقتال مَن قاتل دون مَن لمْ يقاتل مقيّدة؛ فيُحمل المطلق على المقيّد ويفسّر به، لا يقال هذا؛ لأنّ السبب في الآيات المقيّدة -على قولهم- هو ردّ العدوان وفي الآيات المطلقة هو محو الشرك والكفر والتمكين لدين الله، وقد اختلف العلماء في حمل المطلق على المقيّد إذا اتفق الحكم واختلف السبب، فقال الحنفية كافّة ومعهم أغلب المالكية بعدم الحمل[24]، وكذلك لا يصح الحمل لأنّ من شروط حمل المطلق على المقيد ألّا يمكن الجمع بينهما إلا بحمل المطلق على المقيد[25]، وهنا يمكن حمل المقيّد على المرحلة الثالثة من مراحل تشريع الجهاد وحمل المطلق على المرحلة الرابعة، فلا تعارض إذا قلنا: إنّ الله أمر بقتال مَن قاتل دون مَن لم يقاتل في مرحلة الاستضعاف، ثم أمر بقتال الجميع في مرحلة القوّة وعزّ الإسلام، ومن الشروط أيضًا: ألّا يكون المقيّد ذُكر معه قدر زائد يمكن أن يكون القيد لأجله[26]؛ والمقيد هنا ذكر معه قدر زائد وهو العدوان، فالذين أَمَرَنَا الله بقتالهم في المرحلة الثالثة يشتركون مع سائر الكفار في الكفر والشرك، ولكنّهم يزيدون عنهم أنّهم بادروا بالعدوان، فجاء القيد في هذه المرحلة لأجل هذا القدر الزائد؛ فلا يحمل المطلق هنا على المقيد.

الدليل الثاني: جملة من الأحاديث تدلّ على ما دلّت عليه الآيات السابق ذكرها، حيث يأمر فيها النبي ﷺ بالغزو حتى يدين الناس بالإسلام أو يدينوا لدولة الإسلام بدفع الجزية، وبالقتال حتى يشهد الناس ألّا إله إلّا الله وأنّ محمدًا رسول الله، ويبيّن فيها أنّ الجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة.

 

فمن هذه الأحاديث:

1- حديث ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي ﷺ قال: (أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، إِلَّا بِحَقِّ الْإِسْلَامِ وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ)[27].

2- وعن أنس بن مالك رضي الله عنه مرفوعًا: (أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوهَا وَصَلَّوْا صَلَاتَنَا وَاسْتَقْبَلُوا قِبْلَتَنَا وَذَبَحُوا ذَبِيحَتَنَا، فَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْنَا دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ)[28].

3- عن بُريدة رضي الله عنه قال: (كان رسول الله ﷺ إذا أمّر أميرًا على جيش أو سريّة أوصاه في خاصّته بتقوى الله ومَن معه من المسلمين خيرًا ثم قال: اغْزُوا بِاسْمِ اللَّهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ اغْزُوا، وَلَا تَغُلُّوا وَلَا تَغْدِرُوا وَلَا تُمَثّلُوا وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا، وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَادْعُهُمْ إِلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ أَوْ خِلَالٍ فَأَيَّتُهُنَّ مَا أَجَابُوكَ، فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَإِنْ أَجَابُوكَ، فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى التَّحَوُّلِ مِنْ دَارِهِمْ إِلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ، وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ إِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ، فَلَهُمْ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ، فَإِنْ أَبَوْا أَنْ يَتَحَوَّلُوا مِنْهَا، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللَّهِ الَّذِي يَجْرِي عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا يَكُونُ لَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ شَيْءٌ إِلَّا أَنْ يُجَاهِدُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَسَلْهُمُ الْجِزْيَةَ، فَإِنْ هُمْ أَجَابُوكَ، فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ، فَإِنْ هُمْ أَبَوْا، فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَقَاتِلْهُمْ، وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ، فَأَرَادُوكَ أَنْ تَجْعَلَ لَهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ نَبِيِّهِ، فَلَا تَجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وَلَا ذِمَّةَ نَبِيِّهِ وَلَكِنْ اجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّتَكَ وَذِمَّةَ أَصْحَابِكَ، فَإِنَّكُمْ أَنْ تُخْفِرُوا ذِمَمَكُمْ وَذِمَمَ أَصْحَابِكُمْ أَهْوَنُ مِنْ أَنْ تُخْفِرُوا ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ رَسُولِهِ، وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ، فَلَا تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِكَ، فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي أَتُصِيبُ حُكْمَ اللَّهِ فِيهِمْ أَمْ لَا ؟)[29].

4- عن جبير بن نفير عن سَلَمَةَ بْنِ نُفَيْلٍ الْكِنْدِيِّ، قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَذَالَ النَّاسُ الْخَيْلَ، وَوَضَعُوا السِّلَاحَ، وَقَالُوا : لَا جِهَادَ! قَدْ وَضَعَتِ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا. فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِوَجْهِهِ، وَقَالَ: ( كَذَبُوا، الْآنَ الْآنَ جَاءَ الْقِتَالُ، وَلَا يَزَالُ مِنْ أُمَّتِي أُمَّةٌ يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ، وَيُزِيغُ اللَّهُ لَهُمْ قُلُوبَ أَقْوَامٍ، وَيَرْزُقُهُمْ مِنْهُمْ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ، وَحَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ، وَالْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَهُوَ يُوحَى إِلَيَّ أَنِّي مَقْبُوضٌ غَيْرَ مُلَبَّثٍ، وَأَنْتُمْ تَتَّبِعُونِي أَفْنَادًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ، وَعُقْرُ دَارِ الْمُؤْمِنِينَ الشَّامُ)[30].

4- عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه مرفوعًا: (جَاهِدُوا الْمُشْرِكِينَ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَأَلْسِنَتِكُمْ)[31].

5- عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: (مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ وَلَمْ يُحَدِّثْ بِهِ نَفْسَهُ مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنْ نِفَاقٍ)[32].

 

6- عَنْ أَبِي هُرَيْرَة رضي الله عنه قَالَ: مَرَّ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِشِعْبٍ فِيهِ عُيَيْنَةٌ مِنْ مَاءٍ عَذْبَةٌ، فَأَعْجَبَتْهُ لِطِيبِهَا، فَقَالَ: لَوِ اعْتَزَلْتُ النَّاسَ فَأَقَمْتُ فِي هَذَا الشِّعْبِ، وَلَنْ أَفْعَلَ حَتَّى أَسْتَأْذِنَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: (لَا تَفْعَلْ، فَإِنَّ مُقَامَ أَحَدِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهِ فِي بَيْتِهِ سَبْعِينَ عَامًا، أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَيُدْخِلَكُمُ الْجَنَّةَ؟ اغْزُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، مَنْ قَاتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَوَاقَ نَاقَةٍ، وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ)[33].

7- عن معاوية بن قرة رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ رَهْبَانِيَّةً، وَإِنَّ رَهْبَانِيَّةَ أُمَّتِي الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)[34].

فهذه الأحاديث تدلّ على وجوب جهاد الطلب، فالحديثان الأول والثاني يضعان للقتال الذي أمَر به رسول الله ﷺ غاية هي الإسلام وما يدلّ على صدق الدخول فيه من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والتسليم لمنهج الله في الحلال والحرام، فليست الغاية إذًا مجرّد دفع العدوان أو الدفاع عن النفس؛ ولهذا استدل العلماء بهذا الحديث على الهدف والغاية من قتال الكفار قال: ابن رشد: «وإنّما يُقاتَل الكفّار على الدين ليدخلوا من الكفر إلى الإسلام لا على الغلبة، قال رسول الله ﷺ، (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإن قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله)»[35].

والأحاديث من الثالث إلى السادس تأمر بالغزو والجهاد، والغزو هجومُ وليس دفاعًا، ولا يُفهم من الأمر بالغزو إلا الهجوم، ويؤكده قوله ﷺ في الحديث الثالث: (وإذا حاصرت أهل حصن)، وفي الحديث الثالث ما يبيّن سنّة الأمّة مع الأمم الكافرة، وهي تخيير الأمّة الإسلامية للأمم الكافرة بين ثلاث لا رابع لها: أن يسلموا، أو يدفعوا الجزية وهم صاغرون، أو القتال، وفي الحديث السابع بيان أنّ الجهاد عبادة الأمّة ورهبانيتها، ولا يكون كذلك إذا كان القتال لم يشرع إلا لردّ العدوان.

الدليل الثالث: إجماع العلماء على أنّ جهاد الطلب واجب على الأمّة وجوبًا كفائيًّا، قال ابن عطية: «والذي استمر عليه الإجماع أنّ الجهاد على كلّ أمّة محمد ﷺ فرض كفاية فإذا قام به من قام من المسلمين سقط عن الباقين إلّا أن ينزل العدو بساحةٍ الإسلام فهو حينئذ فرض عين»[36].

وليس مع مَن يقول بأنّ الجهاد لم يشرع إلا لردّ العدوان ما يصلح متكأً لقولهم؛ فأمَّا قول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ [البقرة: 28] فالذي رجّحه كثير من المفسّرين هو أنّ السلم هو الإسلام، فيكون معنى الآية: يأيها الذين آمنوا ادخلوا في كافّة شرائع الإسلام[37]، وخذوا بجميع عرى الإسلام وشرائعه[38]، وممن قال بأنّ السلم هو الإسلام: ابن عباس ومجاهد وطاووس والضحاك وعكرمة والسدي وابن زيد، وقال أبو العالية والربيع ابن أنس (السلم): الطاعة، وهو قريب من القول السابق، وقد رجّح هذا القول ابن جرير الطبري[39].

وقول الله تعالى: ﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾ [الأنفال: 61] لا يدلّ على ما ذهبوا إليه؛ وإلّا فما القول في قوله تعالى: ﴿فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ﴾[محمد: 35]؟ وفي آيات السيف من سورة التوبة؟

إنّ أحدًا من المفسّرين لم يقل بهذا المعنى الذي ذهبوا إليه، وجميعهم ما بين قائل بأنّها منسوخة بآيات القتال من سورة التوبة[40]، وقائل بأنّ المسلمين إن كان بهم قوّة عملوا بقوله تعالى: ﴿فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ﴾، وإن كان بهم ضعف أو كان لهم في ابتداء الصلح منفعة عملوا بقوله تعالى: ﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا﴾، وقائل -وهو الراجح- بأنّ السلم التي إن جنحوا إليها وجب على المسلمين أن يجنحوا إليها هي دخولهم في الإسلام أو قبولهم بالجزية[41]، قال الطبري: "﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا﴾: وإن مالوا إلى مسالمتك ومتاركتك الحرب إمّا بالدخول في الإسلام وإمّا بإعطاء الجزية وإما بموادعة ونحو ذلك من أسباب السلم والصلح فاجنح لها"[42].

وأمَّا قول الله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ [البقرة: 190] فليس معناه قصر الحرب على ردّ العدوان، وعدم التوجّه بالقتال إلا لمن قاتل واعتدى؛ وإنّما معنى قوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ﴾ [البقرة: 190]: لا تقاتلوا إلّا مَن يقاتل وهم الرجال البالغون أمّا النساء والذرّية والرهبان فلا يجوز قتالهم لأنّهم ليسوا من أهل القتال، وهذا تفسير قوي يؤيّده نهي النبي ﷺ في آثارٍ شائعةٍ عن قتل النساء والولدان وأصحاب الصوامع[43].

ومعنى قوله تعالى (ولا تعتدوا): لا تقاتلوا على غير الدين، ولا تقاتلوا إلّا مَن قاتل وهم الرجال البالغون دون النساء والذرّية والرهبان، وعلى هذا فلا يعني الاعتداء المنهي عنه قتالَ دار الإسلام لدار الحرب، لأنّ هذا القتال قتال على الدين أي لإقامة شرع الله في هذه الدار دار الحرب، ولأنّ المسلمين في قتالهم يستعملون حقًا لهم أو يقومون بواجب عليهم وهو إزالة المنكر والفساد من الأرض المتمثّل بهذه الكيانات الباطلة "دار الحرب"، ومن استعمل حقًّا له أو قام بواجب عليه لا يصحّ وصفه بالاعتداء[44].

ولا جدال في أنّ وسائل القهر والإكراه ليست من طرق الدعوة إلى دين الله، ولكن مَنْ قال إنّ الجهاد في سبيل الله تعالى يهدف إلى إكراه الناس على الدين أو حملهم بالقهر على العقيدة؟! إنّ الجهاد في سبيل الله يهدف إلى إزالة الإكراه الذي تمارسه الإمبراطوريات الشريرة، وإلى إتاحة حرّية العقيدة للناس؛ وذلك بكسر عمود فسطاط الباطل، وإسقاط الطاغوت الذي يحول دون حرية العقيدة فإذا ما خرّ على عروشه وتحرّر الناس من سجنه قيل لهم: ﴿لَآ إِكْرَاهَ فِى ٱلدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشْدُ مِنَ ٱلْغَىِّ ۚ﴾.

وقول النبي ﷺ: (لا تتمنّوا لقاء العدو) لا يفهم منه النهي عن ابتداء الكفار بالقتال؛ وإلا كان معارضًا لآيات التوبة المحكمة، ولذلك حَمَلَه كافّة شرّاح الحديث على معاني بعيدة كلّ البعد عن الدعوة إلى الانعزال وترك القتال، فقالوا: أمر بترك التمنّي لما فيه من التعرّض للبلاء وخوف اغترار النفس إذ لا يؤمن غدرها عند الوقوع[45]، وقيل غير ذلك، وجميع ما قيل في شرح هذا الحديث بعيد تمامًا عن ذلك الذي ذهب إليه هؤلاء المتكلّفون.

وليس هناك تعارضٌ بين أن يأمر اللهُ عباده بأن يخرجوا لجهاد الأمم الكافرة حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله، وبين أن ينهاهم النبي ﷺ عن تمنّى لقاء العدو، لأنّ الأمر الأول تكليف بواجب، والثاني تربية لنفس هذا المكلّف بالواجب، ولأنّه بالإمكان أن يتمنّى الخارجون عدم لقاء العدو، كأن يُسْلِم العدو إذا علم بمسير المسلمين إليه فيُعفي المسلمين من اللقاء المسلح، وقد خرج النبي ﷺ فاتحًا وهو يتمنّى ألّا يَحدث صدام مسلّح في مكة، والذي يدلّ على أمنيته هذه أنّه اتخذ كافّة التدابير لذلك، وعندما وقعت مواجهة من خالد قال: (اللهم إني أبرأ إليك مما فعل خالد).

وقول النبي ﷺ: (دعوا الحبشة ما ودعوكم، واتركوا الترك ما تركوكم) استثناء من القاعدة العامّة في قتال الناس جميعًا؛ علّته التخفيف عن الأمّة الإسلامية، وسبب هذا التخفيف هو خوف النبي ﷺ على أمّته؛ لأنّ الحبشة بلادٌ وعرة مهلكة وبينها وبين المسلمين بحار وقفار، ولأنّ الترك بلادهم بعيدة وشديدة البرد والعرب هم جند الإسلام يخشى عليهم من الإفناء[46]، ولم يقصد النبي ﷺ الترك الدائم؛ لذلك قال: (ما ودعوكم)، (ما تركوكم)، أي : اتركوهم في أوّل الأمر وهي المدة التي سـيتركونكم فيهـا، والذي يدلّ على ذلك ويؤكّده أنّ النبي ﷺ أخبر بأنّ المسلمين سيقاتلون الترك فقال: (لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُقَاتِلُوا التُّرْكَ)[47]، وقد قاتلهم المسلمون في عقر دارهم وفتحوا بلادهم وأدخلوهم في دين الله.

ولو صحّ أنّ الأمّة الإسلامية لم تقاتل إلا لردّ العدوان -وهذا بعيد- لحقَّ لسائل أن يسأل: وما هو السبب الذي بعث الأمّة في صدر الإسلام إلى الغزوات والفتوح وإلى قتال كلّ أمم الأرض وإسقاط الإمبراطوريات العظمى الواحدة تلو الأخرى؟ لماذا فعلت الأمّة هذا بالإجماع في قرونها المفضّلة الأولى؟ أيكون الجواب أنّهم استغرقوا مع ملابسات هذا الصدام استغراقًا أنساهم احترام النصّ وتقديره، وأذهلهم عن طبيعة هذا الدين وعن خطّته؟! معاذ الله! وحاشاهم!

ومن الخطأ الفاحش أن نقول: إنّه لولا تحرّك الجاهلية ضدّ الأمة الإسلامية، ولولا تحرّش الكفّار بالمسلمين لما وقعت الحرب أصلاً؛ لأنّ هذا القول -على ما فيه من تجاهل للنصوص القرآنية وتغافل عن واقع البشر- ينطوي على مغالطة جذرية، وهي البناء على فرضية خيالية، تقول بأنّ الأمّة الإسلامية كان بإمكانها أن تقوم بواجب تحرير العباد من العبودية للعباد إلى العبودية لرب العباد، وبواجب التمكين لسيادة الشريعة الإلهية في الأرض، وبواجب تحقيق عالمية الإسلام؛ كان بإمكانها -لو لا تحرّك الجاهلية نحوها- أن تقوم بهذه الواجبات بمجرد إرسال الدعاة المبشّرين إلى الآفاق؛ ليخاطبوا الناس بدعوة الإسلام ويلزموهم بشرائعه وشعائره، ويسوقوهم إلى الله سَوقًا، ويحرّروهم من العبودية لطواغيتهم، ويخلّصوهم من ظلم حكامهم، ويخرجوهم مما فرضوه عليهم من ديانات باطلة إلى دين الحق، وأن يقع هذا كله على مرأى ومسمع الملوك والأباطرة والأكاسرة والقياصرة!

وهذه المغالطة الجذرية هي التي جرّتهم إلى الاستغراق في التفسير الدفاعي لكلّ مرحلة من مراحل الجهاد، حتى غدت الصورة العامة وكأنّ الأمّة الإسلامية قضت حياتها كلّها في دفع عدوان المعتدين؛ حتى جرّها هذا الدفع المتتابع إلى حدود الصين شرقًا وإلى الأطلسي غربًا، وحتى انعكس عليها ببسط سلطان الإسلام على المعمورة سهلها ووعرها!!

وقد أُثير في واقعنا المعاصر سؤال ليس بريئًا من التهمة؛ أدّى إلى وقوع الكثيرين في أخطاء جمّة، ينصّ هذا السؤال (المفخخ) على الآتي: ما هو الأصل في علاقة الدولة الإسلامية بالدول غير الإسلامية؟ هل الأصل هو الحرب؛ فتكون القاعدة المستمرة بين دار الإسلام ودار الكفر هي الحرب، ولا يكون سلم إلا بالدخول في الإسلام أو في عقد صلح أو ذمة أو أمان؟ أم أنّ الأصل هو السلم؛ فتكون الحرب وضعًا استثنائيًّا، ويكون السلم هو القاعدة المستمرّة حتى ولو لم يكن ثم هدنة ولا صلح ولا أمان؟

هذه المسألة طُرحت في الواقع المعاصر على أثر إعلان ميثاق الأمم المتحدة وتحريمه للحرب الهجومية، ولم تكن هذه المسألة بهذه الصيغة مطروحةً لدى الفقهاء الأقدمين، فمَن قال إنّ الأصل هو السلم اضطرّ اضطرارًا لإنكار جهاد الطلب والابتداء، ومَن قال إنّ الأصل الحرب خالف طبيعة الإسلام؛ إذ هو ليس دينًا عدوانيًا، وليس القتل غاية له، ولا حتى فرض العقيدة بالقوة؛ لذلك نقول إنّ هذا السؤال كان (ملغومًا) وأدّى إلى صدام لا محل له من الإعراب.

والحقيقة أنّ الأصل في العلاقة بين الدولة الإسلامية وغيرها ليس الحرب ولا السلم؛ لأنّ الحرب والسلم وسيلتان لتحقيق المقصد الذي يُعَدُّ هو بعينه الأصل في العلاقة، وهو "السيادة" أعني سيادة الشريعة الإسلامية وهيمنتها، هذا المقصد يمكن أن يتحقّق بدون حرب، وذلك بدخول الكفار في الإسلام أو بدخولهم في الطاعة لدولة الإسلام والخضوع لسيادة شريعة الإسلام، بأن يدفعوا الجزية ويلتزموا الصَّغَار، الذي هو مجرّد الالتزام بقانون الإسلام ودستور الشريعة وعدم الخروج عليه، فإن فعلوا ذلك عصموا دمائهم وأموالهم، وقيل لهم لا إكراه في الدين، من شاء فليؤمن ومن شاء فليبقَ على دينه، ويمكن ألّا يتحقّق هذا إلا بالحرب والقتال؛ وعندئذ يجب ويتعيّن حتى تتحقق هذه الغاية، التي هي أصل العلاقة بين الدولة الإسلامية والدول غير الإسلامية، أمّا أصل العلاقة بين الأمّة الإسلامية والأمم الكافرة فهي علاقة المرشد الهادي بالضالين الحيارى، وذلك بالدعوة والبلاغ والبيان والمجادلة بالتي هي أحسن.

وإنّه ليقال -وللقول وجاهة- إنّنا لم نَرَ رسول الله ﷺ مرةً واحدة قاتل الكفار دون أن يبدؤوه هم بالقتال والعدوان، سنفترض صحّة التعميم في هذا القول، وأنّ "بدرًا" لم تتمحّض للدفاع استراتيجيًا، وأنّ الفتحَ لم يكتسب من اسمه ما يرفعه فوق مستوى رَدّ الفعل، وسنتجاوز عن حقيقةِ أنَّ تصرف الخلفاء الراشدين في الشأن السياسي يُعَدٌّ سنّة واجبة الاتباع، وأنّ هذه السنّة في الجهاد تُعَدُّ تكملة لمسيرة الجهاد التي بدأها رسول الله ﷺ وأكملوها هم بعد أنّ أتم الله النعمة وأكمل الدين؛ فكان جُلُّ جهاد الدفع واقعًا في حياة النبي ﷺ وجُلُّ جهاد الطلب واقعًا في حياة الخلفاء، سنتجاوز عن ذلك؛ لنفرغ لبيان حقيقة واقعية فيها حلّ الإشكال برمّته، ومن جذوره.

إنّ الدفع والطلب ليسا من الشؤون التي يسهل فصل بعضها عن بعض في سياق الصراع بين الحق والباطل، فالباطل -لدى اشتداد الصراع واحتدامه- طالب للحقوق مطلوب منه، وقوى الباطل قبل حسم الصراع طالبة للحق مطلوبة منه، والتدافع -في أوّل الأمر- إذا اشتدّ واحتدم لا يدع فرصة لمن يريد أن يميّز المبتدِئ من المبتدَأ، ولدى قيام الدولة الإسلامية في أيّ زمان وفي أيّ مكان سيستدير الزمان كهيئته يوم هاجر رسول الله ﷺ واتّخذ المدينة عاصمة لدولته ومنطلقًا لجهاده ودعوته، وستصطف قوى الأرض كلّها ضدّ دولة الإسلام، ولن تقصر جهة من الجهتين في طلب الأخرى، وسيكون الدفع طلبًا والطلب دفعًا، هذه هي الحقيقة التي يقرّرها الواقع والتاريخ.

هذا في أوّل الأمر قبل أن يميل الميزان لصالح الحق، أمّا مع بداية الظهور والعلوّ لدولة الحقّ فإنّ الرؤية تتضح، فيتميز الدفع من الطلب؛ لأنّ قوى الباطل ستكون في حالة خوف وكمون، ولن تكون طالبةً إلا على وجه الاستثناء، وهذا ما وقع مع نهاية خلافة أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، لذلك فرّق العلماء بين الدفع والطلب عندئذ، فقالوا إنّ الغزو فرض كفاية، بينما يتعيّن هذا الفرض في حالات، منها أن يعتدي العدوّ على بلد من بلاد الإسلام.

وقد قيل -وليس يُروّج هذا القول في سوق الآراء بفلس- كيف نقول إنّ جهاد الطلب واجب وقد دخلنا مع دول العالم في معاهدات أخضعت الجميع لمنظّمات دولية كالأمم المتحدة وقانونها الدولي؟ ونسي هؤلاء أنّ النظام العالميّ بمؤسساته وقوانينه هو نظام القوى التي تحكم العالم، وعندما تقوم دولة الإسلام ويكون لها الظهور والغلبة -وإنّه لآتٍ وكلّ آتٍ قريب- فسيكون النظام العالميّ يومها من صنع دولة الإسلام، فالقوي هو الذي يقرّر النظام الذي يحكم العالم، يومها سينقسم العالم إلى دار إسلام ودار كفر، وتنقسم دار الكفر إلى دار حرب ودار عهد، ويكون القانون الدولي هو ما تقرّره شريعة الله تعالى.

وقد أطلق أحدهم قولةً -لعلّها مزحة- فقال: لو أنَّ رسول الله ﷺ كان حيًّا لدخل في هذه المعاهدات، ولقال فيها ما قاله في حلف المطيبين! فَلْيُرَوِّحْ عن نفسه بهذه المزحة كلّ مهموم مغموم قد نغصت عيشَه وكدرت حياتَهُ قوى الباطل التي عقدت هذه المعاهدات ووضعت هذه النظم والقوانين، إنّ شعوب العالم كلّه في سجن كبير أقامه لها هذا النظام العالميّ، وإنّ ما يسمى اليوم بالمجتمع الدولي هو في حقيقته عصابة تحكم العالم وتستعبد الشعوب، فهل يشكّ في هذه الحقيقة عاقل؟ فَلِمَ هذا الدجل؟!

أمّا أنّ الجمهور على أنّ موجِبَ القتل الحرابة، فصحيحٌ، وهذا ما أرجّحه وأدين الله به، لكن ما علاقة هذا بالقتال؟ إنّ موجب القتل شيء وموجب القتال شيء آخر، وقد سبق أن تعرضنا لذلك في مقال المقاصد؛ فليُراجَع هذا الأمر هناك، وأمّا إننا مأمورون بالبر والقسط فهذا أيضًا لا علاقة له بالجهاد، فالجهاد ماضٍ لكسر شوكة الباطل، والبرُّ والقسطُ ماضيان في أهل الحق وأهل الباطل.

هذا وقد قبضْتُ بناني وطويت قلمي عن كثير من الأمور التافهة التي لا تستحقّ أن ننشغل بها، ولئلّا نطيل على القارئ، ولعلّنا في قادم الأيام -إن شاء الله- نردف هذه السلسلة بسلسلة أخرى نتحدّث فيها عن المراجعات التي وقعت من جماعات باشرت الجهاد قبل ذلك، ولعلّنا كذلك نضمّنها موقف فريضة الجهاد من الأنظمة التي تحارب الله ورسوله، مع التعرّض لبعض النوازل التي لها صلة بهذا الأمر، انتهت جولتنا هذه، نسأل الله القبول ونستغفره من كلّ ذنب وتقصير، وصلى الله على سيدنا محمد.

 

 

الهوامش

[1] السياسة الشرعية، لعبد الوهاب خلاف (80-81).

[2] انظر: المرجع السابق (ص84). وبحث مجالات العلاقات الدولية، د. وهبة الزحيلي ضمن كتاب التشريع الدولي في الإسلام (ص198).

[3] السياسة الشرعية، لعبد الوهاب خلاف (ص81).

[4] متفق عليه: رواه البخاري في كتاب الجهاد والسير، باب كان النبي r إذا لم يقاتل أول النهار أخّر القتال حتى تزول الشمس برقم (2760)، (ج5ص2291)، ومسلم في كتاب الجهاد والسير، باب كراهية تمنى لقاء العدو والأمر بالصبر عند اللقاء برقم (3282) (ج5ص2274).

[5] مجالات العلاقات الدولية، د. وهبة الزحيلي، (ص198)، من كتاب التشريع الدولي في الإسلام.

[6] حسن: رواه أبوداود في السنن في كتاب الملاحم باب في النهى عن تهييج الترك والحبشة برقم (3751)، والنسائي في الصغرى في كتاب الجهاد باب غزو الترك والحبشة برقم (3143)، والبيهقى في الكبرى باب ما جاء في النهى عن الحبشة برقم (17115).

[7] السياسة الشرعية، لعبد الوهاب خلاف (ص81)، وأحكام المعاهدات في الفقه الإسلامي، د. إسماعيل كاظم العيساوي (ص35)، دار عمار الأردن ط1، 2000م.

[8] العلاقات الدولية في القرآن والسنة (ص263).

[9] السابق (ص264).

[10] انظر: العلاقات الدولية في الإسلام، د. محمد أبو زهرة (ص53-55).

[11] التبشير والاستعمار في البلاد العربية - د. مصطفى الخالدي و د. عمر فروخ - منشورات المكتبة العربية – بيروت – ط 1953م (ص 34).

[12] تطور الفكر السياسي جورج سباين (2ص 85-86) - ط الهيئة المصرية العامة للكتاب 2010 م

[13] تفسير الطبري (م 2 ج 2 ص 265).

[14] تفسير ابن كثير (2/298).

[15] تفسير الطبري (م 2 ج 2 ص 266).

[16] تفسير القرطبي (2/728).

[17] تفسير البغوي (1/162)

[18] تفسير البغوي (1/162)

[19] أبو السعود (1/240).

[20] الكشاف (1/178).

[21] الكشاف (1/172).

[22] فتح القدير، للشوكاني (2/480).

[23] تفسير الطبري (م 13 ج 26 ص 56).

[24] انظر: إرشاد الفحول للشوكاني (1/245)، الإحكام للآمدي (3/5-10)، المستصفى للغزالي (1/262)

[25] إرشاد الفحول للشوكاني (1/245).

[26] المرجع السابق (1/246).

[27] متفق عليه: رواه البخاري في كتاب الإيمان، باب: {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم}، برقم (24)، (ج1ص26)، ومسلم في كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله، برقم (36)، (ج1ص77).

[28] رواه البخاري في كتاب الصلاة، باب استقبال القبلة برقم (382)، (ج1ص322).

[29] رواه مسلم في كتاب الجهاد والسير، باب تأمير الإمام الأمراء على البعوث، برقم (3267)، (ج5ص2267).

[30] صحيح: رواه النسائي في الصغرى في كتاب الخيل برقم (3523)، (ج5ص2390)، والإمام أحمد في المسند برقم (16622)، (ج14ص6644)،

[31] صحيح: رواه أبوداود في السنن في كتاب الجهاد، باب كراهية ترك الغزو، برقم (2147)، (ج3ص1474)، والإمام أحمد في المسند برقم (13375).

[32] رواه مسلم في كتاب الإمارة، باب من مات ولم يغز، برقم (3540)، (ج5ص2489).

[33] صحيح: رواه الترمذي في السنن كتاب فضائل الجهاد، باب ما جاء في فضل الغدو والرواح، برقم (1573)، (ج4ص1509)، والحاكم في المستدرك، كتاب الجهاد برقم (2319)، (ج4ص1552)، والبيهقي في الكبرى في كتاب السِيَر، باب في فضل الجهاد في سبيل الله، برقم (18503)، (ج9ص270).

[34] رواه سعيد بن منصور في سننه برقم (2148)، (ج2ص580)، وابن المبارك في كتاب الجهاد برقم (14)، (ص8)، وابن أبى عاصم الشيباني في كتاب الجهاد برقم (27)، (ج1ص14)، والبيهقي في الشعب برقم (3915)، (ج6ص2649)، وأبو بكر الهيثمي في مجمع الزوائد برقم (9431)، (ج5ص505).

[35] المقدمات لابن رشد (1/369)، وانظر التاج والإكليل (4/536).

[36] نقلاً عن تفسير القرطبي لقوله تعالى (كتب عليكم القتال) 3/38

[37] انظر: تفسير الطبري (م 2 ج 2 ص 440-442).

[38] انظر: تفسير ابن كثير (1/235).

[39] انظر: تفسير الطبري (م 2 ج 2 ص 440-442).

[40] انظر: تفسير الطبري (م 6 ج 10 ص 43-44)، وتفسير القرطبي (5/2879)، وتفسير البغوي (2/260).

[41] تفسير القرطبي (5/2879).

[42] تفسير الطبري (م 6 ج 10 ص 43-44)

[43] مجموعة بحوث فقهية، د. عبد الكريم زيدان (ص60)

[44] المرجع السابق (ص60).

[45] فتح الباري (10/190)، عمدة القاري (14/274)، وشرح النووي على مسلم (12/45)، وعون المعبود (7/211)، وفيض القدير (6/388).

[46] انظر: عون المعبود (11/276)، وحاشية السندي (6/44).

[47] متفق عليه: رواه البخاري في كتاب الجهاد والسير، باب قتال الترك برقم (2928)، ومسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة باب لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيتمنى أن يكون مكان الميت، برقم (2912) واللفظ للبخاري.

إضافة تعليق جديد