الأحد 13 أكتوبر 2024 الموافق 09 ربيع ثاني 1446 هـ

إضاءات فكرية

الإبراهيمية هي الإسلام

26 ربيع ثاني 1443 هـ


عدد الزيارات : 3787
مجلة رواء - افتتاحية العدد الخامس

تردَّد على ألسنة بعض السَّاسة في الآونة الأخيرة تسمية «اتفاقيات السلام» و«التطبيع» مع الكيان الصهيوني المحتلّ بـ (الاتفاق الإبراهيمي)، ويزعمون أنّ هذه التسمية جاءت تيمُّنًا بـنبي الله إبراهيم عليه السلام «أبو الديانات الكبيرة كلها» [1]، فما حقيقة هذه الدعوى؟ وما هو حظّها من الصحة؟ ولماذا يوردونها في مثل هذه الأحداث؟!

يذكر عددٌ من الباحثين أنَّ الطرح الحديث لفكرة التقاء ما يسمى بـ «الديانات الإبراهيمية» على أسس مشتركة يعود إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية[2]، لكنها برزت في الفضاء الثقافي والإعلامي العالمي مع مطلع الألفية الثالثة، حيث قامت بعض الجامعات الأمريكية بطرح أبحاث ودراسات تتناول هذه الفكرة باعتبارها فكرةً جامعة لمشتركات يمكن الحوار والتلاقي الثقافي حولها، ثم تبنّتها ودعت إليها جمعيات ومؤسسات ورموز حول العالم، وبدأ المصطلح يأخذ صداه على ألسُن الساسة وصناّع القرار في العالم[3]، حتى أُنشئت لها وحدة مخصصة في وزارة الخارجية الأمريكية عام ٢٠١٣م.

وقد كانت الفكرة في بداياتها حول إمكانية تلاقي الأديان (اليهودية والنصرانية والإسلام) على أسس قيمية مشتركة، ثم تطوَّر الحديث ليصل إلى تقبُّل أتباع الأديان بعضهم لبعض، وتطور فيما بعد ليكون خطابًا دينيًا يُقصد منه تمرير أهداف سياسية في المنطقة.

أبعاد وأهدف دعوى «الإبراهيمية»:

هذه الدعوى لا يُراد بها -كما يشاع- نزعُ فتيل الخلاف بين أتباع الديانات الثلاث، أو إحلال السلام فيما بينهم؛ فإنَّ ذلك لا يكون بالتَّلفيق والخلط بين الحقِّ والباطل وتزييف الوعي، بل بإعادة الحقوق والمقدسات المسلوبة، وكفّ اليد عن العبث بدين المسلمين وبلادهم وثرواتهم ومقدَّراتهم، وعندها فقط يمكن الكلام عن التعايش كما ضمنه محمد ﷺ لليهود في المدينة في أول مقامه بها، وكما ضمنه الفاروق عمر رضي الله عنه لنصارى بيت المقدس عند فتحه لها.

هذه الدعوى التي صدرت عن التحالف الصهيوصليبي في ظلِّ سيطرته على مقاليد السياسة والاقتصاد والقوّة في العالم، وبترويجه ودعمه لها بمختلف الإمكانات، لا تستهدف أتباع الديانتين اليهودية والمسيحية، بل إنّهم لا يكادون يَسمَعون بها، ولا تُؤثر فيهم ألبتة، ولو أثَّرت فإنّها لن تؤدي إلى اقترابهم من الإسلام خطوة واحدة، لأنّها تقدمه بصورة مشوهة جدًا!!

لكن نشاطها الأكبر -إن لم يكن الحصري- هو في التأثير على المسلمين بزعزعة عقيدتهم، ومسلَّمات دينهم الذي يؤمنون به، في وقتِ ضعفِهم وتفرّق دُولهم، وتسلُّط الأعداء عليهم من كلِّ جانب، لإيهامهم بأنَّه لا مخرج أمامَهم إلا بـ «الاستسلام» والتفاهم مع أعدائهم الذين احتلوا بلادهم ونهبوا خيراتهم وزرعوا الخلافات بينهم وقتلوهم وشرَّدوهم، وفرضوا عليهم ثقافاتهم الهزيلة وقيمهم المنحرفة.

وإن صحَّ ما يتردَّد بين الباحثين والمطّلعين أنَّ مِن أهداف هذه الدعوى تأسيس دين موحَّد ملفق من الديانات الثلاث، وكتاب موحَّدٍ ملفق من التوراة والإنجيل والقرآن، ودور عبادة موحَّدة يصلي فيها الجميع صلاة واحدة، يتضح وقتها حجم الجناية الثقافية التي يسعون خلفها والتشويه الذي يجترحونه!!([4]).

أهداف الدعوة إلى «الإبراهيمية»:

جميع ما سبق بات واضحًا وملموسًا لدى المطلعين، ويهدف إلى تحقيق عدد من الأهداف نفصلها كما يأتي:

أ- في الجانب الديني:

  1. وصف أتباع الديانات الأخرى بالمؤمنين رغم كفرهم بالله تعالى ورسوله محمد ﷺ وعدم دخولهم بالإسلام، والله تعالى يقول: ﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِين﴾ [آل عمران: ٨٥].
  2. منع الدعوة إلى الإسلام بزعم أنّ الجميع مؤمنون، وأنّه يجب احترام جميع الأديان، ونحو ذلك، في حين أنّ هذه الأديان محرّفة ومليئة بعقائد الشرك بالله التي حاربها إبراهيم عليه السلام وكان أمّة وحده ببُعده عنها وإخلاصه التوحيد لله عزّ وجلّ، قال سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِين﴾ [النحل: ١٢٠].
  3. تعطيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي طبّقها إبراهيم عليه السلام بطرق متعددة بدءًا بالدعوة باللسان والمبارزة بالحجّة والبيان وانتهاءً بتكسير الأصنام بيده.
    قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِه عَالِمِين * إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُون﴾ … إلى قوله: ﴿وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِين * فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلاَّ كَبِيرًا لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُون﴾ [الأنبياء: ٥١-٥٨].تمييع حدود الإسلام وتضييع معالمه، وخلطه بباطل الديانات الأخرى.
  4. تمييع حدود الإسلام وتضييع معالمه، وخلطه بباطل الديانات الأخرى.
  5. تضييع معالم الولاء والبراء التي كانت أهم معالم دعوة إبراهيم عليه السلام، قال تعالى: ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ﴾ [الممتحنة: ٤].

ب- في الجانب الثقافي:

  1. زعزعة المسلَّمات لدى المسلمين وتشكيكهم في دينهم وثوابتهم، بترك الكثير من العقائد التي تخالف الأديان الأخرى والاقتصار على بعض القيم المشتركة التي لا تكفي وحدها للبقاء في دائرة الإسلام.
  2. إزالة ما يشير إلى عداوة اليهود والنصارى للمسلمين من المناهج الدراسية والمحتوى الثقافي والإعلامي، والدعوة إلى التعامي عن الواقع بجميع أبعاده.
  3. صناعة حالة من السذاجة الثقافية لدى المسلمين تترافق مع حال الضعف الذي تعيشه الأمة، بجعلهم يتنازلون عن الكثير من قيمهم دون مقابل، والمسارعة إلى «التصالح» مع الأعداء وفتح البلاد لهم.
  4. زرع الفتنة والتنازع والعداوة بين المسلمين، من خلال جعلهم فريقين: فريق مؤيد للدعوة «الإبراهيمية» مدعوم من جهات عديدة، وفريق رافض لها متمسك بدينه.
  5. فتح الأبواب على مصراعيها للمنتجات الثقافية من الديانات الأخرى، ولو كانت تؤدي إلى خروج المسلم من دينه؛ بحجّة تلاقي الثقافات والأديان تحت المظلة الإبراهيمية.

ج- في الجانب السياسي:

  1. تجريم مقاومة المحتل واعتباره نوعًا من الإرهاب والاعتداء.
  2. تقبُّل الاحتلال الصهيوني لبلاد المسلمين، والتنازل عن المقدسات الإسلامية بذريعة كونها لا تزال تحت المظلة «الإبراهيمية».
  3. فتح المجال للتطبيع السياسي والثقافي مع المحتلين، وإهداؤهم –مجانًا- ما عجزوا عن الحصول عليه بقوة السلاح.
  4. التهيئة للتنازل المستقبلي عن مناطق أوسع من الشرق الأوسط وتدويلها بحجة أنّها مناطق إبراهيمية، ليست ملكًا لأحد، تشمل مناطق في العراق وتركيا وبلاد الشام ومصر والجزيرة العربية بما فيها مكة والمدينة.

أساليب نشر وتسويق الطرح «الإبراهيمي» العالمي:

الطرح «الإبراهيمي» العالمي اليوم ظاهرة ملموسة وصوت مسموع، وله العديد من الأساليب التي تهدف لإحداث تغيير في الخارطة الثقافية والسياسية في العالم الإسلامي، وعلى وجه التحديد منطقة الشرق الأوسط التي كانت مهدًا لرسالة إبراهيم عليه السلام ورحلاته، وموطنًا للديانات الثلاث.

ومن الأساليب المتّبعة لنشر هذا الطرح:

  • الدعوة لما يسمونه زورًا بـ «الحوار بين الأديان» [5]، والزعم بأنّ المشتركات بين الديانات الثلاث يمكن أن تصنع السلام بين أتباع هذه الأديان.
  • تكرار شعارات ومبادئ هذه الدعوى في الخطابات السياسية والإعلامية، وإقامة المؤتمرات والمنتديات على أساسها.
  • تأسيس منظمات واتحادات وجمعيات تقوم عليها رموزٌ معروفةٌ ذات شعبية واسعة تتبنّى هذه الدعوى وتقوم بنشرها ونشر كتب ومقالات عنها.
  • إقامة مؤسسات دينية ودور عبادة متعدِّدة أو موحدة، بحيث يقيم الجميع عباداتهم في أماكن متجاورة أو في حيز واحد.
  • إقامة صلوات مشتركة لأتباع الديانات الثلاث، أو احتفالات يخلط فيها الأذان بالترانيم المسيحية واليهودية، تحت رعاية شخصيات سياسية ودينية عالية المستوى في عدة بلدان.
  • إقامة مبادرات ومشاريع إنسانية مشتركة.
  • وإلى جانب ذلك كله تقوم بعض الشخصيات الدينية المعروفة بالتهوين من الخلاف بين الديانات الثلاث، والتصريح بحُب الديانات الأخرى، ليتطوَّر حديث بعضهم إلى القول بأنها كلَّها طرقٌ موصلة إلى الله، وبأنّ المشكلة في التسييس الذي ينتج الكراهية والعداوات!!

 

موقف الإسلام من هذه الدعوى:

يتمثل موقف الإسلام من هذه الدعوى في أمرين:

الأول: وجوب دخول الجميع في دين الإسلام:

فقد أرسل الله تعالى الرسل وأنزل الكتب لهداية البشرية، وكانت دعوتهم متفقةً على توحيد الله وإفراده بالعبادة: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُون﴾ [الأنبياء: ٢٥]، ومتَّفقةً في أصول الدين الكبرى من العقائد، والعبادات كالصلاة والصيام والحج، والدعوة للتمسُّك بالأخلاق الفاضلة وترك الرذائل، مع اختلاف في تفاصيلها بما يتوافق مع حال كلِّ قوم، وزمانهم ومكانهم، فكان لكل نبي شريعةٌ خاصةٌ به، قال تعالى: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾ [المائدة:٤٨] وهذا مصداق قوله ﷺ: (الأنبياءُ إِخوةٌ لِعَلَّات، أمهاتهم شتَّى، ودينهم واحد)[6].

وهذا هو الإسلام العام الذي كان عليه جميع الأنبياء عليهم السلام، قال نوح عليه السلام: ﴿فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [يونس: ٧٢]، وقال سحرة فرعون بعد أن آمنوا بالله: ﴿رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ﴾ [الأعراف: ١٢٦]، وقال عن فرعون: ﴿آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [يونس: ٩٠]، وقال الحواريون: ﴿اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: ٦٤]، وقال يوسف عليه السلام: ﴿تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾ [يوسف: ١٠١]، وقال موسى: ﴿يَاقَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ﴾ [يونس: ٨٤]، وقالت بلقيس: ﴿رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [النمل: ٤٤]، وقال عن التوراة: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ﴾ [المائدة: ٤٤].

حتى جاء محمد ﷺ خاتم الأنبياء فكانت شريعته هي الأكمل بين الشرائع، وهي المكمِّلة لشرائع الأنبياء، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أَنَّ رسولَ الله ﷺ قال: (مَثلي ومَثل الأنبياء من قبلي، كمثلِ رجلٍ بنى بنيانًا فأحسنه وأجْمَله، إلا موضعَ لَبِنَةٍ من زاويةٍ من زواياه، فجعل الناس يطُوفون به، ويَعجَبون له، ويقولون: هلَّا وَضعت هذه اللَّبِنة؟ قال: فأنا اللَّبنة وأنا خاتَم النبيين)[7].

وقد سمَّاها الله تعالى الإسلام، فكان دينه الإسلام وشريعته الإسلام، ويترتَّب على هذا:

  1. أنَّ الإسلام هو الدين الحقُّ الكامل الذي لا يقبل الله مِن الناس سواه، وأنَّه يجب عليهم جميعًا الدخول فيه، قال ﷺ: (والذي نَفسُ محمدٍ بِيده، لا يَسمعُ بي أحدٌ من هذه الأُمة يهوديٌ ولا نصرانيٌ، ثم يموتُ ولم يؤمن بالذي أُرسلت به، إلا كانَ من أصحاب النار)[8].
    قال النووي: «أي مَن هو موجود في زمني وبعدي إلى يوم القيامة فكلُّهم يجُب عليهم الدخول في طاعته وإنَّما ذكر اليهودي والنصراني تنبيهًا على مَن سواهما وذلك لأن اليهود النصارى لهم كتاب فإذا كان هذا شأنهم مع أنّ لهم كتابًا، فغيرهم ممن لا كتاب له أولى»[9].
    وعلى ضوء ما سبق يمكن فهم الحصر الوارد في نحو قوله تعالى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾ [آل عمران: ١٩]، وقوله تعالى: ﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [آل عمران: ٨٥].
  2. هيمنة القرآن على ما قبله مِن الكتب، قال تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ﴾ [المائدة: ٤٨]، قال الطبري: «مُصدّق لما كان قبله مِن كتب الله التي أنزلها على أنبيائه ورسله، ومحقِّق ما جاءت به رُسل الله مِن عنده. لأنَّ مُنزِل جميع ذلك واحدٌ، فلا يكون فيه اختلاف، ولو كان مِن عند غيره كان فيه اختلافٌ كثير» [10].
    وقال ابن كثير: «جعل الله هذا الكتاب العظيم الذي أنزله آخر الكتب وخاتمها وأشملها وأعظمها وأكملها؛ حيث جمع فيه محاسن ما قبله مِن الكمالات ما ليس في غيره، فلهذا جعله شاهدًا، وأمينًا، وحاكمًا عليها كلها، وتكفل تعالى حِفظَه بنفسه الكريمة، فقال تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: ٩] »[11].

الثاني: حقيقة دين إبراهيم الخليل عليه السلام:

خصَّ الله تعالى إبراهيمَ عليه السلام بأن جعل النبوة في عَقِبِهِ حصرًا، ﴿وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [العنكبوت: ٢٧]، فجاءت النبوة في أبنائه مِن بعده: إسماعيل وإسحاق، ثم غلبت في نسل يعقوب بن إسحاق عليهم السلام، وهو المسمّى بإسرائيل، والذي نسبت له بنو إسرائيل فيما بعد، واستمرت الأنبياء تُبعث فيهم وتسوسهم، فلم يُحِسنوا اتِّباعهم، بل كذَّبوهم، وقتلوا بعضهم، وحرَّفوا كُتُبهم وضيَّعوها.

فلما بُعث محمد ﷺ من نسل إسماعيل كفروا به حسدًا وظلمًا وبغيًا، وزعموا أن إبراهيم عليه السلام كان يهوديًا أو نصرانيًا، فأنزل الله تعالى قول: ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا﴾ [آل عمران: ٦٧].

وقال تعالى: ﴿يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ [آل عمران: ٦٥].

فلم تُبقِ لهم آياتُ القرآن حظًا في إبراهيم عليه السلام، وقطعت الصلة بينهم وبينه، وجعلت الرابطة مع المسلمين وحدَهم، قال السعدي: «أن الله تعالى برَّأ خليلَه مِن اليهود والنصارى والمشركين، وجعله حنيفًا مسلمًا، وجعل أولى الناس به مَن آمن به مِن أمته، وهذا النبيَّ، وهو محمدٌ صلى الله على وسلم ومَن آمن معه، فهم الذين اتبعوه وهم أولى به مِن غيرهم، والله تعالى وليُّهم وناصرهم ومؤيدهم، وأما مَن نبذ ملته وراء ظهره كاليهود والنصارى والمشركين، فليسوا مِن إبراهيم وليس منهم، ولا ينفعهم مجرد الانتساب الخالي من الصواب» [12].

إنَّ دين إبراهيم هو الحنيفية الواضحة التي تعني –كما سبق بيانه– العبوديةَ لله تعالى في كافة مناحي الحياة: ﴿قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ١٦٢ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾ [الأنعام: ١٦٢-١٦٣]، والخضوع له واتباع أوامره، واجتناب نواهيه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتحلِّي بالأخلاق الفاضلة.

أمَّا نسبة شيءٍ من دين اليهود أو النصارى لإبراهيم عليه السلام، أو زعم «وحدة الأديان» أو «أخوّتها»، أو الزعم بأنَّ جميع هذه الأديان «طرق» توصِل إلى الله تعالى، تحت مسمّى «الديانة الإبراهيمية» فهو ضلال مبين، ومِن أعظم الفرى في دين الله، وتكذيبٌ لآياته الصريحة، وكفى بذلك معاندة!

قال تعالى: ﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ١٣٦ فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ١٣٧ صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ ١٣٨ قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ ١٣٩ أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ١٤٠ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [البقرة: ١٣٦-١٤١].

فقد حصر القرآنُ طريقَ الهداية بطريق واحد، وهو الإيمان بمثل ما آمن به جميعُ الأنبياء من التوحيد، وما كانوا عليه من دين الإسلام، وما سوى ذلك لبس وضلال، قال جل وعلا: ﴿وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ٤٢].

قال قتادة رحمه الله: «لا تلبسوا اليهودية والنصرانية بالإسلام، إنَّ دين الله الإسلام، واليهودية والنصرانية بدعةٌ ليست من الله» [13].  يشير بذلك إلى ما أصابهما من التحريف والتبديل.

وتناولَ ابن تيمية رحمه الله هذه البدعةَ بقوله: «قول القائل: المعبود واحد وإن كانت الطرق مختلفة، ونحو ذلك من الأقوال والأفعال التي تتضمن إما كون الشريعة النصرانية واليهودية المبدَّلتَين المنسوخَتين موصلةً إلى الله؛ وإما استحسان بعض ما فيها مما يخالف دين الله، أو التدين بذلك، أو غير ذلك مما هو كفر بالله وبرسوله، وبالقرآن وبالإسلام، بلا خلاف بين الأمة الوسط في ذلك، وأصل ذلك المشابهة والمشاركة» [14].

وقال القاضي عياض رحمه الله: «ولهذا نُكفر مَن لم يُكفر مَن دان بغير ملة المسلمين مِن الملل، أو وقف فيهم، أو شك، أو صحَّحَ مذهبهم، وإن أظهر مع ذلك الإسلامَ واعتقده واعتقد إبطال كل مذهب سواه، فهو كافر بإظهاره ما أظهر مِن خلاف ذلك» [15].

هذا هو دين إبراهيم عليه السلام، وهذه هي ملته وطريقته ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾ [الممتحنة: ٦]، فمَن كان على هديه فهو منه، ومَن انحرف عن ملته أو غيَّر أو بدَّل فقد سَفِهَ نفسَه ﴿وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُۚ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا ۖوَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [البقرة: ١٣٠] وإبراهيمُ ومحمدٌ ﷺ وسائرُ الأنبياء منه براء!

-------------------------------

الهوامش:

[1] جاء ذلك على لسان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وعلى لسان السفير الأمريكي لدى الكيان الصهيوني ديفيد فريدمان.

[2] في المدة بين ١٩٦٢م- ١٩٦٥م صدرت وثائق من الفاتيكان تحدثت عن التراث المشترك للديانات الثلاث (اليهودية والنصرانية والإسلام)، واستخدمت النبي إبراهيم عليه السلام مصدرًا رئيسيًا لمحاولة التقارب الديني. المصدر: مقالة الدبلوماسية الروحية مسار جديد ومخاطر كامنة وسياسات بديلة لصانع القرار، للدكتورة هبة جمال الدين، مجلة مستقبل التربية العربية، العدد (١١٦) شتاء ٢٠١٩م.

[3] قام الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما بتهنئة العاهل السعودي بموسم الحج عام ١٤٣٢هـ، قائلًا: «إن الحج يذكر بالجذور الإبراهيمية المشتركة للأديان».

[4] للتوسع حول الموضوع يمكن الاطلاع على أبحاث ولقاءات الدكتورة هبة جمال الدين، ومن أهمها لقاء مطول مع الصحفي سيد جبيل على موقع يوتيوب.

[5] الحوار المبني على أسس وقواعد صحيحة وأهداف شرعية لا مانع منه، بل كان المسلمون على مرّ التاريخ هم المبادرون به امتثالاً للنصوص الشرعية الحاثة على ذلك، أما هذه الدعوات المشبوهة والتي تسمى تارة بالحوار، وتارة بالتقريب وغيرها؛ فلها أهداف ووسائل مختلفة غير مشروعة. للاستزادة ينظر على سبيل المثال: دعوة التقريب بين الأديان، للأستاذ أحمد القاضي، والأبعاد السياسية للحوار بين الأديان، سامر أبو ريان.

[6] أخرجه البخاري (٣٤٤٣)، قال الحافظ ابن حجر: «العلاّت بفتح المهملة: الضرائر،… وأولاد العلاّت: الإخوة من الأب». (فتح الباري: ٦/٤٨٩). فقد شبّه الأنبياءَ بالإخوة لأب، أمهاتهم مختلفة ولكنّ أباهم واحد، وهكذا الأنبياء: شرائعهم مختلفة لكنّ دينهم واحد، وهو التوحيد وأصول العقائد الكبرى. قال ابن كثير: «القدر المشترك بينهم هو عبادة الله وحده لا شريك له وإن اختلفت شرائعهم ومناهجهم» تفسير القرآن العظيم، لابن كثير (٧/١٧٨)، وقال ابن العربي: «ولا خلاف أن الله تعالى لم يُغاير بين الشرائع في التوحيد والمكارم والمصالح، وإنَّما خالف بينها في الفروع بحسب ما علمه سبحانه» أحكام القرآن، لابن العربي (٤/١٢٣).

[7] أخرجه البخاري (٣٥٣٥) ومسلم (٢٢٨٦) واللفظ له.

[8] أخرجه مسلم (١٥٣).

[9] شرح النووي على صحيح مسلم (٢/١٨٨).

[10] جامع البيان، للطبري (٥/١٨٠).

[11] تفسير القرآن العظيم، لابن كثير (٣/١١٦).

[12] تيسير الكريم الرحمن، للسعدي (١٣٤).

[13] تفسير القرآن العظيم، لابن أبي حاتم (١/٩٨).

[14] اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم، لابن تيمية (١/٥٤٠).

[15] الشفا بتعريف حقوق المصطفى، للقاضي عياض (٢/٦١٠).

 

إضافة تعليق جديد