الجمعة 29 مارس 2024 الموافق 19 رمضان 1445 هـ

إضاءات فكرية

لماذا ينتشر الإلحاد؟ إليك أبرز الدوافع النفسية الخفية

10 رمضان 1442 هـ


عدد الزيارات : 7328
سامح عودة

على خلفية إصداره لكتابه الشهير "سيكولوجية الإلحاد" أثارت أطروحات الكاتب وأستاذ علم النفس الأميركي: "بول فيتز" عددًا كبيرًا من التعليقات لدى علماء النفس الذين اعتبروا الكتاب غير مقبول ومزعجًا، وهو الأمر الذي يرجعه الطبيب والباحث في شؤون الإلحاد: "عمرو شريف" إلى حداثة هذا الطرح على علم نفس المعتقدات[1]، إذ ارتكزت الأطروحات التحليلية دائمًا ومنذ نشأة علم النفس الإكلينيكي حول الاتجاه المعاكس نحو الإيمان وسيكولوجيته.

فكان -على سبيل المثال- الفيلسوف الأميركي "ويليام جيمس" شكّاكًا -وإن بدا متعاطفًا مع فكرة الدين- وكانت كتاباته تحاول إرجاع الإيمان لأسباب نفسية[2]، وكذا "فرويد"[3] -رائد التحليل النفسي- الذي كان معاديًا -على المطلق- لمفهوم الدين، وخاصّة الديانة المسيحية التي بدأ معها العداء، مما حرّكه دائمًا نحو البحث خلف أسباب الإيمان، وكأن الإلحاد هو الأصل والإيمان بالإله هو الاستثناء.

نتيجة لهذه النظرة، كانت منطقية الإزعاج الذي سببه كتاب "فيتز"، وكان الإزعاج الناتج عنه مفهومًا لدى مَن حاولوا كثيرًا تحليل أسباب الإيمان، ولم يحاولوا أن يتساءلوا عن دوافع الإلحاد النفسية وسيكولوجية الملحد، ذلك لأنّ شريحة واسعة ممن تبنّوا الإلحاد -كما يخبرنا الواقع وما تورده الكثير من الكتابات التي ستأتي في التقرير- يمتلّكون في مخيلتهم أو لاوعيهم ذاكرةً سيئة مع أشياء ترتبط بالدين هي التي قادتهم إلى الإلحاد كردّ فعل نفسي للدفاع عن الذات ضدّ هذه الإساءات.

وفي مواجهة هذا، كانت دعوة "فيتز" لعلماء النفس حتى يراجعوا أطروحاتهم غير الموضوعية وفرضياتهم غير الـمُثبتة حول الإيمان وسيكولوجية المؤمنين، ليخرجوا بدراسات نظرية وعلمية جديدة[4]؛ ذلك لأنّ العوائق الرئيسية أمام الإيمان "ليست موضوعية في معظم الأحيان، لكنّها ذاتية (نفسية - شخصية - اجتماعية) في المقام الأول"، وأنّ الاعتراضات الدائرة في هذا المجال "ليست إلّا قناعًا تختفي وراءه الدوافع الذاتية الواعية وغير الواعية"[5].

فحسب "بول"[6]، فإن وراء كلّ ملحد أصولي وما يقدّمه من أسباب علمية ومنطقية لإلحاده العديدُ من العوامل النفسية والشخصية والاجتماعية. ويضع الدكتور "عمرو شريف" خطًّا توضيحيًا للفصل بين العوامل الذاتية الثلاثة: (النفسية، والشخصية، والمجتمعية)، فيذهب إلى أنّ هذا التداخل الكبير بين العوامل الثلاثة يمكن ترتيبه على خط مزدوج يجمع بين السن والوعي.

فما يؤثر في توجّهاتنا في السنوات الأولى من العمر يمكن اعتباره ضمن العوامل النفسية المختبئة في اللاوعي، إلّا أنّها -ورغم احتمالية نسيان أسبابها- تبقى حاضرة في توجيه العقل والتصورات. بينما تتشكّل العوامل الشخصية في بؤرة الوعي حينما يكبر المرء قليلًا لتكمل العلاقة مع ما غُرِس في النفس منذ الصغر، ويحيط بالمرحلتين العوامل المجتمعية التي تتسبّب في إحداث التأثيرات -النفسية والشخصية- وتعلوهما العوامل المعرفية والموضوعية التي يعبر بها المرء عن فكرته، بصرف النظر عن صحّتها من عدمها.

تمامًا كالحروف التي يتعلّمها المرء في مراحله الأولى، فإنّه قد ينسى المواقف التي علّمته بها أمه أو معلمته الحروف، لكنّ القدرة على القراءة تظلّ حاضرة، فنكون قد نسينا الحصة ولكننا استوعبنا الدرس. وبمدّ الخط على استقامته فإنّ العلوم والثقافة التي نمتلكها بسبب القراءة تعتمد بالكلّية على ما استوعبناه مبكّرًا من دروس الهجاء.

ومن ثَمَّ يمكننا النظر -وفقًا لهذا التصوّر- إلى الإلحاد كمنظومة رباعية تشبه جبل الجليد، فقاعدته العميقة تمثّلها الجوانب النفسية، بينما تترتب عليها العوامل الشخصية وتحيطها العوامل المجتمعية (ماء المحيط)، حتى تظهر على السطحِ العواملُ المعرفيةُ التي يُعلن بها الملحد عن نفسه. فما هذه العوامل؟ وكيف يحدث الإلحاد الذي يُبنى على أسباب نفسية بحتة في كثير من الحالات التي لا تمتلك أسئلة بقدر ما تمتلك موقفًا نفسيًا سيئًا من الدين؟

 

أوديب ملكًا:

في دراسته "النمط النفسي للملحد" يعرض عالم النفس "بنيامين هلاهمي" نتيجة ما توصّل إليه بخصوص عيّنة الدراسة، والتي أُجريت على 320 عضوًا من أعضاء الاتحاد الأميركي لتقدّم الإلحاد، ليتّضح أنّ نصف من تبنّوا الإلحاد قبل سن العشرين -وهم أغلبية العيّنة- فقدوا أحد والديهم قبل هذا السن، وأنّ عددًا كبيرًا منهم عانى من أزمات تربوية في طفولته وصباه.

تلك النتيجة التي تتلاقى مع كتاب "بول فيتز"، والمعنون أيضًا بـ "إلحادُ فاقدِ الأب"، إذ تُشير إلى محورية دور الأب في تشكيل الدوافع النفسية لدى الطفل نحو الإيمان أو الإلحاد، فيما يُعرف بنظرية التقصير الأبوي التي يعلّق عليها "فرويد" قائلًا: إن الفتيان يفقدون إيمانهم الديني بمجرد أن تنفصم عُرى السلطة الأبوية[7]، إلا أنّ المفارقة الحقيقية هي أنّ "فرويد" نفسه كان خير مثال لنظريته.

فـ "فرويد" الذي سار على نهج "فيورباخ" فيما يتعلّق بنظرية الإسقاط[8]، تبنّى نظرية (افتراضية) حول عقدة أوديب[*]، تقول إنّه في عصر سابق -قديم جدًا- ظهرت مشاعر جنسية عند الأبناء تجاه أمّهم، لكنّ خوفهم من والدهم منعهم من الاتصال بأمهم، وحتى يتخلّصوا من هذا، قتلوا الأب، ليتملكهم بعدها الشعور بالذنب؛ حتى إذا ما أرادوا التكفير عنه اتجهوا لتقديس الأب، ولأنّه غير موجود قاموا بتقديس أبٍ سماوي على أنّه هو الذي يرعاهم ويحبّهم، ومن هنا تشكّلت لدى "فرويد" فكرة الدين!  

 لكن، وحتى بالتعامل مع تلك النظرية (الإسقاط) في حيّز الدين المسيحي الأوروبي في ذلك الوقت، رغم عدم توافقها مع نظرة الدين الإسلامي الذي لا يتبنى فكرة الأب السماوي[9]؛ على الرغم من هذا، فإنّ "فيتز" يرى أنّ "فرويد" قد عكس المقدّمات والاستدلال النهائي[10]، إذ إنّ "فرويد" يرى الإله اختلاقًا من البشر للتكفير عن ذنبهم تجاه الأب، لكن "فيتز" يرى أنّ الترتيب لا ينطلق من كون الإله تعبيرًا عن الأب، ومن ثم تكون عبادته إسقاطًا للعقدة الأوديبية.

لكن -على العكس تمامًا- فإنّ الإنسان -كما يرى "بول"- يعتبر الإلهَ النموذجَ المطلق للقوّة والسلطة، كما يرى الطفل في أبيه رمزًا للقدرة والحكم، لذا فإنّ مَن يفقدون آباءهم (بوفاة أو هجر)، أو مَن وجدوا آباءهم جبناء بصورة مُخزية، أو قُساة بصورة طاغية، فإنّهم قد "يعانون صعوبات في تبنّي الإيمان بالإله"، وفي المقابل فإنّ "مَن يجد بديلَا مناسبَا عن الأب (أستاذ أو جدّ أو صديق أكبر …الخ) يكون أحسن حالًا"[11]. أي أنّ الابن يرى في الأب تمثيلًا للسلطة الدينية، فإن كان الأب منحرفًا أو طاغية فإنً الابن قد يترجم سلوك الأب على أنّه تصوير للدين، فينشأ موقفه المعادي له، ومن ثم يتّجه نحو الإلحاد.

ذلك الأمر الذي يؤيّده الطبيب النفسي "شهاب الدين هواري" في مقابلة له مع ميدان[**]، إذ يرى أنّ السلطة الدينية في مرحلة التربية المبكرة تكون في يد الوالدين أو من يحل محلّهما، لذا فهم نقاط النفوذ والتأثير والتعليم، وكذلك مَن يقومون بمهمة التبليغ عن الله بعد سنّ الرشد للطفل والإدراك، لذا فإنّه يعتبر تشويه النفسية الدينية عند المرء خلال مروره بتلك المراحل نوعًا من الإساءة الروحية.

ويعبّر الطبيب النفسي عن مصطلحه بأنّه: "تقديم صورة مشوهة عن الروحانية من السلطة الأبوية، وسوء استغلال السلطة الدينية لتحقيق مكاسب خاصة، سواء كانت هذه المكاسب مادية أو معنوية، وسواء تمت هذه الإساءة بوعي أو بدون وعي"، ويكمل قائلًا: إنّ "الكثير ممن فقدوا الروحانية ووجدوا أنفسهم بلا هوية ولا رابطة تصلهم بالسماء لديهم في الغالب جرح عميق في علاقتهم بالله، هذا الجرح نجم في كثير من الأحيان عن علاقتهم بالله كما عُرِف لهم وقُدِّم إليهم لا كما أخبر هو نفسه، ثم من خبرتهم لمن احتكروا حقّ النطق باسمه".

لذا، فإنّه حسب الدكتور "شهاب"، يمكن تعريف الإساءة الروحية بأنّها "إساءة استعمال السلطات المخولة للسلطة الدينية من أجل تحقيق نفع ذاتي من خلال السيطرة ومحاولة التحكم في الآخرين"، دون اعتبار لآراء الآخرين أو ما يترتب على تلك الإساءة من آثار على علاقة الفرد بالله أو مدى صحته النفسية والروحية.

ويذكر "فيتز" أنّ السيد "أنتوني فلو" -أحد أشرس الملحدين وزعيم الإلحاد الغربي طيلة النصف الثاني من القرن العشرين قبل أن يؤمن بوجود الإله بعد الثمانين- قد شوهِد في إحدى نوبات سكره الشديدة راقدًا على الأرض، صارخًا في أسىً متكرّر: إنّي أكره أبي! إنّي أكره أبي! وهو ما تكرر في حالات أخرى شبيهة لفلاسفة وساسة فقدوا آباءهم واتجهوا للإلحاد كـ"نيتشه"، و"برتراند راسل"، و"ستالين"، وحتى "سيجموند فرويد" نفسه.

    

أمي لا تتركيني:

بمدّ الخطّ على استقامته، تنتج من العلاقة الأبوية عند "فيتز" وآثار اضطرابها أو غيابها على إيمان الابن نظريةً أخرى تدرس العلاقة بين الابن والأم، ومدى تحقًق آثار مشابهة لنظرية الإيمان فاقد الأب، أو بعض منها، وفقًا لمتغيرات تلك العلاقة، وهي ما اصطُلِح عليه بنظرية الارتباط أو التعلّق.

وتتلخّص النظرية في أنّ العلاقة بين الطفل وأمّه قد تمثّل النموذج الذي ستكون عليه العلاقة بين هذا الشخص في المستقبل وبين الآخرين، ويمتد هذا النموذج حتى يؤثّر في العلاقة بالإله، وهي النظرية التي طرحها عالم النفس الإنجليزي "جون بوالبي"، وطوّرتها بمزيد من الأدلّة تلميذته الأميركية "ماري أنسويرث"[12].

لكن، وعلى الرغم من ذلك، فقد أظهرت الدراسة أن تأثير التقصير الأبوي يفوق تأثير العلاقات الأخرى على علاقة الابن بالإله، بما في ذلك تأثير الأم نفسه[13]. وقد قسّمت "أنسويرث" ارتباط الأم إلى أربعة أقسام: تبدأها بالارتباط الآمن المستقر والذي يمثل قرابة 60% من علاقات الأمهات بأبنائهن، ثم تنتقل إلى علاقة الارتباط غير الآمن الذي يفقد بسببه الطفلُ اجتماعيته ويميل إلى الانطواء، ونسبته 20%. ثم الارتباط المتناقض (المتأرجح) الذي تتوتّر فيه العلاقة بين القرب والبعد، وهو ما يُنتج طفلًا متوترًا يبحث عن الاهتمام، ونسبة تلك العلاقات 15%. وأخيرًا الارتباط المضطرب الذي تفسد فيه علاقة الطفل بأمّه ويُنتج أبناءً مرتبكين، غير مطمئنين في علاقاتهم مع الآخرين، وهي العلاقات التي تمثل نحو 5% من علاقات الأمومة.

ويرى "كيرك باتريك" و"شيفر" أنّ قبول الشخص للعلاقة مع الإله يعتمد كثيرًّا على نمط الارتباط بينه وبين أمّه، وأنّ الطفل يتبع في ذلك إحدى فرضيتين[14]: الفرضية التوافقية، والتي ترى أنّ نمط الارتباط مع الأم يتوافق مع نمط الارتباط الذي سينعكس على العلاقة بين الابن والإله. والفرضية التعويضية، الذاهبة إلى أنّ الأشخاص من ذوي الارتباط السلبي يكونون أكثر ميلًا للارتباط بالإله، كنوع من التعويض، للحصول على الأمان الذي فقدوه.

كما تتوقع تلك الفرضية مجموعة من التباديل والتوافيق حول علاقة الأم وابنها وتأثيرها على مستقبل علاقته بالإله، إلّا أنّها -وبصرف النظر عن توقعاتها- تشير في النهاية إلى حقيقة تأثر العلاقة بين الإنسان والإله بكثير من التصرفات التربوية والسلوكيات العاطفية للأم مع ولدها، والتي يؤثّر اضطرابها وقسوتها في كثيرٍ من الأحيان على إيمان الابن، كما هو الحال مع "آرثر شوبنهاور" الذي هجرته أمّه، أو "جل جونستون" التي كانت تصفها أمها بابنة الزنا، وتصف هي أمها بالبغيّ الفاجرة[15].

ووفق إحصائية للدكتور "عمرو شريف"[16]، فإنّ سبع حالات من الشباب الملحد كانوا يعانون من انفصال الوالدين وغياب أحدهما أو كليهما، بالإضافة إلى خمس حالات منهم عانوا من التشدّد الديني من قِبَل الأب، وفي أربعة منهم شَغَل دورَ الأب المفقود مدرسٌ ملحد، أو صديقٌ أكبرُ ملحد دفعه إلى الطريق نفسه، وهو الحال نفسه الذي يتكرر مع كثير ممن يجدون آباءهم ملحدين كـ"سيمون دي بوفوار" التي خطت خلف والدها في منهجه الإلحادي.

 في النهاية، فإنّ العلاقة بين الوالدين والابن تبدو مترابطة ووثيقة بالحالة الإيمانية، فكما يعكس الحضور الرحيم للأب نوعًا من الاستقرار الذي لا يحقّقه غيابه أو قسوته، فإنّ الأمومة تبدو متعلقة بالإيمان بشكل لا يمكن إغفاله، خاصة لو افتقد الملحد أي دافع معرفي أو موضوعي لشكوكه، فحينها تتصدّر الأبعاد النفسية المشهد من حيث أراد صاحبها أن يخفيها، وتبرز التساؤلات القائمة على العاطفة، الغافلة عن درب العقل في البحث والاستقصاء.

الشرّ.. لماذا؟

كنتيجة لسلسلة الغضب، تمثّل معضلة الشرّ أزمة كبرى لدى العديد ممن يُلحدون، فمع كل كارثة بشرية أو طبيعية يعلو سؤال الشباب خصوصًا: لماذا خُلِق هذا الشر؟ ولماذا يحدث كل ذاك؟ ذلك السؤال الذي يتسرّب من ورائه الإلحاد برجّة عاطفية، كان قد رصدته دراسة أميركية وجدت أنّ 17% من أسباب الإلحاد تنطلق من هذا السؤال[17]، وهو ما توافق معه طالب عشريني أثناء الحرب على غزّة، إذ أعلن في تقرير عن التعدّدية الدينية في المغرب عن إلحاده بسبب ما حدث حينذاك للمستضعفين[18]، وهو السؤال الذي يميّز ظاهرة "إلحاد ما بعد الثورات".

ذلك الأمر الذي تناوله الباحث "سامي عامري" في كتابه: "مشكلة الشر ووجود الله"، إذ يُرجع الأمر إلى ما هو أعمق من الشرّ نفسه، حيث يرى أنّ الرؤية التي تشكلت في الفكر الغربي في أعقاب الثورة الفرنسية، كان لها أبلغ الأثر في صياغة ذلك الإنكار، وهو ما يؤكّده الفيلسوف الكندي "تشارلز تيلور"[19]، الذي يرى أنّ إحساس الإنسان بالترتيب الإلهي على خلفية هذا الفكر قد بُهت، وأنّ الإحساس بقدرتنا على تنسيق النظام الكوني بأنفسنا قد بدأ بالظهور، ما أفضى في النهاية إلى الرغبة في عالم بلا مكابدة.

وعلى خلفية هذا العصر التنويري للفكر الغربي، نُحِتَ وجه الحياة في الغرب بعدمية "نيتشه"، ولا معنى "سارتر"، وجبرية "كامو"، وآلَ الأمر في النهاية إلى تآكل الغاية من الوجود، فدفعت تلك المادية الحياة في الاتجاه نفسه، ليغيب عن التصورات أي معنى (ديني غيبي) من وراء دنيانا، ومن ثم "أضحى الشر والألم والمعاناة مظهرًا من مظاهر عبثية الوجود"[20].

الأمر الذي اشتدت الحساسية تجاهه بسبب التحديث المستمر، وتولُّد الفردانية وتفكك البُنى المجتمعية، ففقد الشر قيمته "كمبرر لإظهار تلاحم الجماعة وبروز معاني الأخوة والتكافل والرحمة"[21]، واستُبدِل النظام الإلهي بمركزية الإنسان الساعي إلى صياغة عالم جديد لا يحتوي على الألم؛ ليصنع تصوّرًا فردوسيًا مأمولًا للعالم، وهو ما يعلّق عليه "جون هك" بأنّه غاية الخَلق في تصور الكُتّاب المعادين للإيمان[22].

ذلك التصور لم ينشأ من تلقاء نفسه بلا مقدّمات، ولعلّ الرؤية المشوهة للإله في العهد القديم كانت أبرز هذه المقدّمات؛ لتعبيره عنه في "صورة إلهٍ يأمر بقتل الأطفال وإبادة المجتمعات بأكملها"[23]، بالإضافة إلى سياسة الكنيسة القمعية؛ ما أثّر بدوره في توجيه التفكير في منظومة الإلحاد الغربي، وصنعَ خصامًا قويًّا مع فكرة الدين، لا تلبث الكوارث والحروب أن تزيده اتّقادًا، واضعًا غشاوة على أعين الساخطين لا تجعلهم يرون الحكمة الإلهية من كلّ ذاك.

فالمعاناة -حسب "وليام كريج"[24]– وإن كانت تشكّك على المستوى السطحي في وجود الله، إلّا إنّها على مستوى أعمق تثبت وجوده؛ إذ إنّه في غياب الله لا تمثل المعاناة شيئًا قبيحًا، فإذا آمن الملحد أنّ المعاناة شيء سيئ، أي إنّها أمر يجب ألا يكون، فهو بذلك يقدّم أحكامًا أخلاقية لا يمكن أن تُوجد إلا إذا وُجِد الله.

  

فالشرّ، كأداة في التصور الإيماني، يحمل مبرّرا قويًّا يسوّغ وجوده، فهو، من جهة، بلاء يعمل على تكفير الخطايا عن المؤمنين، ومن جهة أخرى يمثل الاختبار الفعلي للمؤمنين ضد ابتلاءات الدنيا ومقاومتها؛ إما بدفعها عند الاستطاعة وإما بالصبر عليها حين العجز؛ لأنّ -حسب "سامي عامري"[25]- عدل الله لا يتعلق -كما في الحس الإنساني- بالنفع والضر، وإنما بوضع كل شيء في موضعه.

إذن، فالنظرة الفردوسية للعالم، التي تطلب انتفاء البلاء وإثابة الصالح بأمطار الذهب وعقاب الفاسد بالخسف اللحظي وإلا تركنا الدين؛ هي نظرة تتعارض -أصلًا- مع تفسير الدين للحياة باعتبارها دار اختبار لا أرض جزاء، كما تتعارض مع حرّية الإنسان في اختيار طريقه ومن ثَمّ منطقية حسابه، لذا كانت بداهة الإيمان بالغيب. فإن كان الحال هكذا، فما الأفضلية التي يحوزها الخيّر على الشرير وهو يفعل الخير طلبًا في النعيم المباشر وهربًا من العذاب السريع؟ وما الحكمة التي سينالها الإنسان من عالم لا يُجتهد فيه للخير ولا يقاوم فيه الشر؟

فعالم كهذا -وفق "عباس العقاد"[26]- سيمتلك من الظلم ما يفوق الظلم البشري في عالمنا الحالي؛ لأنه يلاشي الفرق بين اللحظة العابرة والأبد الطويل، فلو أنّ كل ثواب وعقاب مشهود في لحظته، فبأيّ منطق سيضحي الإنسان في سبيل قِيَمه العليا؟ ولأيّ داعٍ سينتظر الآخرة وهو يرى الخير في الدنيا سريع الثواب، ويبصر عقاب الشر كذلك بصورة مقابلة؟

لذا، فإن الشر -وإن بدا دافعا للإلحاد- لا يعدو كونه سببا نفسيا محضا لا عقلانية فيه، إذ إننا، وحسب "سي. إس. لويس"[27]، لو افترضنا غياب النور وطمس أعين الكائنات، فإنّ كلمة الظلام ستكون بلا معنى، ولن يخرج منها السامع بأيّ دلالة! لذا، وليتمكّن الإنسان من وصف خطٍّ ما بأنه مُعوجّ، فلا بد أن يكون على دراية بماهية الخط المستقيم؛ لأنّنا لو اعتبرنا أنّ العرض كله سيئ وتافه من الألف إلى الياء (يقصد الحياة الدنيا) فلماذا نجد أنفسنا في ردّة فعل عنيفة هكذا تجاهه، مع أننا من المفترض أن نكون جزءًا من العرض؟!

  

أي: لو كان العالم مكانا غير عادل؛ فمن أين أتتنا فكرة العدل؟ ولو كانت فكرة العدل محضَ وهم؛ فلماذا نعترض على وجود الشر؟ لذا يبدو الأمر -من الناحية العقلية والمعرفية- غيرَ ذي حجّة للإلحاد، ولا يتعلق الاحتجاج هنا إلا بالصدمة النفسية التي تحدثها المعاناة، التي تتلاقى مع التقصير الأبوي أو اضطراب العلاقة بالأم في كونهم جميعًا يُصدرون ألـمًا نفسيًا يعجز المرء عن صده، فإن افتقد للصبر تمرّد على الشيء الوحيد الذي يمتلكه حينها: الإيمان بالله.

  بابا عدم .. إلحاد اليأس وأشياء أخرى:

في كتابها الأدبي، التحليلي بلمحة ساخرة، تصفُ الكاتبة الكندية "نانسي هيوستن"[28] الكاتبَ الألماني "آرثر شوبنهاور" بأنًّه أبو الأدباء العدميين، واضعة له السبق على "نيتشه"، ومرجعةً أسباب نظرته التشاؤمية الكارهة للدين والحياة والفاقدة للمعنى، إلى أمه التي هجرته صغيرًا، مُخلِّفةً فيه عقدة دفينة تجاه الإناث، وعقدة أكبر تجاه الغاية من الحياة.

تلك العقدة التي يصفها "بيغوفيتش" في موضع آخر بـ"الإلحاد اليائس"، إذ إنّه لا يرى العدمية إنكارا للألوهية، ولكنها "احتجاج على غيابها"[29]. تلك الكلمات الثلاث التي اختصر بها "بيغوفيتش" المسافة بين الإلحاد العدمي وبين الإيمان: الغاية والإدراك للمعنى، وفهم حضور الإله لئلا يحتج المرء بالخطأ، فيدفعه ذلك إلى الكفر.

ويقول إن عبارة "سارتر" الشهيرة التي يصف فيها الإنسان بأنه عاطفة تافهة لا جدوى منها، هي عبارة دينية بمنطقها وبروحها معًا؛ ذلك لأنّ في الإلحاد -بمنظومته المادية المنكرة للغيبيات- لا توجد عاطفة، إذ إنّ الإلحاد ينكر الغائيات (وجود غاية عليا للحياة)، لذا كانت مقولة "سارتر" تتضمن فكرة أنّ الإنسان والعالم ليس بينهما تناغم، وهذا الموقف المتطرّف تجاه العالم هو موقف ديني بامتياز؛ لأنّه ينظر إلى الإنسان كشيء أكبر من المادة، ومن ثم لا تعبّر عنه المادية والطبيعة فقط.

لذا، فالإلحاد كأداة للتمرد على القسوة أو الغياب الأبوي، أو حتى كاحتجاج على وجود الشر، حكمٌ بالضياع على هذا المعنى الذي يسعى الإنسان وراءه، والذي -وفقا لـ"فكتور فرانكل[30]– يضع للحياة قيمة تخفف من معاناة المرء بها، على خلاف الملحد الذي يفتقد للمعنى الأخروي أو التجاوز الروحي للحياة المادية عن طريق العبادة والإيمان.

فالفلسفة العدمية، كنوع من البحث الفاشل عن المعنى، وجهٌ آخر من وجوه الإلحاد، أو هي "إلحادٌ يائس"، يحاول به المرء أن يخرج من إلحاده، لكنه يصطدم بالعدم، تمامًا كما يعبّر "ألبير كامو" عن الوضع، فـ"في عالم خبا فيه الوهم فجأة وانطفأ الضياء، يشعر الإنسان بالاغتراب. إنّه الطرد الذي لا فكاك منه ولا مهرب، فلا توجد ذكريات عن وطن مفقود ولا أمل في الوصول إلى أرض موعودة".

الإلحاد لا يتوقف إذن عند الدوافع النفسية المحرّكة، لكنه -في الوقت نفسه- يمتد إلى آثاره داخل النفس الأكثر تركيبًا وتعقيدًا. فالفلسفة العدمية، التي يتبنّاها الملحد في التعبير عن العالم، "لا تتحدث مباشرة عن الدين، ولكنّها تعبّر بوضوح عن الاعتقاد بأنّ الإنسان والعالم ليسا مصنوعين بالمعيار نفسه". إنّها تعبّر عن القلق، و"القلق بجميع درجاته -فيما عدا نتيجته- هو قلق ديني"، لكنّه في العدمية "غريبٌ ضائعٌ بلا أمل"، بينما في الدين "هناك أملٌ في الخلاص"، وهذا ما لا يبذله الإلحاد.

 لكنه، الإلحاد اليائس، قد يدفع صاحبه إلى "إلحاد الشهوات"، أو إلحاد البطن والفرج بتوصيف شيخ الأزهر الراحل "عبد الحليم محمود"، إذ تُفرّغ الحياة من المعنى وتقتصر على كونها شهوة، فيلجأون إلى الهروب من تلك المعاناة "بإسقاط منظومة الإله والدين من حياتهم بالتنكر لها".

  

بين طرفين.. الاحتواء المفقود

تقول الخبيرة النفسية، الدكتورة "سهام حسن"، أنّ الملحد "شخص لديه اضطرابات ويعاني من الحزن والاكتئاب والضياع، بسبب خبرات حياتية مرّ بها في حياته أدّت بدورها إلى تشكيل التاريخ المرضي لحالته". ذلك الأمر الذي أثبته العديد من الشباب في الحوار معهم، ممن لديهم مشكلات مرتبطة بالدين.

أوّلهم كانت سيدة شابة تحكي تمرّدها على إيمانها بسبب عنف زوجها المقنّع بقناع ديني، يدعمه موقف أبيها المتشدّد، الذي كان يبرّر ضرب الزوج المبرح لزوجته وإيذائها بأحقيته الشرعية في تجنٍّ على الدين؛ لم يلبث أن زال مع سؤال السيدة ومعرفتها بسبب عقدتها المتمثلة في أبيها وزوجها، ولعلّ منشور الملحد "شريف جابر" عن قسوة أبيه المفرطة تجاهه دليلٌ على الأمر نفسه، وإن لم يصرّح هو بسببية ذلك، لكن بربطه مع ما سبق يبدو الاستقراء منطقيًّا.

في النهاية، فإنّ الدوافع النفسية للإلحاد، ما ذُكِرَ منها وعُرِفَ وما سيُستجد، تبدو ذات قوة لا يمكن التغاضي عنها، خاصّة في مجتمعات الإسلام بصفتها أكثر اتصالًا بالدين من المجتمع الأوروبي المتخاصم مع الكنيسة منذ زمن؛ ذلك لأنّ قضية الإلحاد -حسب الباحث "هيثم طلعت"- حكمٌ سطحي، كسولٌ للغاية، على قضية عميقة للغاية ممتلئة بالأدلّة، وعليه: كانت الأزمة النفسية تحتاج تصالحًا من صاحبها وتفهّمه لأزمته الشخصية قبل إلصاقها بالدين.

كما يبدو تناولها -أيّ الأسباب النفسية- ذا أهمية عظيمة للطرفين: مَن يخضع لها ومَن يُخضعه لها، لأنّ -وحسب الباحث "هشام عزمي"- يجتذب الإلحاد في شباكه كثيرًا ممن يعانون إهمالًا نفسيًا أو تحقيرًا من أسئلتهم، أو يواجهون كبتًا معرفيًّا من الأهل بحجّة الخوف عليهم من الكفر، رغم أنّ الإجابة عن الأسئلة هي التي ستحفظ الإيمان وتريح العقل لا العكس.

ويضيف "عزمي" أنّ هذه الممارسة لكبت أسئلة الشباب "تدفعهم إلى التفكير في أنّ الإسلام نفسه لا يملك أجوبة عن التساؤلات وأنّه يكبتها ويحرّمها حتى لا يقع الدين في الإحراج، وبالتالي تتضخّم قوة هذه الاستشكالات والشبهات في ذهن الشاب إلى درجة تفوق حجمَها الحقيقي ويظنّ أنّ الإسلام دينٌ ضعيف لا يملك أجوبة ولا حلولًا لأسئلته حتى تصبح في نهاية المطاف السبب في إلحاده وتركه للإسلام بالكلية".

لذا كان احتواء السؤال والإجابة عنه -أو الاستعانة بمن هو أهل لذلك- أفضلَ للسائل من الجانبين: فهو من جانب سيريح عقله الباحث ويضع له بدايات الطريق، ومن جهة أخرى سيجنّبه الأزمة النفسية التي قد تنشأ مع الدين بسبب هذا الكبت أو الترهيب. الأمرُ الذي يضعنا أمام محورٍ مهم في ظاهرة الإلحاد النفسي تتجلّى في أهمية الاحتواء قبل الإجابة عن الأسئلة، خاصة وأنّ كثيرًا من الإلحاد القائم على أسباب نفسية يكون تمرّدًا على المعاناة الأسرية بلا أيّ أسئلة أو استفسارات موضوعية.

 

الهوامش

[*]: "أوديب ملكًا" هي مسرحية من الأدب التمثيلي اليوناني القديم للكاتب "سوفوكليس"، وتتلخّص أحداثها في نبوءة من أحد العرّافين للملك "لايوس" -ملك طيبة- بأنّه سينجب ولدًا يقتل أباه ويتزوّج أمه، فحاول التخلّص من المولود حين وُلِد، لكنْ مَن أخذه ليقتله أشفق عليه وأسلمه لأحد الرعاة، ليتبنّاه ملك "كورنثة" وزوجته، فيكبر الولد وتتطوّر الأحداث ويصير ملكًا ويقتل أباه الحقيقي ويتزوج زوجته -أمّه- دون أن يعرفهما، وما أن يعرف حتى يفقأ عينيه ويهجر الناس ندمًا على خطيئته.

[**]: من حوار مع الدكتور شهاب الهواري، مستعينًا بمقاله: "هل أنت غاضب من الله؟"

 

 

المصدر: الجزيرة – ميدان

 

 

إضافة تعليق جديد