متطلبات تجسيد الأمن الفكري من خلال المناهج التعليمية
إنّ التوازن مطلب شرعي، ومبدأ تربوي إذ جاءت النصوص من الكتاب والسنّة آمرة به محذّرة مما سواه من الإفراط والتفريط، قال تعالى: {لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ}، ومن ثمّة يمكن اعتبار موضوع الوسطية والتوازن والاعتدال في الفكر من الموضوعات التي ينبغي أن يُعنى بها المربّون؛ لاضطراب الموازين عند الكثير من الشباب العربي، ما بين غالٍ مشدّد وجاف مفرط؛ إذ أضحي الأمن الفكري في الآونة الأخيرة في الكثير من الدول والمجتمعات مهدَّدًا بمشكلة التطرّف الفكري، مما جعلها عرضة لأزمات داخلية، ونزاعات، وتحدّيات تتعلق بالحريات والديمقراطية والحاكمية وحقوق الإنسان والإرهاب والتكفير وغيرها.
وتعتبر المناهج التعليمية من بين أنسب السبل والوسائل التي يمكن استثمارها في علاج هذا الاضطراب والوقاية منه، لأنّ الفكر بلغة علم النفس وعلوم التربية تكوين فرضي؛ إذ بالرغم من عدم إمكانية ملاحظته إلا أنّه يمكن الاستدلال عليه من خلال مؤشّراته الدالة علية، التي تترجم إجرائيًا في شكل سلوكيات قابلة للملاحظة والقياس. ولما كانت السلوكيات البشرية مكتسبة في مجملها باستثناء الغرائز والمنعكسات الشرطية فإنّه يمكن اعتبار السلوكيات المؤشّرة على استقامة الفكر واتزانه في أغلبها سلوكيات مكتسبة، يكتبها الفرد عن طريق الممارسة والتعزيز، وباعتبار أنّ التعليم وسيلة من وسائل التربية فإنّه يمكن القول أنّ للتربية دورًا كبيرًا في قولبة أفكار الأفراد وفق القالب الذي تريده.
ومما لا اختلاف فيه أنّ هذه المؤسسات التعليمية وبحكم أنّ النظام التربوي نظام مفتوح يأخذ من المجتمع ويعطي له فهي تمدّ المجتمعات بمتخرّجين يحملون مجموعة من القيم والمهارات والمعارف اللازمة للقيام بأدوارهم الاجتماعية المختلفة، ابتداء من الدائرة الأضيق المتعلّقة بمهنهم وصولًا إلى الدائرة الأوسع المتعلّقة بكونهم مواطنين، لذلك أصبحت المسؤولية الاجتماعية للمؤسسات التعليمية مطروحة اليوم عالميًا، ونرى أنّ ذلك أكثر حاجة للطرح في الدول والمجتمعات التي شهد أمنها الفكري تهديدًا من مشكلة التطرّف الفكري وعانت من تبعاته وآثاره المؤلمة، خاصة وأنّ معطيات علم النفس وعلوم التربية تؤكد على أنّ الفكر الإنساني له أهمية كبيرة في توجيه سلوك الفرد نحو البناء أو التدمير، وأنّ الفكر الإنساني لا يستقيم إلا باستقامة النظام التعليمي الرامي إلى بنائه، غير أنّ تمكّنها من بلوغ ذلك لن يتحقق إلا من خلال مناهج تعليمية جامعية روعي في تصميمها ذلك المسعى.
وحتى تحقق المناهج التعليمية الجامعية مسعى تجسيد وتعزيز مبدأ الوسطية لابد من الاستناد في تصميمها إلى أسس واضحة المعالم، موازية لذلك، والعمل على تجسيد ذلك في نمطية انتظام مكوناتها إجرائيًا، والسعي لتوفير متطلبات ذلك، مع نقل المحتويات العلمية الصريحة والمهنية المتضمنة في هذه المناهج من إطارها النظري داخل الجامعات إلى إطارها التنفيذي داخلها وخارجها، وتجسيد ذلك قدر المستطاع إجرائيًا.
والنظام التعليمي لا يستقيم إلا باستقامة مناهجه في مختلف مكوناتها، وهذا لن يتأتّى ما لم يستند في تصميمها إلى خلفيات ومرجعيات واضحة المعالم ومستندة إلى أحدث النظريات العلمية النفسية والتربوية في هذا المجال، مع مراعاة انتظام مكوّناتها وفق نمط يضع في الحسبان كل ذلك، مما يجعل مصممي المناهج التعليمية اليوم أمام مهمّة صعبة، ولكنّها غير مستحيلة. وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدل على الدور الذي يمكن للمناهج التعليمية أن تلعبه في تعزيز الأمن الفكري، وتحصينه من مشكلة التطرّف الفكري.
ونظرًا لأهمية الموضوع، وانطلاقًا من هذه الفكرة فإنّ هذا البحث يهدف إلى الكشف عن جملة من القضايا من أهمها:
- أثر التطرّف الفكري في الأمن الفكري، وتبعاته.
- دور مكونات المناهج التعليمية في تحصين الأمن الفكري من مشكلة التطرف الفكري.
- الخلفيات التي يجب على مصممي المناهج التعليمية الاعتماد عليها في بناء ذلك في ظلّ مشكلة التطرّف الفكري المهدّدة للأمن الفكري، وكيف يجب أن تنتظم مكوناتها. وما هي متطلبات ذلك؟
- مدى إمكانية نقل المعارف العلمية الصريحة والمهنية المتضمّنة في المناهج التعليمية الرامية إلى تحصين الأمن الفكري من مشكلة التطرف من إطارها النظري داخل المؤسسات التعليمية إلى إطارها التنفيذي داخل المدرسة وخارجها، وكيف يتم ذلك إجرائيًا؟
- السبل الكفيلة بتعزيز الأمن الفكري، وتحصينه من هذه المشكلة من خلال المناهج التعليمية.
إضافة تعليق جديد