ملامح الوعي الإسلامي
مقدمة:
إنّ للفِكر أهميّة قصوى في حياة الشعوب، لأنّه يتيح للإنسان إعمال إمكاناته العقليّة والإدراكيّة في المحصول الثقافيّ والعلميّ المتوفر لديه بغية إيجاد بدائل أو حل مشكلات أو كشف للعلاقات والنسب بين الأشياء، وتوسيع مجال الرؤية لآفاق المستقبل.
على أنّ طبيعة الاشتغال بالقضايا الكبرى تزهّد المفكرين في الاهتمام بالمسائل الجزئيّة، حيث يرون أنّها ذات علاقة بأصحاب التخصصات ومندرجة في أنظمة أشمل تتحكّم فيها.
ونحن في هذا العصر بحاجة إلى مفكرين فقهاء يفهمون هذا الدين فهمًا عميقًا، ويعرفون سنن التغيير، ويشخّصون بدقة أمراضنا الاجتماعيّة، ويعرفون واقعنا وواقع غيرنا تمام المعرفة.
وعندما انفصلت السياسة عن الفِكر في بلاد المسلمين أُصيبت في مقتل، بينما نجد أنّ السّر في قوة الدول الغربيّة هو تكامل الفِكر والسياسة، واعتماد رجال التخطيط والتنفيذ في دوائر صُنع القرار السياسيّ على ما يقدمه رجال الفِكر العاملون في مراكز البحوث والدراسات، خلال اللقاءات الدوريّة التي تجمع بين الفريقين لمناقشة وتقويم القضايا الداخليّة والخارجيّة.
وفي الغرب تشجع صناعة الفِكر، لأنّ لديهم بنوك للأفكار، فالذي يقدم فِكرة جديدة تخزّن حتى تأخذ طريقها للتنفيذ، بينما في بلداننا الإسلاميّة لم نمارس هذه الصناعة إلى الآن.
إنّ سلوك الأفراد في مجتمع من المجتمعات ما هو إلّا ترجمة عمليّة لما يؤمنون به من أفكار، ولهذا نجد أنّ المجتمعات تتقدّم أو تتخلّف تبعًا لنوعيّة الأفكار التي يعتنقها أفرادها.
فالمجتمعات التي تدور في فَلك الأفكار الصحيحة تتفوق على تلك التي تدور في فَلك الأفكار الخاطئة، كما كانت حال الأمّة المسلمة الأولى في صَدر الإسلام وتفوّقها على مجتمعات الرومان والفرس وغيرها، ذلك لأنّ ديننا مصدر ضخم لتغيير الأفكار، فقد كان الإنسان العربيّ في الجاهليّة يعبد الصنم من الحجر، فجاء الإسلام فغيّر هذه الفِكرة الخاطئة لديه، وجعله إنسانًا آخر يحمل الفأس ليكسر ذلك الصنم.
وهكذا، فإنّ للأفكار قيمة كبيرة عمليّة كأداة من أدوات الصراع بين الحقّ والباطل، وما سلوك الإنسان وتصرفاته إلّا نتيجة لأفكاره، فإذا تغيرت أفكاره بجهده هو أو عن طريق جهد غيره، فإنّ سلوكه يتغير، وهذا التغيير قد يصل إلى النقيض كما حدث للعرب بين الجاهليّة والإسلام.
ولأنّ الأفكار بهذا القدر من الأهميّة، فقد تقرر في دوائر صنع القرار في الغرب تخريب الفِكر الإسلاميّ ورصيد الأفكار الفعّالة فيه، التي تحاول دفع الأمة إلى النهضة والتنمية للقضاء عليها في مهدها أو احتوائها، لتبقى الجماهير المسلمة تجتمع على أساس العاطفة بدل الفِكرة والمبدأ، فيتحول المسلمون عن مشقة البناء إلى سهولة الشعارات والهُتافات.
ولمواجهة خطط الأعداء، فنحن مطالبون دائمًا بالتفكير كما جاء في القرآن الكريم: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}[النحل:44].
ولأنّ الأمة المسلمة لازالت تعاني من آثار وآثام الاحتلال الغربيّ للعالم الإسلاميّ الذي أحدث شرخًا عميقًا في البنية الفِكريّة للأمة، وتعاني من التقاليد والعادات والذهنيات والنفسيات المحسوبة على الدين وهو بريء منها: كضعف الفعالية، وطغيان الانفعال، والأنانية، والانفرادية، والنمطية في التفكير، وقبول الإشاعات، وضعف الحاسة النقدية، واضطراب منهجيّة التفكير، وغيرها من الأمراض الفِكريّة والاجتماعيّة، فإنّا مطالبون بعد هذه التطورات في العالم العربيّ برصد ملامح الوعيّ الإسلاميّ، وهو ضعيف في الأمة على الصعيدين السنني الكوني والسياسيّ الشرعيّ إلى حدٍّ بعيد، والتحذير من مزالق الانسياق مع النهج الديمقراطيّ الغربي الذي يتعارض مع الإسلام عقيدة وشريعة.
على أنّ الثورة العربية هي بداية طيبة، وخطوة في الطريق الصحيح، لكنّها تحتاج إلى ترشيد وتوجيه وتقويم حتى لا تضيع المكاسب التي تم إنجازها.
المبحث الأول: الوعي على الصعيد السنني الكونيّ
من المعلوم أنّ ما يجري في الكون يتعلّق بأفعال الله تعالى وسننه التي هي قوانينه في تدبير الكائنات، وهي مستخلصة من سلوك الظواهر نفسها المتّسمة بالاطراد والثبات والشمول والصرامة، سواء عرفناها عن طريق الوحي: "سنن اجتماعيّة" و"سنن تاريخيّة" أو طريق العقل والتجربة: "سنن طبيعيّة".
لكنّ علم السنن في العالم الإسلاميّ اليوم ليس له أثرٌ عمليّ تطبيقي، وإنْ وجد شيء من ذلك، فهي نظرات ولمحات عند علماء قلائل لم يصلوا بعد إلى درجة سدّ فرض الكفاية في الأمة، ولابدّ أنْ يصل عدد هؤلاء عِلمًا وعَملًا، نظريةً وتطبيقًا، إلى ما يسدّ حاجة الأمة، حتى يمكن اختزال زمن التغيير إلى أدنى حدّ ممكن.
وإلى الآن يحدث ما يحدث في العالم الإسلاميّ على أساس المصادفة والارتجال، دون تحوّل ذلك إلى علم ممنهج واضح المعالم، لهذا يظهر بطء الوعيّ في المجتمعات الإسلاميّة التي تحتاج من المفكرين والدعاة فيها إلى إبراز هذه السنن أمامها وتجليتها لها، وتضمينها الخطاب الدعويّ والفكريّ الموجه إليها، وتربية الناشئة على التفكير السنني، ليحلّ محل الأوهام والخرافات التي عششت في أذهان كثير منهم.
علمًا بأنّ القرآن الكريم اختصّ المجتمع المسلم بشيء كثير من السنن الاجتماعيّة والتاريخيّة التي تحدّث عنها حديثًا يصف الأمراض الاجتماعية التي تقعد عن النهوض، ويصف الدواء الناجع الذي ينهض بالمجتمع إذا وفّق لتعاطيه.
ومن الأهميّة بمكان معرفة أنّ التعامل مع سنن الله تعالى على أساس الوعي أمر يشمل المؤمنين والكافرين، فالنتائج التي قد يتطلع إليها على وجه الأرض أكثر المؤمنين إيمانًا وأشدهم ورعًا وتقوى سوف يجنيها أكثر الكافرين كفرًا وأشدهم عتوًا وفجورًا إذا وافق المقدمات الصحيحة المؤدية إليها، وربط الأسباب بمسبباتها، بينما ينتظرها المسلم المعاصر ارتكازًا على إيمانه وحده، دون أنْ يطلبها من مقدماتها التي جعلها الله عزّ وجلّ طريقًا إليها، فأنّا يستجاب له!!(1).
والنّظر إلى الموضوع بهذه الكيفيّة يبيّن خطورة أنْ يبقى في المجتمع المسلم أعداد –مهما كانوا قِلّة– لا يتمتعون بالوعي التام لقضايا المجتمع.
عِلمًا بأنّ إدراك ضرر وجود غير الواعين في الأمة يولّد لدى العقل المجتمعي –وهم مفكرو الأمة– شعورًا بالخطر أنْ يكون المركب الذي يبحر المجتمع عليه يحتوي على نماذج لا تعرف سنة طفو الأجسام على الماء، فيسعون بحسن نيّة أو بسوء نيّة لخرق السفينة كما ورد في الحديث الشريف(2).
وهكذا، علينا أنْ ندرك أنّ التوازن الدقيق في وعي المجتمع يتأثر كما يتأثر توازن المركب، إذ للمجتمع قانون يترابط به ليحميه من الغرق، ومعرفة هذا القانون هو مهمة عقل المجتمع (المفكرون والدعاة) والضمير الاجتماعيّ العام الذي يعتبر كلّ فرد مسؤولًا عنه. وتتعاظم المسؤولية على قدر ما يتوفر للمرء من فرص تحصيل ذلك وتنفيذه.
ولتحقيق هذا الوعي: لابدّ من التركيز على الجانب النفسيّ والتربويّ في بناء العقل المسلم المعاصر، وذلك بدمج العمليّة التعليميّة والتربويّة والدعويّة والفِكريّة في إطار واحد، بإرساء وغرس قواعد البُعد الاجتماعي في التكوين النفسيّ والتربويّ والفكريّ للفرد المسلم، وما يتبعها من ترسيخ المبادئ والقيم الدافعة وهي: العدل، والشورى، والمساواة، والحرية، والصدق، والإخلاص، والبذل، وتقديم قيمة الوقت، وامتلاك روح الجلد والصبر على العمل، والإنتاج المثمر، والتعود على النظام والتخطيط، وتربية روح الانتماء للأمة، والحرص على مصالحها وحقوقها ورعايتها، وحماية مؤسساتها، والمحافظة على النظام العام فيها، حتى تصبح هذه القيم عُرفًا مُلزمًا للجميع يهتزّ لها ضمير المجتمع في حال المساس بها.
وسأقتصر فقط على سُنتين اثنتين تحتاجهما الثورات لإحداث النجاح المطلوب وهما: سُنة الإعداد وسُنة التغيير.
إنّ سُنة الإعداد سُنة كونيّة واجتماعيّة تحدّث عنها القرآن الكريم في قوله تعالى: {أَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ}[الأنفال:60].
على أنّ الإعداد الشامل هو ثمرة الفهم الصحيح لهذه السُنة الاجتماعيّة، ويقتضي: البحث العميق، والقصد السليم، والصبر الطويل، وهو مهمة ورثة الأنبياء(3).
ولتوظيف هذه السُنة توظيفًا صحيحًا وللحصول على النتائج المرجوّة منها لابدّ من توفير شروطها وتلافي موانعها.
فمن شروطها: الإعداد العلميّ والفِكريّ، الإعداد التربويّ، الإعداد الماديّ، الإعداد الإعلاميّ، الإعداد البدنيّ.
ومن موانعها: قلّة الاكتراث بالوقت، ضعف المبادرة الفرديّة والجماعيّة في الأمة، عدم إدراك الهُوّة التي تفصل بين المثقفين والعوام في الأمة من جهة، وبين الإسلاميين والعَلمانيين من جهة ثانية، قلّة أعداد العلماء والمفكرين والدعاة والخبراء.
أما السُنّة الثانية فهي سنة التغيير، وهي متمثّلة في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ}[الرعد:11]. وهذه السُّنّة أيضًا لها شروط ينبغي توفيرها وموانع ينبغي تلافيها ليحدث التغيير المطلوب.
فمن شروط التغيير:
الأول: العقيدة:
ما من شَكٍّ في أنّ أيّ تغيير لابدّ أنْ ينطلق من فِكرة مبدئيّة ومركزيّة، لأنّ الأفكار تبقى هي المحرك الأول لأيّ عمل أو جهد يزمع الإنسان القيام به، وهذه الفِكرة هي فِكرة العقيدة التي تبقى الأساس المركزيّ الذي يستمدّ مقومات قوته وبقائه من خالق الكون والإنسان.
ذلك أنّ الإيمان بالله عزّ وجلّ شرطٌ أوليٌ لبسط النّعمة أو العمران بالمصطلح الاجتماعيّ، والعمل الصالح الذي يترجم هذا الإيمان إلى سلوك هو صمام الأمن للحفاظ على هذه النعمة أو العمران. وبناءً على هذا فإنّ العقيدة الصحيحة عاملٌ جوهريٌّ في التغيير الاجتماعيّ المنشود نحو العمران.
الثاني: بناء النواة الصلبة المؤثّرة:
حيث أنّ التغيير الطموح لا يمكن أنْ يُكتب له النجاح حتى تستجيب له فئة مُصلحة من النّاس، تكون بمثابة النواة الصلبة التي تهيئ الأرضيّة والمناخ المناسب للأخذ بأيدي الأغلبيّة من أفراد المجتمع وتحويلهم نحو الوعي بمبادئ الإسلام وقيمه ومقاصده، حيث تعمل على إبقاء الدعوة حيّة نابضة في صميم المجتمع.
فوجود هذه الفئة المؤمنة ضروريٌ لضبط برنامج التغيير، لتمنح كلّ مرحلة من مراحل العمل حقّها من الوقت، دون تفريط يضيّع الوقت ويميع القضية ويحرّفها عن مسارها الصحيح، ودون إفراط باختصار الوقت، وحرق المراحل، واستعجال الثمرة أو النتيجة، لأنّ هذا قد يجهض العمليّة إجهاضًا كاملًا.
الثالث: دور الزمان:
ثم يأتي دور الزمان باعتباره عاملًا رئيسًا من العوامل اللازمة لإنضاج عملية التغيير، ذلك أنّ التغيير النوعيّ في المجتمع المسلم يتطلب فترة زمنيّة كافية حتى يكتمل، ويؤتي ثماره يانعة سائغة.
وتبدو أهميّة عامل الزمن في ارتباط التغيير الاجتماعيّ أساسًا بتغيير ما بالأنفس، إذ من المعلوم أنّ النفس البشريّة ذات تركيب معقّد، ويتطلب تغيير ما فيها شروطًا كثيرة، ومغالبة موانع عديدة وعوائق تؤثر في النفس مثل: الأهواء، وحظوظ النّفس، والنزعات الحزبيّة، والصراعات الفِكريّة وغيرها.
الرابع: فهم الواقع:
ففهم الواقع الإنسانيّ عامل بالغ الأهميّة في التغيير، ولا يقلّ أهميّة عن فهم الدين نفسه، لأنّ المشكلة التي تعترض مسيرة التغيير هي عدم فِقه الخطاب الشرعيّ وتأصيل منهج التعامل معه وكيفيّة تنزيله على الواقع البشريّ، الأمر الذي يقتضي فِقه الخطاب وفِقه الواقع في آن واحد.
كما ينبغي فِقه الواقع المحليّ والإقليميّ والدُّوليّ، والتّعامل مع الصور الجديدة للواقع بظروفه وشروطه، والإفادة مما يقدّمه العصر من أدوات ووسائل وتقنيات تغني التجربة الإسلاميّة في التغيير.
أمّا موانع التغيير فسأذكرها بإيجاز وهي: الانحراف في فهم العقيدة، الانفراديّة، ضعف الفعالية، قِلّة الاكتراث بالوقت، نمطيّة التفكير(4).
وجدير بالإشارة في نهاية هذا المبحث القول: بأنّه لا يمكننا تصوّر أيّ تقدم أو نهضة حقيقيّة في أمتنا إلّا بوجود وعيّ عامّ بالسنن، بحيث يصل مفهوم هذه السنن إلى جميع الفئات الاجتماعيّة المكوّنة للأمّة في صورة يقينيات بدهية وقواعد عامّة، ولو أخذت صور عبارات مختصرة تحمل معاني مكثّفة، لكي يعي كلّ شخص دوره في التغيير، بحيث لا يعيق تصرفٌ منه جهود بقية المجتمع، لتستثمر وتحشد كلّ الطاقات والفعاليات في اتجاه التغيير نحو الأحسن.
المبحث الثاني: الوعي على الصعيد السياسيّ الشرعيّ
لما كان الحُكم هو أرقى صور التمكين للدين في حياة النّاس، فإنّ الإسلام جعل الوعي السياسيّ مطلبًا ملحًّا، فشملت الشريعة في أحكامها جانب السياسة بالعديد من القواعد والمفاهيم والتوجيهات والأحكام، وقد عُني القرآن الكريم بالتوعيّة السياسيّة بعرضه أخبار عن أشخاص أُوتوا الملك من المؤمنين والكافرين مقارنًا بين الصنفين، مع الإشارة إلى طبائع الملوك.
على أنّ الله عزّ وجلّ قد جمع لنبيّه صلّى الله عليه وسلّم بين النبوّة والحُكم، ليكون ذلك تأكيدًا مع ختم النبوّة على أنّ الشريعة والسياسة لا يفترقان في شِرعة الإسلام، ولهذا: فالمطلوب اليوم من المفكرين والدّعاة الصادقين إعادة السياسة إلى مظلّة الشريعة بعد أنْ خَرجت عنها تحت ضغط الاحتلال الأوربيّ، وتحت ذريعة الاستقلال الشكليّ الذي أتى بسياسة فَصلوا السياسة عن الدين وكرّسوا العَلمنة في حياة المسلمين.
وقد بات من الضروريّ بعد الثورات العربيّة ممارسة السياسة وفقًا للرؤيّة الشرعيّة لإخراج الأمة من الواقع المظلم الذي اكتنفها، ولإعادة الدور لأبنائها المؤهلين لقيادتها والوصول بها إلى برّ الأمان، ومن ثمّ أصبح الوعيّ السياسيّ ضرورة وواجبًا حتميًّا وفرضَ عين على الأمة.
ومن عناصر هذا الوعي الذي هو فرض عين:
- وعي المسلم بضرورة الاجتماع والولاء للأمّة، ضرورة نصب وليّ الأمر له من الحقوق مقابل ما عليه من الواجبات.
- وعيه بلازم البيعة بينه وبين وليّ الأمر على الكتاب والسُّنّة.
- ووعيه بضرورة احتكامه إلى شَرع الله تعالى، وصور هذا الاحتكام.
- ووعيه بضرورة الشورى، ومساءلة الحاكم، والمناصحة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وبالنسبة للمفكرين والدعاة فإنّ الوعي السياسيّ يهدف إلى فهم الواقع الذي تعيشه الأمة فهمًا عميقًا، مع معرفة نقاط الضعف وعوامل القوة فيه، والفُرص المتاحة والمخاطر المتوقعة، والمشاكل الخفيّة والظواهر المؤثّرة، وسُبل الحل وآليات المعالجة، وإدراك القوى الفاعلة في الأحداث، والمصالح المتقاطعة بينها، وكيفية إدارة الصّراع من موقع القوة وصُنع القرار، مع تفادي الخسائر والحفاظ على المكاسب.
على أنّ الوعي السياسيّ يستلزم الوعي بالسُنن الإلهيّة الكونيّة في الدول والمجتمعات، والوعي بمسار التاريخ صعودًا وهبوطًا، إقبالًا وإدبارًا، والوعي بطبيعة السُّلطة وتأثيرها في النفس البشريّة، والوعي بأساليب ممارسة السلطة والعوامل المؤثرة على أدائها، والوعي بمراكز القوّة والضعف في المجتمعات، والوعي بالمخاطر والأزمات، والوعي بطبيعة النفس الإنسانيّة والعوامل المؤثّرة عليها بوصفها اللبنة الأولى التي يُبنى عليها المجتمع، والوعي بصلة السياسة بالدّين والأخلاق ومصالح العباد، وتأثير كلّ منها على الآخر.
إذنْ فالوعيّ السياسيّ عمومًا يستلزم كلّ ما له صِلة بتفسير الظواهر الإنسانيّة والاجتماعيّة والتاريخيّة المتّصلة بالأمم والشعوب والجماعات، فهو ليس مجرد معلومات تُجمع وآراء تُقرأ، بلْ هو عمليّة متواصلة عميقة تأخذ حظّها من البحث والدّراسة والتأمل والتحليل والمقارنة والتجربة، وذلك لا يتأتّى من مقاعد الدراسة الجامعيّة، ولا من منابر الخطابة والفِكر، ولا من قِراءة الكُتب فحسب، بلْ يجب إضافة إلى ذلك مراقبة الأمور، وتتبّع الأحوال، ورصد المتغيرات، والتدقيق في الأحداث والمواقف وربطها مع أنساقها ومساقها التاريخي، وهذا يحتاج إلى جُهدٍ جماعيّ مُنسق والعمل بروح الفريق.
كَمَا أنّ الوعي السياسيّ أداةٌ من أدوات تشكيل الرأي العام الجماهيريّ، وهو المدخل إلى توحيد الصفوف وتوجيه طاقاتها الوجهة الصحيحة، بحيث تصبح الجماهير مؤثّرة بمواقفها في تحقيق إرادتها الجمعيّة، والدّفاع عن حقوقها العامّة ومقدراتها القوميّة، وانتخاب من يمثّلها لاستلام زِمام القيادة وإدارة الحُكم لصالح أمنها واستقرارها، ورخائها وقوتها وتنميتها.
أمّا مصادر الوعي السياسيّ فهي كثيرة، لكنّ أهمها نصوص الوحي التي تمثّل مَرجعًا مهمًا للوعيّ السياسيّ لدى الأمة، لأنّها تحدد معالم الأُمّة الإسلاميّة، وترسم خصائصها وسماتها، وتجلّي أعداءها والمخاطر المترتبة منهم، وأساليبهم في حربها والقضاء عليها، وتقدّم لها خطة للمواجهة ومشروعًا استباقيًّا للمعالجة. كما أنّها تضمّنت الوسائل السياسيّة المباحة في التعامل مع الآخر في حال الضعف والقوة، وحال السلم والحرب، كما أنّها تحذّر الأمة من صور الانحراف التي تقع فيها التجمعات فتصيبها بالوَهن والعجز، وتجرّ عليها أسباب الفشل والهزيمة داخليًّا قبل أنْ يتمكن الأعداء منها.
وبالنسبة للمهارات اللازمة لصنع الوعي السياسيّ، فتعتمد بشكل أساس على قدرة الاتصال بالجماهير وإقناعهم، وهذا يتطلّب مهارات متنوعة منها:
المهارات القياديّة والإداريّة، ومهارات التفكير والتخطيط الاستراتيجيّ، ومهارات الاتصال والإقناع، ومهارات التفاوض وإدارة الخلاف، ومهارات إدارة الأزمات وحلّ المشاكل، ومهارات التحليل والنقد السياسيّ، وهذا يحتاج إلى وُرش وعمل ومعاهد للتدريب والتأهيل.
وحتى يتحقق الوعيّ السياسيّ في الأمّة لابدّ من امتلاك التالي:
- مصادر معلومات تتصف بالدقة والموضوعيّة والشمول.
- خبراء مؤهلون في جانب تحليل المعلومات، وتفسير المواقف وقراءة الأحداث واستشراف المستقبل تستقى منهم الأُمّة معلوماتها.
- قدرٌ كبير من المساحة الفِكريّة والحوار، لاستيعاب الآراء المختلفة وتبادل وجهات النظر.
- قدرة بيانيّة على تقديم خطاب جماهيريٍّ متوازن يحافظ على الثوابت ويراعي المتغيرات ويستوعب الخلاف في الوسائل ويقدّم الحلول.
- قنوات فضائيّة هادفة ومؤثّرة تنشر الوعي السياسيّ وتشكّل الرأي العام.
وعلى المفكّرين والدّعاة لتشكيل الوعي السياسيّ الرشيد، فتح قنوات الاتصال مع النّاس لحثّهم على التفاعل الإيجابي مع الأحداث التي تؤثر على مستقبلهم ومستقبل أمتهم، وإرشادهم إلى الأساليب والوسائل الصحيحة والمجدية لعكس إرادتهم على تفاعلات الواقع السياسيّ، وحثّهم على المشاركة والمساهمة في الأنشطة التي تساعدهم على التأثير الإيجابي في المجتمع(5).
المبحث الثالث: الوعي بمزالق الديمقراطيّة ومخاطرها:
ينبغي الإشارة ها هنا إلى أنّ الديمقراطية لم تجد في تاريخها كلّه رواجًا مثلما وجدت في عصرنا هذا.
لقد كان مُعظم المفكرين الغربيّين منذ عهد اليونان كثيري النقد لها بلْ ورفضوها، حتى إنّ أحد الفلاسفة البريطانيين المعاصرين وهو: Ross Harrison في كتابه: (الديمقراطية) يقول: "إذا حكمنا على الديمقراطية حُكمًا ديمقراطيًّا بعدد من معها وعدد من ضدها من المفكرين لكانت هي الخاسرة"(6).
أمّا في عالمنا الإسلاميّ فإنّ الدعاية الواسعة لها فتنت كثيرًا من النّاس وأعمتهم عن عيوبها، بلْ إنّ المفتونين بها المروّجين لها صاروا يصورونها كالبلسم الشافي لحلّ مشكلات المجتمع السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة.
ومن أعظم مغالطات الديمقراطية: زعمها أنّ الذي يحكم هو الشعب، وهو صاحب السيادة، بينما أثبتت تجارب الديمقراطيّة في الواقع أنّ الذي يحكم ويشرّع هي النُّخب، ولذلك فإنّ بعض الليبراليين في الغرب يؤكدون أنّ الليبراليّة عندهم هي الأساس، وأنّه إذا حدث تعارض بينها وبين الديمقراطيّة، فينبغي التضحية بهذه لا بتلك، فتبقى الديمقراطيّة غطاء قانوني لتمرير أفكار معيّنة، ثمّ إنّ اللعبة الديمقراطيّة يتحكّم في خيوطها من يملك: السلطة والمال والإعلام.
ونجد بعض الإسلاميين يبررون المشاركة في اللعبة الديمقراطيّة بسبب مجموعة من الآليات والإجراءات التي في نظرهم تخدم الإسلام ومنها: حريّة الدعوة إلى الأفكار وتكوين الآراء، وحريّة تكوين الأحزاب، وحقّ المعارضة للسلطة القائمة، وحقّ الاقتراع العام، وتنظيم الانتخابات للوصول إلى الحُكم، وتداول السلطة بين أفراد الشعب، واعتماد مبدأ الأغلبية في اتخاذ القرارات وسنّ القوانين، ولكنّ هذه الآليات والإجراءات منها ما هو مخالف صراحة لنصوص الوحي، مجافي لروح الشريعة.
ولنناقش على سبيل المثال ثلاث آليات من آليات الديمقراطية وهي: حق الاقتراع العام، والتعدديّة وتداول السلطة، وحقّ الأغلبيّة.
1- حق الاقتراع العام:
حق الاقتراع العام هو: حقّ كلّ مواطن ذكرًا كان أو أنثى، عالمـًـا كان أو جاهلًا، تقيًّا برًّا كان أو فاجرًا شقيًّا، في أنْ يكون له صوت انتخابيّ متساوٍ مع أصوات الأفراد الآخرين تمامًا بتمام.
إنّ هذه الآلية إنّما بُنيت على أساس أنّ لكلّ فرد أو مواطن الحقّ في الاقتراع العام بغض النّظر عن التفاوت بين الأفراد من حيث العلم أو الجهل، ومن حيث الصلاح أو الفساد، ومن حيث الذكورة أو الأنوثة، ومن حيث الحِكمة أو السَّفه، وإلّا فما الحجّة في التسوية في الصوت الانتخابيّ بين المتقين والفجّار، وبين العلماء والجهلاء، وبين الذكور والإناث، وبين الحُكماء والسُّفهاء!! ولو قامت جماعة من المسلمين أو حزب إسلاميّ اليوم يرفض المساواة بين العُلماء والجهلاء وبين الأتقياء والفجار، لقيل لهم أنتم لستم ديمقراطيين(7).
وحقّ الاقتراع العامّ هذا يؤدي إلى التخبط الشديد والتناقض بين الآراء والأفكار، لأنّه يتيح لكلّ فرد تحت اسم المواطنة أنْ يقتنع بما يشاء من أفكار ويعبّر عمّا يراه بدون ضوابط أو حدود شرعيّة، لأنّه حر، ولا أحد يستطيع أنْ يقول له: إنّ ما تراه خطأ أو منكر، على أنّ الذي ينبغي أنْ يمثّل الأمّة حقًا في المجالس النيابيّة هم العلماء والخبراء، لأنّ هذان الصنفان من النّاس هما اللذان يمتلكان تحقيق مصالح الأمة، لأنّ العلماء لهم فِقه بأحكام وضوابط الشريعة، والخبراء لهم خبرة في تشخيص الواقع والتعامل معه بحرفيّة ودِقّة.
2- السّلطة التعدديّة وتداول السّلطة:
من الآليات المعتمدة في الفِكر الديمقراطي: التعدديّة: وهي في حقيقتها إباحة لجميع المعتقدات والأفكار والتصورات في المجتمع من إسلاميّة وليبراليّة ويساريّة، وبأحقيّة كلّ فرد أو جماعة في تكوين الأحزاب على أساس الآراء والمعتقدات الخاصّة، ولو كانت مجافية للإسلام، وهو ما يتعارض تعارضًا واضحًا مع المقررات الإسلاميّة، إذ من الثابت أنّ من ارتدّ عن الدّين فعليه أنْ يتوب أو يواجه الحدّ الشرعيّ، لا أنْ يسمح له بتشكيل حزب يعادي الإسلام في مبادئه وقيمه ومقاصده.
وهناك إشكاليّة خطيرة تتمثّل في أنّ بلاد المسلمين اليوم تتجاذبها تيارات إسلاميّة وعَلمانيّة، وآلية تداول السّلطة تسمح للإسلاميّين والعَلمانيّين على السّواء بالوصول إلى سدة الحُكم، فمَا أبرمه الإسلاميّون من أمر، وما سنّوه من قوانين يأتي بعدهم العَلمانيون فيلغوه ويضعوا بدله ما هو مُناقض لأحكام الشريعة، ومخالف للمعلوم من الدّين بالضرورة، وهذا يؤدي إلى ضياع الحقّ وينشئ صِراعًا كبيرًا بين فئات الأُمّة ويفضي إلى الاستقطاب الحاد والمواجهة بين مكوّنات الأمة.
3- حقّ الأغلبيّة:
عند اختلاف الرؤى في النظام الديمقراطيّ يُنظر إلى الأغلبيّة على أنّها ممثّلة للإرادة الشعبيّة العامّة، وهذا يعطيها صِفة الصّواب، بينما يلتصق برأي الأقليّة صِفة الخطأ، ولكنْ مِن حقّ الأقليّة أنْ تحاول ضَم من تستطيع إلى صفوفها، والقبول بأطروحاتها لتحقيق الأغلبيّة لتلك الآراء، حتى تتحوّل من صَف الرأي الخاطئ إلى صف الرأي الصواب.
وهكذا يمرّ الصواب والخطأ بدورات متتالية متعاقبة، فما يكون اليوم صوابًا يصبح بعد حين خطأ، لا لشيء سوى أنّ القائلين به تمكّنوا من استقطاب شريحة كبيرة من النّاس للموافقة عليه! وهذه الآلية توطّن الفساد، وتعطيه الصّبغة الشرعيّة عبر التصويت، ويتمّ تغيير القوانين، ويصبح هذا التغيير مشروعًا لصدوره عن الأغلبيّة، حتى وإنْ كان مجانبًا للحقّ(8).
وهناك وجهٌ آخر لمشكلة الأغلبيّة في المجتمعات الإسلاميّة هو: توقّف إقرار أحكام الشريعة وتطبيقها على موافقة الأغلبيّة في المجلس النيابيّ.
ومثال ذلك: تحريم الخمر ومنع شربه، وهو حكم قطعيٌّ ضروري في الشريعة الإسلاميّة، فيتوسّل الدعاة والعلماء الطيبون، وأعضاء الأحزاب الإسلاميّة إلى السلطة الحاكمة أنْ تقرّه لكي يصبح تشريعًا رسميًّا مُلزمًا، فإنْ تكرّمت السّلطة وقبلت الطلب، عَرضته على المجلس التشريعيّ الذي أُعطي بحكم الدستور حقّ التشريع المطلق ليبدي رأيه فيه، ثم في المجلس تدور معركة الأصوات بين المؤيدين الإسلاميّين والمعارضين العَلمانيّين الذين يتعرضون بكلّ ثقة وبكلّ جُرأة، لأنّهم يمارسون حقّهم الديمقراطيّ، وعملهم الطبيعي باسم الحريّة والقانون، وفي أحسن الحالات يحصل القرار على الأغلبية. وهَاهُنا فقط يصبح حُكمًا مُلزمًا، ويُدرج ضِمن مواد التشريع الوضعيّة على أنّه فَقرة من فقراته، ومع ذلك يظلّ حقّ السلطة التشريعيّة الثابت في إلغاء هذه المادة متى شاءت مَكفولًا ومحفوظًا بحُكم الدستور، ويصبح -للأسف- التلاعب بأحكام الشريعة متروكًا لأهواء المشرّعين من البشر(9).
ولأجل ذلك: فإنّ قبول الحلّ الديمقراطيّ يقضي على الحلّ الإسلاميّ، لما في هذه الآليات المذكورة من خَلل وعَيب يجعلها تصطدم بمقررات ومبادئ الإسلام وبأحكام شريعته من جهة، ومن جهة ثانية فإنّ الإسلاميين يشاركون في اللعبة الديمقراطية وهم في حالة استضعاف وضُعف، لا يملكون القوّة والسّلطة اللازمة لفرض الحلّ الإسلاميّ والآليات المعتبرة شرعًا في المجلس النيابيّ، وغيره من فضاءات الدولة لإنجاز المشروع الإسلاميّ.
ولابدّ من الإشارة هاهنا إلى أنّ بعد الثورات العربية، فإنّ العديد من التيارات الإسلاميّة التي أوصلتها صناديق الاقتراع الديمقراطيّ إلى الحُكم لم تحَسم خيارها بعد بين النهج الإسلاميّ والنهج العَلمانيّ.
ففي أولى محطات الثورات العربيّة في تونس، تواتر عن رموز النهضة التصريحات المحابية للعَلمانيين والمجافية للإسلام، وكان أكثرها تأثرًا باللوثة الديمقراطيّة تزكية ثم انتخاب ثم تنصيب رئيس يساري تطبيقًا للتعدديّة، ثم تناثرت تصريحات سيئة على ألسنة رموز إسلاميّة تُصرّح بأنّ الحزب الحاكم الإسلاميّ لن يطبّق الشريعة، بلْ لن يسعى للنص في الدستور على مصدريتها في التقنين، وصَدرت التصريحات باستمرار التوجه نحو الإبقاء على المظاهر غير الإسلاميّة كالخمّارات والبارات وشواطئ العُريّ والسياحة ومواخير الفنون.
وفي مصر تحوّل الإخوان المسلمون وهم متساهلون في قضايا العقيدة إلى جوقة للعزف على أنغام الديمقراطيّة التي سَمحت لهم في البداية بالصعود السريع بأقل التكاليف، فظنّوا أنّ الديمقراطيّة هي الطريق لإعادة أمجاد الإسلام، فجاملوها وأهلها ولم يعودوا يجرؤن على مُجرد نقد الديمقراطيّة التي يعرفون مناقضة مبادئها المستوردة للمنهجيّة الإسلاميّة الأصيلة، ونسبة هؤلاء أنّ طريق النزول بلْ السقوط من فوق السلم الديمقراطيّ أسرع وأقصر من طريق الصعود، وهذا ما بدأ يحصل شيئًا فشيئًا كما يرى الجميع.
وفي مُلتقى النهضة الشبابي الثالث المنعقد في الكويت تحدّث أحد الأعضاء البارزين في حِزب العدالة والتنمية المغربيّ عن تجربة الحركات الإسلاميّة في المجالات السياسيّة، فقال: "بأنّ النّظام الديمقراطيّ أكثر منطقيّة من النظام الإسلاميّ البسيط غير القابل للتطبيق". وقال: "بأنّ الحركات الإسلاميّة تحتاج لإعادة نظرها بموقف التردد والغموض الذي يحيط بها وبمنهج نظرها للفقه السياسي، ولتحرير الالتباس الذي يحيط بفهمها للعلاقة بين الدين والسياسة، ولا يكون ذلك إلّا أنْ تقبل بالتعدديّة السياسيّة، التي تقبل بدساتير تقرّ بحكمٍ غير إسلاميّ والإسلاميّ بصورة تداوليّة".
ثم دعا لفصل الدّين عن السياسة بقوله: "التمييز بين الهيئة الدعويّة والحزب السياسي وبين الفُتيا والسياسة، بحيث نقبل أنْ يكون دور الحركات الإسلاميّة دعوة النّاس للدين وفتياهم بالقضايا العباديّة، ولا يجب أنْ نخلط ذلك العمل بالسياسة، ونترك ذلك لأحزاب سياسيّة دنيويّة يكون فيها المسلم وغير المسلم من مواطني البلد، إذْ ليس من المقبول وجود أحزاب دينيّة سياسيّة".
ثم دعا صراحة إلى عدم الحُكم بالشريعة، وهذا يتّفق مع قرار حزب النهضة التونسي الأخير، ويمثّل مع غيره نقضًا لأصول الحُكم الإسلاميّ أو الدولة الإسلاميّة، حيث قال: "بالتفريق بين آيات التشريع الدينيّ والتدبير السياسي، والشريعة مرجع للقانون ولا يلزم أنْ نَحكم بالشريعة، ودورنا أنْ نصنع انسجامًا بين القانون المدني بالوسائل الديمقراطية، ويجب أنْ نميّز في الآيات القرآنيّة بين ما هو ديني وتلك المتعلّقة بالتدبير السياسي أو القانوني المدني المرتبط بزمانها".
كَمَا جعل المواطنة هي أساس الارتباط بين النّاس ومعقد الولاء بينهم وليس العقيدة الإسلامية، حيث قال: "الولاء الدينيّ يجمع أمة الدّين، لكنّ الولاء السياسي يجمع أُمّة الدولة السياسيّة التي تجمع أفرادها بالمواطنة أيًا كانت أديانهم أو مذاهبهم، ولهم بذلك حقوق ومشاركات متساوية".
وفي الختام قال: "ليس من مقصد الشريعة أنْ يحكم النّاس بما لا يريدونه، فلابدّ أنْ يكون هناك رضا وانسجام من خلال قوانين مدنيّة تقرّ بالوسائل الديمقراطيّة والمعايير الدستوريّة، حتى نضمن لها قبول الناس"(10).
يا سبحان الله!
ومتى كانت أهواء النّاس معيارًا لقبول الحقّ أو رفضه؟! أليس يقول الله عز وجل: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ۗ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا}[الأحزاب:36].فماذا أبقى للإسلام وشريعته هؤلاء النهضويون الجُدد؟
خاتمة:
في الخِتام: أدعو إلى نشر الوعيّ الإسلاميّ الصحيح بين أفراد الأُمّة، لنبيّن لهم مخاطر ومساوئ الديمقراطيّة التي لا يمكن من خلال ممارستها بناء دولةٍ إسلاميّةٍ حقيقيّة تقوم على العقيدة والشريعة، وبناء نهضة إسلاميّة نعتزّ بها، فالبديل إذًا هو: السعي بكلّ الوسائل المتاحة لإقامة حُكم الإسلام المبنيّ على الشريعة، لأنّ الشريعة الغرّاء تتميّز بملاءمتها للفِطرة الإنسانيّة، وعموم أحكامها لسائر النّاس والأزمان، ومساواتها بين جميع الناس، وشمولها لكلّ مجالات الحياة، وواقعيّتها وعدلها ومبناها على مصالح العباد، وضمانها لحقوق الإنسان الأساسيّة، إذِ المقصد العام من نزول الشريعة هو: حفظ الإنسان في دينه ونفسه وعقله وماله ونسله.
إنّ كثيرًا من المسلمين في هذا العصر يجهلون ماهيّة الشريعة وخصائصها ومقاصدها، بسبب الدعاية المضادّة والحديث الكثيف عن محاسن الديمقراطيّة، لذلك يجب أنْ نقنع الناس عبر جميع وسائل الاتصال المتاحة لنا بأنّ نظام الشريعة هو طريقٌ إلى السعادة في الدنيا بما تجلبه لهم من أمن واستقرار ورفاهية، ومناط النجاة والفلاح في الآخرة، لأنّ في تطبيقها نيلُ رضا رب العالمين، فهي تلبّي حقوق الفرد والمجتمع، وتقيم بناء الإنسان والدّولة بقيمها الدّافعة المتميّزة، وإنّها لأكبر ضمان حقيقي لحفظ حقوق النّاس وحريّاتهم وقيمهم، ومنع أيّ تعدّ على أموالهم وعقولهم وأعراضهم ودمائهم، كَمَا أنّها ضمان لإقامة النّظام الشوريّ العادل القائم على الرّحمة والإيمان، المؤدّي إلى بناء المعرفة ثمّ القوة، وتحقيق النهضة المنشودة.
وينبغي أنْ نقول للناس: أيها المسلمون إنْ كُنتم مؤمنين فلا تتخذوا لأنفسكم دساتير مستمدّة من غير دين الله الذي ارتضاه لعباده، لقوله تقدست أسماؤه: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}[النساء:65].
1 - محمد عبد الهادي المصري: أهل السنّة والجماعة: الانطلاقة الكبرى، ص (252) بتصرف.
2 - جودة سعيد: حتى يغيّروا ما بأنفسهم، ص (62-63).
3 - عبد العزيز الجليل: متى نصر الله؟ ص (98،99،103،152).
4 – انظر: كتاب المؤلف: السنن الاجتماعيّة في القرآن الكريم وعملها في الأمم والدول، (1/36) وما بعدها، ص (211) وما بعدها.
5 - للتوسّع في هذا الموضوع انظر: أنور قاسم الخضري: الوعي السياسي بواقع الأمة، مجلة البيان، عدد (261)، ص (74-78).
6 -Ross Harrison: Democraty, p3.
7 - محمد بن شاكر الشريف: أسلمة الديمقراطية: حقيقة أم وهم، مجلة البيان، عدد (226)، ص (16).
8 - المرجع السابق نفسه، ص (19).
9 - سفر الحوالي: ظاهرة الإرجاء في الفِكر الإسلاميّ، (2/583-584).
10 - أحمد العمير: النهضويون الجدد: قراءة في مُلتقى النهضة الشبابي، مجلة المنار الجديد، عدد (58-59)، ربيع - صيف 1433هـ/يونيو 2012م.
إضافة تعليق جديد