معوقات وموانع الوسطية
لا يخفى على كلّ متتبّع للأحداث التاريخيّة والمعاصرة، والمطّلع على النصوص الشرعيّة، وأقوال العلماء، أنّه ما من مجتمع تغيب عنه الوسطيّة والاعتدال والهدي النبويّ إلّا كان ذلك بسبب انتشار البِدع والضلالات والأهواء، حيث يصبح المتسنن غريبًا في مجتمعه، بعد أنْ أَلِف ذلك المجتمع تلكم الأهواء والانحرافات، فأضحى لا يعرف معروفًا ولا يُنكر منكرًا إلّا ما أُشرب من هواه، وهذه الحقيقة سجلها أقوالًا كثير من أسلافنا رحمهم اللهانظر: مشكلة الغلوّ في الدين في العصر الحاضر، عبدالرحمن بن معلا اللويحق، طبعة خاصة بالمؤلف، ط1، 1419هـ/1998م، (2/700).:
• قال حسان بن عطية المحاربي: "ما ابتدع قوم بدعة في دينهم، إلّا نزع الله من سنتهم مثلها، ثم لا يعيدها عليهم إلى يوم القيامة".
• وقال ابن سيرين: "ما أحدث رجل بِدعة فراجع سنة".
• وعن أم الدرداء قالت: دخل أبو الدرداء وهو غضبان، فقلت: ما أغضبك؟ فقال: "والله ما أعرف من أمة محمد -صلّى الله عليه وسلّم- شيئًا إلّا أنّهم يصلون جميعًا".
• وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: "لو أنّ رجلًا أدرك السلف الأول ثم بعث اليوم ما عرف من الإسلام شيئًا، قال: ووضع يده على خده ثم قال: إلّا هذه الصلاة، ثم قال: أما والله على ذلك لمن عاش في هذه النكراء ولم يدرك هذا السلف الصالح فرأى مبتدعًا يدعو إلى بدعته، ورأى صاحب دنيا يدعو إلى دنياه فعصمه الله عن ذلك، وجعل قلبه يحنّ إلى ذلك السلف الصالح يسأل عن سبيلهم، ويقتصّ آثارهم ويتبع سبيلهم ليعوّض أجرًا عظيمًا فكذلك فكونوا إنْ شاء الله".
وكلام هؤلاء الأخيار من السلف حول زمن لم يشهد استحكام غُربة السنّة وأهلها، فكيف لو رأوا أزمنة تحوّلت فيها البِدعة إلى سنّة والسنّة إلى بِدعة، والله المستعانالمرجع السابق، (2/701)..
وبناءً على ذلك فإنّ الباحث سيحاول الوقوف مع أبرز المعوّقات والموانع التي تقف وراء غياب الوسطيّة أو إضعافها في المجتمع الإسلاميّ المعاصر.
المطلب الأول: الجهل:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "والجهل والظلم هما أصل كلّ شر، كما قال سبحانه: {وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا}[الأحزاب:72]"اقتضاء الصراط المستقيم، شيخ الإسلام ابن تيمية، تحقيق د. ناصر عبدالكريم العقل، طبعة خاصة بالمحقق، ط1، 1404هـ، (1/128).، وقد استقصى الدكتور عبد الرحمن اللويحق مظاهر الجهل في الأمّة وهي متعددة، أبرزها: الجهل بالكتاب والسنّة، والجهل بمنهج السلف، والجهل بمقاصد الشريعةمشكلة الغلو في الدين، مرجع سابق، (1/69).، والذي يقف على النّصوص الشرعيّة يجد مساحة واسعة فيها تحدثت عن قيمة العلم ومكانة العلماء، ويقابلها ذمّ الجهل وأهله، وهي أشهر من أنْ تُساق في هذا الموضع، ولكنْ يكفيك أنْ نسوق حديثًا للنبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- يُظهر كيفية انتشار الجهل بين النّاس وما يحدثه من آثار وخيمة في المجتمع المسلم، ومنها بطبيعة الحال غياب الوسطيّة موضوع بحثنا، قال عليه الصلاة والسلام من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه: (إنّ الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالمـًا، اتخذ الناس رؤوسًا جهالًا، فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلّوا وأضلوا)أخرجه البخاري، كتاب العلم، باب كيف يقبض العلم، رقم (100).. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في ذلك: "قد يشكل على كثير من الناس نصوص لا يفهمونها فتكون مشكلة بالنسبة إليهم لعجز فهمهم عن معانيها، ولا يجوز أنْ يكون في القرآن ما يخالف صريح العقل والحس إلا وفي القرآن بيان معناه، فإن القرآن جعله الله شفاء لما في الصدور وبيانًا للناس، فلا يجوز أن يكون بخلاف ذلك، لكن قد تخفى آثار الرسالة في بعض الأمكنة والأزمنة حتى لا يعرفون ما جاء به الرسول -صلّى الله عليه وسلّم-؛ إمّا أن لا يعرفوا اللفظ، وإمّا أن يعرفوا اللفظ ولا يعرفوا معناه فحينئذ يصيرون في جاهلية بسبب عدم نور النبوّة"مجموع الفتاوى، مرجع سابق، (17/307).. وقال الشاطبي مبينًا سبب الانحراف والضلال والتفرّق: "وهو الجهل بمقاصد الشريعة والتخرص على معانيها بالظنّ من غير تثبت أو الأخذ فيها بالنظر الأول ولا يكون ذلك من راسخ في العلم. ألا ترى أنّ الخوارج كيف خرجوا من الدين كما يخرج السهم من الصيد المرمى؟ لأنّ رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- وصفهم بأنّهم يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يعني -والله أعلم- أنّهم لا يتفقهون به حتى يصل إلى قلوبهم؛ لأنّ الفهم راجع إلى القلب، فإنْ لم يصل إلى القلب لم يحصل فيه فهم على حال، وإنّما يقف عند محل الأصوات والحروف فقط وهو الذي يشترك فيه من يفهم ومن لا يفهم، وما تقدم أيضًا من قوله عليه السلام: (إنّ الله لا يقبض العلم انتزاعاً..)"الاعتصام، أبو إسحاق الشاطبي، المنامة، مكتبة التوحيد، ط1، 1421هـ/2000م، (3/145)..
وصورة الانحراف عن الوسطيّة في هذا الباب يقول عنها شيخ الإسلام ابن تيمية: "كثير من أهل البدع مثل: الخوارج، والروافض، والقدريّة، والجهميّة، والممثّلة يعتقدون اعتقادًا هو ضلال يرونه هو الحقّ، ويرون كفر من خالفهم في ذلك، فيصير فيهم شَوْب قوي من أهل الكتاب في كفرهم بالحقّ وظلمهم للخلق، ولعلّ أكثر هؤلاء المكفّرين يكفر بالمقالة التي لا تفهم حقيقتها، ولا تعرف حجتها. وبإزاء هؤلاء المكفرين بالباطل أقوام لا يعرفون اعتقاد أهل السنة والجماعة، كما يجب، أو يعرفون بعضه ويجهلون بعضه، وما عرفوه منه قد لا يبيّنونه للنّاس بلْ يكتمونه، ولا ينهون عن البدع المخالفة للكتاب والسنة، ولا يذمّون أهل البدع ويعاقبونهم، بلْ لعلّهم يذمّون الكلام في السنة وأصول الدين ذمًا مطلقًا، لا يفرّقون فيه بين ما دلّ عليه الكتاب والسنة والإجماع، وما يقوله أهل البدعة والفرقة، أو يقرّون الجميع على مذاهبهم المختلفة، كما يقرّ العلماء في مواضع الاجتهاد التي يسوغ فيها النزاع، وهذه الطريقة قد تغلب على كثير من المرجئة، وبعض المتفقهة، والمتصوفة، والمتفلسفة، كما تغلب الأولى على كثير من أهل الأهواء والكلام، وكلا هاتين الطريقتين منحرفة خارجة عن الكتاب والسنة. وإنّما الواجب بيان ما بعث الله به رسله وأنزل به كتبه، وتبليغ ما جاءت به الرسل عن الله، والوفاء بميثاق الله الذي أخذه على العلماء، فيجب أنْ يعلم ما جاءت به الرسل، ويؤمن به، ويبلّغه، ويدعو إليه، ويجاهد عليه، ويزن جميع ما خاض الناس فيه من أقوال وأعمال في الأصول والفروع الباطنة والظاهرة بكتاب الله وسنة رسوله، غير متبعين لهوى: من عادة أو مذهب أو طريقة أو رئاسة أو سلف، ولا متبعين لظنّ: من حديث ضعيف أو قياس فاسد -سواء كان قياس شمول أو قياس تمثيل- أو تقليد لمن لا يجب إتباع قوله وعمله، فإنّ الله ذمّ في كتابه الذين يتبعون الظنّ وما تهوى الأنفس ويتركون إتباع ما جاءهم من ربهم من الهدى"مجموع الفتاوى، مرجع سابق، (12/466-468)..
المطلب الثاني: الابتداع:
من الأصول المقررة في كتاب الله تعالى أنّ الله أرسل الرّسل وأنزل الكتب لتقرير التوحيد ونبذ الشرك وتصحيح مفاهيم العقيدة، قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}[النحل:36]، وكلّ دعوة لا ترتكّز في غاياتها وأهدافها ومناهجها على هذين الأصلين فهي مخالفة لنهج المرسلين وناقصة، ولا تؤتي ثمارها المرجوة فالقاعدة الأولى التي دلت عليها الآية: تعني تحقيق التوحيد والعقيدة الصحيحة وطاعة الله تعالى واتّباع شرعه، والقاعدة الثانية: تعني تجنب الأهواء والافتراق والبدع وما تؤول إليه من الشرك، والكفر، والظلم، والفسق، والإعراض عن دين الله. ولذا تضمّنت الدّعوة إلى الله غايتين لا تصحّ إلّا بهما، وهما ركناها: الأول: تقرير الدين والعقيدة والشريعة، وتعلمها، وتعليمها، ونشرها، والعمل بها. والثاني: حماية الدين والعقيدة والشريعة والدفاع عنها، وبيان ما يخالفها، وكلّ ذلك كان منهجًا قرآنيًا، وهديًا نبويًا سار عليه الأصحاب والأتباعدراسات في الأهواء والفرق والبدع وموقف السلف منها، د. ناصر عبدالكريم العقل، الرياض، دار إشبيلية، ط1، 1418 هـ/1997م، ص (5)..
وبناء على ذلك فإنّ من أصول الإسلام الكبرى أنّ كلّ بدعة ضلالة، وهذا الأصل هو مقتضى قوله عليه الصلاة والسلام كما روته عائشة رضي الله عنها: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)أخرجه البخاري، كتاب الصلح، باب إذا اصطلحوا على صلح فالصلح مردود، رقم (2550).، وفي رواية مسلم: (من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد)أخرجه مسلم، كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور، رقم (1718).، وحديث العرباض بن سارية رضي الله عنه: "صلى بِنَا رسول اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم ذَاتَ يَوْمٍ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا فَوَعَظَنَا مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ذَرَفَتْ منها الْعُيُونُ وَوَجِلَتْ منها الْقُلُوبُ فقال قَائِلٌ يارَسُولَ اللَّهِ كَأَنَّ هذه مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا، فقال: (أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ عَبْدًا حَبَشِيًّا فإنّه من يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ تَمَسَّكُوا بها وَعَضُّوا عليها بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فإنّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ)أخرجه أبوداود في باب لزوم السنة رقم (4607)، وروى نحوه الترمذي وابن ماجه والدارمي وغيرهم بإسناد صحيح..
قال شيخ الإسلام ابن تيمية تعليقًا على هذه الأحاديث: "وهذه قاعدة قد دلّت عليها السنة والإجماع، مع ما في كتاب الله من الدلالة عليها أيضًا، قال الله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ}[الشورى:21]، فمن ندب إلى شيء يتقرب به إلى الله، أو أوجبه بقوله أو بفعله، من غير أنْ يشرّعه الله فقد شرّع من الدّين ما لم يأذن به الله. ومن اتبعه في ذلك فقد اتخذ شريكًا لله شرّع من الدين ما لم يأذن به الله ... وهذه المواسم المحدثة إنّما نهى عنها لما حدث فيها من الدين الذي يتقرب به المتقربون"اقتضاء الصراط المستقيم، مرجع سابق، (2/579).، وانتهى رحمه الله إلى تقرير مقتضى الحديث أنّ البدعة محرّمة على عمومها بدلالة العموم الذي ورد في سياقه دون أنْ يكون هناك ما يخصصه، وإذا أردنا أنْ نقرر ذلك وفقًا لمسلك المناطقة فإنّ الحديث جاء في إطار كليّة موجبة، والمعروف أنّ الكليّة الموجبة موضوعها مستغرق ومحمولها غير مستغرق، بمعنى أنّ أفراد الموضوع داخلون كلّهم في حكم المحمول، وبهذا يتقرر أنّ البِدع كلّها ضلال، وإلّا فإنّ الهدي النبويّ كاف في بيان هذه القاعدة العظيمة، وبهذا يتبيّن لنا أنّ صورة الانحراف عن الوسطيّة في هذا الباب ظاهرة في كونها على خلاف الهدي النبويّ في العلم والعمل، وكنّا نبهنا على ذلك فيما مضى من النقل عن شيخ الإسلام ابن تيمية في تمييزه بين الطريق الشرعيّ والطريقين المبتدعين، طريق أهل الكلام والرأي البدعي، وطريق أهل الرياضة والتصوف والعبادة البدعيّة.
المطلب الثالث: الغلو:
للتدين الحقّ مقياسان: مقياس الاستجابة لمطالب المنهج ومقتضياته، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}[الأنفال:24]، ومقياس الطاقة والوسع، قال تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}[البقرة:286]، والمقياسان مترابطان متكاملان، فالاستجابة للمنهج مشروطة بالقدرة في المجال العمليّ، أما الغلو فهو منزع مختلف، منزع شاذ لذينك المقياسين كليهما، مستدبر لهما جميعًا، إذ لا يبرح الغالي أنْ يند -في فهم الدين- عن القواعد العلميّة المنهجيّة الهادية لطريقة التفكير، ولا يفتأ -عند الأخذ العمليّ للدّين- يحمل نفسه ما لا يطيق، فيسلك -من ثم- سبيلًا غير سبيل المؤمنين، وإنْ حسنت نيته؛ فإنّ حسن النيّة لا يغني عن سداد المنهج، ولا يصحّ أنْ يكون بديلًا له.
إنّ قوام الإسلام وعماده حقائق ثلاث:
الأولى: حقيقة العلو والعصمة في مصدر التلقّي كتاب الله وسنّة رسوله -صلّى الله عليه وسلّم-، ومن المقطوع به أنّه لم يرد في هذين المصدرين دعوة إلى الغلو، بلْ فيهما ما هو نقيض الغلو، أي: الدّعوة إلى التوسط، والنهي عن الغلو، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}[البقرة:143].
الثانية: حقيقة وضوح المنهج، قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}[يوسف:108].
والثالثة: حقيقة الاستقامة على المنهج، قال تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا}[هود:112]، ومن المنهج أنْ نعلم: أنّ الغلو شقوة وعنت، وأنّ الإسلام ما جاء لكي يشقي النّاس، ولا يضيّق عليهم بالعنت والشدّة، بلْ جاء ليحقق سعادتهم والتيسير عليهممن مقدمة الدكتور زين العابدين الركابي على كتاب الغلو في الدين في حياة المسلمين المعاصرة لعبد الرحمن بن معلا اللويحق، بيروت، مؤسسة الرسالة، ط 5، 1423 هـ/2002م، ص: أ.. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في سياق ذمّ الغلو: "وأما في حديث أنس -رضي الله عنه- من قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (لا تشددوا على أنفسكم فيشدد عليكم، فإن قومًا شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات، رهبانيّة ابتدعوها ما كتبناها عليهم) ففيه نهي النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- عن التشدّد في الدّين بالزيادة عن المشروع. والتشديد: تارة يكون باتخاذ ما ليس بواجب ولا مستحب بمنزلة الواجب والمستحب من العبادات، وتارة باتخاذ ما ليس بمحرم ولا مكروه منزلة المحرم والمكروه في الطيّبات، وعلل ذلك بأنّ الذين شددوا على أنفسهم من النصارى شدد الله عليهم لذلك، حتى آل الأمر إلى ما هم عليه من الرهبانيّة المبتدعة. وفي هذا تنبيه على كراهة النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- مثل ما عليه النّصارى من الرهبانيّة المبتدعة، وإنْ كان كثير من عبادنا قد وقعوا في بعض ذلك متأولين معذورين، أو غير متأولين. وفيه أيضًا تنبيه على أنّ التشدد على النفس ابتداء يكون سببًا لتشديد آخر يفعله الله، إمّا بالشرع، وإمّا بالقدر: فأما بالشرع: فمثل ما كان النبي -صلّى الله عليه وسلّم- يخافه في زمانه من زيادة إيجاب أو تحريم: كنحو ما خافه لما اجتمعوا لصلاة التراويح معه، ولما كانوا يسألون عن أشياء لم تحرم، ومثل أنّ من نذر شيئًا من الطاعات وجب عليه فعله وهو منهيّ عن نفس عقد النّذر، وكذلك الكفّارات الواجبة بأسباب. وأمّا بالقدر: فكثيرًا ما قد رأينا وسمعنا من كان يتنطع في أشياء فيبتلى أيضًا بأسباب تشدد الأمور عليه في الإيجاب والتحريم، ومثل كثير من الموسوسين في الطهارة: إذا زادوا على المشروع ابتلوا بأسباب توجب حقيقة عليهم أشياء مشقة مضرة. وهذا المعنى الذي دلّ عليه الحديث موافق لما قدمناه في قوله تعالى: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ}[الأعراف:157]، من أنّ ذلك يقتضي كراهة موافقتهم في الآصار والأغلال. والآصار ترجع إلى الإيجابات الشديدة، والأغلال هي التحريمات الشديدة، فإنّ الإصر هو الثقل والشدّة، وهذا شأن ما وجب، والغلّ يمنع المغلول من الانطلاق، وهذا شأن المحظور. وعلى هذا دلّ قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}[المائدة:87]، وسبب نزولها مشهور"اقتضاء الصراط المستقيم، مرجع سابق، (1/283)..
المطلب الرابع: ادّعاء التيسير:
من المقاصد المرعيّة في الشريعة وقواعدها الكليّة، مقصد وقاعدة التيسير ورفع الحرج، وقد دلّت عليها نصوص كثيرة في الكتاب والسنّة تمثّل أصولًا لليسر في الإسلام، أمّا الكتاب ففي قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}[البقرة:185]، وقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا}[النساء:28]، وقوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}[البقرة:286]، وقوله: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}[الحج:78]،
وأما الأحاديث فكثيرة، منها حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- قال: (إن الدين يسر وليس يشادّ الدين أحد إلّا غلبه، فسددوا وقاربوا)أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب الدين يسر، رقم (39).، وحديث عائشة رضي الله عنها قالت: (ما خيّر رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا)متفق عليه، أخرجه البخاري، كتاب الحدود، باب إقامة الحدود والانتقام لحرمات الله، رقم (6404)، ومسلم كتاب الفضائل باب مباعدته - صلى الله عليه وسلم - للآثام واختياره من النباح أسهله وانتقامه لله عند انتهاك حرماته، رقم (2327).، فهذه نصوصٌ ظاهرة المعنى جليّة المقصد في تقرير قاعدة التيسير ورفع الحرج في الشرع، قال الشاطبي: "اعلم أنّ الحرج مرفوع عن المكلّف لوجهين: أحدهما: الخوف من الانقطاع من الطريق، وبغض العبادة، وكراهة التكليف، وينتظم تحت هذا المعنى الخوف من إدخال الفساد عليه في جسمه أو عقله أو ماله أو حاله. والثاني: خوف التقصير عند مزاحمة الوظائف المتعلّقة بالعبد المختلفة الأنواع، مثل قيامه على أهله وولده، إلى تكاليف أخر تأتي في الطريق، فربما كان التوّغل في بعض الأعمال شاغلًا عنها، وقاطعًا بالمكلف دونها، وربما أراد الحمل للطرفين على المبالغة في الاستقصاء فانقطع عنهما. فأمّا الأول: فإنّ الله وضع هذه الشريعة المباركة سمحة سهلة، حفظ فيها على الخلق قلوبهم، وحبّبها لهم بذلك، فلو عملوا على خلاف السماح والسهولة، لدخل عليهم فيما كلفوا به ما لا تخلص به أعمالهم، ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ}[الحجرات:7] إلى آخرها. فقد أخبرت الآية أنّ الله حبّب إلينا الإيمان بتيسيره وتسهيله، وزيّنه في قلوبنا بذلك، وبالوعد الصادق بالجزاء عليه... والضرب الثاني: شأنه أنْ لا يدخل عليه ذلك الملل ولا الكسل، لوازع هو أشدّ من المشقّة، أو حاد يسهل به الصعب، أو لما له في العمل من المحبة، ولما حصل له فيه من اللذة، حتى خف عليه ما ثقل على غيره، وصارت تلك المشقة في حقّه غير مشقة، بل يزيده كثرة العمل وكثرة العناء فيه نورًا وراحة، أو يحفظ عن تأثير ذلك المشوش في العمل بالنسبة إليه أو إلى غيره ... وجاء هذا المعنى من احتمال المشقة في الأعمال والصبر عليها دائمًا كثير. ويكفيك من ذلك ما جاء عن الصحابة والتابعين ومن يليهم -رضي الله عنهم-، ممن اشتهر بالعلم وحمل الحديث والاقتداء بعد الاجتهاد: كعمر، وعثمان، وأبي موسى الأشعري، وسعيد بن عامر، وعبد الله بن الزبير، ومن التابعين: كعامر بن عبد قيس، وأويس، ومسروق، وسعيد بن المسيب، والأسود بن يزيد، والربيع بن خثيم، وعروة بن الزبير، وأبي بكر بن عبد الرحمن راهب قريش، وكمنصور بن زاذان، ويزيد بن هارون، وهشيم، وزر بن حبيش، وأبي عبد الرحمن السلمي، ومن سواهم ممن يطول ذكرهم وهم في اتباع السنة والمحافظة عليها ما هم"الموافقات، مرجع سابق، ص (281-285)..
إلّا أنّ هناك من رام التيسير ورفع الحرج من غير بابه، يزعم العناية بمقاصد الشريعة وروح الدين، ويدّعي أنّ الدين جوهر لا شكل، وحقيقة لا صورة، لو واجهتهم بمحكمات النصوص لفوا وداروا، وردوا صحيح الحديث، وهم في حقيقة أمرهم معطلة النصوص الجزئية للقرآن والسنّة، لا يعرفون صحيحًا من ضعيف، تأوّلوا القرآن فأسرفوا، وحرّفوا الكلم عن مواضعه، وتمسّكوا بالمتشابهات، وأعرضوا عن المحكمات، وهؤلاء هم أدعياء التجديد، وهم في الواقع دعاة التغريب والتبديد"دراسة في فقه مقاصد الشريعة بين المقاصد الكليّة والنصوص الجزئيّة، يوسف القرضاوي، القاهرة، دار الشروق، ط1، 1427هـ/2006م، ص (40).. ولو تأمّلنا مناط قولهم وحجته لما خرج عن أمرين: الأول: النظر إلى المقاصد دون النصوص، الثاني: التوسّع في فهم خاصيّة التيسيرمنهج التيسير المعاصر، عبدالله بن إبراهيم الطويل، دار الهدى النبوي، مصر، ط1، 1426هـ/2005م، ص (105)، وقد ذكر جملة من الأصول تؤول في جملتها إلى الأصلين المذكورين.. وهما أصلان يستند عليهما هؤلاء في التأصيل والتقعيد، وقد أثمرا مظاهر متعددة عكسته أقوالهم، وتنظيراتهم، واجتهاداتهم فيما يزعمون، ومنهاالمرجع السابق، ص (107).:
أولًا: اقتصارهم على القطعيات في الاستدلال، ورد الظنّيات وإنْ كانت راجحة.
ثانيًا: اعتماد الفهم المقاصديّ للإسلام بدل الفهم النّصيّ، فالنصوص يجب أنْ تُفهم وتؤول على ضوء المقاصد.
ثالثًا: الدعوة إلى الانسياق مع تطوير الشريعة بما يتلاءم مع تطور الواقع، حتى وإنْ أفضى ذلك إلى تجاوز النصوص القطعية تحقيقًا للمقاصد.
رابعًا: تمسّكهم بمقولة: حيث وجدت المصلحة فثمّ شرع الله.
خامسًا: دعوتهم إلى تغيير بعض القواعد الأصوليّة كي تبدو الشريعة مواكبة للعصر ومسايرة للتطور.
وأبرز الأمثلة التي تتمخّض عن هذه المنهجية المتحلّلة: نفي وجود نظام حكم في الإسلام، والدعوة إلى إطلاق الحريّات العامّة دون ضابط شرعيّ، وتحرير المرأة، وجواز الإمامة العُظمى للمرأة، وإلغاء بعض الحدود بحجّة كونها صالحة لزمان التّشريع دون غيره مما ينفي إطلاقيتها، وإباحة بعض المحرّمات كفوائد البنوك الربويّة، والغناء، والمصافحة، والاختلاط، وزواج المسلمة بالكتابيّ.
والحقّ أنّ هذه المنهجيّة ليست إلّا دعوى إلى التحلّل من أحكام الشريعة باسم المقاصد والتيسير، وتُفضي إلى إبطال الشريعة ونصوصها بحجّة أنّ غالب نصوصها ظنيّة، وجعل العقل حاكمًا على الشرع لكونه قائمًا على أسس قطعيّة، والعجيب أنّهم يستندون في منهجيّتهم العرجاء هذه على كتابات ابن القيم والشاطبيّ بحجّة أنّهم بحثوا المصلحة دون النّظر إليها بمنظار الشريعة وضوابطها، وهي حجّة عرية عن الدليل والبرهان، وقد انبرى كثيرٌ من الباحثين إلى الردّ على أرباب شريعة المقاصد والتحلل من الشريعة، فأتوا على قواعدهم بالدحض والبطلان، ويكفينا اقتباسًا ما قاله الشيخ مشهور حسن سلمان في مقدمة تحقيقه للموافقات؛ كونه يمثّل مستندًا يتكأ عليه هؤلاء في نشر باطلهم وانحرافهم، فيقول: "لابدّ من التنبيه على أنّ كثيرًا من البعيدين عن الجادّة، والمحاربين للدعوة السلفيّة يتعلّقون بكلام للشاطبيّ في كتابه هذا، ويأتون به في معرض التجديد والكلام على ما أصاب المسلمين من ركود وتخلّف وجمود، ويخرجون بنتائج وأحكام عجيبة غريبة، ويمكن تسمية صنيعهم هذا بالتلبيس المقلوب. فها هو مثلًا: محمد عابد الجابري يذهب في مقالة له نشرت في مجلة العربي بعنوان: (رشدية عربية أم لاتينية): إلى أنّ الشاطبيّ في كتابه الموافقات يعدّ عقلانيًا، وها هو راشد الغنوشي يحتجّ بكلام للشاطبيّ في كتابه الحريّات العامّة في الدولة الإسلاميّة في مواطن كثيرة، وكأنّي به يقرر أنّ الشاطبيّ اعتبر المصلحة هي أساس الشرع، وهذا ما يلبّس به حسن حنفي من خلال ذكره لهذا القاعدة ذات البريق الجذاب ..."، ثم قال: "ولنْ أردّ على مثل هذه الأقوال المخالفة للدّين، وما أتيت بها إلّا للدلالة على وجود هذا المنهج الغريب في عصرنا؛ إلّا أنّي ألفت نظر هذا الكاتبيقصد الغنوشي. إلى أنّ اشتراط القطع لثبوت الأحكام الشرعيّة يؤدّي إلى التحلّل من الإسلام، وإنّ قوله "فيما كان لفظه عامًا لا يعني أنّ حكمه عام أيضًا" يؤدي إلى إلغاء كثير من القطعيات، وإلى ردّ الاستدلال بالنصوص القطعيّة الدالّة عليها، وعلى سبيل المثال فإنّه يلغي كلّ العقوبات الإسلاميّة: كقطع السّارق، وجلد الزّاني أو رجمه، وقتل المرتدّ، وجلد شارب الخمر وغيرها، والقاعدة الأصوليّة المعلومة عند الفقهاء بالضرورة تقول: (يبقى العام على عمومه ما لم يرد دليل التخصيص)"من مقدمة مشهور حسن سلمان، الموافقات، الخبر، درا عفان، ط1، 1407هـ/1997م، (1/42-43).، وإذا كان ديدن هؤلاء التيسير والتخفيف على المكلّفين، فلا شكّ أنّ التيسير مقصد من مقاصد الشريعة كما دلّت عليه نصوص الشريعة في غير موضع من مواضعها كتابًا وسنّة، إلّا أنّ الإشكال يكمن في كيفية فهمنا للتيسير، ومدار هذا الفهم نصوص الشريعة ومقاصد الشارع منها وما دلت عليه بظواهرها، ومن الخطأ البيّن أنْ يكون التيسير فيه مجاوزة لهذه النصوص؛ لأنّ الأخذ بالأيسر مع مصادمة النصوص تحكيم للهوى على الأدلة فتكون الأدلة تابعة لا متبوعة، وهو ما يخالف الأصل القرآني: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}[الحجرات:1]، ثم ما وجه حصر التيسير بالتخفيف ورفع التكاليف دون مراعاة مقتضيات النصوص ولوازمها، وكأنّ الشريعة بأوامرها ونواهيها جاءت مقيّدة للمكلّفين بالمشاقّ غير المحتملة، ألا فليعلم دعاة التيسير والتخفيف، بلْ دعاة التحلل -جهلوا أم تجاهلوا- أنّ الشارع لم يقصد في وضعه الشريعة المشقةَ بالنّاس، ولم يقصد كذلك رفع المشاق المعتادة عن النّاس، وإنّما قصد في التشريع ما فيه مصلحة للعباد في الدنيا والآخرة، وهذه قد لا تحصل إلّا بأعمال شاقة -محتملة قطعًا- كالحجّ والجهاد وغيرهما، ذلك أنّ الشارع -كما ذكر ابن تيمية- إنّما حرّم الخبائث لما فيها من المضرة والفساد، وأمرنا بالأعمال الصالحة لما فيها من المنفعة والصلاح لنا، وقد لا تحصل هذه الأعمال إلّا بمشقّة، فلا ينبغي النظر إلى المقاصد والتيسير على أنّها دائرة في إطار التخفيف ورفع التكاليف عن المكلّف، وإنّما المعيار تحقيق مصلحة العباد في العاجل والآجلانظر: المناقشة المستفيضة لقاعدة التيسير ومحترزاتها في: كيف نفهم التيسير؟ وقفات مع كتاب (افعل ولا حرج) فهد بن سعد أباحسين، الرياض، دار المحدث، ط1، 1428 ه..
المصدر: رابطة علماء المسلمين
إضافة تعليق جديد