الوسطية في الحكم على الرجال ونقد المخالف
هذه المسألة تكاد تكون من أظهر المسائل المتعلّقة بمفهوم الوسطيّة، لكون الحاجة ماسّة إليها في واقعنا المعاصر، فقد اختلفت الآراء وتغايرت النفوس في الحكم على المخالف، وظهر الإفراط والتفريط، وتلاعبت الأهواء ورغبات النفوس بأصحابها في مواطن كان ينبغي فيها التغافر وتجاوز الهنات، ولعلّ ما أصاب الدعوة الإسلاميّة قبل سنوات من تهارج وفوضى في موضوعات الخلاف أثّر تأثيرًا كبيرًا على مخرجاتها، فأقعدها وعطّلها عن تحقيق كثير من مقاصدها، وكان يسع أطراف الخلاف أنْ يرجعوا فيه إلى أهله ممن أمر الله عزّ وجلّ ورسوله -صلّى الله عليه وسلّم- بالرجوع إليهم، وقبل ذلك كان يلزمهم الوقوف على تلكم النصوص الظاهرة التي تؤكّد على العدل تارة والإنصاف تارة أخرى دون أنْ تغفل نصوصًا أخرى دالّة على منهجية الموازنة، فهي منهجيّة قرآنيّة أصيلة، وعند الوقوف على مناهج العلماء من المتقدمين والمتأخرين يدرك الباحث عِظَم إنصافهم وعَدْلهم مع المخالفين لهم في الأصول، فضلًا عن الفروع، فما بالك بموقفهم ممن يخالفهم في الفروع التي يسع فيها الخلاف، ويكون دائرًا بين الراجح والمرجوح، والكلّ منتسب إلى منهج أهل السنّة والجماعة ودعوة السلف؟ فما أحوجنا إلى فِقه الخلاف ومعرفة قواعده.
ولاشكّ أنّ البحث في مفهوم الوسطيّة يدفعنا دفعًا إلى بيان تلكم القواعد ودراسة فِقه الخلاف وإنْ كان على سبيل الإجمال لا التفصيل فلهذا الأخير موضع آخر، ولا ريب أنّ الدعاة في أشدّ الحاجة إلى معرفة المنهج النقديّ عند أهل السنّة، وذلك لأنّهم أمام النقد والتصحيح والمراجعة للسلبيّات والانحرافات ثلاثة أصناف:
الأول: فريق غلبت عليه المسامحة، والتنازلات عن التصحيح لقضايا مهمة، لا يمكن أنْ يصلح حال المسلمين إلّا بإصلاحها، وأخذ في التنازل عن طلب إصلاحها، بلْ وانقطع عن ذلك، وأخذ ينفّر ممن يريد التصحيح، وأصبح همه التنازل حتى عن مميزاته التي كان يتميز بها، وكسب أصحاب المخالفات عن طريق التنازلات، وليس بعجيب أنْ ينفر هذا الفريق من النقد والتصحيح.
الثاني: فريق مقابل لا يتسامح في شيء، ويتناسى أنّ أصحاب رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- قد وقع بينهم خلاف في بعض الأمور مع محافظتهم على صحّة الاعتقاد، ولكنّ هذا الفريق لا يريد أنْ يقع بين الدعاة تفاوت في مسائل الاجتهاد، وهو بلا شك يطلب المستحيل.
والثالث: وسط بين الفريقين لا يتسامح في تغيير منهج الاعتقاد، ويحمل النّاس على الاعتقاد الصحيح عن طريق التربية والتعليم، وهدفه تحقيق صحة الاعتقاد على ما كان عليه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وفي الوقت نفسه يقرّ بوقوع الخلاف في مسائل الاجتهاد، ويحاول تصحيحها بغير شطط، ولا بأس باستمرار الخلاف فيها مع استمرار طلب الصواب حسب الإمكان والمناصحة للمخالف، ولا يؤثر بقاء مسائل الخلاف في مسيرة الدعوة، وفي بناء المجتمع الإسلاميّمن مقدمة الدكتور عابد بن محمد السفياني على كتاب منهاج أهل السنّة والجماعة في النقد والحكم على الآخرين، لندن، المنتدى الإسلاميّ، ط1، 1412هـ، ص (8)..
وبناءً على ذلك لا بدّ من القول تقريرًا: إنّه ليس كلّ خلاف يعدّ مذمومًا، فهناك خلاف أملاه الهوى قد يكون وليد رغبات نفسيّة لتحقيق غرض ذاتي أو أمر شخصي، وقد يكون الدافع للخلاف رغبة التظاهر بالفهم أو العلم أو الفقه، وهذا النوع مذموم بكلّ أشكاله، ومختلف صوره، لأنّ حظّ الهوى فيه غلب الحرص على تحري الحق، والهوى لا يأتي بخير، فهو مطيّة الشيطان إلى الانحراف والضلال وقد يفضي بصاحبه إلى الكُفر، قال تعالى: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ}[البقرة:87]، وبالهوى جانَبَ العدل من جانَبَهُ من الظالمين، قال تعالى: {فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء:135]... إلى آخر ما يتعلّق بآثار الهوى وثماره.
وهناك خلاف أملاه الحقّ ودفع إليه العلم، واقتضاه العقل وفرضه الإيمان، كخلاف أهل الإيمان لأهل الكُفر والشّرك والنفاق، وخلاف أهل السنّة لأهل البدعة والحدث في الدين، فهذا النوع من الخلاف لا يعدّ مذمومًا بلْ يُعتبر محمودًا، وهناك خلاف يتردد بين المدح والذمّ، ولا يتمحّض لأحدهما، وهو خلاف في أمور فرعيّة تتردد أحكامها بين احتمالات متعددة يترجح بعضها على بعض بمرجحات وأسباب، وهذا النوع من الخلاف يكون متردّدًا بين الراجح والمرجوح، والخطأ والصواب، إلّا أنّه قد يعتبر مزلّة أقدام، إذْ يمكن فيه أنْ يلتبس الهوى بالتقوى، والعلم بالظنّ، والمردود بالمقبول، ولا سبيل إلى تحاشي الوقوع في تلك المزالق إلّا باتباع قواعد يحتكم إليها في الاختلاف، وضوابط تنظّمه، وآداب تهيمن عليه، وإلّا تحوّل إلى تنازع وشقاق وفشل، وهبط المتخلفان فيه عن مقام التقوى إلى درك الهوى، وسادت الفوضى، وذر الشيطان قرنه، ولا يخفى أنّ أصل هذا الخلاف يعدّ سائغًا، وهو الذي تنطبق عليه قاعدة لا إنكار في مسائل الخلاف إذا كان في دائرة الاجتهادأدب الاختلاف في الإسلام، د. طه جابر العلواني، هيرندن، المعهد العالي للفكر الإسلاميّ، (1413هـ/1992م)، ص (26-29) بتصرف..
إنّ الأصل الذي تنطلق منه قاعدة الوسطيّة في هذا الباب يتضمّن جملة من النصوص الشرعيّة ذات المقاصد المرعيّة، منها:
- قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}[النساء:135].
- وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}[المائدة:8].
- وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ}[الحجرات:12].
فهذه نصوصٌ ظاهرة المعنى في التحلّي بالعدل والإنصاف وحسن الظنّ عند تقويم الآخرين سواء كانوا مخالفين في الأصول أو في الفروع، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "ومما يتعلّق بهذا الباب أنْ يعلم أنّ الرجل العظيم في العلم والدين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى يوم القيامة، أهل البيت وغيرهم، قد يحصل منه نوع من الاجتهاد مقرونًا بالظنّ ونوع من الهوى الخفيّ، فيحصل بسبب ذلك ما لا ينبغي اتباعه فيه، وإنْ كان من أولياء الله المتقين، ومثل هذا إذا وقع يصير فتنة لطائفتين: طائفة تعظّمه فتريد تصويب ذلك الفعل واتباعه عليه، وطائفة تذمّه فتجعل ذلك قدحًا في ولايته وتقواه، بلْ في برّه وكونه من أهل الجنّة، بلْ في إيمانه حتى تخرجه عن الإيمان! وكلا هذين الطرفين فاسد ... ومن سلك طريق الاعتدال عظّم من يستحق التعظيم وأحبّه ووالاه، وأعطى الحقّ حقه، فيعظم الحقّ، ويرحم الخلق، ويعلم أنّ الرجل الواحد تكون له حسنات وسيئات، فيحمد ويذمّ، ويثاب ويعاقب، ويُحبّ من وجه ويُبغض من وجه، هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة خلافًا للخوارج والمعتزلة ومن وافقهم"منهاج السنّة النبويّة، مرجع سابق، (4/543)..
ولا يخفى على طالب الحقّ أنّ المرء لا يمكن أنْ تتمحّض فيه السنّة أو الخير أو الهدى، فكلّ بني آدم خطّاء وخير الخطائين التوابون، لذلك لا بدّ في هذا السياق من مرجعيّة يهتدي بها المرء في الموازنة، وهي متحققة في المنهجيّة القرآنيّة، والهداية النبويّة، والآثار السلفيّة، قال تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}[آل عمران:75]، فالآية جاءت في سياق ذمّ بني إسرائيل وموقفهم من الدعوة الإسلاميّة، إلّا أنّه وفي خضمّ بيان المساوئ بيّن الله أنّ منهم من يلتزم أداء الأمانة وإرجاع الحقوق إلى أهلها، وهذا دالّ على منهج الموازنة الحقّ الذي ينبغي أنْ يستظهره المسلم في تعامله مع المخالف، وسياق الآية في التعامل مع أهل الكتاب وهم كفار بالنصّ والإجماع، فكيف بالتعامل مع المخالف من أهل الإسلام، أو من أهل السنّة!
كما يدلّ على هذه المنهجيّة حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: "كان النّاس يسألون رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- عن الخير، وكنت أسأله عن الشر، مخافة أنْ يدركني، فقلت: يا رسول الله، إنّا كنّا في جاهليّة وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: (نعم). قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: (نعم، وفيه دَخن). قلت: وما دخنه؟ قال: (قوم يهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر)"أخرجه البخاري، كتاب: الفتن، باب: كيف الأمر إذا لم تكن جماعة، رقم (6673).، فالحديث أثبت الخيريّة للبعض مع كونها اختلطت بالشرّ، وهذا يقتضي النظر إلى المخالف وفقًا لمنهج الموازنات الذي دلّت عليه هذه النصوص، إلّا أنّ الأمر لا يُؤخذ على إطلاقه، بلْ لا بدّ من قيود، وقد نبّه على ذلك كثير من أهل العلم، ومنهج السلف في هذا الباب هو اعتبار الغالب على المرء من الصواب أو الخطأ، قال الحافظ الذهبي: "ونُحِبّ السنّة وأهلها، ونُحِبُّ العالِمَ على ما فيه من الإتباع والصفات الحميدة، ولا نُحِبّ ما ابتدع فيه بتأويل سائغ، وإنّما العبرة بكثرة المحاسن"سير أعلام النبلاء، الإمام الذهبي، بيروت، مؤسسة الرسالة، ط1، (1405هـ/1985م)، (20/46).، والمعنى نفسه قرّره ابن رجب في قواعده: "والمنصف من اغتفر قليل خطأ المرء في كثير صوابه"قواعد ابن رجب، ابن رجب الحنبلي، مكّة المكرمة، مكتبة الباز، 1999م، ص (3)..
وهذا المنهج قد احتدم حوله النزاع وغلا فيه طرفان، طرفٌ ينكره بإطلاق ويعتبره منهجًا مبتدعًا، وآخر بالغ في إثباته وتوسع في تطبيقه حتى أذهب سطوة إنكار المنكر ونقْدَ من يستحق النقد، وكلا الطرفين غير صواب، والحقّ التوسط في ذلك والاقتداء بالأئمة العلماء الذين أصّلوا منهج النقد تنظيرًا، وأحسنوا فيه تطبيقًا، وهذا أمر لابدّ منه عندما نحاول أنْ نطبّق منهج السلف في أيّ جانب من الجوانب، أنْ ننظر إلى أقوالهم وتصرفاتهم في آن واحد حتى لا نغلط عليهم أو ننسب إليهم ما ليس من منهجهم، حيث أنّ القصور في فهم المنهج يؤدي إلى ما يؤدي إليه الغلو، والله الموفّق.
المصدر: بحث "مفهوم الوسطية في ضوء القواعد الكليّة والمقاصد الشرعيّة دراسة في المفهوم والدلالات"
إضافة تعليق جديد