أُحبك في الله وأبغضك في الله
مما لا شكّ فيه أنّ الموالاة الإيمانيّة أصلٌ عظيمٌ من أصول العقيدة الإسلاميّة، قال تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}[المائدة:55]، وأنّ المحبّة في الله أيضًا أصلٌ عظيمٌ من أصول هذه العقيدة كما صرّحت النّصوص الصحيحة، ومنها حديث أنس -رضي الله عنه- عن النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- قال: (ثلاث من كنّ فيه وجد حلاوة الإيمان، أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يُقذف في النار)صحيح البخاري-كتاب الإيمان.، بلْ إنّ حبّ أهل الإيمان أصبح علامةً فارقةً بينهم وبين أهل النّفاق، فعن أنس -رضي الله عنه- عن النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- قال: (آية الإيمان حُبّ الأنصار وآية النفاق بُغضُ الأنصار)المرجع السابق.، والأصل الثالث ها هنا هو أنّ الإيمان -الذي هو قولٌ وعملٌ بالقلب واللسان والجوارح- يزيد وينقص بعد ثبوت أصله المجمل الذي هو تصديق الخبر والانقياد للشّرع، بحيث إنّ مَن ثبت له عقد الإيمان المجمل دارت زيادة إيمانه ونقصانها من ثمَّ مع الطاعات والمعاصي زيادةً ونقصانًا، فيزيد الإيمان بالطّاعات وينقص بالمعاصي كما هي دلالات النّصوص القطعيّة المستفيضة في ذلك، كقوله تعالى: {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ}[الفتح:4]، وقوله تعالى: {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا}[المدثر:31]، وغيرها.
فإذا استقرت هذه الأصول في العقول وترسّخت في القلوب، خلصنا إلى أمرٍ عظيم الأهميّة قد يغفل عن مُلاحظته وتطبيقه الكثير من الغيورين المخلصين للدّين ألا وهو تجزُّؤ وتبعُّض الحبّ والموالاة الإيمانيّة بالنسبة إلى آحاد المسلمين، حيث إنّه إذا ثبت عقد الإيمان المجمل لفردٍ من الأفراد ثبتت له جُملة من الحقوق منها: وجوب موالاته وحبّه في الله لأجل ذلك الحدّ الأدنى من الإيمان الذي تحقق لديه، وهو المشترك الإيماني الأدنى بين كل من يصحّ نسبته إلى عقد الإيمان المجمل، وعلامات هذا الانتساب علاماتٌ ظاهرة يدخل بها العبد في ذِمّة الله تعالى كما في الحديث عن أنس بن مالك –رضي الله عنه- عن النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- قال: (من صلّى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم الذي له ذِمّة الله وذِمّة رسوله، فلا تخفروا الله في ذمته)صحيح البخاري-كتاب الصلاة.، وقد قال تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَىٰ إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}[النساء:94]. وإنّ من جُملة ما يثبت بهذا العقد: رابطة الأخوّة الإيمانيّة بغضِّ النّظر عن أفعال وأقوال المكلّف من جنس المعاصي غير المكفّرة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "بلْ الأخوّة الإيمانيّة ثابتة مع المعاصي، كما قال سبحانه في آية القصاص: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ}[البقرة:178]"متن العقيدة الواسطية-ابن تيمية.، وقال الشيخ العلّامة ابن عثيمين -رحمه الله- في الشرح: "يعني أنّ الأخوّة بين المؤمنين ثابتة ولو مع المعصية، فالزاني أخٌ للعفيف، والسّارق أخٌ للمسروق، والقاتل أخٌ للمقتول"شرح العقيدة الواسطية- ابن عثيمين.. قلت: ثم يتفاضل هذا الحبّ زيادةً ونقصانًا بحسب ما يظهر من الفرد من أعمال ظاهرة موافقة للشّرع، وقد يجتمع له مع ذلك بغض في الله لما قد يظهر منه من أعمال مخالفة للشرع، فيجتمع الحبّ في الله والبغض في الله في نفس الفرد فيُحَب من جهة طاعته ويُبغض من جهة معصيته لله عزّ وجلّ، كما قد يجتمع فيه برّ وفجور، وسنّة وبِدعة، وإيمان ونفاق (أعني الفجور والبدعة والنفاق غير الناقل عن الملّة)، وتأمّل معي حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- أنّ النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- قال: (أربع من كنّ فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهنّ كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها، إذا ائتمن خان، وإذا حدّث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر)صحيح البخاري-كتاب الإيمان.، وحديث أبي ذر لما سابب رجلًا فعيّره بأمّه، فقال له النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (يا أبا ذر، أعيّرته بأمّه؟ إنّك امرؤ فيك جاهليّة)صحيح البخاري-كتاب الإيمان.. وقد ترجم الإمام البخاري لهذا الحديث بقوله: باب: المعاصي من أمر الجاهليّة ولا يكفّر صاحبها بارتكابها إلّا الشّركصحيح البخاري.، وهذا الفعل المنسوب إلى الجاهليّة قد وقع ممن نقطع بإيمانه وعدالته، ومع ذلك اجتمعت فيه المعصية مع الطاعة، كما اجتمع في الحديث السابق النفاق غير الاعتقاديّ مع الإيمان، والأمثلة كثيرة وإنّما أردنا التنبيه ببعضها.
ومما تقدّم نكون قد بينّا الحدّ الأدنى من مستلزمات الدخول في مُسمّى الإيمان من حيث تحقق الأخوّة الإيمانيّة وما يترتّب عليها من ولاء وحبّ ونُصرة، وهذا الحدّ الأدنى لا يختل ولا يذهب إلّا بذهاب الإيمان المجمل، ولعلّي أعبّر عنه بقولي إنّه حبّ المسلم وموالاته ونصرته لمجرّد كونه مسلمًا لا غير، ثم قد يجتمع لهذا المسلم مع ذلك الحدّ الأدنى حبٌّ زائد بقدر طاعته وبغضٌ ما بقدر معصيته أو بدعته أو فجوره، فإذا ظهر لك ذلك كلّه تبددت سُحب الشكّ والحيرة وانجلت غمامة الفِتنة التي تفتُّ في عضدك عندما ترى بعض الانحراف والزّلل في أخ مسلم تحبّه في الله وتجلّه وتكبره، فتتوهم ضرورة هجرانه البتّة وزوال ذلك الحبّ بالكليّة، أو عندما ترى زلّة العالم فتتوّهم لزوم الانقطاع عنه وتركه بالكليّة، أو ترى معصية وفجور حاكم أو إمام فتستشكل متابعته في شعائر الجماعة الإسلاميّة.
وانظر تفنيد هذه الأوهام في مثل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن وَلَايَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّىٰ يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَىٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ}[الأنفال:72] فتأمّل كيف أنّ هذا الصّنف من المسلمين الذين لم يهاجروا من دار الكُفر إلى دار الإسلام قد نقصت درجة ولايتهم عن الولاية الكاملة -فلا يشاركون المسلمين المهاجرين في فَيءٍ ولا غنيمة مثلًا- في نفس الوقت الذي بقيَ لهم أصل الموالاة والنّصرة في الدّين، تأمل قوله تعالى: {وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} أي: لمجرّد كونهم مسلمين وجب نصرتهم فيما هو من جنس الدين، ولكنّها نصرة وولاية قاصرة عن الكمال لقصورهم هُم عن الكمال في التبعيّة والهجرة.
وأمّا بالنسبة إلى العلماء وحمَلة العلم فانظر إلى دقّة ضبط التعامل معهم في منهج أهل الحديث حين لم يتركوا الأخذَ عن أهل البِدع بالكليّة حتى لا يضيع الدّين طالما أنّ بِدعهم التي تلبّسوا بها لم تخلّ بضوابط تحمل السنّة وأدائها، وما أجمل ما قاله ابن المديني وهو من جهابذة الحديث: "لو تركت أهل البصرة للقدر (أي لقولهم ببدعة القدر) وأهل الكوفة للتشيّع لخربت الكتب".اهـ.
وأمّا بالنسبة للأُمراء والحكّام فحسبك قوله صلّى الله عليه وسلّم: (الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة) وقد ترجم له الإمام البخاري بقوله: باب: "الجهاد ماضٍ مع البَرّ والفاجر"صحيح البخاري- كتاب الجهاد والسير.، وهو من دقيق الاستدلال، ووجهه: أنّه طالما الجهاد معقود إلى يوم القيامة لم يصحّ تعطيله بجَور إمام أو نحوه، وقد سبق إلى هذا الاستدلال الإمام أحمد كما ذكر الحافظ ابن حجر العسقلاني حيث قال: "هذه الترجمة لفظ حديث أخرجه بنحوه أبو داود وأبو يعلى مرفوعًا وموقوفًا عن أبي هريرة ولا بأس برواته"فتح الباري بشرح صحيح البخاري.. وقد ضعّف الشيخ الألباني -رحمه الله- الحديث الذي في سنن أبي داود، إلّا أنّ معناه صحيح، وهو مستقر ومستفيض في متون عقائد أهل السنّة والجماعة، قال ابن قدامة: "ونرى الحج والجهاد ماضيًا مع كلّ إمام، برًا كان أو فاجرًا"لمعة الاعتقاد-ابن قدامة.، وقال ابن تيمية رحمه الله: "ويَرَونَ -أي أهل السنّة والجماعة– إقامةَ الحجّ والجهاد والجُمع والأعياد مع الأمراء أبرارًا كانوا أو فجّارًا"العقيدة الواسطية-ابن تيمية.. قلت: بلْ إنّ فرض الطاعة للإمام الفاجر غير الكافر ليس له معنى معقول سوى إقامة هذه الشعائر وتأمين الثغور ورفع راية الجهاد ونحوه مما نُصبت له الإمامة، وهنا نكتة دقيقة وهي: أنّ الحجّ والجهاد مستثنيان -على الراجح والله أعلم- من اشتراط عدم كُفر الفاجر، بمعنى أنّ الإمام الفاجر إذا ظهر كُفره لم تصحّ الصلاة خلفه ولا باقي المناسك، ويستثنى من ذلك الحجّ لأنّه فرض عين لا يشترط لصحته صحّة حجّ حامل لواء الحج (بخلاف صلاة المأموم مثلًا فإنّها تبطل بكفر الإمام بلا خلاف)، وكذلك الجهاد إذا كان سليم الراية -بمعنى أنّ هدفه جائز شرعًا- كدفع صائل أو ردّ معتدٍ عن ديار الإسلام وتعيّن القتال تحت إمرة إمام كافر بحيث لو لم يقاتل معه تعطّل الجهاد فإنّ ما تطمئن إليه النّفس -والله تعالى أعلم- هو جَواز القتال تحت إمرته بشرط سلامة الرّاية، والحقيقة أنّ هذه المسألة أقرب إلى باب المصالح والسياسة الشرعيّة منه إلى باب النّسك والشعائر التعبديّة المحضّة، وقد ذكر الشيخ علي بن خضير الخضير في شرح اللمعة: "ولكنْ لو قام الجهاد -جهاد الدفاع أي: دفع الصائل- ورفعوا رايته، كما لو صالت دولة على دولة شعبها مسلم وحاكمها كافر، ثم أعلن هذا الكافر الجهاد ضدّ الصّائل، فهنا لا مانع من الجهاد معه ضدّ الصائل، كما قال عليه الصلاة والسلام: (إنّ الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر)البخاري ومسلم.، فهناك يقاتل مع المسلمين ولو كان الحاكم كافرًا ما دام أنّ المصلحة للمسلمين للدفاع عنهم" انتهىالزناد في شرح لمعة الاعتقاد-الشيخ علي الخضير.، وهذا في الحقيقة ما تطمئنّ إليه النفس لا سيّما عند تعيُّنه سبيلًا وحيدًا لدفع الصائل عن المسلمين، أمّا الإمام الفاجر غير الكافر فلا إشكال فيه البتّة، لأنّ إقامة الجهاد أصلٌ، وعدالة الإمام مكمّل، فلا يجوز أنْ يعود المكمّل على الأصل بالبطلان، والله أعلم.
إنّ فِقه الأصول الإيمانيّة التي قدمناها والتفريع عليها ببعض النماذج والأمثلة التطبيقيّة لصيق الصّلة بواقعنا اليوم، حيث يتنازع واقع المسلمين الغيورين على دينهم أمران أحلاهما مرّ:
أوّلهما: شيوع الانحراف العلميّ العقديّ بين أفراد وجماعات الأمّة.
وثانيهما: تعرّض كيان الأمّة للخطر والتهديد الحسيّ المباشر، وقد يستشعر البعض نوعًا من التناقض والحيرة في سياق تعامله مع هذا الواقع فإذا ما أراد أنْ يتعاون مع بعض أفراد الأمّة توّهم أنّ كونَ ذلك البعض على مخالفة أو معصية أو بدعة مانعٌ من هذا التعاون، ولو أنّه قَصَرَ نفسه على أصحاب الاعتقاد السليم الصافي من كلّ الشوائب لوجد نفسه مع فئة قليلة قليلة مرابطة، ولاستشعر خطرًا حسيًّا شديدًا يكاد يعصف بالأمّة التي يحتّم عليه اعتقاده السليم الدفاع عنها مهما فجرت وعصت، ولا مندوحة لمن أراد الخلاص من هذه الحيرة والتردّد من أنْ يعي ويفهم ويحسن تطبيق مفاهيم الولاء والبراء والحبّ والبغض والنُّصرة والتعاون على الوجه الذي قدمنا من حيث كونها مفاهيم قابلة للتجزئة والتبعيض، وقابلة للمرونة التطبيقيّة في بعض المقامات والأحوال بما لا يخلّ بأصلها، ومن هنا ينطلق المرء بكلّ همّة ونشاط يمدّ يد العون لمن يرى فيه مصلحةً وخيرًا للإسلام والمسلمين مُراعيًا رباط الأخوّة الإيمانيّة المجمل ولوازم عقد الإيمان المجمل، في نفس الوقت الذي يمضي فيه مصححًا ومقوّمًا لما انحرف من عقائد ومعالم علميّة، فتكون معركته العلميّة سائرةً جنبًا إلى جنب مع معركته الجهاديّة، وكلاهما جهادٌ، شعاره مع من يتعامل معه في الميدان :"للمسلمين نفعه وعليه وزره"، وشعاره مع من يوعّيه ويعلّمه في حلقة الدرس وطرقات المجتمع : "بلّغوا عنّي ولو آية"، فإذا بطاقات المرء التي كانت مشتتةً مبعثرةً بين متاهات الحيرة قد تحوّلت إلى سيلٍ إيمانيّ عارم يتقن فنّ الموازنة بين فقه الاجتماع وفقه الاتباع، يقدّم التآلف والمداراة الجائزة في موضعها دون مُداهنة أو مُساومةٍ على أصل ثابت، ويقدّم جسارة الدّفاع عن الحقّ والشدّة فيه في موضعه دون هرج وفِتنٍ تضرّ بواقع ضعف المسلمين، ينظر إلى الخطر الدّاهم على جماعة المسلمين فينضم للذود عن حياضهم وشعاره :"إنّما يأكل الذئب من الغنم القاصية"، وينظر إلى نعيق ومداهنة المنافقين المرتدّين فينقطع عنهم وشعاره: "الجماعة ما كان على الحقّ ولو كنت وحدك"، فهما في الواقع شعاران لا غنى عنهما، شعار علميٌ اعتقادي تحمله في قلبك لينير لك الطريق، وشعار حسيٌّ عملّي تغلب فيه جوانب المصلحة لتصل بالأمّة الإسلاميّة إلى شاطئ الأمان ولتستمرّ في منهج التصفيّة العقديّة، وهكذا دأبك على الدوام، لا سآمة ولا كلل ولا تعب ولا ملل، حتى تلقى الله تعالى على الحقّ إنْ شاء الله..
وبعد، فهذه بعض ملامح روعة هذا الدّين، وهذه بعض خصائص شموليته، وهذه بعض معالم صلاحيته للتعامل مع كلّ ظرف وطارئ، وكيف لا يكون كذلك وما هو إلا تنزيل العليم الخبير الحكيم، فيا له من دين، نعم إخواني في الله، يا له من دين، لو أنّ له رجال.
إضافة تعليق جديد