الاثنين 25 نوفمبر 2024 الموافق 23 جمادي اول 1446 هـ

إضاءات فكرية

الرد على المخالف بين الغلاة والجفاة

21 شوال 1440 هـ


عدد الزيارات : 2618
النميري بن محمد الصبار

 

الحمد لله، والصَّلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبه ومَن والاه. أمَّا بعد:

فإِنَّ (الرَّدَّ على المخالفِ) يُعدُّ وسيلةً مِنْ الوسائل الكبيرة في حفظِ الدِّينِ منْ عَادياتِ التَّبديلِ فيهِ، وغَوائلِ التحريفِ عليهِ، ولَهُ في ميزانِ الشريعةِ الغرَّاءِ شأنٌ عظيمٌ، وقدْرٌ كبيرٌ، وفي ذلكَ يقولُ الإمامُ ابنُ قيِّم الجوزيَّة رحمه الله: "القلمُ الثَّاني عشر: القلمُ الجامعُ، وهو قلمُ الرَّدِّ على المـُبطِلينَ، ورفْعِ سُنَّةِ المـُحِقِّينَ، وكشفِ أباطيلِ المبطلينَ -على اختلافِ أنواعِها وأجناسِها- وبيانِ تناقضِهم، وتَهافُتِهم، وخُروجِهم عنِ الحقِّ، ودُخولهم في الباطلِ.

وهَذَا القلمُ -في الأقلامِ- نظيرُ الملوكِ في الأنامِ.

وأصحابُهُ أهلُ الحُجَّةِ النَّاصرونُ لِما جاءَتْ بهِ الرُّسلُ، المـُحاربونَ لأعدائِهم.

وهُم الدَّاعونَ إلى اللهِ بالحكمةِ والموعظةِ الحسَنةِ، المـُجادلونَ لِمَنْ خَرجَ عنْ سبيلِه بأنواعِ الجدالِ.

وَأَصحابُ هذا القلمِ حَرْبٌ لكُلِّ مُبطلٍ، وعَدُوٌّ لكُلِّ مُخالفٍ للرُّسلِ، فَهُم في شأنٍ، وغيرهم منْ أصحابِ الأقلامِ في شأنٍ"التبيان لأقسام القرآن، (ص/210) لابن القيِّم..

لكنَّ هذه الوسيلةَ، كغيرهِا منَ الوسائلِ الشرعيّةِ، جنحَ بِها النَّاسُ: إمَّا إلى جانبِ الغلوِّ أو إلى جانبِ الجفاء، وقليلٌ -مِمَّنْ رَحمَ اللهُ- هم المتمسِّكونَ بالوسطِ والاعتدالِ في هذه الوسيلةِ وفي غيرهِا.

يقولُ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيمية -رحمه الله- في بيانِ هذه الحقيقةِ: "قد يبغي بعضُ المـُستنَّة إمَّا على بعضهم، وإمَّا على نوعٍ من المـُبتَدِعة بزيادةٍ على ما أمر الله به، وهو الإسراف المذكور في قولهم: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا}[آل عمران:147].

وبإزاءِ هذا العدوان تقصير آخرين فيما أُمِروا به من الحقِّ، أو فيما أُمِروا به من الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر في هذه الأمور كلِّها.

فما أحسن ما قال بعضُ السَّلف: "ما أمر الله بأمرٍ إلاَّ اعترضَ الشَّيطانُ فيه بأمرين -لا يبالي بأيِّهما ظفرَ- غلوٍّ أو تقصيرٍ... وفاعل المأمور به وزيادةٍ منهيٍّ عنها، بإزائِه تاركُ المنهيِّ عنه وبعض المأمور به، والله يهدينا الصِّراط المستقيم، ولا حول ولا قوَّة إلاَّ بالله"مجموع الفتاوى، (14/483).!

وفي عالَمِنا اليوم تَشهدُ السَّاحةُ العلميَّةُ الدَّعويةُ -وللأسفِ الشَّديدِ- هرْجًا ومَرْجًا في الموقفِ منْ هذه الوسيلةِ، ولذلكَ كانَ منَ الأهميّةِ بمكانٍ أنْ يُسلَّطَ الضَّوءُ على مَوضوعِ: (الرَّدِّ على المخالفِ) تأصيلًا له، وبيانًا لأهميّتهِ، وكشفًا لموقفِ الغُلاةِ والجُفاةِ منهُ، مع إبرازِ الموقفِ الشرعيِّ الصحيحِ منهُ.

فموضوعُ الحديثِ إذًا سَيدورُ -بعونِ اللهِ وتسديدهِ- حول أربعةِ محاورَ، هي على وجهِ الإجمالِ:

  • المِحورُ الأوَّلُ: أهميّةُ الرَّدِّ على المخالفِ، والتأصيلُ الشَّرعيُّ لَهُ.
  • المحورُ الثاني: موقفُ الغُلاةِ مِنَ الرَّدِّ على المخالفِ.
  • المحورُ الثَّالثُ: موقفُ الجُفاةِ من الرَّدِّ على المخالفِ.
  • المحورُ الرَّابعُ: بيانُ الموقفِ الشَّرعيِّ الصحيحِ منَ الرَّدِّ على المخالفِ.

أمَّا تفصيلُ كُلِّ محورٍ، فهو على النَّحوِ الآتي:

 

المحورُ الأوَّلُ: أهميةُ الرَّدِّ على المخالفِ، والتأصيلُ الشَّرعيُّ لَهُ:

يُعتبرُ (الرَّدُّ على المخالفِ) شعارًا مِنْ شعائرِ الملَّةِ الإسلاميّةِ، ووسيلةً فريدةً منْ وسائلها الشَّرعيّةِ، وهو مِنَ السُّننِ الجاريةِ عبر امتدادِ الزَّمنِ في الحياةِ الإسلاميّةِ، ذَبًّا عنْ كُلِّيَّاتِ الإسلامِ ومقاصدهِ العِظامِ، وصونًا عَنْ حُرماتهِ وميادينهِ الجسامِ، لِيَبقى الإسلامُ صافيًا نقِيًّا يتلألأُ، كما كانَ على منهاجِ النُّبوةِ.

ومَنْ تأَمَّلَ نصوصَ الوحيينِ الشَّريفينِ، وجَدَهَا زاخرةً بِما يَدُلُّ دلالةً قطعيةً على مشروعيّةِ هذه الوسيلةِ، ويُقرِّرهُا تقريرًا جازمًا، ومِنْ ذلكَ -على سبيلِ المثالِ لا الحصرِ- ما يلي:

 

 1. ما جاءَ في القرآنِ العظيمِ:

قال تعالى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}[البقرة:111]، وقال سبحانه: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ}[الأنبياء:24]، وقال جلَّ وعلا: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ}[المائدة:18]، وقال عَزَّ مِنْ قائلٍ: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}[آل عمران:59].

 

 2. ما جاءَ في السُّنَّةِ الصَّحيحةِ:

عَنْ أَنَسٍ -رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِي -صلَّى الله عليه وسلَّم- قال: (جاهِدوا المُشرِكين بأموالكم وأنفُسِكم وألسِنَتِكم)إسناده صحيحٌ، أخرجه أبو داود في سُنَنه، (2/13) رقم: (2504)..

وفي يوم حُنينٍ ردَّ النَّبيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- على ذلكَ الرَّجل الَّذي قال له: والله إنَّ هذه القِسمةَ ما عدل فيها، وما أُرِيدَ بها وجه الله، فقال له صلَّى الله عليه وسلَّم: (فمَنْ يَعْدل إذا لَم يعدل الله ورسولُه؟! رَحِم الله موسى، قد أُوذِيَ بأكثر من هذا فصبَر)أخرجه البخاري في صحيحه، (3/1148)، رقم: (2981)، ومسلم في صحيحه، (3/109) رقم: (2494) من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه..

وردَّ النَّبيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- على الثلاثة الرَّهط الَّذين جاؤوا إلى بيوت أزواج النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- يَسْألون عن عبادته، فلمَّا أُخبِروا، كأنَّهم تَقالُّوها... فقال لهم صلَّى الله عليه وسلَّم: (والله إنِّي لأَخْشاكم لله، وأتقاكم له، لكنِّي أصوم وأُفطِر، وأصلِّي وأَرْقد، وأتزوَّج النِّساء، فمن رَغِب عن سنَّتي فليس منِّي)أخرجه البخاري في صحيحه، (5/1949)، رقم: (4776) من حديث أنسٍ رضي الله عنه..

يقولُ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيمية رحمه الله: "ولِهذا يَتغيَّر الدِّين بالتَّبديل تارةً، وبالنَّسْخ أخرى، وهذا الدِّين لا يُنسَخ أبدًا، لكن يكون فيه مَن يُدخِل مِن التَّحريف والتَّبديل والكذب والكتمان ما يُلبَس به الحقّ بالباطل، ولا بدَّ أنْ يقيم الله فيه مَن تقوم به الحجَّة خلفًا عن الرُّسل، فيَنْفون عنه تحريف الغالين، وانتحالَ المـُبطِلين، وتأويل الجاهلين، فيُحِقُّ الله الحقَّ، ويُبطِل الباطل، ولو كره المشركون، فالكتب المنَزَّلة من السَّماء والأثَارة مِن العلم المأثورة عن خاتَمِ الأنبياء يَمِيز الله بها الحقَّ مِن الباطل، ويحكم بين النَّاس فيما اختَلفوا فيه"مجموع الفتاوى، (11/435)..

ويقول –أيضًا- رحمه الله: "وإذا كان النُّصح واجبًا في المَصالِح الدِّينيَّة الخاصَّة والعامَّة: مثل نقَلةِ الحديث الَّذين يَغْلطون أو يكذبون، كما قال يحيَى بن سعيدٍ: سألتُ مالكًا والثَّوريَّ واللَّيث بن سعدٍ -أظنُّه- والأوزاعيَّ عن الرَّجل يُتَّهم في الحديث أو لا يَحْفظ؟ فقالوا: بَيِّنْ أمره.

وقال بعضُهم لأحمد بن حنبلٍ: إنَّه يَثْقل عليَّ أن أقول: فلانٌ كذا، وفلانٌ كذا، فقال: "إذا سكتَّ أنت وسكتُّ أنا، فمتَى يَعرف الجاهلُ الصَّحيحَ مِن السَّقيم".

ومثل أئمَّة البِدَع من أهل المقالات المُـخالِفة للكتاب والسُّنَّة، أو العبادات المخالفة للكتاب والسُّنَّة، فإنَّ بيان حالِهم وتحذيرَ الأمَّة منهم واجبٌ باتِّفاق المسلمين، حتَّى قيل لأحمد بن حنبلٍ: الرَّجل يصوم ويصلِّي ويعتكف أحبُّ إليك، أو يتكلَّم في أهل البِدَع؟ فقال: "إذا قام وصلَّى واعتكف، فإنَّما هو لنفسه، وإذا تكلَّم في أهل البدع فإنَّما هو للمسلمين، هذا أفضل"، فبيَّن أنَّ نفْعَ هذا عامٌّ للمسلمين في دينهم من جنس الجهاد في سبيل الله، إذْ تطهير سبيل الله ودينِه ومنهاجه وشرعته، ودَفْعُ بغيِ هؤلاء وعدوانِهم على ذلك واجبٌ على الكفاية باتِّفاق المسلمين، ولولا مَن يقيمه الله لِدَفع ضرَرِ هؤلاء، لفسدَ الدِّين، وكان فساده أعظم من فساد استيلاء العدوِّ من أهل الحرب، فإنَّ هؤلاء إذا استَوْلوا لَم يُفسِدوا القلوب وما فيها من الدِّين إلاَّ تَبعًا، وأمَّا أولئك فهم يُفسدون القلوب ابتداءً"المرجع السابق، (28/232)..

 

المحورُ الثانِي: مَوقفُ الغلاةِ مِنَ الرَّدِّ على المخالفِ:

يتمثَّلُ موقفُ الغلاةِ مِنَ الرَّدِّ على المخالفِ في مظاهرَ سلوكيَّةٍ ومُمارساتٍ عمَليةٍ، لعلَّ أهَمَّها:

1. التَّسرُّعُ في الرَّدِّ على المخالفِ، دونَ مراعاةٍ للضَّوابطِ العلميةِ، والشُّروطِ الشَّرعية.

2. عَقْدُ مَجالسِ الجَرْحِ والتَّعديلِ مِنْ جهةِ بعضِ الأفرادِ، دُونَ أهلِيَّةٍ ولا مُسوِّغٍ شرعيٍّ، وكأنَّ أحدَهم يَحسبُ نفسَهُ (أحمدَ بنَ حنبلٍ)، أو (يحيَى بنَ معينٍ) رحمهما الله.

3. أنْ يكونَ الباعثُ على الرَّدِّ الحسدَ والتَّشفِّي، أو حُبَّ الظهورِ والشُّهرة والرِّياء، وليسَ الإخلاصَ، وأنْ تكونَ كلمةُ اللهِ هي العليا.

4. البعدُ التَّامُّ عنْ مَعالِمِ الحكمةِ وأُسسها، والتَّجافِي عَنِ النَّظرِ في قضيةِ المصالحِ والمفاسد.

5. الظُّلمُ والبغيُ والعدوان، وذلكَ بِمُجاوزةِ الحدِّ الشَّرعيِّ في الرَّدِّ على المخالفِ، وهذا له صورٌ وأشكالٌ، منها:

  • الرَّدُّ عليه دونَ استِثْباتٍ ولا استبيانٍ.

  • التَّقوُّلُ عليه بكلامٍ لَمْ يَقُلْه.

  • إسقاطُ المخالفِ وتجريحُهُ في المسائلِ الاجتهاديَّةِ التي يَسوغُ فيها الخلافُ بينَ أهلِ السُّنَّةِ، والتي ينبغي أنْ يَعذرَ المرءُ فيها أخاهُ.

وقد ثبتَ عن الإمامِ أحمدَ -رحمه الله- أَنَّهُ قالَ: "إِخراجُ النَّاسِ مِنَ السُّنَّةِ شَديدٌ"إسناده صحيح، أخرجه الخلاَّل في السُّنَّةِ، (2/373)، رقم: (513)..

يقولُ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميَّة رحمه الله: "ولِهذا كان أئمَّة الإسلام متَّفقين على تبديع مَن خالف في مِثْل هذه الأصول، بخلاف مَن نازع في مسائل الاجتهاد الَّتي لَم تَبلغ هذا المبلغَ في تواتر السُّنن عنه: كالتَّنازع بينهم في الحكم بشاهدٍ ويمينٍ، وفي القَسَامة والقُرعة، وغير ذلك من الأمور الَّتي لم تبلغ هذا المبلغ"مجموع الفتاوى: (4/425)..

ويقولُ أيضًا -رحمه الله- في شأنِ أهلِ التَّوحيدِ: "وإنْ حَصلَ بينهم تنازعٌ في شيءٍ مِمَّا يَسوغُ فيه الاجتهادُ، لَم يُوجِبْ ذَلكَ تَفَرُّقًا ولا اختلافًا، بلْ هم يَعلمونَ أنَّ المصيبَ منهم له أجرانِ، وأنَّ المـُجتهدَ المخطئَ له أجرٌ على اجتهادهِ، وخطَؤُه مغفورٌ له"اقتضاء الصراط المستقيم، (1/457)..

وقالَ الحافظُ الذَّهبيُّ -رحمه الله-: "ولو أنَّا كلَّما أخطأ إمامٌ في اجتهاده في آحاد المسائل خطأً مغفورًا له، قُمنا عليه، وبَدَّعناه، وهجَرْناه، لَمَا سَلِم معنا لا ابنُ نصرٍ، ولا ابن مَنْده، ولا مَن هو أكبر منهما، والله هو هادي الخلق إلى الحقِّ، وهو أرحم الرَّاحمين، فنعوذ بالله من الهوى والفظاظة"سير أعلام النبلاء، (27/38)..

 

6. عَقْدُ الولاءِ والبراءِ في مجالِ (الرَّدِّ على المخالفِ) على قولِ واحدٍ مِنْ أهل العلمِ، أَوْ طُلابهِ، فإذا خالفَ هذا القولَ أَحدٌ مِنَ النَّاسِ ضَلَّلَهُ أولئكَ الغُلاةُ، أو بَدَّعوهُ، وشَهَّروا به في الآفاقِ، واستباحوا عِرضَهُ بأسوءِ العباراتِ وأقذَعِ الكلماتِ، ولو كانَتْ مخالفتُهُ هذه مستنِدةً على قولٍ آخرَ لبعضِ أهلِ العلمِ الثِّقاتِ، ولا ريبَ أنَّ هذا المسلكَ الشَّائن هو عينُ الحزبيةِ الذَّميمةِ، والطائفية المقيتةِ والعصبيةِ البغيضةِ.

يَقولُ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيمية -رحمه الله ورفعَ قدرهُ في المهديِّينَ- في كلمةٍ تأصيليةٍ منهجيةٍ ماتعةٍ تُكتبُ بماءِ الذهبِ على صُحفٍ منْ نورٍ: "فأئمَّة الدِّين هم على منهاج الصَّحابة -رضوان الله عليهم أجمعين- والصَّحابة كانوا مؤتلفين متَّفقين، وإن تنازعوا في بعض فروع الشَّريعة في الطَّهارة أو الصَّلاة، أو الحجِّ أو الطَّلاق أو الفرائض أو غير ذلك، فإجماعهم حجَّةٌ قاطعةٌ، ومَن تعصَّب لواحدٍ بعينه من الأئمَّة دون الباقين فهو بمنْزلة مَن تعصَّب لواحدٍ بعينه من الصَّحابة دون الباقين، كالرافضيِّ الَّذي يتعصَّب لعليٍّ دون الخلفاء الثَّلاثة وجمهور الصَّحابة، وكالخارجيِّ الَّذي يَقْدح في عثمان وعليٍّ -رضي الله عنهما- فهذه طرقُ أهل البدع والأهواء، الَّذين ثبتَ بالكتاب والسُّنَّة والإجماع أنَّهم مَذْمومون خارجون عن الشَّريعة والمنهاجِ الَّذي بَعث الله به رسوله -صلَّى الله عليه وسلَّم- فمن تعصَّب لواحدٍ من الأئمَّة بعينه ففيه شبهٌ من هؤلاء، سواءٌ تعصَّب لمالكٍ أو الشَّافعيِّ أو أبي حنيفة أو أحمد أو غيرهم.

ثمَّ غاية المتعصِّب لواحدٍ منهم أنْ يكون جاهلًا بِقَدره في العلم والدِّين، وبقَدْر الآخَرين، فيكون جاهلًا ظالمـًا، والله يأمر بالعلم والعدل، وينهى عن الجهل والظُّلم، قال تعالى: {وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا}[الأحزاب:72].

وهذا أبو يوسف ومحمَّدٌ أتبع النَّاس لأبي حنيفة، وأعلَمُهم بقوله، وهما قد خالَفاه في مسائل لا تكاد تُحصى، لَمَّا تبيَّن لهما من السُّنَّة والحجَّة ما وجب عليهما اتِّباعه، وهما مع ذلك مُعظِّمان لإمامهما، لا يُقال فيهما: مذبذبان، بلْ أبو حنيفة وغيره من الأئمَّة يقول القولَ ثمَّ تتبيَّن له الحجَّة في خلافه، فيقول بها ولا يقال له: مذبذبٌ، فإنَّ الإنسان لا يزال يطلب العلم والإيمان، فإذا تبيَّن له من العلم ما كان خافيًا عليه اتَّبعه، وليس هذا مذبذَبًا، بل هذا مهتدٍ زاده الله هدًى، وقد قال تعالى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا}[طه:114]، فالواجب على كلِّ مؤمنٍ موالاةُ المؤمنين وعلماءِ المؤمنين، وأنْ يقصد الحقَّ ويتَّبعه حيث وجده، ويَعْلم أنَّ من اجتهد منهم فأصاب فله أجران، ومن اجتهد منهم فأخطأ فله أجرٌ لاجتهاده، وخطؤه مغفورٌ له.

وليس لأحدٍ أن يتَّخذ قولَ بعض العلماء شعارًا يوجب اتِّباعه، ويَنهى عن غيره مِمَّا جاءت به السُّنَّة"مجموع الفتاوى، (22/252)..

 

7. التنقيبُ عَنِ الأخطاءِ، والتصيُّدُ للهفواتِ، والفرحُ بالزَّلاتِ، والدُّخولُ في المقاصدِ والنِّيَّاتِ، وتحميلُ الكلامِ أسوءَ الاحتمالاتِ.

يقول الإمامُ ابنُ قيِّم الجوزية رحمه الله: "ومِن النَّاس مَن طبْعُه طبع خِنْزيرٍ، يَمرُّ بالطيبات فلا يلوي عليها، فإذا قام الإنسانُ عنْ رَجيعهِ قَمَّهُ، وهَكَذا كثيرٌ منَ النَّاسِ، يَسمعُ مِنكَ، ويَرى منَ المَحاسنِ أضعافَ أضعافِ المساوئ، فَلا يحفظُها، وَلا يَنْقُلُها، ولا تُناسِبُه، فَإذا رَأى سَقطةً، أَوْ كَلمةً عوراءَ: وَجَدَ بُغيتَهُ وما يُناسِبُها، فَجَعلها فَاكهتَهُ ونُقْلَهُ"مدارج السالكين، (1/403)..

وقد كانَ لهذا الموقفِ السَّلبيِّ الَّذي اتَّخذهُ الغلاةُ منهجًا لهم في (الرَّدِّ على المخالفِ) آثارٌ سيئةٌ وعواقبُ وخيمةٌ، منها:

  1. صَرْفُ طَاقاتِ الشبابِ وأوقاتِهم عَنْ طلبِ العلمِ والرُّسوخِ فيهِ، وعَنِ الدَّعوةِ إلى اللهِ والبناءِ الذَّاتي على منهاج النبوَّة، وإهدارُ هذه النِّعمِ الجليلةِ، العظيمةِ القدرِ في أمورٍ ليسوا لها أهلًا.

  2. إشعالُ نارِ الفِتَنِ بينَ أهلِ العلمِ وطُلاَّبهِ، نتيجةً لكثرةِ القيلِ والقالِ، ومجاوزةِ الحدِّ الشَّرعيِّ في نَشْرِ الكلامِ ونَقْلهِ.

  3. تَمزيقُ لُحمةِ أهلِ السُّنةِ، وتَشْتيتُ الصَّفِّ السلفيِّ القائمِ على منهاجِ النبوةِ.

  4. بروزُ ظاهرةِ التَّعالُمِ، وشيوعُ حُبِّ الظُّهورِ الَّذي منْ شأنهِ أن يَقصمَ الظُّهورَ.

  5. انفصامُ عُرى الأخوّةِ الإسلاميّةِ، وتقطُّعُ أوصالِ المَحبةِ الإيمانيّةِ.

  6. انحسارُ مَدِّ أهلِ السُّنةِ، واستِقْواءُ أهلِ الزَّيغِ والضَّلالِ بعضهم ببعضٍ.

 

المِحورُ الثَّالثُ: موقفُ الجفاةِ من الرَّدِّ على المخالفِ:

أَمَّا مَوقفُ الجفاةِ مِنَ (الرَّدِّ على المخالفِ)، فهو على عكسِ موقفِ الغلاةِ تمامًا، إذْ إِنَّهم أسقطوا هذا الواجبَ العظيمَ، وضربوا بهِ عرضَ الحائطِ، بدعوى الحفاظِ على وحدةِ المسلمينَ وعدمِ تفريقِ الصَّفِّ، فسكتوا عَنِ الرَّدِّ على أهلِ الزَّيغِ والضَّلالِ، وأَلجَموا ألسِنتَهم عَنْ بيانِ فَسادِهم، والتَّحذيرِ مِنْ مناهِجهم، كما هُوَ حَالُ كثيرٍ مِن الحركاتِ الحزبيَّةِ البعيدةِ عَنْ منهاجِ النُّبوةِ، وهذا مِنْ تزيينِ الشيطانِ لهم، وتلاعبهِ بعقولهم.

يقولُ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيمية -رحمه الله- في شأنِ أهلِ الزَّيغِ والضَّلالِ والذَّابِّينَ عنهم: "ويجب عقوبةُ كلِّ مَن انتسب إليهم، أو ذبَّ عنهم، أو أثنى عليهم، أو عظَّم كُتبَهم، أو عُرف بِمُساعدتهم ومعاونتهم، أو كره الكلام فيهم، أو أخذ يعتذر لهم بأنَّ هذا الكلام لا يَدْري ما هو، أو مَن قال: إنَّه صنَّف هذا الكتاب، وأمثال هذه المعاذير الَّتي لا يقولها إلاَّ جاهلٌ أو منافقٌ، بل تجب عقوبةُ كلِّ مَن عَرف حالَهم، ولَم يُعاون على القيام عليهم، فإنَّ القيام على هؤلاء مِن أعظم الواجبات، لأنَّهم أفسَدوا العقول والأديان على خلقٍ مِن المشايخ والعلماء، والملوك والأُمراء، وهم يَسْعون في الأرض فسادًا، ويَصدُّون عن سبيل الله، فضَررهم في الدِّين: أعظم مِن ضرر مَن يفسد على المسلمين دنياهم، ويترك دينهم كقُطَّاع الطَّريق، وكالتَّتار الَّذين يَأخذون منهم الأموال، ويُبقون لهم دينهم"مجموع الفتاوى، (2/132)..

وقَدْ تَولَّدَ عنْ هذا الموقفِ السَّلبيِّ الَّذي اتَّخذه الجُفاةُ منهجًا لهم في (الرَّدِّ على المخالفِ) جُملةٌ منَ الآثارِ الشَّنيعةِ، منها:

  1. شُيوعُ الأقوالِ الباطلةِ، والأهواءِ المزريةِ.

  2. اندراسُ معالِمِ الدِّينِ، وانطماسُ حقائقهِ وأُصوله.

  3. إفسادُ الأرضِ بسببِ فُشُوِّ الشَّركِ والبِدَعِ والمنكراتِ.

  4. تَصَدُّعُ البناءِ الدَّاخليِّ للأُمَّةِ، ومِنْ ثَمَّ تكونُ الأُمَّةُ خانعةً ذليلةً، ولقمةً سائغةً لأعدائها.

  5. انقلابُ الموازينِ، واضطرابُ المفاهيمِ، وتَشَوُّهُ التَّصوُّراتِ.

  6. نُزولُ العُقُوباتِ الإلهيَّةِ، لأَنَّ في السُّكوتِ عَنِ الرَّدِّ على المخالفِ تعطيلًا لشعيرةِ النُّصحِ والأمرِ بالمعروفِ والنَّهيِ عَنِ المنكرِ، مِمَّا كانَ سببًا في عقوبةِ اللهِ -عَزَّ وجلَّ- لبني إسرائيلَ، وَذلكَ بِلعنِهم في كتبِ اللهِ المُنَزلةِ: التَّوراة والإنجيل والزَّبورِ، وطردهم عَنْ رحمةِ اللهِ -عَزَّ وجلَّ- كما قالَ تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ* كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}[المائدة:78-79].

 

المحورُ الرَّابعُ: بيانُ الموقفِ الشَّرعيِّ الصحيحِ منَ الرَّدِّ على المخالفِ:

يَصبو المسلمُ النَّاصحُ لنفسهِ، أَنْ يَكونَ على جادةِ الصَّوابِ في موضوعِ (الرَّدِّ على المخالفِ)، ولا يُمكنُ البتَّةَ أنْ يكونَ لهُ ذلكَ، حَتَّى يَتخلَّصَ مِنْ مسلكِ الغُلاةِ والجُفاةِ كليهما، ولَنْ يتحقَّقَ هذا أبدًا إلاَّ بأنْ يَتَّخذَ موقفًا شرعيًّا صحيحًا مِنَ هذه الوسيلةِ الشَّرعيةِ، وذلكَ بالتزامِ مجموعةٍ مِنَ الشُّروطِ والآدابِانظر: الردود، ص (55-70) للعلاَّمة بكر أبو زيد رحمه الله.، التي لا محيصَ عنها، وهي فيما يلي:

  1. إخلاصُ النِّيةِ للهِ -عَزَّ وجلَّ- بأنْ يكونَ باعثُ الرَّدِّ على المخالفِ هو (إعلاءَ كلمةِ الله)، والذَّبَّ عَنْ دينهِ، وإرادةَ وجههِ سبحانه، وما أعدَّه مِنَ الأجرِ والثوابِ في الآخرةِ.

ومنَ المعلومِ أَنَّ الإخلاصَ شرطٌ عامٌّ في كُلِّ الأعمالِ الصالحةِ، كما قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ}[البينة:5].

  1. المتابعةُ لهديِ الشَّريعةِ، بأنْ يُدفعَ الباطلُ بالحقِّ، وليسَ بالباطلِ، كما هو هديُ النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- في الرَّدِّ على المخالفِ، كما مَرَّ معنا في محور التأصيل للرَّدِّ على المخالفِ.

  2. الأَهْلِيَّةُ: وذلكَ بأنْ يَكُونَ الرَّادُّ على المخالفِ مِنْ أهلِ العلمِ الأقوياءِ، المتمسِّكينَ بـِ (منهاجِ النُّبوةِ)، القائمينَ بالحقِّ، والرَّدِّ على الباطلِ بالحُججِ والبَيِّناتِ، والأدلةِ القاطعاتِ، وينبغي لَهُ أيضًا أَنْ تكونَ له قدَمٌ راسخةٌ في (فقه المَصالح والمفاسد)، وفي النَّظرِ إلى عواقبِ الأمورِ والمآلاتِ.

فَمَنْ لَمْ يَكنْ كذلكَ، فليسَ أهلًا للرَّدِّ، وإِنَّما هو أهلٌ للذَّمِّ، كما قال تعالى: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}[آل عمران:66].

وقالَ سبحانه: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}[الأعراف: 33].

يقولُ الحافظُ الذَّهبيُّ رحمه الله: "الصَّدْع بالحقِّ عظيمٌ، يَحتاج إلى قوَّةٍ وإخلاصٍ، فالمـُخلِص بلا قوَّةٍ يَعْجز عن القيام به، والقويُّ بلا إخلاصٍ يُخْذَل، فمن قام بهما كاملًا، فهو صِدِّيقٌ"سِيَر أعلام النبلاء، (21/278)..

ويقولُ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيمية رحمه الله: "وَقدْ يَنهونَ عنِ المـُجادلةِ والمناظرةِ إذا كَانَ المناظرُ ضعيفَ العلمِ بالحجةِ، وجواب الشُّبهةِ، فَيُخافُ عَليهِ أَنْ يُفسدهَ ذلكَ المضِلُّ، كَما يُنْهى الضعيفُ في المـُقاتَلةِ أَنْ يُقاتِلَ عِلْجًا قَوِيًّا مِنْ عُلوجِ الكفارِ، فَإِنَّ ذَلكَ يَضُرُّه، ويَضُرُّ المسلمينَ بلا منفعةٍ"درء التعارض: (3/374)..

 

  1. تحقيقُ العدلُ، فالعدلُ نظامٌ شاملٌ، يَستوعبُ جميعَ ميادينِ الحياةِ وأبوابِ الدِّينِ، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}[النحل:90]

وقالَ سبحانَهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ}[النساء:135]. وقالَ جَلَّ وعلا: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}[الحديد:25].

وَيَكونُ العَدلُ بالتَّثبُّتِ مِنْ كلامِ المخالفِ، والتَّبيُّنِ مِنْ مخالفتهِ، وعدمِ تحميلِ كلامهِ ما لا يَحتملُ، والحذرِ مِنَ التَّقوُّلِ عليه بما لا يَقُلْ.

 

  1. التزامُ الرَّدِّ بالتي هِيَ أحسنُ، وهذا هو الأصلُ، كما قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[النحل:125].

وقدْ يُصارُ إلى غيرِ هذا الأصلِ مِنَ الرَّدِّ بالتقريعِ والقسوةِ وذِكْرِ اسمِ المخالفِ تعيينًا، إذا دَعتِ الضَّرورةُ لذلكَ، وهذا إذا كانَ المخالفُ مِنْ أهل الكذبِ والعنادِ والتَّلبيسِ والإرجافِ، كما هو شأنُ المنافقينَ والزَّائغينَ عَنِ الحقِّ.

يَقولُ الإمامُ الشَّاطبيُّ -رحمه الله- في شأنِ تعيينِ أهلِ الزَّيغِ بأسمائِهم والتَّشهيرِ بهم: "حيث تكون الفرقةُ تدعو إلى ضلالتها وتزيينها في قلوب العوامِّ، ومَن لا علم عنده، فإنَّ ضرر هؤلاء على المسلمين كضرر إبليس، وهم مِن شياطين الإنس، فلا بدَّ من التَّصريح بأنَّهم مِن أهل البدعة والضَّلالة، ونِسبتهم إلى الفِرَق إذا قامت له الشُّهود على أنَّهم منهم، كما اشتَهر عن عمرِو بن عبيدٍ وغيره، فرَوى عاصمٌ الأحول، قال: جلستُ إلى قتادة، فذكر عمرَو بن عبيدٍ، فوقعَ فيه ونال منه، فقلتُ: أبا الخطَّاب، ألا أرى العلماء يقع بعضُهم في بعضٍ؟ فقال: يا أحول، أوَلا تدري أنَّ الرَّجل إذا ابتدعَ بدعةً فينبغي لها أن تُذكَر حتَّى تُحذَر؟ فجئتُ مِن عند قتادة، وأنا مغتمٌّ بما سمعتُ من قتادة في عمرو بن عبيدٍ، وما رأيتُ مِن نُسكه وهديه، فوضعت رأسي نصف النَّهار، وإذا عمرو بن عبيدٍ والمصحفُ في حجره، وهو يحكُّ آيةً من كتاب الله، فقلتُ: سبحان الله! تحكُّ آيةً من كتاب الله؟ قال: إنِّي سأعيدها، قال: فتركتُه حتَّى حكَّها، فقلتُ له: أعِدْها، فقال: لا أستطيع!

فمثل هؤلاء لا بدَّ من ذكرهم والتَّشهير بهم، لأنَّ ما يعود على المسلمين من ضَررِهم إذا تُركوا، أعظمُ من الضَّرر الحاصل بذِكْرهم والتَّنفير عنهم"الاعتصام، (2/731)..

فالملتزمُونَ بهذه الشُّروطِ والآدابِ هم أهلُ الحقِّ في هذا البابِ، وهم الذين أثنى عليهم اللهُ -جلَّ وعلا- بقولهِ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ}[البقرة:143].

يقولُ الإمامُ ابن قيم الجوزية رحمه الله: "وهَدَى اللهُ الأمةَ الوسطَ لما اختلفوا فيهِ منَ الحقِّ بإذنهِ، وهَذا بَيِّنٌ بحمدِ اللهِ عندَ أهلِ العلم والإيمانِ، مُستقِرٌّ في فِطَرِهم، ثابتٌ في قلوبِهم، يشهدونَ انحرافَ المنحرفينَ في الطَّرفينِ، وهُم لا إلى هؤلاءِ، ولا إلى هؤلاءِ، بلْ هُم إلى اللهِ تعالى ورسولِه مُتحَيِّزونَ، وإلى محضِ سُنتهِ مُنتسبون، يَدينونَ دِينَ الحقِّ أَنَّى تَوجَّهَت رَكائبهُ، ويَستقِرُّون مَعه حيثُ استقرَّتْ مَضارِبُه، لا تَستفزُّهم بَدَواتِ آراءِ المختلفينَ، ولا تُزلزِلهم شُبهاتُ المبطلينَ، فَهُم الحكَّامُ على أربابِ المقالاتِ، والمميِّزونَ لما فيها منَ الحقِّ والشُّبهاتِ. يَردُّون على كُلِّ بَاطلهِ، ويُوافقونَه فيما معهُ في الحقِّ، فهم في الحقِّ سِلْمُه، وفي الباطلِ حَرْبُه. لا يميلونَ مَع طائفةٍ على طائفةٍ، ولا يجحدونَ حَقَّها، لِما قَالَتْهُ مِنْ باطلٍ سِواهُ. بلْ هُم مُمتَثِلونَ قولَ اللهِ تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}[المائدة:8]. فإذا كَانَ قد نَهى عبادَه أَنْ يَحملَهم بُغضُهم لأعدائِه أَنْ لا يَعدلوا عليهم -مَعْ ظُهورِ عَداوتِهم، ومُخالفتِهم، وتكذيبِهم للهِ ورسولهِ- فكيفَ يَسوغُ لمنْ يَدَّعِي الإيمانَ أَنْ يَحمِلَهُ بُغضهُ لطائفةٍ مُنتسبةٍ إلى الرَّسولِ تُصيبُ وتُخطئُ على أنْ لا يَعدلَ فيهم، بلْ يُجرِّدُ لهم العداوةَ وأنواعَ الأذَى؟! ولَعلَّه لا يَدري أَنَّهم أولى باللهِ ورسولهِ، وما جاءَ بهِ -منه- عِلمًا وعملًا، ودعوةً إلى اللهِ على بصيرةٍ، وصَبْرًا منْ قومهم على الأذى في اللهِ، وإقامةً لحجةِ اللهِ، ومعذرةً لمنْ خَالفَهم بالجهلِ! لا كَمنْ نَصبَ مقالةً صادرةً عَنْ آراءِ الرِّجالِ، فَدَعا إليها، وعاقبَ عليها، وعادَى مَنْ خَالفَها بالعصبيةِ وحميةِ الجاهِليَّةِ"بدائع الفوائد، (2/649-650)..

واللهَ أَسألُ أنْ يَهدينا وإخواننا المسلمينَ إلى المسلكِ الحقِّ الوسطِ، وأنْ يُعيذنا منْ مسلك الغُلاة والجفاة، إنَّه جوَادٌ كريمٌ، وهو نِعمَ المولى ونعمَ النَّصير.

 

المصدر: شبكة الألوكة

1 - التبيان لأقسام القرآن، (ص/210) لابن القيِّم.
2 - مجموع الفتاوى، (14/483).
3 - إسناده صحيحٌ، أخرجه أبو داود في سُنَنه، (2/13) رقم: (2504).
4 - أخرجه البخاري في صحيحه، (3/1148)، رقم: (2981)، ومسلم في صحيحه، (3/109) رقم: (2494) من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه.
5 - أخرجه البخاري في صحيحه، (5/1949)، رقم: (4776) من حديث أنسٍ رضي الله عنه.
6 - مجموع الفتاوى، (11/435).
7 - المرجع السابق، (28/232).
8 - إسناده صحيح، أخرجه الخلاَّل في السُّنَّةِ، (2/373)، رقم: (513).
9 - مجموع الفتاوى: (4/425).
10 - اقتضاء الصراط المستقيم، (1/457).
11 - سير أعلام النبلاء، (27/38).
12 - مجموع الفتاوى، (22/252).
13 - مدارج السالكين، (1/403).
14 - مجموع الفتاوى، (2/132).
15 - انظر: الردود، ص (55-70) للعلاَّمة بكر أبو زيد رحمه الله.
16 - سِيَر أعلام النبلاء، (21/278).
17 - درء التعارض: (3/374).
18 - الاعتصام، (2/731).
19 - بدائع الفوائد، (2/649-650).

إضافة تعليق جديد