الإلحاد في زمن الشاشات والشبكات
لم نعد بحاجةٍ إلى الشّاشات العريضة والمؤثّرات الصوتيّة وعتمة قاعة السينما للوصول إلى وعي الجمهور، فقد صارت السينما وغيرها من المرئيّات زائرةً سهلةَ المنال سريعة الوصول بلا تَكلفة من خلال الشّاشات الصغيرة للهواتف الذّكيّة التي لا تفارق الأيدي ولا ترتفع عنها الأبصار إلّا يسيرًا.
كما لم يعد المرء بحاجةٍ إلى أن يقطع مسافةً مكانيّة ويبذل وقتًا وجهدًا ومالًا ليصل إلى قاعةٍ أو مقهى تقام فيه جلسةٌ حواريّة، بل صار يمكنه القيام بكلّ ذلك عبر شبكات وبرامج التّواصل الاجتماعي وهو مستلقٍ على سريره أو متكّئ على أريكته في أيّة ساعة من ليلٍ أو نهار.
إنَّ هذا الزّمن بحقّ هو زمن الشّاشات والشّبكات التي تخطفنا ممن حولنا بل من أنفسنا، لتغدو الوسيلة الأكثر تأثيرًا في الوعي وتوجيهًا للأفكار وتغلغلًا في أعماق اللاوعي.
التّطبيعُ مع الشّذوذ:
من أهمَّ ما ساهم به الإعلام مرئيًّا كان أو مكتوبًا هو كسرُ الحاجز النّفسي مع الشّذوذ بأنواعه المتخلفة، الشّذوذ الفكريّ والسّلوكيّ والأخلاقيّ والقيميّ.
فالإلحاد الذي يمثّلُ صورةً من صور الشّذوذ الفكري تمَّ التعاملُ معه كما هو الحال في التعامل مع الشّذوذ الأخلاقيّ.
حيث قدّمت الشّاشات سواء في السينما أو التلفزيون أو مواقع التّواصل الاجتماعي الشّذوذ الأخلاقي بطريقة تدريجيّة ممنهجة، حيث تمّ الابتداء بالعلاقات غير السويّة وعرضها بطريقة تتجاوز حدّ الطّبيعيّ إلى حدّ المحبّب إلى النّفس، ثمّ غدت صورة الشّواذ المثليين صورة تُثير التعاطف والإشفاق وتتقبلها النّفس الإنسانيّة وترى الفعل داخلًا في دائرة المقبول، ليصل بعد ذلك إلى الحقّ الإنسانيّ الذي يستحقّ مُنكره التّجريم، ثمّ يصل الأمرُ إلى كسر الحاجز النّفسيّ مع سفاح المحارم، على السّواء في هذا الشّاشات العالميّة والعربيّة، وبعض المسلسلات السوريّة التي تعرضها الفضائيّات في آخر عامين غدت أصرح ما يكون في الحديث عن أنواع الشّذوذ هذه.
كذلكَ تعاملَت الشّاشات مع قضيّة الإلحاد والتّنكّر للإله حيث يتمّ ترويج الإلحاد بطريقة فيها ذكاء كبير من خلال رسائل مبطّنة تتغلغل في أعماق الوعي واللاوعي.
وقد تمّ تمريرُ الإلحاد بطرقٍ شتّى ورسائل مختلفة منها تصوير الملحد بصورة الشّخص النّبيل غالبًا الذي يمثّل نموذجًا للخير والتّضحية الذي يحبّه المشاهد ويتعاطف معه.
أو من خلال ما يطلق عليه الخيال العلمي وما فيه من مبالغاتٍ تقود إلى ترسيخ فكرة أنَّ العلم لا الإله هو المؤثّر المطلق في هذا الكون.
أو من خلال تمرير الشّبهات الإلحاديّة بطريقة توحي أنّها حقائق ومُسلَّمات، وكذلك من خلال تسفيه صورة الإله وتجسيدها بصورةِ الكائن الذي يخضع للمحاكمة على تقصيره ويخضع للمشاعر البشريّة من حزن وندم وألم وخوف.
كلُّ هذا وغيره ساهم بشكلٍ كبيرٍ في التّطبيع مع فكرة الإلحاد ابتداءً وتقبّلها في الوعيّ الجمعيّ على أنَّها حالة طبيعيّة رغم أنَّها حالة تُخالف الطبيعة البشريّة التي تنزع إلى الإيمان بقوّة عظمى تؤثّر في هذا الكون والحياة.
وهذا ما يقوله عامّة المتخصصين بالنّفس الإنسانيّة على اختلاف توجّهاتهم وأفكارهم، ومن أمثلته ما خلص إليه البروفيسور جاستين باريت أستاذ علم النّفس من جامعة كورنيل والباحث العلمي في جامعة أكسفورد مع البروفيسور روجير تريغ أستاذ الفلسفة في جامعة أكسفورد، من المشروع العلمي حول فطريّة الإيمان الذي قاما به ومعهما سبعة وخمسون باحثًا علميًّا متخصّصًا من عشرين دولة.
وقد كانت الخلاصة التي وضعها البروفيسور باريت في نهاية المشروع: "لقد جمعنا أدلة كثيرة تثبت أنّ التديّن حقيقة مشتركة في طبيعة الإنسان في المجتمعات المختلفة".
حياةٌ بلا دين:
من أخطر ما قدّمته الماكينة الإعلاميّة من سينما ومسلسلات وإعلانات، هو تقديم صورة للحياة التي يعيشها المشاهد بكلّ تفاصيلِها ووقائعها، لكنّها حياة لا دينَ فيها، وإن تمظهرت ببعض المظاهر البسيطة المتناثرة هنا وهناك للدّين في بعض الأفلام والمسلسلات، على أنَّ الإعلانات وهي من أكثر المؤثّرات في الوعي والنّفس تخلو تمامًا من فكرة الدّين.
إنَّ تجسيد صورة الحياة بما فيها من أحداث وتفاصيل ووقائع هو من أكبر العوامل التي تروّج للإلحاد من خلال تصوير الحياة التي يعيش المرء كلّ تفصيلاتها بلا دينٍ فيتجسّد بذلك معنى الحياة الطبيعيّة، فيكون الدّين عندها مجرّد إضافةٍ شكليّةٍ لا قيمة ولا حاجة لها.
ويتزامن هذا مع غياب شبه كامل للصورة المضادّة التي تبيّن مركزيّة الدّين في حياة الإنسان وحضوره في تفاصيل حياته اليوميّة عن الأعمال الفنيّة المؤثّرة من أفلام وإعلانات واسعة الانتشار، ما خلا بعض المسلسلات التي تتحدّث عن ذلك بطريقة صريحة ومباشرة.
لقد فشل العاملون في الحقل الإسلاميّ في اختبار الفنّ فشلًا ذريعًا، ولم يقدّموا بديلًا يَصلح للمنافسة الحقيقيّة لا سيما في السينما العالميّة.
السّياق الإشكاليّ:
إضافةً إلى كلّ ما سبقَ فإنَّه يتمّ استحضار الدّين عند الحاجةِ إلى ذلك في الفنّ من أفلام ومسلسلات وإعلانات في سياقٍ إشكالي.
ويتجلّى هذا في تصوير الدّين عند حضوره بصورة سلبيّة موغلة في التّنفير، ومن أمثلة ذلك ربطه بالإرهاب والدّمويّة، أو بتنميط الصّورة تجاه المرأة وظلمها واستعبادها، وكذلك ربط الدّين بالشّعوب المتخلّفة ربطًا سببيًّا.
وكذلك من خلال تصوير المتديّن أو "الشيخ" بصور شتّى لا إيجابيّة فيها، كالسّذاجة والغباء، والانتهازيّة والخبث، واستحكام شهواته وغرائزه فهو الشّهواني الذي يغرق في محبّة الجنس والطّعام.
إنَّ حضور الدّين بهذا السّياق هو من الأسباب التي تروّج للإلحاد من خلال تكريس الصّورة السلبيّة للدّين وحامليه والدّعاة إليه مترافقةً مع ضخٍّ كبيرٍ لصالح الصّورة الإيجابيّة للملحد وتفوقه الأخلاقيّ وتميّزه العلميّ.
بينَ الشّبهة والرّد عليها:
ومّما ساهمت الشّبكات فيه إلى جانب سهولة الوصول للجميع، هو طبيعة التّأثير التي تكتنفُ هذه الشّبكات.
حيث إنَّ التّأثير فيها هو للمختصراتِ لا المطوّلات، والانتشارُ الأكبر للمقاطع الصّغيرة لا الطّويلة.
هذه الطبيعة تتيحُ إلقاء الشّبهات بنجاحٍ كبير فإنّ مقطعًا واحدًا لا يتجاوز دقيقة واحدة يسمعه ويراه الملايين، فيهزّ عندهم ثوابت ويضعضع أركانًا راسخة، ويفجّرُ من الأسئلة ما يحتاج إلى أضعاف وقت إلقاء الشبهة من أجل الرّد عليها.
ثمّ تغيب الرّدود عن ساحة التّأثير إذ تأتي على شكل مقالاتٍ مطوّلة أو مقاطع مرئيّة طويلة لا تنالُ قبولًا ولا انتشارًا لأسباب عديدة من أبرزها أنَّ طول هذه المقاطع والمقالات لم يعد مرغوبًا في هذه الشّبكات بل هو بضاعة نخبويّة تعافها الجماهير.
إضافةً إلى ضعف حضور المشتغلين في حقل الدّعوة في هذه الشّبكات وزهدهم فيها تحت مبرّرات عديدة من أهمّها عدم وعيهم بأهميّتها ومساحة تأثيرها إلى جانب عدم القدرة على التّعامل معها بطريقة مؤثّرة.
إنَّه الثّغر:
إنَّ التّعامل مع الشّاشات والشّبكات اليوم بوصفها من أهمَّ الثّغور التي يجب أن تُستَنفر الطّاقات للمرابطة عليها هو نقطة الانطلاق للوقاية من تأثيرات هذه الأدوات في صناعة الإلحاد والترّويج له وعلاج ما ينتج جراء تأثيرها من صناعة هذه الظّاهرة الخطيرة.
وإنَّ إيمان المشتغلين في الحقل الإسلاميّ من دعاةٍ وعلماء وتجّار أصحاب رؤوس أموال وأصحاب نفوذ في المؤسسّات والكيانات بضرورة الالتفات إلى الفنّ الرّساليّ الذي يوصل الرسائل الإعلاميّة المضادّة للرسائل الترويجيّة للإلحاد بطريقة احترافيّة هو نقطة الارتكاز لتغدو الشّاشات والشّبكات منابر حقيقّة لخطاب احترافيّ يؤثّر في أعماق الشباب في هذه المساحة التي يتسابق فيها المتنافسون للاستحواذ على المتابعين.
ولن ينتصر دعاة الحقّ فيها فقط لأنّهم يحملون فكرًا راقيًا صوابًا إن هم أغفلوا احترافيّة الأداء والوصول.
وكذلك لا بدّ من جعل التعامل مع الشبهات المتناثرة على الشبكات التواصليّة والوسائط الإعلاميّة مساقًا من مساقات تأهيل الدّعاة والشّباب الذين يتصدّون لهذه الشبهات.
بحيث يتمّ تدريبهم على التّعامل مع هذه الوسائط تعاملًا يحقّق التأثير، فالمعلومة الأكاديميّة وحدها أو القدرة على المحاججة أو البراعة في المناظرة لا يغدو مهمًّا أو نافعًا عند غياب القدرة على التّعامل التّقني والفنّي مع هذه الوسائط والأدوات.
كما أنّه يغدو ضروريًّا اجتراح آليّات غير نمطيّة ضمن عالم الشّاشات والشّبكات في التّعامل مع الشّبهات القصيرة والمؤثّرة، بحيث تكون الرّدود عليها ضمن المنهجيّة ذاتها وتحقّق الفاعليّة والتّأثير والإجابات الشّافية دون تطويل أو إملال، وهذا يحتاج إلى تضافر الجهود والطّاقات الإعلاميّة والفكريّة والدّعويّة معًا.
المصدر: الجزيرة مباشر
إضافة تعليق جديد