تعزيز الأمن الفكري بين الواجب والضرورة
تمهيد:
يعيش المسلمون اليوم في عصرٍ تتماوجُ فيه الاتجاهات الفِكرية وتتباين، ويشهد الجيل الحالي وخصوصًا الشباب والناشئة اصطراعًا فكريًا، يأخذ مدىً بعيدًا في توجيهه، بلْ إنَّ هناك جهاتٍ شتى تنأى به عن الجادّة التي هدى إليها ديننا القويم، كذلك نجد السّاحة الإسلاميّة اليوم يحتدمُ فيها النزاع، وتشتدُّ فيها المنافسة بين القنوات الإعلاميّة المتعددة (مقروءة، ومسموعة، ومرئيّة) والتي تحمل الغَثَّ والسّمين مما هو مبثوث داخل المجتمعات الإسلامية، أو ما يَفِدُ إليها من مجتمعاتٍ شتَّى، وهذا تأكيدٌ لما ذهب إليه المختصّون في دراسة الغزو الفِكريّ، من أنَّ (الفِكر والثقافة والأيديولوجيا): هي محاور الصراع الذي تُخطِّط له القوى العالميّة الغازية، والتي تهدف (فيما تهدف إليه) إلى العمل الدائب على تحويل التوجُّه الفِكريّ والثقافيّ لدى شباب المسلمين إلى وجهات التطرُّف والعَلْمانية والماديّة، التي تسود الفِكر العالمي، بعيدًا عن مُعطيات الإسلام ومبادئه المتوازنة.
لذا كان من الأهميّة بمكان أنْ يعمل دُعاة الإسلام والحادبين على أمره، على تعزيز الأمن الفِكري للأُمّة المسلمة، حتى تستقيم الحياة الدُّنيا، وتكتمل سعادتها، والتي لا تتأتَّى إلاَّ إذا أمِنَ المسلمُ على نفسهِ، وارتاح قلبه، وهدأت جوارحه، وأمِنَ من وقوع مكروهٍ يهدده، أو ينتقص دينه، أو ينتهك حرماته، أو يستلب خيراته، أو يفرض عليه ما يتعارض مع دينه وثقافته من أفكار ومذاهب وأخلاق.
يتناول هذا البحث برامج التّحصين العقديّ وتعزيز الأمن الفِكري من خلال المباحث التالية:
المبحث الأول: التحصين العَقدي، مفهومه وكيفيته.
المبحث الثاني: الأمن الفِكري، مفهومه، ضرورته ومجالاته.
المبحث الثالث: تعزيز الأمن الفِكري بين الواجب والضرورة.
الخاتمة وأهم النتائج والتوصيات.
المبحث الأول: التحصين العقدي، مفهومه وكيفيته:
لا شكَّ أنَّ تأصيل العقيدة في النفوس وتربية النشء عليها من أسباب تحصينهم من الشرور والفساد، وحماية أفكارهم من المذاهب الهدّامة، والآراء الضالّة، والمناهج البعيدة عن الهدى، سواء كانت مناهج غلوٍّ وإفراط، كمذاهب الخوارج وأمثالها، المكفّرة لأهل المعاصي، الذين فهموا شَرع الله على غير ما أنزل الله، فاستباحوا دماء المسلمين وأموالهم بِشُبَهٍ واهيةٍ، وآراءٍ خاطئةٍ، وتصوراتٍ سيئةٍ، أو مذاهب كُفرٍ وإلحادٍ كالشيوعية الإلحادية الكافرة بالأديان كلّها، الذين مذهبهم المادة فقط ولا إله إلّا المادة، فلا يؤمنون بالله ربًّا ولا بالإسلام دينًا ولا بمحمد بن عبد الله نبيًا ورسولًا، هُم كما قال الله تعالى: {مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ}[الجاثية:24]
المطلب الأول: مفهوم التحصين العقدي:
من خلال التأمُّل الفِكري لاستخراج مفهوم (التّحصين العَقديّ) وتبيين المقصود منه، أرى أنَّه يُقصدُ به: البناء العَقديّ المتين من خلال الفهم الناضج لمنهاج الله كتابًا وسنَّةً، ووقاية الفِكر والعَقل عن كلِّ ما يخلُّ بهما من الآراء الفاسدة، المخالفة لمنهج أهل السنَّة والجماعة في التّلقي والاستدلال.
فالتّحصين العَقديّ يُشبه إلى حدٍّ كبيرٍ جهاز المناعة الواقي، الذي يحمي جسد الإنسان مِنْ أنْ يتسرَّب إليه شيء من المرض، فيفسده ويخلُّ به. وهكذا المسلم، فإنَّه محتاجٌ لما يحيط عقيدته ويرعاها حقَّ رعايتها من أن تتلقَّى شيئًا من شُبه أهل الضلال، فيقع في قلبه شيء من الانخداع بها، فيزيغ قلبه (عياذًا بالله من ذلك) فيهلك مع الهالكين.
ومنذ خروج المرء من بطن أمِّه، فليس في ذهنه رصيدٌ معرفيّ، ولا خبرة عمليّة، كما قال الله تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۙ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}[النحل:78]، فالمرء المسلم ما دامَ أنَّه سيبدأ بالتلقي والاتصال مع بني الإنسان، فسيجد اختلافات في الآراء، وتباينات في المناهج، وكلٌّ يدَّعي الحقّ والصواب.
المطلب الثاني: كيفية التحصين العقدي:
قد يتساءل سائل عن الكيفية التي يمكننا بوساطتها تحصين أنفسنا ومن حولنا عقديًا وفِكريًا، والأسس والأصول التي تكوِّن لدينا حصانةً عقديّةً شرعيّةً نستطيع بها _بعد توفيق الله تعالى_ أنْ نردَّ ما يَفد إلينا من شُبهات، خصوصًا في ظلِّ ما يُمارس الآن من حربٍ إعلاميَّةٍ غازيةٍ للأفكار والعقول المسلمة، ولعلَّ الجواب يكمن في عدّة نقاط أرى أنَّها تُسهم في بناء الحصانة المطلوبة، وهي كالتالي:
-
التعلُّق باللَّه -عزَّ وجل- والاستعانة والاستعاذة به، وسؤاله الهداية والثبات، والممات على دين الإسلام من غير تبديلٍ ولا تغيير، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أُسوةٌ وقدوة حسنة، فقد كان يسأل ربَّه الهداية، وكان كثيرًا ما يسأله الثبات على هذا الدين، وعدم تقلُّب قلبه عن منهج الإسلام، ويستعيذ به من أنْ يَضلَّ أو يُضلَّ، كما كان _عليه الصلاة والسلام_ يستعيذ من الفتن ما ظهر منها وما بطن، فالدعاء الملازم لذلك والانطراح على عتبة العبوديَّة، وملازمة القَرع لأبواب السماء بــ: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةًۚ إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ}[آل عمران:8]، إذا اجتمعت هذه كلَّها، فلاشكَّ أنَّ رحمته سبحانه سابقةٌ لغضبه وعقابه، ومحالٌ أنْ يتعلّق العبد بربِّه حقَّ التعلُّق، ويعرض عنه الله _سبحانه وبحمده_ وهو الكريم الوهّاب.
-
الثِّقة بمنهج الله ووعده وحكمه وأوامره، واليقين به ومراقبته، والشعور بالمسؤوليَّة عن حفظ الدّين من شُبهات المغرضين، وعدم خلطه بالباطل، أو لَبْسه إياه، ومن ثمَّ الصّبر على مكائد المنفِّذين والمسوِّغين للشُّبهات، فإنَّه سبحانه وتعالى يقول: {وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا ۗ إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ}[آل عمران:120] .وقد قال الإمام سفيان الثوري: "بالصبر واليقين تُنال الإمامة في الدين."
-
تلقِّي العلم عن العلماء الربَّانيين، وإرجاع المسائل المشكلة إليهم ليحلُّوها ويوضِّحوا ما أَبهم على صاحبها، فلا يستعجل في قبول فِكرة أطلقها من لا يُؤْمَنُ فكره، ولا يُبقي تلك الشُّبهة في صدره حتَّى تَعظُم، بلْ ينبغي عليه أَن يضبط نفسه بالرجوع للراسخين مِنْ أهل العلم، فإنّ الله تعالى يقول: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}[النحل:43]، وذلك لأنَّ هذا العلم دين يدين به العَبد لربَّه ويلقَاه به إذا ماتَ عليه، ولهذا قال الإمام محمد بن سيرين -رحمه الله-: "إنَّ هذا العلم دين، فانظروا عمَّن تأخذون دينكم."
-
البناء الذاتي بمعرفة مصادر التَّلقي، ومناهج الاستدلال الصحيحة، ومَلء القلب بنور الوحي من الكتاب والسنَّة، مع ملازمة إجماع أهل السنَّة والجماعة، فإنَّ هذه المصادر عاصمةٌ من قاصمة الوقوع في الخطأ والانحراف والزلل، وسببٌ أكيد لسدِّ باب الشُبهات المظلمات، وذلك _بعونه تعالى_ مساعدٌ لحماية العقل المسلم من مُضلاَّت الفتن. قال أبو عثمان النيسابوري: "من أمرَّ السُّنَّة على نفسه قولًا وفعلًا نطق بالحكمة، ومن أمرَّ الهوى على نفسه قولًا وفعلًا نطق بالبدعة، لأنَّ الله تعالى يقول: {وإن تطيعوه تهتدوا}[النور:54]، ومن ذلك إرجاع المجمل إلى المبيَّن، والمطلق إلى المقيَّد، والمؤوَّل إلى الظاهر، والجمع بين الأدلَّة التي ظاهرها التعارض، بالرجوع لكتب أهل العلم، واستقاء معاني الألفاظ من العلماء الربَّانيين، وكذا بردّ المتشابه إلى المحكم. وقد روت عائشة -رضي الله عنها- أنَّ رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- قرأ: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ۖ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ۗ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ۗ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ}[آل عمران:7]، ثم قال -صلَّى الله عليه وسلَّم-: (فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سمَّى الله، فاحذروهم).
-
التعلُّق بكتاب الله قراءةً وفقهًا وتدبُّرًا وعملًا، ولو أقبل الخلق على كتاب الله والانتهاج بنهجه، لأجارهم -سبحانه- من الفتن، فالقرآن شفاء لما في الصدور، ومن يُعرض عنه فسيصيبه من العذاب بقدر ابتعاده عنه، ورضي الله عن ابن عبَّاس إذ قال: "من قرأ القرآن فاتَّبع ما فيه هداه الله من الضَّلالة في الدنيا، ووقاه يوم القيامة الحساب".
-
إصلاح القلب ومجاهدته، ومن حاول ذلك وَجدَّ واجتهد في تحصيله، فليبشر بالهداية واليقين، فاللَّه تعالى يقول: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}[العنكبوت:69].
-
معرفة مقاصد الشريعة، ومرامي الدِّين الإسلامي، لأنَّها تمنح المسلم قوَّة منهجيَّة كبيرة، ولقاحًا ضدَّ الانحرافات
-
تكثيف البرامج التوجيهيَّة، وأخصُّ بالذكر وسائل الإعلام بشتَّى أصنافها، ومحاولة زرع الثّقة في قلوبِ المسلمين بالاعتزاز بدينهم وعقيدتهم، وتمكين قواعدِ الإسلام في قلوبهم، والردّ على ما يضادّها، وحتمًا سيولِّد ذلك قناعة بأولويَّة الأصول الإسلاميَّة في قلوب المسلمين، وبناء الرسوخ العَقدي في قلوبهم، وذاك التحصين الذي نريد.
-
إنشاء مراكز الأبحاث والدِّراسات المعنيَّة برصد الانحرافات الفكريَّة، والتعقيب عليها بتفنيد الشُّبه، والجواب عن الشكوك والشُبهات التي يثيرها بعض المارقين من قيم الإسلام ومبادئه، والجهاد الفِكري ضدَّها، من منطلق قوله تعالى: {وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا}[الفرقان:52]، وتفعيل هذه المراكز بقوَّة البحوث، وضخِّ المال الداعم لها، وتوظيف الباحثين المتمكِّنين فيها، وإعطاءها قدرًا من الشُّهرة والانفتاح على الوسائل الإعلاميَّة.
-
فسح المجال من وسائل الإعلام بشتَّى صورها وألوانها، للمنتمين لمدرسة أهل السنَّة بالخروج الإعلاميّ، وعرض رأيهم تجاه الآراء الأخرى، وبخاصَّة من الأقوياء المتمكِّنين منهم، وإنَّ ممَّا يُؤسف له، أنْ تجد بعضًا من وسائل الإعلام، تستضيف رجلًا بأفكار منحرفة، وتقابله بآخر من المنتسبين لمنهج أهل السنَّة لا يكون مستواه في الطرح الفِكري بتلك القوَّة اللاَّزمة، ممَّا يُؤثر سلبًا تجاه الناظرين لتلك المحطَّات الإعلاميَّة لطرح هذا الرجل السُّنِّي، كَما أنَّه من اللازم حقيقة لبعض أهل العلم ألاَّ ينأى بنفسه عن تلك المواجهات، بل يغلِّب جانب المصلحة العظمى والكبرى في نصرة أهل السنَّة وقضاياهم، على عدم الخروج بسبب بعض السلبيات أو المفاسد الصغرى، مع الإدراك والمعرفة بأنَّ كثيرًا من المهيمنين على الوسائل الإعلاميَّة يأتوننا بمفكّرين ومنتسبين للعلم، ليفصِّلوا لنا إسلامًا على المزاج الغربي، أو ما يسمُّونه بـ(الإسلام الليبرالي)! وما الدّعوات السيئة التي تخرج منهم أو من بعض أذنابهم بما يسمى بـ:(تطوير الخطاب الديني) إلاَّ ليصدوا المسلمين عن تمسُّكهم بدينهم الحقّ، وليستبدلوا به الانهزاميّة والتراخي، والذي لن يَنصر حقًا ولن يَكسر باطلًا، بل مقصوده الأساس تحريف المفاهيم لدى المسلمين، وتحريفُ المفاهيم أشدُّ خطرًا من الهزيمة العسكريّة، ومن هنا كانت مخطَّطات أعداء الإسلام "لأنَّ هزيمة الأمَّة في أفكارها تجرِّدها من الحَصَانة، وتتركها فريسة لأيّ مرض أو وباء فيسهُل بعد ذلك احتواؤها وتفكيك معتقديها"، كما يقول الأستاذ المفكِّر محمد قطب _رحمه الله_ في كتابه "واقعنا المعاصر.
-
ملازمة الجلوس مع الصالحين، والمنتمين لمنهج أهل السنَّة، وقد نهانا رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- عن صُحبة ضِعاف الإيمان، وأَمرنا بصُحبة المؤمنين فقال: (لا تصاحب إلاَّ مؤمناً(.
-
الدِّراسة الوَاعية والنَّاقدة للأفكار والمِلل والنِّحل المغايرة لمنهج أهل السنَّة، مع الحذر من أهلها، وتمكين العقليّة الإسلاميَّة من أدوات الفَهم والنَّظر والمعرفة لرصد الانحرافات الفِكريّة، ومعالجتها على ضوء الشريعة، وممَّا يبيِّن أهميَّة ذلك أنَّ الله تعالى فصَّل لنا وسائل وأساليب وحجج المجرمين، وردَّ عليها داحضًا لها، فمعرفةُ وفِقهُ المداخل التي يدخل بها أهلُ الزيغ والهوى لإقناع من يريدون ضمَّه إليهم، أصلٌ نبَّه عليه تعالى فقال: {وَكَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ}[الأنعام:55]، ولهذا يقول حذيفة بن اليمان: "كان النّاس يسألون رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- عن الخير، وكنت أسأله عن الشرِّ مخافة أنْ يدركني". فمعرفة الشرِّ وأهله منهج أساس لأهل السّنّة والجماعة وكشف خُدَعه، كما يقول قائلهم:
عرفتُ الشَّرَّ لا للشَّر لكن لتوقِّيهِ *** ومن لا يعرف الخير من الشَّر يقع فيهِ
-
إذا شعر المرء أو غلب على ظنِّه بأنَّه قد يفتن في دينه، فلا ينبغي له قراءة كُتب أهلِ الهوى والزيغ، ولو قصد بذلك الردَّ عليهم، ومناقشة شُبههم، لأنَّ دَرء المفاسد عن هذا المرء مُقدَّمة على جَلب المصالح في الذبِّ عن هذا الدين، بَلْ ينأى المسلم بنفسه عن الشُبهات، ولا يجعلها متهافتة على قبولها، ويجعل نفسه مطمئنَّة إلى الاستيقان بعظمة هذا الدِّين، وثبات أصوله، فيخلِّي قلبه ونفسه من متابعة الشبهات، ولا يجعلها لاقطة لأيّ تشكيك في دين الإسلام، ومن تأمَّل قوله تعالى: {فلمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ}[الصف:5].
-
التّربيّة للنشء بما يُرضي الله، والتّحاور معهم بتبيين فساد شُبهات أَهل الزيغ والهوى، مع قوَّة الإقناع، وأدب الحوار، فالتنشئة الصحيحة على التحصين العَقدي هي أول عمليَّة في التربية، بتربيتهم على العقيدة الصحيحة، وحماية ذواتهم من العَبث الفِكريّ، وبناء الشخصيّة الإسلاميَّة التي لا تؤثِّر فيها تيَّارات التشكيك، وإرسالهم إلى المربِّين الثقات لتربيتهم على أصول ديننا، وقد قال أيوب السختياني: "إنَّ من سعادة الحدث والأعجمي، أنْ يوفِّقهما الله لعالِم من أهل السنَّة"، ليكون أهل التربية معينين لهم على تقويّة عقيدتهم، ودَرء عَبث غُزاة الأفكَار والعقول عنها، مع التحذير الملازم لهم بخطر الأَخذ عن غير أهل السنَّة، وإنْ استطعنا منعهم من ذلك فهو الأَحسن، إلاَّ أنَّ المنع لابدّ أنْ يكون بإقناع لهم، وقد يكون منعهم مُتعذرًا في هذا الزَّمن، لأنَّهم قد يُمنعوا فتأتيهم ردَّة فعل تجعلهم يُصرُّون على ما سيطالعونه أو يسمعونه، ولكن الأسلوب التربوي يرجِّح أنْ يناقش الأب أو المربِّي ذلك الشاب ويبيِّن له أوجه الخطأ التي وقع بها أهلُ الضّلال، فلا مَنع مُطلق، ولا إِبَاحة مُطلقة، بلْ إباحة وفق ضَوابط وتحذير ودعم تربويّ.
المبحث الثاني: الأمن الفكري، مفهومه، ضرورته ومجالاته:
المطلب الأول: مفهوم الأَمْن الفِكري:
الأَمن الفِكريّ مُركّب من كلمتين هما: الأَمن، والفِكر، وقبل التعريف بمفهوم الأمن الفِكري، يجب بيان طرفيْ المركَّب:
أولاً: تعريف الأمن في اللُّغة والاصطلاح
- الأمن في اللُّغة:
هو سكون القلب واطمئنانه، قال ابن فارس: "الهمزة والميم والنون أصلان متقاربان، أحدهما: الأمانة التي هي ضدّ الخيانة، ومعناها سُكون القلب، والآخر: التصديق.
وقال الخليل: "الأَمَنَةُ مِن الأمْن. والأمان إعطاء الأَمَنَة. والأمانة ضدُّ الخيانة. يُقال أمِنْتُ الرّجُلَ أَمْنًا وأَمَنَةً وأَمانًا، وآمنني يُؤْمنني إيمانًا. والعرب تقول: رجل أُمَّانٌ، إذا كان أمينًا".
وعلى هذا، فالأمن في اللُّغة: هو سكون القلب واطمئنانه بعدم وجود مكروه وتوقعه.
قال الراغب: "أصل الأمن طمأنينة النفس وزوال الخوف. والأمن والأمانة والأمان في الأصل مصادر، ويجعل الأمان تارةً اسمًا للحالة التي يكون عليها الإنسان في الأمن، وتارةً اسمًا لما يُؤْمَنُ عليه الإنسان".
- الأمن في الاصطلاح:
تعدَّدت التعريفات الاصطلاحيّة للأمن باختلاف المنظور الذي يَنظر إليه الباحثون عند تعريفهم له، ومن تلك التعريفات:
تعريف الجرجاني، حيث عرَّفه بأنه: "عدم توقُّع مكروه في الزمان الآتي".
ويمكن تعريف الأمن بالنظر إلى مقاصد الشرع بأنَّه: "الحال التي يكون فيها الإنسان مطمئنًا في نفسه، مستقرًا في وطنه، سالمـًا من كل ما ينتقص دينه، أو عقله، أو عِرضه، أو ماله.
والحال، يشمل الأمن ظاهرًا وباطنًا، وهو أعمَّ من التعبير بالشعور أو الإحساس. أمَّا القول بالاطمئنان النفسي، فيعبِّر عن سكون القلب وراحته، فهو مُشعر بالوثوق من توفر الأمن في الزمن الحاضر، وعدم توقع المكروه في الزمن المستقبل. وهو كذلك يشير إلى الأمن النفسي، وإلى مقصد من مقاصد الشريعة الإسلاميّة، وهو حفظ النفس.
والقول بالاستقرار في الوطن، يشمل جميع أنواع الأمن الداخلي، والسلامة من الاعتداء الخارجي.
والقول بالسلامة من كلّ ما ينتقص الدين أو العقل، أو العرض، أو المال، إشارة إلى مقاصد الشريعة الإسلاميّة الأخرى.
فالتعريف بهذه التقييدات قد أبانَ أنَّ الأمنَ لا يتحقق ما لم يكن هناك حفظ للضروريات الخمس التي جاءت الشريعة الإسلاميّة بحفظها.
ثانياً: تعريف الفكر في اللُّغة والاصطلاح:
- الفكر في اللُّغة:
هو تردُّد القلب وتأمُّله. قال ابن فارس: "الفاء والكاف والراء، تردُّد القلب في الشيء. يُقال: تفكَّر إذا ردَّد قلبه معتبرًا. ورجلٌ فِكِّير، أي كثير الفِكر".
وقال العلامة الراغب _رحمه الله_: "الفكرة قوةٌ مُطرِقة للعلم إلى المعلوم، والتفكُّر جولان تلك القوة بحسب نظر العقل، وذلك للإنسان دون الحيوان...قال بعض الأُدباء: الفِكر مقلوبٌ عن الفرك، لكن يستعمل الفِكر في المعاني، وهو فرك الأمور وبحثها طلبًا للوصول إلى حقيقتها".
- الفِكر في الاصطلاح:
قال الفيومي: "ويقال: الْفِكْرُ تَرْتِيبُ أُمُورٍ فِي الذِّهْنِ يُتَوَصَّلُ بِهَا إلَى مَطْلُوبٍ، يَكُونُ عِلْمًا، أَوْ ظَنًّا".
يقول جميل صليبا: "وجملة القول: إنّ الفِكر يُطلق على الفعل الذي تقوم به النفس عند حركتها في المعقولات، أو يُطلق على المعقولات نفسها. فإذا أُطلق على فعل النفس، دلَّ على حركتها الذاتية، وهي النظر والتأمُّل، وإذا أُطلق على المعقولات، دلَّ على المفهوم الذي تُفِكِّرُ فيه النفس".
وعرّفه الزنيدي بقوله: "الفكر في المصطلح الفِكريّ والفلسفيّ خاصةً، هو: الفعل الذي تقوم به النفس عند حركتها في المعقولات، أي النظر، والتأمُّل، والتدبُّر، والاستنباط، والحكم، ونحو ذلك. وهو كذلك المعقولات نفسها، أي الموضوعات التي أنتجها العقل البشري".
وبناءً على هذا، فمفهوم الفِكر يشمل النظر العقلي، وما ينتج عن ذلك النظر والتأمل من علوم ومعارف.
ثالثاً: مفهوم الأمن الفكري:
نظرًا لحداثة مصطلح الأمن الفِكري، فقد اختلفت عبارات الباحثين ووجهات نظرهم في تحديده، وضبط مفهومه. وسأورد شيئًا من تلك التعريفات:
- الأمن الفِكري هو أنْ يعيش النّاس في بُلدانهم وأوطانهم وبين مجتمعاتهم آمنين مُطمئنين على مكوِّنات أصالتهم، وثقافتهم النوعيّة، ومنظومتهم الفِكريّة.
- أنْ يعيش المسلمون في بُلدانهم آمنين على مكوِّنات أصالتهم وثقافتهم النوعيّة، ومنظومتهم الفِكريّة المنبثقة من الكتاب والسنَّة.
- هو سلامة فِكر الإنسان وعقله وفهمه من الانحراف والخروج عن الوسطيّة، والاعتدال، في فهمه للأمور الدينيّة، والسياسيّة، وتصوُّره للكون بما يؤول به إلى الغلو والتنطُّع، أو إلى الإلحاد والعلمنة الشاملة.
- هو الاطمئنان إلى سلامة الفِكر من الانحراف الذي يشكِّلُ تهديدًا للأمن الوطني أو أحد مقوماته الفِكريّة، والعقديّة، والثقافيّة، والأخلاقيّة، والأمنيّة.
وإذا أخذنا في الحسبان مفهوم الفِكر من حيث شموله لنظر العقل، ومعقولاته، فيمكننا أنْ نعرِّف الأَمن الفِكريّ بأنَّه: الحال التي يكون فيها العقل سالمـًا من الميل عن الاستقامة عند تأمُّله، وأنْ تكون ثمرة ذلك التأمُّل متفقةً مع منهج الإسلام على وفق فهم السّلف الصالح، وأنْ يكون المجتمع المسلم آمنًا على مكوِّنات أصالته، وثقافته المنبثقة من الكتاب والسنَّة.
وبهذا التعريف يكون الأَمن الفِكريّ شاملًا للفعل الذي تقوم به النفس عند حركتها في المعقولات، والموضوعات التي أنتجها العقل البشريّ، وكذلك شاملًا لفكر الفرد ومكوِّنات فِكر المجتمع، وأنَّه لا يتحقق إلا بالالتزام بمنهج الإسلام على وفق فهم السلف الصالح.
المطلب الثاني: ضرورة الأمن الفكري:
لا شكَّ أنَّ الأمن الفِكري يُعدُّ حاجةً ضروريةً لا تستقيم الحياة بدون توفرّه، وذلك لعدّة أسباب، منها:
أولًا: أنَّ الأَمن الفِكري أحد مكوِّنات الأمن بصفة عامّة، بلْ هوَ أهمّها وأسماها وأساس وجودها واستمرارها، وهو النّعمة التي لا يمكن أن تستقيم الحياة بغيرها، ولذلك امتنَّ الله بهذه النّعمة على كفّار قريش حين قال: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ*الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ}[قريش:3-4]، وقال تعالى أيضًا: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ ۚ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ}[العنكبوت:67]
وجعل الرسول -صلَّى الله عليه وسلَّم- مَنْ توفر له الأمن كمن حِيزتْ له الدنيا كلَّها، فقد أخرج الترمذي وحسَّنه الألباني عَنْ سَلَمَةَ بْنِ عُبَيْدِ الله بْنِ مِحْصَنٍ الْخَطْمِىّي عَنْ أَبِيهِ وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: (مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِى جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا).
إنَّ النظر إلى أنَّ الأمن الفِكري هو أسمى أنواع الأمن وأساسها، يفيدنا في:
- أن نوجِّه الأنظار إلى العناية بالفِكر بتوفير كلّ أسباب حمايته واستقامته والمحافظة عليه، وكذلك العمل على رصد ودراسة كلّ ما من شأنه التأثير على سلامة الفِكر واستقامته.
- أنْ نعمل على معالجة أسباب اختلال الأمن في المجتمع بشكلٍ متكاملٍ ومترابطٍ من غير فصلٍ بين أنواع الأمن، ولا تفريقٍ بين تلك الأسباب، فالنّظرة الشاملة تجعل المعالجة شاملة ومتكاملة، وهو ما يوفر على الجهات المختصّة بأمن المجتمع الجهود، ويحمي الأُمّة من تَبعات الفصل في المعالجة بين أسباب اختلال الأمن، ويوصل إلى النتائج المثمرة، والغايات المحمودة في أسرع وقت.
- أنْ تكون المعالجات الأمنية من واقع الأمة، مستقاة من مصادر فِكرها وعقيدتها، وبناءً على مقتضيات حاجتها بعيدًا عن التقصير والشطط.
ثانيًا: أنَّ الأمن الفِكري يتعلّق بالمحافظة على الدّين، الذي هو إحدى الضرورات الخمس التي جاءت الشريعة الإسلاميّة بحمايتها والمحافظة عليها، فالإسلام هو دين الأمة: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ}[آل عمران:19]، وهو كذلك مصدر عزّها وقوتها، وأساس تمكينها في الأرض: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}[النور:55]
والإسلام كذلك هو مصدر ثقافة الأمة، ومستند علومها ومعارفها، وهو أساس عُلوها وتميّزها، لذلك كان في الأمن الفِكري الحماية لهذه الأُسس والمرتكزات، والإخلال به إخلال بها، وهو ما يجعل الأُمة عُرضة للزوال، والتأثر بأديان الأمم الأخرى وثقافاتها وأفكارها، وبذلك تفقد سرّ تميّزها، وأساس وجودها وعظمتها.
ثالثًا: أنَّ الأمن الفِكري يتعلّق بالعقل، والعقل هو آلة الفِكر، وأداة التأمُّل والتفكُّر، الذي هو أساس استخراج المعارف، وطريق بناء الحضارات، وتحقيق الاستخلاف في الأرض، ولذلك كانت المحافظة على العقل، وحمايته من المفسدات، مقصدًا من مقاصد الشريعة الإسلاميّة، وسلامة العقل لا تتحقق إلّا بالمحافظة عليه من المؤثرات الحسيّة والمعنويّة.
رابعًا: أنَّ الأمن الفِكري غايته استقامة المعتقد، وسلامته من الانحراف، والبُعد عن المنهج الحقّ، ووسطيّة الإسلام، ولذلك فإنَّ الإخلال به يعرّض الإنسان لأن يكون عمله هباءً منثورًا لا ثِقل له في ميزان الإسلام، قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا}[الفرقان:23]، وقال تعالى أيضًا: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ*وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ*عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ*تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً}[الغاشية:1-4].
خامسًا: أنَّ الإخلال بالأمن الفِكري يؤدِّي إلى تفرُّق الأمّة وتشرذمها شيعًا وأحزابًا، وتتنافر قلوب أبنائها، ويجعل بَأسهم بينهم شديد، فتذهب رِيح الأمة، ويتشتت شَملُها، وتختلف كلمتها.
ولقد نَهى الله عن الاختلاف في مُحكم التنزيل، فقال: {وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[الأنعام:153]، وقال أيضًا: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[آل عمران:105].
ولا شكّ أنَّ مِن أعظم أسباب اختلاف القلوب وتفرّق الصفوف هو الخِلاف العَقدي، فبه تُستحلّ الدّماء، ويلعن بعض الأمة بعضها الآخر، ولذلك كان من صفات الخوارج أنهم: (قَوْمٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، لاَ يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ، يَقْتُلُونَ أَهْلَ الإِسْلاَمِ، وَيَدَعُونَ أَهْلَ الأَوْثَانِ، لَئِنْ أَنَا أَدْرَكْتُهُمْ لأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ).
وما تعيشه الأمة اليوم بسبب انحراف فِكر بعض أبنائها من تكفير، وتفجير، وشدّة اختلاف، يشي بخطورة الاختلاف بدافع عَقدي.
المطلب الثالث: مجالات الأمن الفكري:
الفِكر عمليّة ذهنيّة مسرحها العقل، ومؤدَّاها التأمُّل والنظر، وثمرتها استنباط واستخراج العلوم والمعارف، ولكي تتحقق السلامة لهذا النظر من الزلل، ولثمرته الاستقامة والبُعد عن الخلل، فلا بُدَّ من التزام منهج الإسلام في التفكير، وما ينتج عن ذلك التفكير من علوم ومعارف.
وبناءً على ذلك فإنَّ الأمن الفِكريّ يجب أنْ يكون متحققًا في حالتين:
الحالة الأولى: عِند التأمُّل وتردُّد النظر.
الحالة الثانية: في الموضوعات التي أَنتجها العقل بناءً على ذلك النظر.
الحالة الأولى: وجوب تحقق الأمن الفِكري عند التأمل وتردُّد النظر، وفيه فرعان:
الفرع الأول: وجوب صيانة العقل من الانحراف حال نظره وتأمُّله.
الفرع الثاني: فوائد حجز العقل عن الخوض فيما لا يُدرك أو ما لا فائدة فيه.
الفرع الأول: وجوب صيانة العقل من الانحراف حال نظره وتأمُّله:
إنَّ العقل لا يستطيع أنْ يخوض في كلّ مجال، ولا أنْ يُدرك حقائق جميع الأشياء، ولذلك جعلت نصوص الوحي حدودًا معيّنةً للعقل يجب عليه ألّا يتعدَّاها، لأنَّ في تعدّيها خطرًا على العقل، أو إشغاله بما لا فائدة فيه. قال الشاطبي _رحمه الله_: "إنَّ اللهَ جعل للعقول في إدراكها حدًا تنتهي إليه لا تتعداه، ولم يجعل لها سبي إلى الإدراك في كلّ مطلوب، ولو كانت كذلك لاستوت مع الباري تعالى في إدراك جميع ما كان وما يكون وما لا يكون، إذ لو كان كيف كان يكون".
وقال ابن العربي: "إنَّ الزعم بأنَّ العقل قادرٌ قدرةً مطلقةً على إدراك أو تحصيل جميع المعلومات، دعوةٌ حمقاء لا تقوم على سوق، إذ إنَّه ليس لنا أنْ ندّعي أنَّ له مکانًا في الإدراك، يتيح له أنْ يحيط بکلّ شيء بمفرده واستقلاله، بلْ إنَّ العقل متواضعٌ ومحدودٌ في مجال إدراکه".
ولذلك يجب صيانة الفكر حال التأمُّل من خلال:
أولًا: النظر والتأمُّل فيما لا يدركه العقل:
قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا}[الإسراء:85]، فقد أبان الله سبحانه وتعالى في هذه الآية أنَّ الرّوح مما استأثر الله بعلمه، والاشتغال بما استأثر الله بعلمه ضربٌ في البيداء، ولا قُدرة للعقل في التعرُّف عليه، لأنَّه فوق مرتبة العقل.
وقد جعل الله النّظر في مُتشابهات القرآن سبيل أهل الزيغ والفساد، فقال سبحانه: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ}[آل عمران:7]، وذلك، لأنَّ بعض المتشابه لا سبيل إلى الوقوف على حقيقته، وهو "موضع خضوع العقول لباريها استسلامًا واعترافًا بقصورها"، فالاشتغال به يقود إلى الضلال، والخروج عن مقتضى العبودية والاستسلام لله رب العالمين.
ولذلك ضرب عمر بن الخطاب _رضي الله عنه_ صبيغًا لمـّا أكثر السؤال عن المتشابهات، فقد أخرج الدارمي عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ: أَنَّ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ صَبِيغٌ قَدِمَ الْمَدِينَةَ، فَجَعَلَ يَسْأَلُ عَنْ مُتَشَابِهِ الْقُرْآنِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ عُمَرُ وَقَدْ أَعَدَّ لَهُ عَرَاجِينَ النَّخْلِ، فَقَالَ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا عَبْدُ الله صَبِيغٌ. فَأَخَذَ عُمَرُ عُرْجُونًا مِنْ تِلْكَ الْعَرَاجِينِ فَضَرَبَهُ، وَقَالَ: أَنَا عَبْدُ الله عُمَرُ. فَجَعَلَ لَهُ ضَرْباً حَتَّى دَمِي رَأْسُهُ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ حَسْبُكَ قَدْ ذَهَبَ الَّذِى كُنْتُ أَجِدُ في رأسي".
وقد جاءت عن النبي صلَّى الله عليه سلَّم أحاديث ترسم للعقل حدوده، وتعقله عن الخوض في غير مجاله، فقد روى الطبراني عن سالم، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: (تفكَّروا في آلاء الله، ولا تتفكَّروا في الله)، وأخرج مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: (لاَ يَزَالُ النَّاسُ يَتَسَاءَلُونَ حَتَّى يُقَالَ هَذَا خَلَقَ الْخَلْقَ، فَمَنْ وَجَدَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَلْيَقُلْ آمَنْتُ بالله).
وروى الترمذي عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم وَنَحْنُ نَتَنَازَعُ فِى الْقَدَرِ فَغَضِبَ حَتَّى احْمَرَّ وَجْهُهُ حَتَّى كَأَنَّمَا فُقِئَ فِي وَجْنَتَيْهِ الرُّمَّانُ فَقَالَ: (أَبِهَذَا أُمِرْتُمْ أَمْ بِهَذَا أُرْسِلْتُ إِلَيْكُمْ، إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حِينَ تَنَازَعُوا فِي هَذَا الأَمْرِ، عَزَمْتُ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تَتَنَازَعُوا فِيهِ(.
لقد أخبرنا الله عن نفسه، فقال سبحانه: {فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}[الشورى:11]، فالتفكُّر في ذاته تعالى إشغالٌ للعقل بما ليس في وُسعه أنْ يدركه، وزجٌ به في متاهات لا تُوصل إلى الحق، بلْ إلى الرّيبة والشك والاضطراب، ولذلك جاء النهي صريحًا عن التفكُّر في ذات الله، لأنَّه لا يصل فِكر الإنسان _مهما أعمله_ إلى إدراك كنه ذات الله سبحانه وكيفيته، "لأنَّ التفكير والتقدير يكون في الأمثال المضروبة والمقاييس وذلك يكون في الأمور المتشابهة وهي المخلوقات. وأمَّا الخالق _جلَّ جلاله_ فليس له شَبيه ولا نظير، فالتفكُّر الذي مبناه على القياس، ممتنعٌ في حقّه وإنّما هو معلومٌ بالفِطرة، فيذكره العبد، وبالذّكر وبما أَخبر به عن نفسه، يَحصُل للعبد من العلم بِه أمورٌ عظيمة، لا تُنال بمجرد التفكير والتقدير".
ثانيًا: النظر والتأمُّل فيما لا فائدة من النظر فيه ومما يجب أنْ يُصان عنه العقل:
قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[البقرة:189]. ففي هذه الآية أجاب الله السائلين بغير ما يتطلبه سؤالهم، وذلك لأنَّ الصحابة رضي الله عنهم لمـَّا تاقت نفوسهم إلى تعلُّم هيئة القمر منه صلَّى الله عليه وسلَّم، وقالوا له: يا نبي الله ما بال الهلال يبدو دقيقًا ثم لم يزل يكبر حتى يستدير بدرًا؟ نَزل القرآن بالجواب بما فيه فائدة للبشر وتَرك ما لا فائدة فيه، وذلك في قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ...}الآية
الفرع الثاني: فوائد حجز العقل عن الخوض فيما لا يدرك أو ما لا فائدة فيه:
إنَّ في منع الفِكر من الاشتغال بما ليسَ في وسعه إدراكه، وحفظه من الخوض في غير مجاله، وإبعاده عن الاشتغال بما ليس فيه فائدة، إنّ في ذلك فوائد جمَّة، وآثارًا حسنةً تَرجع على صاحب الفِكر والمجتمع الذي يعيش فيه. ومن تلك الفوائد:
-
حماية المكلّف من الوقوع في مَعصية القول على الله بغير عِلم، ومن قول ما لا يعلم. قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}[الأعراف:33].
-
حماية المكلَّف من الحيرة والشكّ والاضطراب، لأنَّ إطلاق سراح العقل ليخوض في كلّ شيء، قد يُفضي بِه إلى الشكّ والحيرة والاضطراب، وعند ذلك فلا يُستغرب أنْ يُنْتِج لنا فِكرًا مضطربًا مشوشًا، فيَضِل به، ويُضل.
-
حماية المكلَّف من اعتناق المذاهب المنحرفة والأفكار المضلة نتيجةً لإدخال العقل في مجال غير مجاله، والنّظر في مصادر معرفيّة لا تستند إلى المرجعيّة الإسلاميّة، كاعتناق المذاهب والأفكار المنحرفة والبعيدة عن هديّ الوحي، ووسطيّة الإسلام. فالتكفير والإرجاء، والتشيّع، والاعتزال، والتأويل، والإعراض عن الشرع، والعقلانية، والديمقراطية، والعلمانية، والليبرالية، كلّ ذلك إنّما كَان عندما استقى الفِكر معارفه من مصادر غَير مأمونة، وحينما لم يُلتزم بالحدود الشرعيّة للعقل، وجُعل مصدرًا تُتلقى منه العقائد وعلم الغيب، وحكمًا على شرع الله.
-
حماية المجتمع من الأفكار المضلَّة، وثمرات الفِكر المنحرف، ولكي يكون الفِكر مستقيمًا، لا بُدَّ من أنْ يلتزم المنتج لذلك الفِكر بمنهج الإسلام وحدوده، حينما يتأمل وينظر في المحسوسات والمعقولات، وحينما يستخرج من ذلك النظر العلوم والمعارف.
فإذا لم يلتزم المفكر بذلك، فلعلَّه يُنتج فكرًا مُنحرفًا، يوقع الشكّ والريبة في قلوب النّاس، ويحملهم على البُعد عن الصراط المستقيم، والمنهج الحقّ، والخُلق القويم.
-
العمل على استنباط مناهج التفكير المستقيم، فالإيمان بوجوب صيانة العقل حَال نظره وتأمله، يبعث في نفوس أهل العلم والاستنباط الهمَّة لوضع القواعد السليمة، والمناهج المستقيمة للتفكير، مستقاة من الكتاب والسنَّة ومصادر الشريعة الإسلاميّة الأخرى، ونشر تلك القواعد وتضمينها في مناهج التربية والتعليم في بلاد المسلمين، لأنَّ تلك القواعد الشرعيّة تساعد-بإذن الله- في حماية المجتمع المسلم من الانحراف الفِكريّ، إذْ على ضوئها نضمن أنْ يكون فعل النفس الإنسانية وحركتها حين تأملها ونظرها، ومنتجات الفكر البشري وموضوعاته، منضبطةً بالضوابط الشرعيّة، وملتزمةً بالحدود الآمنة للفِكر، وعلى ضَوئها أيضًا نستطيع أنْ نحكُم على استقامة الأفكار وانحرافها، ونعرف مدى فائدة تلك الأفكار وضررها.
الحالة الثانية: وجوب تحقُّق الأمن الفِكري في الموضوعات التي أنتجها العقل بناءً على ذلك النظر:
لا شكّ أنَّ هناك أمورًا عديدة يجب أنْ يخلو منها ما ينتجه العقلُ الإنسانيّ من علوم ومعارف، ليكون فِكرًا آمنًا سالمـًا من الانحراف، ولكني سأقتصر على التنبيه على ثلاثة أمور منها في فروع ثلاثة، وذلك على النحو التالي:
الفرع الأول: حماية الفكر من الغلو: وفيه خمس مسائل:
المسألة الأولى: مفهوم الغلو في اللُّغة والاصطلاح.
المسألة الثانية: حُكم الغلو في الدين.
المسألة الثالثة: ما يقع فيه الغلو.
المسألة الرابعة: أسباب الغلو.
المسألة الخامسة: الآثار السيئة للغلو.
المسألة الأولى: مفهوم الغلو في اللُّغة والاصطلاح:
الغلو في اللُّغة:
الغلو في لسان العرب: مجاوزة الحدّ. قال ابن فارس: "الغين، واللام، والحرف المعتل أصلٌ صحيحٌ في الأمر، يدلُّ على ارتفاع ومجاوزة قدرٍ. يُقال: غَلاَ السِّعر يغلو غَلاءً، وزاد ارتفاعُه. وغَلاَ الرَّجل في الأمر غُلُوًّا، إذا جاوز حدَّه. وغَلاَ بسَهْمِه غَلْوًا، إذا رمى به أقصى غايته".
الغلو في الاصطلاح:
هو الإفراط ومجاوزة الحدّ الشرعيّ في أمرٍ من أمور الدين.
المسألة الثانية: حُكم الغُلو في الدّين:
لقد نهى الله سبحانه وتعالى في آيات متعددة عن الغلو، فقال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً}[النساء:171] وقال تعالى أيضًا: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ}[المائدة:77].
كَما حذَّر النبي صلَّى الله عليه وسلَّم مِن الغُلو في أحاديث كثيرة، منها ما رواه النّسائي عن أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ لي رَسُولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم غَدَاةَ الْعَقَبَةِ وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ: (هَاتِ الْقُطْ لي. فَلَقَطْتُ لَهُ حَصَيَاتٍ، هُنَّ حَصَى الْخَذْفِ، فَلَمَّا وَضَعْتُهُنَّ في يَدِهِ قَالَ بِأَمْثَالِ هَؤُلاَءِ، وَإِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ في الدِّينِ فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الْغُلُوُّ في الدِّينِ)، وقال صلَّى الله عليه وسلَّم: (لاَ تُشَدِّدُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، فَيُشَدَّدَ عَلَيْكُمْ، فَإِنَّ قَوْمًا شَدَّدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَشَدَّدَ الله عَلَيْهِمْ، فَتِلْكَ بَقَايَاهُمْ فِى الصَّوَامِعِ وَالدِّيَارِ{رَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِم}.
المسألة الثالثة: ما يقع فيه الغلو:
يقع الغلو في:
- الاعتقاد.
- الأعمال.
- الأشخاص.
المسألة الرابعة: أسباب الغلو:
أسباب الغُلوّ متعددة الأنواع والمتعلّقات، ولكني سأقتصر على ذِكر بعض تلك الأسباب على سبيل الاختصار، فمِن أسباب الغلو:
أولاً: الجهل:
الجهل هو: "اعتقاد الشيء على خلاف ما هو عليه"، وقد يكون بسيطًا "وهو عدم العلم عمَّا مِن شَأنه أنْ يكون عالمِـاً"، وقد يكونُ مركّبًا "وهو عبارة عن اعتقادٍ جازمٍ غير مطابق للواقع".
وأيًّا كان نوعُ الجهل فهو شرٌ وبليةٌ، لأنّه يحول بين المرء وبين الاستسلام لله والانقياد له وإقامة دينه على الوجه الذي أراده سبحانه وتعالى.
فالإنسان الجاهل قد يترك مَا أوجبه الله، أَو يأتي مَا حرَّم الله، أو يَفعل المشروع، أو يَترك المنهي عنه على غير الوجه الشرعيّ، ولذلك كان الجهل أَصل الشرّ كلَّه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "والجهل والظلم: هما أصل كلّ شر، كما قال سبحانه: {وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً}[الأحزاب:72]".
ولا يدفع غَائلة الجَهل وشُروره إلّا العلم بكتاب الله وسنَّة رسوله صلَّى الله عليه وسلَّم، ولذلك قال أهل العلم بوجوب تعلّم ما يتوقف عليه دين الإنسان، استدلالًا بقوله سبحانه وتعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ}[محمد:19]، وبما رواه أبو يعلى الموصلي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: (طلب العلم فريضة على كل مسلم)، فيجب على الإنسان أنْ يتعلّم قبل أنْ يَعمل حتى يكون عام على بَصيرة.
ثانيًا: اتّباع الهوى:
"وهو مَيل النّفس وانحرافها نحو المذموم شرعًا". واتّباع الهوى لا يأتي بخير، لأنّه يَصدّ عن الحقّ، "وإنّ الذي يسترسل في اتّباع هواه، لا يُبصر قُبح ما يفعله، ولا يَسمع نهي من ينصحه، وإنّما يقع ذلك لمن يحب أحوال نفسه، ولم يتفقد عليها".
ولذا كان اتّباع الهوى أَصل كلّ بَلاء، وبِه فَسَد الدّين، لأنّ فساد الدّين يقع بالاعتقاد بالباطل، أو العمل بخلاف الحقّ.
إنّ من آفات الهوى أنّه يجعل الإنسان تبعًا لهواه، فآراؤه العلميّة، وفتاواه الفقهيّة، ومواقفه العمليّة، تَبعٌ لهواه، فيدخل تحت قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ}[الجاثية:23].
قال عامر بن عبد الله بن الزبير بن العوام: "ما ابتدع رجلٌ بِدعةً، إلَّا أتى غدًا بما يُنكره اليوم"، وقال عبد الله بن عون البصري: "إذا غَلب الهوى على القلب، استحسن الرجل مَا كَان يستقبحُه".
ثالثًا: تحسين الظنّ بالعقل وتقديمُه على الشّرع:
العقل قاصر الإدراك في علمه، ولذلك أنزل الله الكُتب، وبعث الرسل {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً}[النساء:165]، فمن استغنى بعقله واستند عليه مبتوتًا عن نور الوحي، فقد ضلّ سبيلًا.
وقد جعل الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم الذين يقدّمون الرأي على الشرع، أشدّ ضررًا على الدّين من غيرهم، روى الحاكم عن عوف بن مالك رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: (ستفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة، أعظمها فرقة قوم يقيسون الأمور برأيهم فيحرمون الحلال ويحللون الحرام) وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرّجاه".
وقد أدرك عبقريّ الأُمة وخليفتها الراشد عُمر بن الخطاب رضي الله عنه خطر المعارضين لشرع الله بآرائهم، المقدّمين عليه أهواءهم، فقال: "إياكم وأصحاب الرأي، فإنّهم أعداء السُّنن، أعيتهم الأحاديث أنْ يحفظوها فقالوا بالرأي فضلُّوا وأَضلُّوا".
فكلّ مَن قدّم رَأيه على النّص، أو قالَ في دين الله تخرُّصًا فقد حسن الظنّ بعقله، وقال به في دين الله بغير علم.
رابعًا: التقليد والتعصُّب:
التقليد هو: "قبول القول من غير دليل"، أمَّا التعصُّب فهو: "تقديم ذلك القول على غيره من الأقوال، واتخاذه حجّة مُلزمة لا تجوز مخالفتها".
ولا رَيب أنّ في التّعصُّب لأقوال الرجال وأخذها مأخذ التسليم، دون نظر إلى الدليل الذي بُنيت عليه، خلاف مقصود الشرع، فالله سبحانه يقول: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ}[آل عمران:32]، وقال تعالى أيضًا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}[النساء:59]، وقال صلَّى الله عليه وسلَّم فيما أخرجه أبو داود عن العِرباض بن سارية رضي الله عنه: (أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى الله،َّ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَإِنْ عَبْدًا حَبَشِيًا، فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلاَفًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ، تَمَسَّكُوا بِهَا، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ).
ولم يَكن أحدٌ من الصحابة رضوان الله عليهم يلتزم تقليد شخص واحد لا يخرج عن أقواله، ويخالف من عَداه من الصحابة، قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "لا يقلّدن رجلٌ دينه رجلًا، إن آمن آمن، وإن كفر، كفر".
لقد جرَّ التعصُّب في التقليد على الأُمّة الإسلاميّة بلاءً عظيمًا، وجعلها شيعًا وأحزابًا، كل حزبٍ بما لديهم فرحون، وبإمامهم مغتبطون، فافترقت الكلمة، وتشتت الصف، وذهبت القوة، وطمع الأعداء، وأصبح المحققون من العُلماء، الحاملون لراية السّنَّة، المتّبعون للدليل محل سخرية واستهزاء المقلدين، وغرضًا لهم.
المسألة الخامسة: الآثار السيئة للغلو:
لقد ترتّب على الغُلوّ في وقتنا الحاضر مفاسد عظيمة تنبئ بسوء عاقبته، ومن تلك المفاسد:
أولًا: الغلو في التكفير: ويظهر ذلك في:
- تكفير المجتمعات الإسلاميّة.
- التكفير بالمعصية.
- تكفير المعيّن.
- تكفير الحاكم بغير ما أَنزل الله بإطلاق.
- الحُكم على ديار المسلمين بأنّها ديار كُفر.
- التكفير بالموالاة.
وكلّ هذه المسائل خَالف فيها أهلُ الغُلوّ الدليل من الكتاب والسنَّة، ومنهج أهل السنَّة والجماعة وطريقتهم.
ثانيًا: القتل والتّفجير: مما ترتب عليه:
- اتخاذ بلاد المسلمين مسرحًا لقتل المسلمين والمعاهدين باسم الجهاد.
- استباحة دماء رجال الأمن واتخاذهم غرضًا ظُلمًا وعدوانًا.
- قتل الأبرياء من المواطنين والمستأمنين الأجانب.
- الإخلال بأمن البلاد والعباد، وإثارة الرُّعب في قلوب النّاس.
- تشويه صورة الإسلام وسماحته، والصدّ عن دين الله.
- نشر الكراهية بين غير المسلمين، للإسلام وأهله.
- الإضرار بالأقليّات المسلمة في البلاد غير الإسلاميّة.
- إيقاف الأعمال الدعويّة والإغاثيّة التي كان يقوم به الدُّعاة والمصلحون في كثير من بلاد المسلمين، بلْ وغير المسلمين.
- الخروج على ولاة الأمر.
- إثارة الكافرين ضدّ المسلمين، وجرّ المعركة معهم إلى بلاد الإسلام.
- تدمير المنشآت العامّة، وإتلاف أموال المسلمين.
الفرع الثاني: حماية الفكر من الإرجاء، وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: تعريف الإرجاء لغةً، واصطلاحاً.
المسألة الثانية: الآثار السيئة لفِكر الإِرجاء.
المسألة الأولى: تعريف الإرجاء لغةً، واصطلاحًا:
الإرجاء في اللُّغة: هو التأخير. قال في الصحاح: "أرجأت الأمر: أخّرته، وقُرِئ: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ}[التوبة:106]، أي: مُؤَخَّرونَ حتى يُنْزِلَ الله فيهم ما يريد. ومنه سُمِّيَتْ الـمُرْجِئَةُ مثال: الـمُرْجِعَةِ. يقال: رجلٌ مُرْجئٌ، مثال: مُرْجِعٍ، والنسبة إليه مُرْجِئِيٌّ، مثال: مُرْجِعِيٍّ".
الإرجاء في الاصطلاح: يُطلق على معنيين:
أحدهما بمعنى: التأخير، {قَالُوا أَرْجِهِ وَأَخَاهُ وَأرسِل فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ}[الأعراف:111]، أي: أمهله وأخّرهُ.
والثاني: إعطاءُ الرجاء.
وقيل الإرجاء: تأخير حُكم صاحب الكبيرة إلى يوم القيامة، فلا يُقضى عليه بحكمٍ مّا في الدنيا من كونه من أهل الجنّة أو من أهل النّار، فعلى هذا المرجئة والوعيديّة فرقتان متقابلتان.
وقيل الإرجاء: تأخير علي رضي الله عنه من الدرجة الأولى إلى الرابعة في الخلافة، فعلى هذا المرجئة والشيعة فرقتان متقابلتان.
وقد رجّح الإمام ابن جرير الطبري أنَّ الإرجاء في عُرف أهل المعرفة بمذاهب المختلفين في الدّيانات، وهو مذهب القائلين بأنَّ الأعمال ليست من الإيمان.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "المرجئة والجهمية ومن اتبعهم من الأشعريّة والكراميّة قالوا: ليس من الإيمان فِعلُ الأعمال الواجبة، ولا ترك المحظورات البدنيّة، فإنَّ الإيمان لا يقبل الزيادة ولا النقصان، بل هو شيء واحد يستوي فيه جميع المؤمنين من الملائكة والمقتصدين والمقربين والظالمين".
المسألة الثانية: الآثار السيئة لفكر الإرجاء:
لم يَكن فِكر الإرجاء مجرد أفكار تجريدية لا تتصل بالواقع، بلْ كان ظاهرة لها آثار خطيرة في واقع المسلمين، ومن تلك الآثار:
- أنَّ فكر الإرجاء بدعة في الدين، وخروج عن إجماع أئمة المسلمين، ولذلك حذَّر منه أئمة الإسلام أشدّ التّحذير. قال شيخ الإسلام: "فلهذا عظم القول في ذم الإرجاء حتى قال إبراهيم النخعي: لفتنتهم (يعني المرجئة) أخوف على هذه الأمة من فتنة الأزارقة.
وقال الزهري: "ما ابتدعت في الإسلام بدعة أضرّ على أهله من الإرجاء".
وقال الأوزاعي: "كان يحيى بن أبي كثير وقتادة يقولان: ليس شيء من الأهواء أخوف عندهم على الأمة من الإرجاء".
وقال شريك القاضي (وذكر المرجئة): "هم أخبث قوم حسبك بالرافضة خبثًا، ولكن المرجئة يكذبون على الله".
- ضياع معالم الدّين الحقّ، والاستهانة بارتكاب المعاصي مع اعتقاد كمال الإيمان.
- الوقوف في وجه كلّ دعوة إصلاحيّة تهدف إلى تبصير المسلمين بمعالم الهدىّ، وسلوك الصراط المستقيم.
- الجُرأة على دين الله سبحانه وتعالى سخريةً واستهزاءً، وأصبح هذا ميدانًا للزعماء والمفكرين، وملهاةً للشعراء والصحفيين، وجرت ألفاظ الاستهزاء على ألسنة العوام.
- التهيئة لنفاذ الغزوّ الفِكريّ والعسكريّ الأجنبيّ إلى بلاد المسلمين، ونجاحه في تشويه الإسلام، عقيدةً وشريعةً، وإبعاده عن واقع الحياة، وإثارة الشُّبهات والشهوات، وإشغال الأُمّة بها، وتدمير مرتكزات الأمة الأخلاقيّة والاقتصاديّة والعلميّة، وإضعاف روح الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين.
المبحث الثالث: تعزيز الأمن الفكري بين الواجب والضرورة:
إنَّ الأَمن الفِكريّ هو تحقيق الطُّمأنينة على سلامة الفِكر والاعتقاد بالاعتصام بالله، والأخذ من المصادر الصحيحة، مع التحصُّن من الباطل والتفاعل الرشيد مع الثقافات الأُخرى، ومعالجة مظاهر الانحراف الفِكريّ في النّفس والمجتمع، فالشّريعة الإسلاميّة جاءت لحفظ الضرورات الخمس (الدين، والنفس، والعقل، والمال، والعرض) وبالتالي فإنَّ بناء مفهوم "الأَمن الفِكريّ" في الإسلام، يستدّعي مراجعة نصوص الشريعة وتطبيقاتها، للخلوص برؤيّة مُتكاملة لتحقيق التعزيز الأمثل لهذا المفهوم، وهو عملٌ ينبني على الاستقراء الموصل لليقين، مع دراسة المفاهيم التي تتصل بهذا المفهوم، أو تتقاطع معه، أو تختلط به.
ويمكن تناول هذا المبحث من خلال المطالب التالية:
المطلب الأول: التعزيز التأصيليّ للأَمن الفِكريّ.
المطلب الثاني: التعزيز المفاهيمي للأَمن الفِكريّ.
المطلب الثالث: التعزيز التربوي للأَمن الفِكريّ.
المطلب الرابع: التعزيز الوقائي للأَمن الفِكريّ.
المطلب الأول: التعزيز التأصيليّ للأَمن الفِكريّ:
على الإعلام الموجَّه والهادف عدم الأخذ بردود الأفعال، بلْ عليه حَمل وترشيد رسالته المتمثّلة في إيصال الحقّ للأُمّة، وبناء الإيمان والقيم في نفوس أبنائها، وضبط مصادر تلقيهم، وإشاعة ثقافة الأَخذ عن المصادر الصحيحة، وترك المصادر الكاذبة أو المشوشة للحقيقية.
وعليه يمكن إجمال دور الإعلام في التعزيز التأصيلي للأَمن الفِكريّ في الآتي:
أولًا: ربط النّاس بربهم (الاعتصام بالله) مصدرًا وغايةً، فسلامة النّاس وأمنهم من جميع النواحي مرتبط بخالقهم، فالله -عز وجل- يقول في محكم التنزيل: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}[آل عمران:103].
ثانيًا: إشاعة الوعي بأهمية المصادر: لقد خلق الله الإنسان خلواً من المعرفة {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}[النحل:78]، فالتأصيل، وضبط مصارد المعرفة والتلقِّي، أساس الأَمن الفِكريّ، فالاعتقاد وصحته، والعمل وسلامته كلّ ذلك رَهين بسلامة المصدر الذي أخذ عنه.
ثالثًا: ضبط منهج الفهم: فـصحة الفَهم، وحُسن القصد، من أعظم نِعم الله التي أنعم بها على عباده، بلْ ما أُعطي عبدٌ عطاءً بعد الإسلام، أفضل ولا أجلّ منهما، بلْ هما ساقا الإسلام وقيامه عليهما، وبهما يأمَن العبد طريق المغضوب عليهم الذين فَسَد قصدهم، وطريق الضّالّين الذين فسدت فهومهم، ويصير من المـُنعم عليهم الذين حسنت أفهامهم وقصودهم.
المطلب الثاني: التعزيز المفاهيميّ للأَمن الفِكريّ:
ويتحقَّق ذلك بالآتي:
أولًا: الوعي بالمفاهيم والمصطلحات، والعمل على تحريرها:
يُعدُّ العلم بحقائق الأشياء، والوعي بالمفاهيم أساسًا لسلامة الفِكر والاعتقاد، إذْ تجد كثيرًا من المشكلات والمخالفات العقديّة والفِكريّة يعود إلى اختلاف المفاهيم، أو الجهل بحقائق الأمور، وهذا أمرٌ متفقٌ عليه بين الأمم. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "إنَّ كثيرًا من نزاع النّاس سببه ألفاظٌ مُجملة مُبتدعة، ومعانٍ مشتبهة، حتى تجد الرجلين يتخاصمان ويتعاديان على إطلاق ألفاظ ونفيها، ولو سُئل كلّ منهما عن معنى ما قاله، لم يتصوّره فضلًا عَنْ أَنْ يَعرف دليله".
ثانيًا: مفهوم الاختلاف وواقعه:
لتحقيق الأَمن الفِكريّ، لا بُدَّ أنْ يعتني الإعلام الموجَّه بالاختلاف، ويضبط أَمره، وذلك عَبر الاهتمام بجوانب، أهمها:
- بيان أنَّ الاختلاف بين البشر واقعٌ قدرًا، قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ*إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ}[هود:118]. فالخلاف بين البشر بتصوّراتهم وأفكارهم وعقائدهم، سُنّة قدريّة منْ سُنن الله في الخلق لا يُمكن مغالبتها وإنكارها.
- الاختلاف، أُمرنا باجتناب أَسبابه وتقليل آثاره: مع ما تقدّم من كون الخِلاف بين الخلق واقع ٌكونًا وقدرًا، إلاَّ أَننا كُلِّفنا شرعًا بتجنُّب أسبابه، والتّقليل من آثاره ومضارّه، فـقد ذمَّ الله الاختلاف، وأمر عنده بالرجوع إلى الكتاب والسنة، فلو كانَ الاختلاف من دينه ما ذمّه، ولو كان التّنازع من حُكمه مَا أَمرهم بالرجوع عنده إلى الكتاب والسنة.
ثالثًا: الاختلاف وإنْ وقع فإنَّ الحِكمة ضالّة المؤمن:
جاء في الحديث: (الحكمة ضالّة المؤمن، فحيث وجدها، فهو أحقّ بها). وقد قرّر ابن حجر -رحمه الله- في ذكر فوائد هذا الحديث أنَّ الحِكمة قد يتلقّاها الفاجر، فلا ينتفع بها، وتؤخذ عنه فينتفع بها، وأنّ الكافر قد يَصدق.
المطلب الثالث: التعزيز التربويّ للأَمن الفِكريّ:
ويكون بالآتي:
أولًا: بنشر العلم الشرعيّ: إنَّ كثيرًا من أسباب الانحراف الفِكريّ، تعود إلى الجهل، فالجهل أساسٌ من أُسس الانحراف، ولقد أُمرنا بطلب العلم ونشره، لأنَّ العمل الصالح لا يكون إلاَّ بعلم، قال الله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}[النحل:43]، والمراد بالعلم المأمور به في نصوص الشريعة: العلم الشرعيّ، علم الكتاب والسنّة.
ثانيًا: نشر الوسطيّة والاعتدال: فالمسلمون هُم الأُمّة الوَسط، يقول الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً}[البقرة:143]، والصّراط المستقيم هو الوسطيّة التي هي سمة هذه الأُمة، فالله -عز وجل- علَّمنا أنْ ندعوه أنْ يرزقنا الهداية إلى الصراط المستقيم، ويسلمنا من الانحراف بعامة، يقول الله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ*صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ}[الفاتحة:6-7].
ثالثًا: ربط الأُمّة بعلمائها :ذلك أنَّ نجاة النّاس منوطةٌ بوجود العُلماء، فإنْ يُقبض العُلماء يَهلكوا، فعن عبد الله ابن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنَّ الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبقَ عالـمًا، اتخذ النّاس رؤوسًا جهّالًا، فسُئلوا، فأَفتوا بغير عِلم، فضَلُّوا وأَضَلُّوا(.
رابعًا: حماية جَناب أهل العلم مِنَ الطّعن والذّم :إنَّ منزلة العِلم تقتضي حماية أَهل العلم من التطاول بالقدح أو الذّم أو الاستهزاء بهم، لأنَّ الطعن فيهم إنَّما هو طعن بعقيدة وفِكر الأمة وهو انحراف يولّد انحرافًا مقابلًا وربما عُنفًا وفسادًا.
خامسًا: تقديم الأصلح في المنابر الإعلاميّة: فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا ضُيِّعت الأمانة فانتظر السّاعة، قال: كيف إضاعتها يا رسول الله؟ قال: إذا أُسند الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة).
وقد سُئل الإمام أحمد: عن الرجلين يكونان أميرين في الغزو وأحدهما قويٌ فاجرٌ والآخر صالحٌ ضعيفٌ، مع أيّهما يُغزى؟ فقال: "أمَّا الفاجر القويّ، فقوله للمسلمين وفجوره على نفسه، وأمَّا الصالح الضعيف فصلاحه لنفسه وضعفه على المسلمين، فيُغزى مع القوي الفاجر".
المطلب الرابع: التعزيز الوقائيّ للأَمن الفِكريّ:
كما يُعزز الإعلام ثقافة الأَمن الفِكريّ بالتأصيل، فإنَّه يعززها بالوقاية والتحصين أيضًا، وذلك من عدّة أوجه، نذكر منها:
أولًا: التحذير من الفِرق المخالفة لمنهج الحق: فأَمْن المجتمع بشكل عام إنّما هو راجع لهذا المنهج (ما أنا عليه، وأصحابي)، ومن خرج عليه فقد فتح على نفسه وعلى مجتمعه باب قلاقل واضطراب وفتن لا تنتهي إلّا بالرجوع لهذا المنهج الحقّ، فهو العاصم المانع، وهو السدّ الدّافع لكلّ من أراد النيل من الأمة، وأمنها واستقرارها. لذا جاء تحذير الشريعة من فِرق الضّلال، وأُمرت بلزوم منهج الحقّ، ورأس ذلك بيِّن في قوله صلى الله عليه وسلم: (افتَرَقَت اليهود على إحدى أو ثنتين وسبعين فِرقةً، وتَفرَّقت النصارى على إحدى أو ثنتين وسبعين فرقةً، وتفتَرقُ أمَّتي على ثلاث وسبعين فرقةً(.
ثانيًا: التحذير من أعمال أهل الضّلال: وأظهر هذا التحذير حين حذّرت الشريعة من (الغلو) باعتباره منهجًا مُنحرفًا يسوق مناصريه إلى الهلاك بما يحمله من فساد وإفساد، قال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ}[النساء:171]، أي: لا تجاوزوا الحدّ في اتّباع الحقّ.
وفي الحديث: (وإيّاكم والغلو في الدين، فإنّما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين). والنّهي هنا وإنْ كان خاصًّا، فهو نهي عامّ لكلّ غلو.
ثالثًا: ذِكر أخبار الأُمم لأخذ العِبرة من أسباب ضلالهم: قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ}[يوسف:111]، وجاءت لفظة (عِبْرَةٌ) منكرًا، لتفيد الشمول والعموم، ففي قصصهم عِبرة عن كلّ شيء، وفي كلّ شيء لكنّ الاعتبار محصورًا: {لِأُولِي الْأَلْبَابِ}.
ويعدّ استخدام (إنما أهلك من كان قبلكم) أحدُ الأساليب التي اعتمدتها السّنة في التبليغ والبيان، والوعظ والإرشاد، فمن ذلك: عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (دعوني ما تركتكم، إنّما هلك من كان قبلكم، بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكُم عن شيءٍ، فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمرٍ فأتوا منه ما استطعتم).
رابعًا: التحذير من الأئمة المضلين: قال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}[الجمعة:5]، قال ابن حزم -رحمه الله-: "لا آفة على العلوم وأهلها أضرّ من الدخلاء فيها وهم من غير أهلها، فإنَّهم يجهلون ويظنُّون أنَّهم يعلمون، ويفسدون ويقدرون أنهم يصلحون".
الخاتمة:
من المسلَّم به أنَّنا نعيش عصرًا تعدَّدت وتنوَّعت فيه التّحديات الفِكريّة والمشارب العَقديّة، لهذا جاء هذا البحث للتأكيد على أهميّة دور التّحصين العَقديّ وتعزيز الأَمْن الفِكريّ، بحسبانهما حجر الزّاوية في الحفاظ على وحدة وتماسك الصفّ المسلم، وغير خافٍ ما للإسلام من دورٍ متعاظمٍ في الحفاظ على أمن وسلامة الفِكر للأمّة المسلمة، بلْ وللبشرية جمعاء، إلّا أنَّ التاريخ يشهد منذ القدم على كثيرٍ من العقول البشرية التي لم تدرك الحقيقة، إمَّا كِبرًا وتكبُّرًا، أو لقصورٍ في الفهم والوعي، أو لخللٍ في البيئة والثقافة، أو لعدم الإيمان بالمسؤولية المجتمعيّة الوقائيّة، فكانت الاضطرابات والتفجيرات والقتل والتدمير، التي أحدثت خللًا بالأَمن الحسّي، ستظل آثاره منطبعةً في الذاكرة لأمدٍ طويلٍ.
ولقد سعينا من خلال هذا البحث إلى وضع إطار لاستراتيجية علميّة قابلة للتطبيق، تكفل تطبيقًا للتحصين العقديّ، واستقرارًا للأَمن الفِكريّ، من خلال إلقاء الضوء على المفهومين: (التحصين العَقديّ والأَمن الفِكريّ) وأهمّ المفاهيم المرتبطة بهما، مع تبيين طبيعة وخصائص كلٌّ منهما، وأهمّ العوامل المؤثِّرة في استقرارهما، مستلهمين من الواقع المعاصر للأَمن الفِكريّ، تحديدًا لإطار الاستراتيجية المقترحة لتعزيزه كمشروعٍ وطنيّ تنمويّ.
أهم النتائج:
وقد خلص البحث إلى النتائج التالية:
- تأصيل العقيدة في النّفوس وتربية النّشء عليها من أسباب تحصينهم من الشرور والفساد، وحماية أفكارهم من المذاهب الهدّامة، والآراء الضالّة، والمناهج البعيدة عن الهُدى.
- التحصين العقديّ يُقصدُ به: البناء العَقدي المتين من خلال الفَهم الناضج لمنهاج الله كتابًا وسنَّةً، ووقاية الفِكر والعقل عن كلِّ ما يُخلُّ بهما من الآراء الفاسدة، المخالفة لمنهج أهل السنَّة والجماعة في التّلقي والاستدلال.
- الأَمن الفِكريّ هو أن يعيش النّاس في بلدانهم وأوطانهم وبين مجتمعاتهم آمنين مطمئنين على مكوِّنات أصالتهم، وثقافتهم النوعيّة، ومنظومتهم الفِكريّة.
- للمؤسسات الحكوميّة المختلفة دورٌ كبير في توفير مبدأ التحصين العقديّ وتعزيز الأَمن الفِكريّ.
- اختلال المفاهيم الصحيحة للإسلام، يُسهم بصورة كبيرة في جميع المشاكل والاضطرابات المتعلّقة بالأَمن العام الناتج عن خلل في فهم حقائق الإسلام ومراميه.
التوصيات:
- التوسُّع في دراسة نظريّة الأَمن الفِكريّ في الإسلام وربطه بمسألة التحصين العقديّ، والعمل على إيجاد وصف منهجي دقيق لمفهومٍ شامل للأَمن الفِكري يحدّ من سُوء الفهم مع الأخذ بعين الاعتبار بما يلي:
- التّأسيس على مفهوم التنمية الفِكريّة وتجاوز ردود الأفعال ليكون العمل بناءً تأصيليًّا شاملًا، لا يعالج المشكلات الآنيّة فحسب، بلْ يُحدِّد مقوِّمات ومتطلبات الأَمن الفِكريّ، وعوامل ترسيخه ونشره بين شرائح المجتمع.
- تفعيل دور مؤسسات المجتمع الحكوميّة والمدنيّة وبيان مسؤولياتها في هذا المجال.
- العناية بالجوانب التطبيقيّة وبرامج العمل.
- أنْ تتبنَّى المؤسسات الحكوميّة ذات الصلة: (وزارات الإرشاد والأوقاف، مجامع الفقه الإسلاميّ، وزارات التربية والتعليم،...) مشروعًا لبناء المفاهيم في ضوء الإسلام، بحسبان أنَّ ضبط المفاهيم والمصطلحات وتحديدها طريقٌ لتحقيق الأَمن الفِكريّ، وذلك عبر الآليات التالية:
- حصر المفاهيم الرئيسة، والألفاظ الشرعيّة، والمصطلحات العلميّة ذات الصّلة بالفِكر، مثل: (الوسطية والحرية)، أو الألفاظ الشرعيّة مثل: (الجهاد، الولاء والبراء)، أو المصطلحات العلميّة مثل: (دار الكفر، دار الإسلام).
- جمع الدِّراسات المتعلّقة بالمفاهيم على اختلاف توجُّهات أصحابها، لمعرفة أوجه تأثيرها على الفِكر، ودراستها في ضوء تطورها التاريخيّ وأصولها الدينيّة والفلسفيّة والفِكريّة.
- البناء العلميّ الرشيد لتلك المفاهيم، والتحديد لمعاني الألفاظ الشرعيّة والمصطلحات العلميّة، تحديدًا علميًا دقيقًا يسدّ أبواب سوء الفهم.
- تشجيع ودعم البحوث والدِّراسات في مجال الأَمن الفِكريّ، وترسيخ مقوِّماتها، على أنْ يتم ذلك في ضوء معايير وضوابط تأخذ في الاعتبار:
- التأكيد على البحث عن العوامل الجوهريّة المعزّزة والمهدّدة للأَمن الفِكريّ بمراعاة العوامل الثقافيّة والاجتماعيّة والإعلاميّة والاقتصاديّة والسياسيّة.
- تحديد مقوِّمات ومتطلبات الفِكر الآمن وعوامل ترسيخه ونشره بين شرائح المجتمع.
- التّعرُّف على مصادر ومناهج الفِكر المنحرف: أسباب الانتشار والانجذاب، والعزوف والانحسار، المحاذير والمخاطر، سُبل الحدّ من جاذبيته، التّحصين والحصانة للإيجابيّ والسلبيّ من الأفكار.
- البحث في توفير مداخل نظريّة لفهم ظاهرة الغلوّ والتكفير والتطرُّف بمفهومها الشامل، والإرهاب كانحرافاتٍ فكريّةٍ يتمّ مراعاتها كركائز أساسية لصياغة أيّ استراتيجية.
- السعيّ لنشر فِقه الائتلاف وفِقه الاختلاف والتّبصير به كَسّنّة اجتماعيّة في حياة الأمم والشعوب عبر تطبيق الآليات التالية:
- عقدُ حلقات نقاش وورش عمل تدريبيّة خاصّة بالطلبة والطالبات في مستويات التعليم المختلفة.
- إعداد وتنفيذ محاضرات وندوات حول موضوع الأَمن الفِكريّ، وتفعيل دور وسائل الإعلام والوسائط الإلكترونيّة.
- التّوظيف الأَمثل لوسائل الإعلام واستثمار وسائل الإعلام الجديدة: وسائل التواصل الاجتماعي: (فيسبوك، واتساب، تويتر، يوتيوب،...) لنشر الفِكر الآمن، والتّحذير من الفِكر المنحرف على أنْ تأخذ في الاعتبار:
- مراعاة ضوابط العمل الإعلاميّ ووسائله وتقنياته بما يخدم سلامة النشأة الفِكريّة لأبناء البلاد وحمايتهم من التأثيرات السلبيّة للفكر المنحرف بمختلف أشكاله.
- ضبط وتقنين الإعلام الترفيهيّ ليُسهم في بناء عقلٍ سليم لا تسطيح فيه ولا تهميش.
- التأكيد على تبنّي آليات فاعلة في التأصيل لثقافة الحوار البنّاء، والجدل بالحسنى، وإيجابيات ومتطلبات الانفتاح، والتفاعل الرشيد مع الثقافات المختلفة.
- تشجيع ودعم تنفيذ دراسات تطبيقيّة لاستكشاف كافّة المجالات المحتملة لسدّ كلّ الذّرائع المفضية للتّورط في الانحراف على مستوى الفِكر أو السلوك، مع الأخذ في الاعتبار:
- العناية بفتح المجال للتعبير المتّزن عن الأفكار وحريّة التعبير في ضوء أحكام الشرع وضوابطه.
- الاهتمام بقضاء حوائج الناس، وتوفير الحلول المناسبة والعاجلة لمشاكلهم.
- تحسين الأوضاع الأسريّة والتربويّة والاقتصاديّة التي تشكِّل ضغطًا نفسيًا هائلًا قد يؤدِّي بدرجة كبيرة لهذا النوع من الانحراف الفِكريّ أو ذاك (العدالة الاجتماعية).
- تأسيس قاعدة معلومات تحوي مختلف مصادر المعلومات حول التعامل مع الفِكر بالفِكر، ووضع آلية للتواصل بين الجامعات ومراكز التدريب والمؤسسات الفِكريّة والعلميّة، ومواقع الشبكة العالميّة.
- وأخيرًا: التأكيد على دور وأهميّة الأًمن الفِكريّ ضمن منظومة الأَمن الشامل للحفاظ على وحدة وتماسك المجتمع وتنمية الوطن.
وصلَّ الله على سيدنا محمدٍ وآلهِ وصحبهِ أجمعين
مراجع البحث:
- القرآن الكريم.
- صحيح مسلم، أبو الحسين مسلم بن الحجاج النيسابوري، الجامع الصحيح، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، ط/1، القاهرة، دار الحديث، 1412ه، 1991م.
- صحيح البخاري، أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، الجامع الصحيح مع الفتح، تحقيق: محب الدين الخطيب، ط/2، القاهرة، دار الريّان للتراث، 1409ه، 1988م.
- صحيح الترمذي، أبو عيسى محمد بن عيسى الترمذي، الجامع الصحيح، تحقيق: إبراهيم عطوة عوض، ط/1، مصر، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده، 1382ه، 1962م.
- أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، السنن، اعتنى به: محمد بن أحمد دهمان، بدون طبعة، بيروت، دار إحياء السنّة النبويّة.
- محمد ناصر الدّين الألباني، سلسلة الأحاديث الصحيحة، ط/2، عمَّان، المكتبة الإسلاميّة، القاهرة، مكتبة التوعيّة الإسلاميّة، 1404ه،1954 م.
- أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النَّسائي، المجتبى، ط/1، مصر، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده، 1383ه، 1964م.
- محمد ناصر الدّين الألباني، سلسلة الأحاديث الصحيحة، ط/1، الكويت، الدّار السلفيّة، 1399ه، 1979م.
- أبو عبد الله الحاكم النيسابوري، المستدرك على الصحيحين، بدون طبعة، بيروت، دار المعرفة.
- فتح الباري شرح صحيح البخاري، 8/59.
- الجامع الصحيح.
- سنن أبي داود.
- مجموع الفتاوى.
- مصنَّف عبد الرزاق.
- أبو الحسين، أحمد بن فارس، معجم مقاييس اللُّغة، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، ط/3، مصر، مكتبة الخانجي 1402ه، 1981م.
- الأزهري، محمد بن أحمد، تهذيب اللُّغة، تحقيق: عبد العظيم محمود، مصر، الدار المصريّة للتأليف والترجمة، 1/510 وما بعدها.
- أبو الفضل محمد بن مكرم بن منظور، لسانُ العرب بدون طبعة، تحقيق: عبد الله علي الكبير وآخرون، القاهرة، دار المعارف، 1/140 .
- أبو القاسم الحسين بن محمد الأصفهاني، معجم مفردات ألفاظ القرآن، بدون طبعة، تحقيق: نديم مرعشلي، بيروت، دار الفِكر، بدون تاريخ.
- أحمد بن محمد الفيومي، المصباح المنير في غريب الشّرح الكبير، بدون طبعة، دار الفِكر، بدون تاريخ.
- جميل صليبا، المعجم الفلسفيّ، بيروت، دار الكتاب اللبناني، 1982م.
- أبو حيّان محمد بن يوسف، البحر المحيط، ط/2، دار الفِكر، 1403ه، 1983م.
- إسماعيل بن حماد الجوهريّ، الصحاح، تحقيق: أحمد عبد الغفور عطار، ط/1، بيروت، دار العلم للملايين، 1399ه، 1979م.
- اللالكائي، شرح أصول اعتقاد أهل السنَّة والجماعة، (1/60).
- جبير بن سليمان الحربيّ، الأَمن الفِكريّ في مواجهة المؤثرات الفكريّة. دور منهج العلوم الشرعيّة في تعزيز الأَمن الفِكريّ لدى طلاب الصفّ الثّالث الثانوي بالمملكة العربيّة السعودية، بحثٌ تكميليّ مقدَّم إلى قسم المناهج في كلية التربية بجامعة أم القرى لنيل درجة الدكتوراه، 1428ه، 2008م.
- علي بن محمد الجرجاني، التعريفات، بدون طبعة، بيروت، مكتبة لبنان، 1985م.
- عبد الرحمن الزنيدي، حقيقة الفِكر الإسلاميّ، ط/2، الرياض، دار المسلم، 1422ه، 2002م.
- عبد الحفيظ المالكي، نحو مجتمع آمن فكريًا، ط/1، 1431ه،2010 م.
- عبد الله بن عبد المحسن التركي، الأمن الفِكريّ وعناية المملكة العربية السعودية به، مكة المكرمة، مطابع رابطة العالم الإسلاميّ، 1423ه.
- عبد الرحمن السديس، الأمن الفِكريّ، ضمن كتاب الأَمن الفِكريّ، ط/1، الرياض، جامعة نايف العربية، مركز الدراسات والبحوث، 1426ه، 2005م.
- ابن مسفر الوادعي، الأمن الفِكريّ الإسلاميّ، مجلة الأمن والحياة، الرياض، جامعة نايف العربية للعلوم الأمنيّة، مركز الدراسات والبحوث، العدد (187)، 1418ه.
- عبد الرحمن اللويحق، الأَمن الفِكريّ: ماهيته وضوابطه، ضمن كتاب الأمن الفِكريّ، ط/1، الرياض، جامعة نايف العربية، مركز الدراسات والبحوث، 1426ه، 2005م.
- أبو الفرج بن الجوزي، صيد الخاطر، تحقيق: آدم أبو سنينة، بدون طبعة، الأردن، دار الفِكر، بدون تاريخ.
- أبو إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي، الاعتصام، بدون تاريخ طبع، بيروت، دار المعرفة، 1402ه، 1982م.
- عماد الطالبي، آراء أبي بكر العربي الكلاميّة، 1/44.
- تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، مجموع الفتاوى، جمع وترتيب عبد الرحمن بن قاسم، المدينة المنورة، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، 1416ه، 1995م.
- ناصر العقل، دراسات في الأهواء والفِرق والبدع، ط/1، الرياض، دار أشبيليا، 1418ه، 1997م.
- ناصر العقل، الاتجاهات العقليّة الحديثة، ط/1، الرياض، دار الفضيلة، 1422ه، 2001م.
- عدنان محمد أمامة، التجديد في الفِكر الإسلاميّ، ط/1، المملكة العربية السعودية، دار ابن الجوزي، 1424ه.
- أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي، زاد المسير في علم التّفسير، تحقيق: زهير الشاويش، ط/1، بيروت، المكتب الإسلاميّ، دار ابن حزم، 1423ه، 2002م.
- علي بن عبد العزيز الشبل، الغلو، ط/1، الرياض، دار الوطن، 1417ه.
- محمد قطب، واقعنا المعاصر.
- أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، اقتضاء الصراط المستقيم، تحقيق: د. ناصر العقل، ط/7، المملكة العربية السعودية، توزيع وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، 1419ه، 1999م.
- الصادق عبد الرحمن الغرياني، الغلو في الدين، ط/1، القاهرة، دار السلام، 1422ه، 2001م.
- أبو إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبيّ، الاعتصام، بدون طبعة، بيروت، دار المعرفة، 1402ه، 1982م.
- عبود بن علي بن درع، ظاهرة الغلو في الدين، ط/1، الرياض، دار الصميعي، 1419ه، 1998م.
- خالد بن حمد الخريّف، الغلو في الدين، ط/1، الرياض، مكتبة الرشد، 1426ه، 2005م.
- كرم محمد زهدي وآخرون، حرمة الغلو في الدين وتكفير المسلمين، ط/1، الرياض، مكتبة العبيكان، 1425ه، 2004م.
- التعريفات.
- اقتضاء الصراط المستقيم.
- أبو يعلى أحمد بن علي الموصلي، المسند، تحقيق: إرشاد الحق الأثري، ط/1، جدة، دار القبلة للثقافة الإسلاميّة، بيروت، مؤسسة علوم القرآن.
- عبد الرؤوف المناوي، فيض القدير، ط/2، مصورة من نسخة طبعت عام 1391 ه، 1972م، دار الفكر.
- أبو الطيب العظيم آبادي، عون المعبود، ضبط وتحقيق: عبد الرحمن محمد عثمان، ط/3، بيروت، دار الفِكر، 1399ه، 1979م.
- أبو عبد الله عبيد الله بن بطة، الشرح والإبانة على أصول السنَّة والديانة، تحقيق: الدكتور رضا بن نعسان معطي، ط/1، المدينة المنورة: مكتبة العلوم والحكم 1423ه، 2002م.
- جامع بيان العلم.
- كتاب الفقيه والمتفقه.
- أبو محمد علي بن حزم، الإحكام في أصول الأحكام، تحقيق: أحمد شاكر، بدون طبعة، بيروت، دار الآفاق الجديدة.
- محمد بن علي الشوكاني، أدب الطلب ومنتهى الأرب، تحقيق: محمد صبحي حلاق، ط/1، القاهرة، مكتبة ابن تيمية، 1415ه.
- أبو الفتح محمد بن عبد الكريم الشهرستاني، الملل والنحل، مطبوع بهامش الفصل في الملل والأهواء والنحل، نسخة مصورة من الطبعة الأولى، المطبعة الأدبيّة في سوق الخضار القديم بمصر، 1317ه، دار الفكر، بدون تاريخ.
- عبد القاهر البغدادي، الفَرق بين الفِرق، بدون طبعة، بيروت، دار الكتب العلمية بدون تاريخ.
- أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، التّبصير في معالم الدّين، تحقيق: علي بن عبد العزيز الشبل، ط/2، الرياض، مكتبة الرشد، 1425ه، 2004م.
المصدر: الإسلام اليوم
إضافة تعليق جديد