الاثنين 14 أكتوبر 2024 الموافق 10 ربيع ثاني 1446 هـ

منهج وتأصيل

(لَوْلَا أَنَّ قَوْمك حَدِيثُو عَهْد بِكُفْرٍ) دراسة فقهية في مراعاة النفور من الدين

15 جمادي اول 1440 هـ


عدد الزيارات : 14778
فهد بن صالح العجلان

الحمد الله، وصلى الله وسلم وبارك على خليل الله محمد، وعلى آله وأزواجه وصحبه إلى يوم الدين، أما بعد:

فقاعدة السياسة الشرعية في الفقه الإسلامي تقوم على رعاية المصالح ودفع المفاسد، وعند التعارض تأتي بجلب أرجح المصلحتين ودفع أكبر المفسدتين، وهذا الأصل الكلّي المتفق عليه يستوجب البحث في المحدّدات الشرعية التي تبيّن حجم المفسدة والمصلحة حتى نستطيع أن نحكم على الواقعة المعينة بأنّها من قبيل المفسدة الأعظم التي تستحقّ أن يُرتكب لأجْلِها مفسدة أقل، وهذا يستوجب تتبعًا لفروع الشريعة وعللها، لتحديد الضوابط المفصّلة لمثل هذا.

وبحثُنا يتطلب محاولة وضع المحدّدات لأحد هذه المعاني المؤثرة في هذه القاعدة، وهو: دفع مفسدة التنفير عن الإسلام وترك الناس له وبعدهم عنه، وذلك بتأليف قلوبهم، وتقوية إيمانهم، وجلب كل الأسباب الشرعية المحققة لهذا المقصد.

وهو معنى قد راعته الشريعة، ووقع له تطبيق شهير في عصر الرسالة، حين ترك النبي -صلى الله

عليه وسلم- إعادة بناء الكعبة على قواعد إبراهيم، مع رغبته في ذلك، وكونه هو الأكمل، مراعاةً لنفوس الناس وخشيةً من حدوث ضرر على دينهم بسبب ذلك.

من خلال هذا المعنى المعتبر شرعًا تأتي هذه الدراسة.

  أهمية البحث:

تتجلى أهمية هذا البحث في كونه متعلّقًا بتطبيقٍ نبوي يراعي المصالح والمفاسد، فهو من تطبيقات السياسة الشرعية في عصر الرسالة، وفيه إبراز لمعنى شرعي معتبر هو: تأليف الناس على الدين، وتقريبهم له، وجمع قلوبهم عليه، والبعد عمّا ينفّرهم ويوحش صدورهم.

 

  أهداف البحث:

  1. ضبط حدود الاستدلال الفقهي السائغ بهذه الواقعة النبوية الشهيرة.
  2. تحديد حجم المفسدة التي ارتكبت في هذه الواقعة مراعاة لدفع مفسدة أعلى منها هي الخشية من نفور الناس بسبب حداثة إيمانهم.
  3. ضبط الأصل الكلّي الواجب في دفع التعارض بين جلب مصلحة القيام بالواجبات الشرعية، ودفع مفسدة نفور الناس عن الدين.
  4. الكشف عن الأوجه الشرعية المعتبرة في مراعاة مفسدة النفور عن الدين.

 

  إشكالية البحث:

يقصدُ هذا البحث النظرَ في مفهوم النفور عن الدين الذي تضمّنه هذا الحديث، ومعرفة الحدود

السائغة في إعمال هذا المعنى، ومعرفة المجالات التي يُشرع فيها ترك بعض الأحكام خشية من مفسدة نفور الناس عن دينهم.

 

  الدراسات السابقة:

لم أطلع حسب علمي على دراسة أو بحث يخص هذه الواقعة بالنظر والتحليل.

 

  منهج البحث:

سلكت في البحث المنهج الاستقرائي الاستنباطي، نظرًا لطبيعة المشكلة محلّ المعالجة في البحث.

 

  حدود البحث:

سيقتصر البحث على دراسة حديث معين هو حديث عائشة -رضي الله عنها- في ترك بناء الكعبة، للكشف عن أثر مراعاة نفور الناس في ميزان المصالح والمفاسد.

 

  خطّة البحث:

وتأتي خطة هذا البحث في المباحث التالية:

  • المبحث الأول: قصة بناء الكعبة وهدمها، والحكمة من ترك إعادة بنائها.
  • المبحث الثاني: حكم إعادة بناء الكعبة على قواعد إبراهيم.
  • المبحث الثالث: حدود السياسة الشرعية في ترك الأحكام الشرعية مراعاة لنفور الناس.
  • المبحث الرابع: المجالات المشروعة لتأثير مراعاة نفور الناس عن الدين.

 

أسأل الله أن يرزقنا الفقه في دينه، والاهتداء بسنّة نبيه صلى الله عليه وسلم، وأن يرينا الحق حقًا ويرزقنا اتباعه، وأن يهدينا لما اختلف فيه من الحق بإذنه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.


لقراءة البحث بصيغة PDF اضغط هنا


المبحث الأول: قصة بناء الكعبة وهدمها، والحكمة من ترك إعادة بنائها:

سألت عائشة رضي الله عنها- النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ الجَدْرِ أَمِنَ البَيْتِ هُوَ؟ قَالَ: (نَعَمْ، قُلْتُ: فَمَا لَهُمْ لَمْ يُدْخِلُوهُ فِي البَيْتِ؟ قَالَ: إِنَّ قَوْمَكِ قَصَّرَتْ بِهِمُ النَّفَقَةُ، قُلْتُ: فَمَا شَأْنُ بَابِهِ مُرْتَفِعًا؟ قَالَ: فَعَلَ ذَلِكَ قَوْمُكِ، لِيُدْخِلُوا مَنْ شَاءُوا وَيَمْنَعُوا مَنْ شَاءُوا، وَلَوْلاَ أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ بِالْجَاهِلِيَّةِ، فَأَخَافُ أَنْ تُنْكِرَ قُلُوبُهُمْ أَنْ أُدْخِلَ الجَدْرَ فِي البَيْتِ، وَأَنْ أُلْصِقَ بَابَهُ بِالأَرْضِ)أخرجه البخاري، في باب ما يجوز من اللو، برقم: ١٥٨٤ ، ومسلم، في باب جدر الكعبة وبابها، برقم: ٤٠١..

ولما احترقت الكعبة في زمن يزيد بن معاوية جمع ابن الزبير الناس فقال: "يا أيها الناس أشيروا عَليّ في الكعبة، أَنْقُضُهَا ثم أبني بِنَاءَهَا؟ أو أصلح ما وَهَى منها؟ قال ابن عباس: فإنّي قد فُرِقَ لي رأي فيها، أرى أن تصلح ما وَهَى منها، وتدع بيتًا أسلم الناس عليه، وأحجارًا أسلم الناس عليها، وبُعث عليها النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.

فقال ابن الزبير: لو كان أحدكم احترق بيته ما رضي حتى يُجِدَّهُ، فكيف بيت ربكم؟ إني مستخير ربي ثلاثًا، ثم عازِم على أمري، فلما مضى الثلاث أجمع رأيه على أن ينقضها. فتحاماه الناس أن ينزل بأول الناس يصعد فيه أمر من السماء، حتى صعده رجل، فألقى منه حجارة، فلما لم يره الناس أصابه شيء تتابعوا فنقضوه حتى بلغوا به الأرض، فجعل ابن الزبير أعمدة، فستر عليها الستور حتى ارتفع بناؤه.

وقال ابن الزبير: إنّي سمعت عائشة تقول: إن النبي -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- قال: (لولا أنّ الناس حديث عهدهم بكفر، وليس عندي من النفقة ما يقوي على بنائه، لكنت أدخلت فيه من الحجر خمس أذرع، ولَجَعَلْتُ لها بابًا يدخل الناس منه، وبابًا يخرجون منه).

قال ابن الزبير: فأنا اليوم أجد ما أنفق، ولست أخاف الناس".

قال: فزاد فيه خمس أذرع من الحجر حتى أبدى أسًّا نظر الناس إليه، فبنى عليه البناء وكان طول الكعبة ثماني عشرة ذراعًا، فلما زاد فيه استقصره، فزاد في طوله عشر أذرع، وجعل له بابين: أحدهما يدخل منه، والآخر يخرج منه.

فلما قُتل ابن الزبير كتب الحجاج إلى عبد الملك بن مروان يخبره بذلك، ويخبره أنّ ابن الزبير قد وضع البناء على أُسٍّ نَظَرَ إليه العدول من أهل مكة، فكتب إليه عبد الملك: إنّا لسنا من تلطيخ ابن الزبير في شيء، أمّا ما زاد في طوله فأقِرَّهُ، وأمّا ما زاد فيه من الحِجْرِ فَرُدَّهُ إلى بنائِه، وَسُدَّ الباب الذي فتحه، فَنَقَضَهُ وأَعادَه إلى بنائهأخرجه مسلم، في باب نقض الكعبة وبنائها، برقم: ٤٠٢..

وعن أبي قزعة، أنّ عبد الملك بن مروان بينما هو يطوف بالبيت إذ قال: قاتل الله ابن الزبير حيث يكذب على أم المؤمنين، يقول: سمعتها تقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عائشة لولا حدثان قومك بالكفر لنقضت البيت حتى أزيد فيه من الحجر، فإنّ قومك قصروا في البناء"، فقال الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة: لا تقل هذا يا أمير المؤمنين، فأنا سمعت أمّ المؤمنين تحدّث هذا. قال: لو كنت سمعته قبل أن أهدمه، لتركته على ما بنى ابن الزبيرأخرجه مسلم، في باب نقض الكعبة وبنائها، برقم: 404..

 

 - سببُ تركِ النبي -صلى الله عليه وسلم- هدمَ الكعبة وبناءها على قواعد إبراهيم:

فتركُ النبي -صلى الله عليه وسلم- لإعادة الكعبة على قواعد إبراهيم كان مراعاةً لحال أهل مكة، وقرب عهدهم بالإسلام، فخشي أن يصيبهم بسبب ذلك نفور ووحشة وريبة تضرّ بدينهم، نظرًا لما تمكّن في قلوبهم من تعظيم بيت الله، وما نشأوا عليه من رؤية البيت على هذا الحال، فسدًّا لهذه الذريعة، ومراعاة لهذا المآل ترك النبي -صلى الله عليه وسلم- ما كان أكمل.

 

وعلى هذا المعنى فسّر أهل العلم هذا الحديث:

قال الباجي في شرح الموطأ: "قرب العهد بالجاهلية، فربما أنكرت نفوسهم خراب الكعبة، فيوسوس لهم الشيطان بذلك ما يقتضي إدخال الداخلة عليهم في دينهم، والنبي -صلى الله عليه وسلم- كان يريد استئلافهم ويروم تثبيتهم على أمر الإسلام والدين، يخاف أن تنفر قلوبهم بتخريب الكعبة"أبو الوليد سليمان بن خلف الباجي، المنتقى شرح الموطأ، مطبعة السعادة، ط ١،  ١٤٣٢ ه، ج ٢، ص ٢٨٢.​.

وقال النووي في شرح صحيح مسلم: "ولكن تعارضه مفسدة أعظم منه وهي خوف فتنة بعض من أسلم قريبًا، وذلك لما كانوا يعتقدونه من فضل الكعبة، فيرون تغييرها عظيمًا، فتركها صلى الله عليه وسلم"محيي الدين يحيى بن شرف النووي، شرح صحيح مسلم، دار إحياء التراث العربي، ط2، 1392هـ، ج9 ص89..

وقال ابن الملقن في التوضيح: "إنّهم لقرب عهدهم بالجاهلية فربما أنكرت نفوسهم خراب الكعبة، ونفرت قلوبهم، فيوسوس لهم الشيطان ما يقيض شيئًا في دينهم، وهو كان يريد ائتلافهم وتثبيتهم على الإسلام"سراج الدين عمر بن علي بن الملقن، التوضيح لشرح الجامع الصحيح، دار النوادر، ط١، ١٤٢٩ ه، ج ١١، ص ٣٠٢.​.

يقول المعلمي: "وإنكار هؤلاء هو -والله أعلم- ارتيابهم في صدق قوله، إذ قال -صلى الله عليه وسلم- لهم: إنّ البناء الموجود يومئذٍ ليس على قواعد إبراهيم، يقولون: لا نعرف قواعد إبراهيم إلا ما عليه البناء الآن، ولم يكن أسلافنا ليغيّروا بناء إبراهيم، فيؤدّي ذلك إلى تمكّن الكفر في قلوبهم، ولهذا -والله أعلم- لم يعلن النبي -صلى الله عليه وسلم- القول، إنّما أخبر به أمّ المؤمنينعبد الرحمن بن يحيى المعلمي، آثار المعلمي، دار عالم الفوائد، ط ١، ١٤٣٤ ه، ج ١٦ ، ص ٤٨٦..

وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أنّ سبب نفورهم يعود إلى اختصاص النبي -صلى الله عليه وسلم- بالفخر في بناء الكعبة دونهم.

قال ابن بطال في شرح صحيح البخاري: "قال أبو الزناد: إنّما خشي أن تنكره قلوب الناس لقرب عهدهم بالكفر، ويظنّون أنّما يفعل ذلك لينفرد بالفخر دونهم"أبو الحسن علي بن خلف بن بطال، شرح صحيح البخاري، مكتبة الرشد، الرياض، ط ٢، . ١٤٣٢ ه، ج ١، ص ٢٠٥.​.

يقول ابن الملقن: "خشي -صلى الله عليه وسلم- أن تنكر ذلك قلوبهم لقرب عهدهم بالكفر، ويظنّون أنّه فعل ذلك لينفرد بالفخر، وعظم هدمها لديهم"ابن الملقن، التوضيح لشرح الجامع الصحيح، ج ٢، ص ٦٥٠.​.

غير أنّ هذا المعنى بعيد، يقول المعلمي شارحًا وجه ضعف هذا التفسير: "فأمّا تفسير بعض الشرَّاح إنكار قلوبهم بأن ينسبوه إلى الفخر دونهم، فلا يخفى ضعفه، وأيُّ مفسدةٍ في هذا؟ وقد كان ميسورًا أن يشركهم في البناء، أو يَكِلَه إليهم، ويَدَعَ الفخر لهم"المعلمي، آثار المعلمي، ج ١٦ ، ص ٦٥٠..

 

المبحث الثاني: حكم إعادة بناء الكعبة على قواعد إبراهيم:

تركُ النبي -صلى الله عليه وسلم- لبناء الكعبة مراعاة لهذه المفسدة هو من السياسة الشرعية التي تراعي المآلات، وهي من التطبيقات النبوية التي يُستدل بها على قاعدة التعارض بين المصالح والمفاسد، وارتكاب المفسدة الأقل دفعًا للمفسدة الأرجح، ولكن قبل الدخول في هذه القاعدة وحدودها: من المهم تحرير حقيقة هذا الترك وحكمه، فهل كانت إعادة بناء الكعبة على قواعد إبراهيم من الواجبات الشرعية التي تركها النبي -صلى الله عليه وسلم- مراعاة لهذه المفسدة الأرجح أم هي من قبيل المستحبات؟

نصّ كثير من أهل العلم على أنّ بناء الكعبة على قواعد إبراهيم لم يكن من الفروض اللازمة، بل هو من الأمور المشروعة المستحبة، لأنّ أحكام الشريعة لن تتأثر بترك الكعبة على ما هي عليه.

ولهذا عنون البخاري لهذا الحديث بـ: "باب من ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر فهم الناس عنه فيقعوا في أشد منه"أخرجه البخاري، برقم: ١٢٦.، فجعله من قبيل الاختيار وليس اللازم.

يقول الباجي: "مع أنّ استيعابه بالبنيان لم يكن من الفروض ولا من أركان الشريعة التي لا تقوم إلا به، وإنّما يجب استيعابه بالطواف خاصة، وهذا يمكن مع بقائه على حاله"الباجي، المنتقى شرح الموطأ، ج ٢، ص ٢٨٢.. ونقل ابن الملقن في التوضيح مثل هذا النصابن الملقن، التوضيح لشرح الجامع الصحيح، ج ١١ ، ص ٣٠٢..

ويقول المعلّمي: "بقاء الكعبة على بناء قريش لم يترتّب عليه فيما يتعلق بالعبادات خللٌ ولا حرج، ولذلك لم يأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كبار أصحابه ببنائها حين يبعد العهد بالجاهلية، وإنّما أخبر عائشة رضي الله عنها، لأنّها رغبَتْ في دخول الكعبة، فأرشدها إلى أن تصلي في الحِجْر، وبيّن لها أنّ بعضه أو كلّه من الكعبة، قصّرت قريش دونه. ولا أرى عائشة -رضي الله عنها- كانت ترى إعادة بنائها على القواعد أمرًا ذا بال، فإنّه لم يُنقَل أنّها أرسلت إلى عمر أو عثمان -رضي الله عنهم- تخبرهم بما سمعَتْ".

وفي صحيح مسلم عنها، أنّه -صلى الله عليه وسلم- قال لها: (فإن بدا لقومكِ أن يَبنُوها بعدي فهَلُمِّي لأُرِيكِ ما تركوا منه) أي من الحِجر. وصرّح بعض أهل العلم بأنّ إعادة بنائها على القواعد كان هو الأولى فقط"المعلمي، آثار المعلمي، ج ١٦ ، ص ٤٨..

ومن خلال ما سبق من كلام أهل العلم، نستخلص الأوجه التي تؤكد أنّ بناء الكعبة كان من المستحبات لا الواجبات:

  1. أنّ الأحكام والعبادات المتعلقة بالكعبة لن تتأثر بسبب عدم إكمال بناء الكعبة على قواعد إبراهيم، وحيث لم يترتب عليه ترك واجب لا يكون إعادة بنائها واجبًا.
  2. أنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يأمر بإعادة بنائها في حال زوال المانع، فلو كانت أمرًا واجبًا وهو متعلّق ببيت الله، لكان تركه الواجب الشرعي المتعلق ببناء الكعبة مفسدة تقتضي الإصلاح بعد زوال المفسدة القائمة، فغياب النصّ الشرعي الذي يحثّ على بنائها يدلّ على عدم الوجوب.
  3. أنّ ذلك لم يفعله كبار صحابة النبي -صلى الله عليه وسلم- مع شدّة حرصهم على القيام بالواجبات، وعدم التفريط في شيء من دين الله، مع تغيّر الحال في زمانهم، وتمكّن الإيمان في نفوس الناس، وضعف المانع الذي كان قائمًا في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، فلو كان واجبًا لما ترك إعادة بنائه في عهد الخلفاء الراشدين.

ولهذا جاء في صحيح البخاري عن الأسود، قال: قال لي ابن الزبير: كانت عائشة تسرّ إليك كثيرًا، فما حدثتك في الكعبة؟ قلت: قالت لي: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا عائشة لولا قومك حديث عهدهم -قال ابن الزبير: - بكفر، لنقضت الكعبة فجعلت لها بابين: باب يدخل الناس وباب يخرجون) ففعله ابن الزبير"أخرجه البخاري، باب من ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر فهم الناس عنه فيقعوا في أشد منه، برقم: ١٢٦..

فابن الزبير لم يعرف عن هذا الحديث إلا بعد سؤاله للأسود، وكان مما أسرّت إليه به عائشة، وعائشة لم تعرف الحديث إلا بعد أن سألت النبي صلى الله عليه وسلم، فلو كان من الواجبات الشرعية لكان ظاهرًا أمره ولما خفي حاله حتى يقام الواجب في حين زوال المفسدة، فكلّ هذا يؤكد أنّه كان من المستحب لا الواجب.

وقد يُعترض على هذا: بأنّ بناء الكعبة واجب شرعًا، فقد أمر الله ببنائها، وبناها خليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام.

والجواب: أنّ الخلاف ليس في أصل بناء الكعبة، وإنّما في إدراج جزء من البناء ضمن البناء أو تركه على ما هو عليه. ولو سلم به فيكون هذا متعلّقًا بأصل البناء الأول، وليس في حكم البناء بعد استقرار بقاء الكعبة على النحو حتى اعتاده الناس، فإقرار النبي -صلى الله عليه وسلم- له وعدم أمره بنقضه يدلّ على عدم وجوبه، وأنّ الترك كان للأكمل.

ولهذا نصّ كثير من أهل العلم في فقه هذا الحديث والفوائد المستفادة منه أنّ هذه المراعاة الموجودة في الحديث متعلّقة بغير الواجب، بما يعني أنّ إعادة بناء الكعبة لم يكن واجبًا:

يقول ابن بطال: "النفوس تحب أن تساس بما تأنس إليه في دين الله من غير الفرائض"ابن بطال، شرح صحيح البخاري، ج ١، ص ٢٠٥.​.

ونقل مثل هذا النصّ عدد من الشرّاح في سياق ذكر الفوائد المستفادة من الحديث، كالعيني في عمدة القاريبدر الدين محمود بن أحمد العيني، عمدة القاري شرح صحيح البخاري، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ج ٢،  ص ٢٠٤.وابن الملقن في التوضيحابن الملقن، التوضيح لشرح الجامع الصحيح، ج ٣، ص ٦٥٠..

وقال القنازعي: "في هذا من الفقه: مداراة من يتقى عليه تغير حاله في دينه والرفق بالجاهل، قال: لم يكن ذلك في معصية الله"أبو المطرف عبد الرحمن بن مروان القنازعي، تفسير الموطأ، دار النوادر، ط١، ١٤٢٩ه، ج ٢، ص ٦٣٣.​.

ويقول ابن الجوزي: "وهذا تنبيه على مراعاة أحوال الناس ومداراتهم، وألّا يبدهوا بما يخاف قلّة احتمالهم له، أو بما يخالف عاداتهم إلا أن يكون ذلك من اللازمات"أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي، كشف المشكل من حديث الصحيحين، دار الوطن، الرياض، ج ٤،  ص ٢٦٣.​.

وقال الرافعي: "واحتج بالحديث على أنّه يجوز أن يترك ما هو المختار والأفضل خشية إنكار الناس ووقوعهم في الفتنة"أبو القاسم عبد الكريم بن محمد الرافعي، شرح مسند الشافعي، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، قطر، ط١، ١٤٢٨ ه، ج ٢، ص ٣٤٨.​.

وقال النووي: "ومنها تألف قلوب الرعية وحسن حياطتهم وأن لا ينفروا ولا يتعرض لما يخاف تنفيرهم بسببه ما لم يكن فيه ترك أمر شرعي"النووي، شرح صحيح مسلم، ج ٩، ص ٨٩..

قال الزرقاني: "وتألف قلوبهم بما لا يترك فيه أمر واجب، كمساعدتهم على ترك الزكاة وشبه ذلك"محمد بن عبد الباقي الزرقاني، شرح الزرقاني على الموطأ، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، ١٤٢٤ ه، ج ٢، ص ٤٤٨..

وأشار بعض أهل العلم إلى كونه من يسير الأمر بالمعروف، قال ابن بطال: "قال المهلب: فيه أنّه قد يُترك يسير من الأمر بالمعروف إذا خشي منه أن يكون سببًا لفتنة قوم ينكرونه"ابن بطال، شرح صحيح البخاري، ج ١، ص ٢٠٥.​، وهذا يدل على أنه من المستحبات.

ويقول ابن عثيمين: "ربما يؤخذ ترك السنة من دليل آخر من السنة وهو ترك النبي -صلى الله عليه وسلم- بناء البيت (الكعبة) على قواعد إبراهيم خوفًا من الفتنة، لأنهم كانوا حديثي عهد بكفر، فمثلًا إذا كانت السنّة من الأمور المستغربة عند العامة والتي يتهم الإنسان فيها بما ليس فيه فإنّ الأولى والأفضل أنّ الإنسان يمهّد لهذه السنّة في القول قبل أن يتخذها بالفعل، يبين للناس في المجالس، في المساجد، في أي فرصة مناسبة يبين لهم الحق حتى إذا قام بفعله، فإذا الناس قد اطمأنوا وفهموا وعرفوا"محمد بن صالح بن عثيمين، محاضرة تعاون الدعاة وأثره، من المكتبة الشاملة، ص ٢٥..

 

 - حكم فعل ابن الزبير -رضي الله عنه- في إعادة بناء الكعبة على قواعد إبراهيم:

هدم ابن الزبير الكعبة وأعادها على قواعد إبراهيم، ثم نقضها عبد الملك بن مروان، وقد اختلف أهل العلم في تصويب موقف ابن الزبير، فذكر بعضهم أنّ هذا الحديث يدلّ أنّ فعل ابن الزبير كان هو الصواب، لكن بعدما تغير الحال كره أن يُغيرأبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير، تفسير القرآن العظيم، دار طيبة، الرياض، ط ٢،  ١٤٢٠ ه، ج ١، ص ٤٤١..

وقد وقع اختلاف بين الصحابة -رضي الله عنهم- في ذلك، فلم يوافق ابن عباس -رضي الله عنه- على هذا كما سبق ذكره في رواية مسلم، ورأى أن يبقى البيت على ما هو عليه، وعلى ما أقره النبي صلى الله عليه وسلم.

قال ابن تيمية حاكيًا هذا الخلاف: "فلما ولي ابن الزبير شاور الناس في ذلك، فمنهم من رأى ذلك مصلحة ومنهم من أشار عليه بأن لا يفعل، وقال هذه الكعبة هي التي كانت على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- وعليها أسلم الناس، وهذا كان رأي ابن عباس وطائفة، والفقهاء متنازعون في هذه المسألة، منهم من يرى إقرارها كقول ابن عباس وهو قول مالك وغيره، ويقال إن الرشيد شاوره أن يفعل كما فعل ابن الزبير فأشار عليه أن لا يفعل، ورأى أن هذا يفضي إلى انتقاض حرمة الكعبة باختلاف الملوك في ذلك هذا يهدمها ليبنيها كما فعل ابن الزبير وهذا يرى أن يعيدها كما كانت، ومنهم من يرى تصويب ما فعله ابن الزبير، ويقال إن الشافعي يميل إلى هذا"أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، الرد على المنطقيين، دار المعرفة، بيروت، ص ٥٠٣-504.​، وذكر ابن تيمية رأي مالك في نهيه هارون الرشيد عن التعرّض للكعبة يتوجّه حتى لتعرّض ابن الزبير له، وليس خاصًّا بحال ذلك بعد نقض عبد الملك بن مروان.

وجزم أبو العباس القرطبي في شرح مسلم بتصويب فعل ابن الزبير، وشنّع على فعل الحجاج وعبد الملك بن مروان، فقال: "ما فعله ابن الزبير كان صوابًا وحقّا، وقبّح الله الحجاج وعبد الملك، لقد جهلا سنّة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واجترءا على بيت الله وأوليائه"أبو العباس أحمد بن عمر القرطبي، المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، دار ابن كثير، ط١، ، ١٤١٧ ه، ج ٣  ص ٤٣٧-438..

ثم قال: "قول عبد الملك: لو كنت سمعت هذا قبل أن أهدمه لتركته على ما بنى ابن الزبير، تصريح منه بجهله بالسنّة الواردة في ذلك، وهو غير معذور في ذلك، فإنّه كان متمكّنًا من التثبّت في ذلك والسؤال والبحث فلم يفعل، واستعجل وقصَّر، فالله حسيبه ومجازيه على ذلك"المصدر السابق، ج ٣، ص ٤٣٩..

 

 - حكم إعادة الكعبة على قواعد إبراهيم بعد ذلك:

بعد أن وقع خلاف بين الصحابة في حكم هدم الكعبة وإعادة بنائها على قواعد إبراهيم، فأعادها ابن الزبير ثم نقضها عبد الملك بن مروان، أراد هارون الرشيد أن يعيد الاجتهاد مرة أخرى فاستشار إمام دار الهجرة مالك بن أنس: "وقد رُوي أنّ هارون الرشيد ذكر لمالك بن أنس أنّه يريد هدم ما بناه الحجاج من الكعبة، وأن يردّه إلى بنيان ابن الزبير، فقال له: ناشدتك الله يا أمير المؤمنين ألّا تجعل هذا البيت ملعبة للملوك، لا يشاء أحد منهم إلا نقض البيت وبناه، فتذهب هيبته من صدور الناس"ابن بطال، شرح صحيح البخاري، ج ٤، ص ٢٦٤..

ثم بعد ذلك استقرّ الأمر على المنع وحرمة التعرض للكعبة، يقول القرطبي: "استحسن الناس هذا من مالك، وعملوا عليه، فصار هذا كالإجماع على أنّه لا يجوز التعرض له بهدٍّ أوتغييرالقرطبي، المفهم لما أشكل من تلخيص مسلم، ج ٣، ص ٤٣٩..

يقول ابن حجر الهيتمي: "قول العلماء أنّها لا تغير عن ذلك ظاهر في حرمة تغييرها، ومن ثَمّ لما سأل الرشيد مالكًا -رضي الله عنه- في تغيير بناء الحجاج، قال مالك: نشدتك الله يا أمير المؤمنين لا تجعل هذا البيت ملعبة للملوك، لا يشاء أحد إلا نقضه وبناه، فتذهب هيبته من صدور الناس. واستحسن الناس هذا من مالك وأثنوا عليه به، فصار كالإجماع على منع تغيير بنائها"أحمد بن محمد بن حجر الهيتمي، الفتاوى الفقهية الكبرى، المكتبة الإسلامية، ج ١، ص ١٣٧..

 

المبحث الثالث: حدود السياسة الشرعية في ترك الأحكام الشرعية مراعاة لنفور الناس:

دلّ هذا الحديث على قاعدة جليّة في جلب المصالح ودفع المفاسد، والموازنة بين المصالح والمفاسد في حال التعارض، بأن ترتكب أقل المفسدتين لدفع أعلاهماانظر: الزرقاني، شرح الزرقاني على الموطأ، ج ٢، ص ٤٤٨ ، النووي، شرح صحيح مسلم، ج ٩، ص ٨٩ ، أبو العباس محمد بن أحمد القسطلاني، شرح القسطلاني على صحيح البخاري، المطبعة الأميرية، مصر، ط١، 1332م، ج3، ص ١٤.، فهذه الواقعة النبوية من أظهر الأدلّة على قاعدة الموازنة.

السؤال المهم هنا هو في حجم المفسدة التي تستحق أن تقدم على هذه المصلحة، فقاعدة تقديم الأرجح من المصلحتين أو دفع الأعلى من المفسدتين ليست محل إشكال، وإنّما الذي يحتاج إلى تدقيق وتحرير معيار الحكم على هذه المفسدة من أنّها أعلى، ولأجل ذلك يسوغ بسببه أن ترتكب هذه المفسدة الأقل.

ففي مثل مسألتنا: ترك النبي -صلى الله عليه وسلم- لأمر من الشرع مراعاة لنفور الناس، هل يسوغ بناءً على ذلك ترك الواجبات الشرعية مراعاة لنفور الناس؟ فلو نفر بعض الناس من إقامة الحدود مثلًا، أو ثقل عليهم منع بعض المحرّمات، فهل تترك هذه الواجبات الشرعية مراعاة لهذا النفور؟

هذا يتطلب منّا وضع حدود لإعمال هذه القاعدة، فمراعاة نفور الناس من الدين معنى جاءت الشريعة باعتباره، وهذا الحديث يدلّ عليه، لكن يبقى السؤال المهم في حدود إعمال هذا المعنى، لأنّ إعماله بدون حدود سيعود على أصل الشريعة بالنقض، بحيث تتوقف كافة الأحكام الشريعة بدعوى مراعاة نفور الناس.

وحدود إعمال نفور الناس في ترك بعض الأحكام يتطلب منا تتبعًا لفروع الشريعة الأخرى ومدى تأثير هذا المعنى فيها، ومن خلال هذا التتبع نستطيع أن نستخلص رؤية كلية متعلقة بهذا الموضوع:

  1.  نجد أوّلًا أنّ ثَمّ جملة من الأحكام حدث فيها إشكال مؤثر في نفور الناس في زمان النبوة ولم يترك النبي -صلى الله عليه وسلم- تطبيقها بسبب ذلك، ومن ذلك:
  • صلح الحديبية، حين صالح النبي -صلى الله عليه وسلم- قريشًا على المعاهدة المعروفة فثقل على الصحابة رضي الله عنهم، يروي سهل بن حنيف شدّة هذه الواقعة على نفوس الصحابة فيقول يوم صفين مخاطبًا أصحابه: "لقد رأيتنا يوم الحديبية -يعني الصلح الذي كان بين النبي صلى الله عليه وسلم والمشركين- ولو نرى قتالًا لقاتلنا، فجاء عمر فقال: ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ أليس قتلانا في الجنة، وقتلاهم في النار؟ قال: بلى. قال: فَفِيْمَ نعطي الدنية في ديننا ونرجع ولـمّا يحكم الله بيننا؟ فقال: يا ابن الخطاب إني رسول الله ولن يضيعني الله أبدًا. فرجع متغيّظًا فلم يصبر حتى جاء أبا بكر فقال: يا أبا بكر ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ قال: يا ابن الخطاب إنّه رسول الله ولن يضيعه الله أبدًا"أخرجه البخاري، باب قوله: إذ يبايعونك تحت الشجرة، برقم: ٤٨٤٤ ، ومسلم، باب صلح الحديبية في الحديبية برقم: ٩٤..ورواية في مسلم تعبّر عن هذا المعنى بوضوح أكثر، قال سهل بن حنيف:

"أيها الناس، اتهموا رأيكم، والله، لقد رأيتني يوم أبي جندل، ولو أني أستطيع أن أردّ أمر رسول الله لرددته"أخرجه مسلم، باب صلح الحديبية في الحديبية، برقم: ٩٥..

  • وفي قسمة غنائم حنين، حين أعطى النبي -صلى الله عليه وسلم- المؤلفةَ قلوبهم، وترك الأنصار حتى وجدوا في أنفسهم فجمعهم النبي -صلى الله عليه وسلم- وأرضاهم وبيّن لهم الدافع لمثل هذاأخرجه البخاري، باب غزوة الطائف، برقم: ٣١٤٧ ، ومسلم، باب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام، برقم: ١٢٣.، بل وكان ذلك سببًا في طعن المنافقين في النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رجل: كنا نحن أحق بهذا من هؤلاء، قال: فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء، يأتيني خبر السماء صباحًا ومساء؟ قال: فقام رجل غائر العينين، مشرف الوجنتين، ناشز الجبهة، كثّ اللحية، محلوق الرأس، مشمر الإزار، فقال: يا رسول الله، اتق الله، فقال: ويلك أو لست أحق أهل الأرض أن يتقي الله)أخرجه البخاري، باب بعث علي بن أبي طالب عليه السلام، برقم: ٧٤٣٢ ، ومسلم، باب ذكر الخوارج وصفتهم، برقم: ١٤٤ واللفظ له..
  • ما وقع بسبب تحريق نخيل اليهود في غزوة بني النضير، كما في الصحيحين عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أنّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قطع نخل بني النضير، وحرق ... وفي ذلك نزلت: {مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا} [الحشر: ٥]أخرجه البخاري، باب قطع الشجر والنخل، برقم: ٢٣٢٦ ، ومسلم، باب جواز قطع أشجار الكفار وتحريقها، برقم: ٣٠.وقد ذكر بعض أهل العلم أنّ هذه الآية نزلت بسبب استنكار اليهود لقطع النخيل وأنّه من قبيل الفسادانظر: أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، جامع البيان في تأويل القرآن، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط١،١٤٢٠ ه، ج ٢٣ ، ص 271.​.
  • وفي قصة مقتل كعب بن الأشرف، حين أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- محمدَ بنَ مسلمة بقتله جزاءَ إيذائه لله ورسولهقصة مقتل كعب بن الأشرف أخرجها البخاري برقم: ٤٠٣٧ ومسلم برقم: ١١٩.​، حتى طعن بعض الناس وسمّى ذلك غدرًا، فعن عباية بن رفاعة قال: ذُكر قتل كعب بن الأشرف عند معاوية، فقال ابنُ يامين: كان قتله غدرًا، فقال محمد بن مسلمة: يا معاوية أَيُغَدّرُ عندك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تُنكِر؟! والله لا يظلني وإياك سقفُ بيتٍ أبدًا، ولا يخلو لي دم هذا إلا قتلتُهأبو جعفر أحمد بن محمد الطحاوي، شرح مشكل الآثار، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط١، ١٤١٥ ه، ج1، ص 190-191، أحمد بن الحسين البيهقي، دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة، دار الكتب العلمية، بيروت، ط١، 1415هـ، ج ٣، ص ١٩٣..

فهذه وقائع متفرّقة حدث فيها نفور عن الدين ولم تكن مانعة من تطبيق الأحكام الشرعية، مع مراعاة أنّ كلّ هذه الأحكام السابقة لم تكن من الواجبات، بل إما من المباحات أو من السياسة الشرعية التي يناط حكمها بالمصلحة، ومع ذلك لم تلتفت الشريعة لمفسدة النفور.

 

  1. أنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- غيّر كثيرًا من عادات الجاهلية التي كانوا يعظّمونها ويرون في انتهاكها شأنًا خطيرًا، وبطبيعة الحال أنّ مثل هذه العادات المعظّمة في نفوسهم قد تتسبب في نفورهم عن الإسلام، ومن ذلك:
  • مخالفته -صلى الله عليه وسلم- لعاداتهم في الحج، فــ: "كانت قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة، وكانوا يسمون الحمس، وكان سائر العرب يقفون بعرفة، فلما جاء الإسلام أمر الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- أن يأتي عرفات فيقف بها، ثم يفيض منها"أخرجه البخاري، باب {ثمّ أفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النّاسُ} برقم: ١٦٦٥ ، ومسلم، باب الوقوف بعرفة وقوله تعالى: {ثمّ أفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النّاسُ} برقم: ١٥١ ، من حديث عائشة رضي الله عنها.، وأمرهم بالإحرام في أشهر الحج وكانوا في الجاهلية يرون هذا من أفجر الفجور في الأرضأخرجه البخاري، باب التمتع والقران والإفراد بالحج، برقم: ١٥٦٤ ، ومسلم، باب جواز العمرة في أشهر الحج، برقم: ١٩.​، وغير ذلك.
  • زواجه -عليه الصلاة والسلام- من زينب رضي الله عنها، وقد كانت زوجة زيد بن حارثة الذي تبنّاه صلى الله عليه وسلم، وكان من تبنّى رجلًا في الجاهلية دعاه الناس إليه وورث منه، حتى أنزل الله تعالى: {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ} [الأحزاب: ٥]أخرجه البخاري، برقم: ٥٠٨٨، ومسلم، باب فضائل زيد بن حارثة وأسامة بن زيد برقم: ٦٢، ولم يذكر في صحيح مسلم حكم الإرث بالتبنّي الذي كان في الجاهلية..

 

  1. كما فرضت الشريعة بعض الأحكام فتسببت في نفور بعض الناس:
  • كتغيير القبلة، وقد ذكر الله في كتابه حكمة ذلك فقال سبحانه: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} [البقرة: 143]. فقد كان لهذا الامتحان أثر في ردة بعض الناس، وأظهر كثير المنافقين نفاقهم، وقال المشركون تحيّر محمد صلى الله عليه وسلم، فكان في ذلك فتنة وتمحيص للمؤمنينانظر: الطبري، جامع البيان، ج ٣، ص ١٥٦..
  • كما نهى الله سبحانه نبيه -صلى الله عليه وسلم- عن طرد المستضعفين من المؤمنين تحقيقًا لرغبة الكفار، فعن سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- قال: كنّا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ستّة نفر، فقال المشركون للنبي: اطرد هؤلاء لا يجترئون علينا، قال: وكنت أنا وابن مسعود، ورجل من هذيل، وبلال، ورجلان لست أسمّيهما، فوقع في نفس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما شاء الله أن يقع، فحدّث نفسه، فأنزل الله: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام: 52]أخرجه مسلم، باب في فضل سعد بن أبي وقاص، برقم:  ٦٤.​. فقد كان هؤلاء الكفار ينفّرهم من حضور مجلس النبي -صلى الله عليه وسلم- وجودُ هؤلاء المستضعفين، فأرادوا أن يكون لهم مجلس يخصّهم تعرف العرب به فضلهمانظر: الطبري، جامع البيان، ج ١١ ، ص ٣٧٦..

ونلاحظ أنّ هذا النفور في كل ما سبق يأتي من جهتين:

الجهة الأولى: نفور المسلمين عن دينهم، وهذا ظاهر في حديث بناء الكعبة، إذ الخطاب متّجه لمن هم حديثو عهد بإسلام.

الجهة الثانية: نفور غير المسلمين عند الدخول في الدين، وقد جاء في هذا حديث: لا يتحدّث الناس أنّ محمدًا يقتل أصحابه.

وبعض الشواهد السابقة متعلّقة بالحالة الثانية، لكن يصلح التمثيل بها هنا لأنّ العلة واحدة وهي النفور عن الإسلام، ولأنّ ما يسبب نفور الكفار عن الإسلام قد يؤثر على إيمان بعض المسلمين، وثَمّ شواهد كثيرة أخرى متعلّقة بالحالة الثانيةانظر: فهد بن صالح العجلان، "لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه"، دراسة فقهية في الموقف السياسي النبوي في ترك معاقبة المنافقين"، مجلة كلية الدراسات الإسلامية والعربية، (للبنين) دمياط الجديدة، عدد ٣، نوفمبر 2015م، ج ٤، ص 2227-2228.​.

إذن، ليس كلّ نفور معتبرًا شرعًا، فيجب أن نضع حدًّا شرعيًا نعرف به متى تعتبر هذه المفسدة مؤثرة في الحكم الشرعي.

وبناءً على ما سبق من كلام أهل العلم من أنّ إعادة بناء الكعبة على قواعد إبراهيم لم تكن واجبًا، فمراعاة النفور هنا متعلّق بالأمور المستحبّة، وليس بالواجبات، فالأصل عدم الالتفات لهذا المعنى عند تطبيق الواجبات، وذلك لأمور:

  1. أنّ الأصل تقديم الواجب على هذا النفور، فليس هذا النفور بمصلحة أعظم من مصلحة القيام بالواجب.
  2. أنّ مصلحة الواجب يقينية، ومفسدة النفور متوهّمة، فلا يقدم المتوهم على اليقيني.
  3. أنّ الأصل في الوضع الطبيعي عدم تحقق هذا النفور، ولو تحقّق فيكون من قبيل المفاسد الملغاة شرعًا التي لا يجوز إعمالها، لأنّها تكون حينئذٍ من المفاسد التي تلازم تطبيق بعض الواجبات، وهو موجود منذ عصر الرسالة ولم تلتفت الشريعة إليه.
  4. ولأنّه يمكن الجمع بين مصلحة إقامة الواجب ودفع مفسدة النفور بغير ترك الواجب، وذلك عن طريق الدعوة والنصح ونشر العلم النافع، وسدّ المداخل التي تغذّي المعاني المنحرفة في القلوب، فالنفور لا يعالج بترك الواجب.
  5. أنّ دفع مفسدة النفور لا يتحقق بترك الواجب، لأنّ النفور إن كان متعلّقًا بذات الواجب فالاستمرار في تركه يعمّق في نفوس الناس أنّه مفسدة، ولا يفقهون وجه المصلحة فيه، فإذا علموا أنّه من الشريعة زاد نفورهم أكثر.
  6. أنّ إقامة الواجب في الحقيقة هو من أسباب دفع مفسدة النفور، لأن من أسباب نفور بعض الناس عن بعض أحكام الشريعة عدم اعتيادهم عليها، فتركُ إقامة الواجب هو مساهمة في تعميق النفور، بينما لو أقيمَ: اعتادت النفوس عليه فخفّ هذا النفور.
  7. ثم إنّ توهّم مشروعية ترك الواجب مراعاةً لنفور الناس يؤدّي في الحقيقة لإضعاف الواجب الشرعي، بحيث يكون واجبًا بشرط، ومعلّقًا نفوذه بمشاعر الآخرين، وهو جانب غير قطعي وتتفاوت الأذهان في تقديره، فمآل الأمر إلى إضعاف الواجب الشرعي، وهذا منافٍ لمقصد الشريعة في تقوية الحكم وثباته والمحافظة على مصلحته.
  8. أنّ مصلحة إقامة الواجب متعلقة بالمصلحة العامة ومصلحة إقامة الدين، بينما مفسدة النفور مرتبطة بشخص معين، ومصلحة ما فيه إقامة الدين أولى.

ولهذا فالأصل عدم الالتفات إلى هذا المعنى في الواجبات الشرعية، وهي مفسدة متوهّمة في الحقيقة، فالظنّ أنّ ترك الواجب مفسدة أقل هو محض وهم، وتقدير لم يستند إلى نظر فقهي صحيح.

ولهذا فهم أهل العلم أنّ هذا الحديث لا يدل على ترك الواجبات، فهو يدل على المراعاة بشرط ألّا يصل إلى الفرائض. يقول النووي: "ومنها: فكر ولي الأمر في مصالح رعيته واجتنابه ما يخاف منه تولّد ضرر عليهم في دين أو دنيا، إلّا الأمور الشرعية كأخذ الزكاة وإقامة الحدود ونحو ذلك"النووي، شرح صحيح مسلم، ج ٩، ص ٨٩.​.

وهذا في الوضع الطبيعي لتطبيق الأحكام، أما لو بلغ النفور مبلغًا شديدًا يزيد عن العادة، ويزيد عمّا أعرضت الشريعة عنه، وترتّب عليه ردّة كثير من الناس، وإحداث خلل كبير في دين الناس أو دنياهم، ولم يمكن دفع ذلك بطريق آخر، فهنا يقال بتأجيل إقامة الواجب مراعاة لهذه المفسدة في القضية العينية المستثناة، لكنّ ترك الواجب هنا لم يرتبط بمجرّد مفسدة النفور بل درجة عظيمة منه تتجاوز مجرّد النفور إلى مفاسد أعظم.

ولهذا ففي حال استقرار المجتمعات المسلمة، وقيام النظام في وضعه المعتاد، لا يحتاج إلى مراعاة نفور الناس في ترك تطبيق الحدود والإلزام بالأحكام ونحوها، وإنّما يضعف هذا بضعف النظام وضعف الاستطاعة، فيكون مناطه راجعًا لمفاسد تابعة وليس لأصل تطبيق الحكم، فهو شبيه بالعجز عن إقامة الحكم، أو بترك بعض الواجبات خشية من وقوع الضرر على صاحبه.

ولهذا ففي مثل هذا الحديث، حتى لو قيل إنّ إعادة بناء الكعبة من الواجبات فهذا متعلّق بحالة استثنائية، لكونه متعلقًا ببيت الله، ومرتبطًا بواقع تاريخي ترك فيه بناء جزء من الكعبة، ونشأت أجيال لا تعرف الكعبة إلا على هذا الوضع، فالتعرض له ليس تعرضًا لترك أي واجب، بل لواجب معين له خصوصية، والمفسدة التي يخشى منها مفسدة عظيمة، فقدّمت عليه، فلا يصح أن يستند إليه في ترك الواجبات الشرعية مراعاة لنفور الناس، فالنفور ليس هو من النفور المعتاد الذي قد يقع مع إقامة أي واجب شرعي، وإنما راجع لسبب استثنائي خاص.

ويؤكّد على أنّ الواجبات لا تُترك بسبب نفور الناس: أنّ الأمثلة التي تُذكر عادة في سدّ الذرائع، وفي باب المآلات، والتي تترك لأجلها الأحكام مراعاة لهذا النفور كلّها من قبيل المستحبّات أو المباحات، ومن ذلك:

  • عدم سبّ آلهة الكفار كما قال تعالى: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ}[الأنعام: 108].
  • النهي عن إقامة الحدود في المسجد عند المذاهب الأربعةمحمد أمين بن عمر بن عابدين، رد المحتار على الدر المختار، دار الفكر، بيروت، ط٢، 1412هـ، ج4، ص 51، ضياء الدين خليل بن إسحاق خليل، التوضيح في شرح مختصر ابن الحاجب، نجيبويه، ط1، ١٤٢٩ ه، ج ٨، ص ١١٠ ، محيي الدين  يحيى بن شرف النووي، روضة الطالبين وعمدة المفتين، المكتب الإسلامي، بيروت، ط٣، 1412هـ، ج10، ص 173، منصور بن يونس البهوتي، كشاف القناع عن متن الإقناع، دار الكتب العلمية، بيروت، ج ٦، ص ٨٠.​.
  • قول علي رضي الله عنه: "حدّثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يُكذّب الله ورسوله"أخرجه البخاري في الصحيح معلقاً، رقم:  ١٢٧.​، وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "ما أنت بمحدّث قومًا حديثًا لا تبلُغُه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة"أخرجه مسلم في مقدمة صحيح مسلم..
  • ومن ذلك حرق المصاحف، ففي صحيح البخاري: "عن أنس بن مالك، أنّ حذيفة بن اليمان، قدم على عثمان وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية، وأذربيجان مع أهل العراق، فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة، فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين، أدرك هذه الأمة، قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى، فأرسل عثمان إلى حفصة: "أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف، ثم نردّها إليك"، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان، فأمر زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف"، وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: "إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنّما نزل بلسانهم" ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف، ردّ عثمان الصحف إلى حفصة، وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف، أن يحرق"أخرجه البخاري، باب جمع القرآن، برقم: ٤٩٨٧..

قال ابن القيم: "جمع عثمان المصحف على حرف واحد من الأحرف السبعة، لئلا يكون ذريعة إلى اختلافهم في القرآن"محمد بن أبي بكر بن القيم، إعلام الموقعين عن رب العالمين، دار الكتب العلمية، بيروت، ط١، ١٤١١ ه، ج ٣، ص ١٢٦.. لأنّ بقاء هذه المصاحف على أي وجه غير الوجه الذي فعله عثمان -رضي الله عنه- لم يكن واجبًا.

 

غير أنّ من صور  سدّ الذرائع ما هو من قبيل الواجبات الشرعية، ومن ذلك:

  • عدم إقامة الحدود في الغزو، كما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنّه قال: (لَا تُقْطَعَ الْأَيْدِي فِي الْغَزْوِ)أخرجه الترمذي، باب ما جاء أنّ الأيدي لا تقطع في الغزو، برقم: ١٤٥٠، والطبراني في المعجم الأوسط، برقم: ٨٩٥١ وصححه الألباني في مشكاة المصابيح.​، ومنه أخذ الحنابلة عدم إقامة الحدود في أرض الحربانظر: البهوتي، كشاف القناع، ج ٦، ص ٨٨.مخافة أن يلحق بالكفارانظر: ابن القيم، إعلام الموقعين، ج ٣، ص ١١٤..

لكن ما سبق متعلّق بحالة استثنائية لا تقتصر مفسدته على مجرّد النفور، بل يتجاوز ذلك إلى اللحاق بالكفار، وتقوية صفهم، فهو في غير الحال المعتادة للمجتمع والنظام المسلم.

  • ومن ذلك: ترك التعرض للمنافقين الذين طعنوا في النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك بسبب الاشتباه في حالهم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، لأنّ ظاهر حالهم أنّهم من صحابته ولم يظهر للناس سبب استحقاقهم للعقوبة، فيكون في هذا الاشتباه مفسدة عظيمة في الطعن في النبي -صلى الله عليه وسلم- وتنفير الناس عن الإيمان بسبب ذلك، فهو ظرف خاص استثنائي، لكن من ثبت عليه الطعن في الرسول -عليه الصلاة والسلام- بعد وفاته فإنّه يعاقب ولا يعتذر فيه بمثل هذاانظر: فهد بن صالح العجلان،  "لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه: دراسة فقهية"، المرجع السابق..

 

المبحث الرابع: المجالات المشروعة لتأثير مراعاة نفور الناس عن الدين:

هذا المعنى الذي راعاه النبي -صلى الله عليه وسلم- فترك بسببه أمرًا مشروعًا هو من المصالح الشرعية المعتبرة التي لا بد أن تكون حاضرة في ذهن الفقيه في الترجيح، والسياسي في وضع السياسات والقوانين، والداعية في دعوته ونصحه، والمحتسب في إنكاره، والمربي في تربيته، فهي أصل مهم يراعي ما تؤول إليه الأمور فيكون فطنًا بها مدركًا لآثارها، حتى لا ينقلب الفعل المشروع بسبب ذلك فسادًا يزيد عن مصلحته.

وحين نستقرئ المجالات التي يمكن إعمال هذه المصلحة فيها نجدها كثيرة، من أهمها:

 

1. طريقة الإنكار وتغيير المنكرات:

فيترفق المرء في الإنكار على الناس ويجتهد في اللين والرفق بهم، حتى لا يحصل نفورٌ يتسبب في مزيد تمسكٍ بهذا المنكر، أو الوقوع في منكرات أكبر، وهذا أصل معتبر عند أهل العلم، فمن شروط الإنكار في المنكرات أن لا يترتب على الإنكار منكر أعظم، وهو من الفقه في الدين، فالمقصد هو إصلاح الشخص فيجب مراعاة مثل هذا المعنى.

 

 

2. ترك بعض المستحبّات والكمالات لمصلحة التآلف والاجتماع:

يقول ابن تيمية شارحًا هذا المعنى مستدلًّا بواقعة ترك بناء الكعبة: "يسوغُ أيضًا أن يَترك الإنسان الأفضل لتأليف القلوب واجتماع الكلمة خوفًا من التنفير عمّا يصلح، كما ترك النبي -صلى الله عليه وسلم- بناء البيت على قواعد إبراهيم لكون قريش كانوا حديثي عهد بالجاهلية، وخشي تنفيرهم بذلك ورأى أنّ مصلحة الاجتماع والائتلاف مقدّمة على مصلحة البناء على قواعد إبراهيم، وقال ابن مسعود لما أكمل الصلاة خلف عثمان وأنكر عليه فقيل له في ذلك فقال: الخلاف شر. ولهذا نصّ الأئمة كأحمد وغيره على ذلك بالبسملة وفي وصل الوتر وغير ذلك مما فيه العدول عن الأفضل إلى الجائز المفضول مراعاة ائتلاف المأمومين أو لتعريفهم السنة وأمثال ذلك"أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، الفتاوى الكبرى، دار الكتب العلمية، بيروت، ط١،  ١٤٠٨ ه، ج ٢  ص 166..

    وقال في موضع آخر: "والمسلم قد يترك المستحب إذا كان في فعله فساد راجح على مصلحته، كما ترك النبي -صلى الله عليه وسلم- بناء البيت على قواعد إبراهيم، وقال لعائشة: (لولا أنّ قومك حديثو عهد بالجاهلية لنقضت الكعبة، ولألصقتها بالأرض، ولجعلت لها بابين، بابًا يدخل الناس منه، وبابًا يخرجون منه)، والحديث في الصحيحين، فترك النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا الأمر الذي كان عنده أفضل الأمرين للمعارض الراجح، وهو حدثان عهد قريش بالإسلام لما في ذلك من التنفير لهم، فكانت المفسدة راجحة على المصلحة"المرجع السابق، ج ٢، ص ٣٥١..

ومن تطبيقات هذا عند بعض أهل العلم، ما ذكره ابن العربي عن نفسه في قراءة سجدة سورة الانشقاق: "قال ابن العربي: لما أممت بالناس تركت قراءتها، لأنّي إن سجدت أنكروه، وإن تركتها كان تقصيرًا مني، فاجتنبتها إلا إذا صليت وحدي، وهذا تحقيق وعد الصادق بأن يكون المعروف منكرًا والمنكر معروفًا، وقد قال -صلى الله عليه وسلم- لعائشة: (لولا حدثان قومك بالكفر لهدمت البيت، ولرددته على قواعد إبراهيم)"محمد بن عبد الله بن العربي، أحكام القرآن، دار الكتب العلمية، بيروت، ط٣، ١٤٢٤ه، ج ٤، ص ٣٦٩-370..

غير أنّ لابن القيم في سياق ما يقتضي مشروعية هذا المعنى حتى في الواجبات، حيث ذكر هذه القصة في سياق حديثٍ عن المنكرات، يقول: "فقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يرى بمكة أكبر المنكرات ولا يستطيع تغييرها، بل لما فتح الله مكة وصارت دار إسلام عزم على تغيير البيت وردّه على قواعد إبراهيم، ومنعه من ذلك -مع قدرته عليه- خشية وقوع ما هو أعظم منه من عدم احتمال قريش لذلك لقرب عهدهم بالإسلام وكونهم حديثي عهد بكفر، ولهذا لم يأذن في الإنكار على الأمراء باليد لما يترتب عليه من وقوع ما هو أعظم منه كما وجد سواء"ابن القيم، إعلام الموقعين، ج ٣، ص 3.. ولا أرى أنّ مثل هذا النصّ كافٍ في نسبة هذا المعنى إليه.

 

3. تأخير عملٍ معيّن متراخٍ لم توجب الشريعة الفورية فيه:

المشروع هو المبادرة إلى الخيرات، فإن كان ثمّ مفسدة في المبادرة فإنّ من المشروع تأخير هذا العمل الواجب مراعاة لهذا المعنى.

 

 4. ترك ما أبيح اختياره:

فحين تخير الشريعة المكلَّفَ بين عدة أمور كما في الواجب المخير أو في حكم التعامل مع أسرى الكفار وغير ذلك، فقد يكون بعض هذه الخيارات يورث نفورًا عند الناس، فيترك هذا الاختيار المباح إلى غيره مراعاة لهذا المعنى.

 

 5. التدرّج في تعليم أحكام الإسلام لحديثي العهد بالإسلام:

فمن يدخل في الإسلام حديثًا فإنّ من الحكمة أن يتدرّج في تعليمه لأحكام الإسلام حتى لا يقع له نفور من أحكامه، فلا يعلم كافّة الأحكام الشرعية إن خشي عليه النفور، وإنّما يدارى بما يحفظ عليه دينه ويقوي إيمانه.

 

 6. تعليم الناس وإفتاؤهم:

فيراعي العالم في تعليم الناس وفي فتياهم ألّا يتسبب ذلك في تنفيرهم عن الدين، وفي إيقاع الشر في نفوسهم بما يضر دينهم، ولهذا نبّه الصحابة لهذا المعنى، قال علي رضي الله عنه: "حدّثوا الناس بما يعرفون، أتحبّون أن يُكَذّب الله ورسوله؟"أخرجه البخاري في الصحيح معلقًا، برقم: ١٢٧.، وقال عبد الله بن مسعود: "ما أنتَ بِمُحدّثٍ قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة"أخرجه مسلم في مقدمة صحيح مسلم..

فقد تقتضي مراعاة هذا المعنى ترك تحديث بعض الناس بأحكامٍ أو فتاوى معيّنة إن خشي وقوع ضرر على دينهم بسببه، يقول ابن القيم شارحًا هذا المعنى: "فإن كان فيها نص أو إجماع فعليه تبلغيه بحسب الإمكان، فمن سُئل عن علم فكتمه ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار، هذا إذا أمن المفتي غائلة الفتوى، فإن لم يأمن غائلتها وخاف من ترتّب شرٍّ أكثر من الإمساك عنها أمسك عنها ترجيحًا لدفع أعلى المفسدتين باحتمال أدناهما، وقد أمسك النبي -صلى الله عليه وسلم- عن نقض الكعبة وإعادتها على قواعد إبراهيم لأجل حدثان عهد قريش بالإسلام، وأنّ ذلك ربّما نفرهم عنه بعد الدخول فيه، وكذلك إن كان عقل السائل لا يحتمل الجواب عمّا سأل عنه وخاف المسؤول أن يكون فتنة له أمسك عن جوابه، قال ابن عباس -رضي الله عنهما- لرجل سأله عن تفسير آية: وما يؤمنك أنّي لو أخبرتك بتفسيرها كفرت به، أي: جحدته وأنكرته وكفرت به، ولم يرد أنّك تكفر بالله ورسوله"ابن القيم، إعلام الموقعين، ج ٤، ص 120..

 

 7. الإفتاء بالأيسر من أحكام الفقه في المسائل الاجتهادية إن كان يترتب على غيره النفور من الدين.
 
 8. تجنّب ما يشقّ على بعض الناس في العبادات الجماعية، كالتطويل في الصلوات:
  • كما جاء في إنكار النبي -صلى الله عليه وسلم- على معاذ (أفتّان؟)، قال ابن عثيمين: "في هذا إشارة إلى أنّ كلَّ شيء ينفّر الناس عن دينهم ولو لم يتكلم الإنسان بالتنفير فإنّه يدخل في التنفير عن دين الله، ولهذا كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يداري في الأمور الشرعية، فيترك ما هو حسن لدرءِ ما هو أشد منه فتنة وضررًا، فإنّه -صلى الله عليه وسلم- همّ أن يبني الكعبة على قواعد إبراهيم، ولكن خاف من الفتة فترك ذلك"محمد بن صالح العثيمين، شرح رياض الصالحين، دار الوطن، الرياض، ط١، ١٤٢٦ ه، ج ٣، ص ٦٧١..

 

 9. تجنّب ما يتسارع الناس إلى إنكاره:

فمن المعاني التي استنبطها أهل العلم من هذا الحديث: "اجتناب ولي الأمر ما يتسارع الناس إلى إنكاره"الزرقاني، شرح الزرقاني على الموطأ، ج ٢، ص ٤٤٨ . وانظر: النووي، شرح صحيح مسلم، ج ٩، ص ٨٩..

قال ابن بطال: "وفى هذا من الفقه أنّه يجب اجتناب ما يُسْرِعُ الناس إلى إنكاره وإن كان صوابًا"ابن بطال، شرح صحيح البخاري، ج ٤، ص ٢٦٤..

 

 10. تجنّب كلّ ما يضر الناس في دينهم ودنياهم:

فالحديث يراعي معنى عدم الإضرار بدين الناس في عدم تنفيرهم، وفي هذا ما يدلّ على أنّ تجنّب كلّ ما يضر الناس في دينهم ودنياهم مقصد معتبر.

قال النووي: "ومنها فكر ولي الأمر في مصالح رعيته واجتنابه ما يخاف منه تولد ضرر عليهم في دين أو دنيا، إلّا الأمور الشرعية كأخذ الزكاة وإقامة الحدود ونحو ذلك"النووي، شرح صحيح مسلم، ج ٩، ص ٨٩.، ومن ذلك: "ما يُخشى منه تولّد الضرر عليهم في دين أو دنيا"الزرقاني، شرح الزرقاني على الموطأ، ج ٢، ص 448..

 

 11. سدّ ذرائع النفور عن الدين، وفتح الذرائع لقبوله:

فلئن ترك النبي -صلى الله عليه وسلم- أمرًا مشروعًا مراعاةً لعدم تنفير الناس عن دينهم، فهذا يقتضي أنّ من المشروع والمعتبر شرعًا أن يجتهد الإمام والعالم والفقيه والمربي في سدّ الذرائع التي تضرّ بدين الناس، وهو معنى معمول به في صور كثيرة، ومن ذلك: النهي عن الإقامة في بلاد الكفار لما في من ذلك من خشية تضرّر دين المسلم، والنهي عن التشبّه لما في موافقة الظاهر من التأثير على الباطن، ونهي النبي -صلى الله عليه وسلم- لعمر بن الخطاب عن القراءة في التوراة، وما تضافر عليه أهل العلم من النهي عن الشبهات وقراءة كتب أهل الضلال سداً لذريعة تضرر الدين.

وفي مقابل ذلك: فتح الذرائع لتحبيب الناس في دينهم، فهو معنى معتبر شرعًا، وله صور عدة، كإعطاء الزكاة للمؤلفة قلوبهم، وسياسة النبي -صلى الله عليه وسلم- في قسمة الغنائم يوم حنين تأليفًا لقلوب حديثي العهد بالإسلام.

 

 12. اتخاذ الرفق والتيسير والحكمة أساسًا في الدعوة إلى الله:

فالحديث يدل على استئلاف الناس إلى الإيمانالمصدر السابق، ج ٢، ص ٤٤٨.​، وتأليفهم على الإيمان يقتضي رفقًا بهم، ولين جانب، ومراعاة لأحوالهم، وقد أثنى الله –تعالى- على نبيه بذلك فقال: {وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}[آل عمران: 159].

وهو منهج النبي -صلى الله عليه وسلم- في تعليم الناس وتقويم سلوكهم، ومن ذلك:

  • عن أنس رضي الله عنه أنَّ أعرابيًا بال في المسجد، فقام إليه بعض القوم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (دَعُوهُ ولا تُزْرِمُوهُ)، قال: فلمّا فرغَ دعَا بدَلوٍ من مَاءٍ فَصَبَّهُ عَلَيهِ)أخرجه البخاري، باب ترك النبي -صلى الله عليه وسلم- والناسِ الأعرابيَ حتى فرغ من بوله في المسجد، برقم: ٦٠٢٥، مسلم، باب وجوب غسل البول وغيره من النجاسات، برقم: ٩٨.​، زاد البخاري في هذه القصة من حديث أبي هريرة: (فَإنَّمَا بُعِثْتُم مُيَسِّرِينَ ولمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِيْنَ)أخرجه البخاري، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: يسروا ولا تعسروا، برقم: ٦١٢٨..
  • وحين تكلّم معاوية بن الحكم السلمي في الصلاة وكان حديثَ عهدٍ بإسلام قال: "ما رأيت معلّمًا قبله ولا بعده أحسن تعليمًا منه، فوالله ما كَهَرَنِي ولا ضَرَبَنِي ولا شَتَمَنِي، قال: (إنّ هَذهِ الصَّلاةُ لا يّصْلُحُ فِيْهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ، إِنّمَا هُو التَسْبِيحُ والتَكْبِيْرُ وقِرَاءَةُ القُرْآنِ)أخرجه مسلم، باب تحريم الكلام في الصلاة ونسخ ما كان في إباحته، برقم: ٣٣..
  • وأتى غلام شاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ائذن لي في الزنا، فَصَاحَ النَّاسُ، فَقَالَ: مَهْ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمْ: (أَقِرُّوهُ، ادْنُ، فَدَنَا حَتَّى جَلَسَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمْ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمْ: أَتُحِبُّهُ لِأُمِّكَ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: وَكَذَلِكَ النَّاسُ لَا يُحِبُّونَهُ لِأُمَّهَاتِهِمْ، أَتُحِبُّهُ لِابْنَتِكَ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: وَكَذَلِكَ النَّاسُ لَا يُحِبُّونَهُ لِبَنَاتِهِمْ، أَتُحِبُّهُ لِأُخْتِكَ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: وَكَذَلِكَ النَّاسُ لَا يُحِبُّونَهُ لِأَخَوَاتِهِمْ، أَتُحِبُّهُ لِعَمَّتِكَ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: وَكَذَلِكَ النَّاسُ لَا يُحِبُّونَهُ لِعَمَّاتِهِمْ؟ أَتُحِبُّهُ لِخَالَتِكَ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: وَكَذَلِكَ النَّاسُ لَا يُحِبُّونَهُ لِخَالَاتِهِمْ. فَوَضَعَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمْ- يَدَهُ عَلَى صَدْرِهِ، وَقَالَ: اللهُمَّ كَفِّرْ ذَنْبَهُ، وَطَهِّرْ قَلْبَهُ، وَحَصِّنْ فَرْجَهُ)أخرجه أحمد في المسند، برقم: ٢٢٢١١ ، والطبراني في المعجم الكبير،  برقم: ٧٦٧٩ ، وصحح الألباني إسناده في السلسلة الصحيحة، ج ١، ص ٦٤٥.​.

ومنهج الرفق والتيسير قد جاءت التوصية النبوية به، ففي حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، أنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- بعث معاذًا وأبا موسى إلى اليمن فقال: (يَسِّرَا وَلاَ تُعَسِّرَا، وَبَشِّرَا وَلاَ تُنَفِّرَا، وَتَطَاوَعَا وَلاَ تَخْتَلِفَا)أخرجه البخاري، باب ما يكره من الاختلاف والتنازع في الحرب، برقم: ٣٠٣٨، ومسلم، باب في الأمر بالتيسير وترك التنفير، برقم: ١٧٣٣.​.

ومن الحكمة التمهيد للسنن بالقول، قال ابن عثيمين: "فمثلًا إذا كانت السُّنة من الأمور المستغربة عند العامة والتي يُتّهم الإنسان فيها بما ليس فيه فإنّ الأولى والأفضل أنّ الإنسان يمهّد لهذه السُّنة في القول قبل أن يتخذها بالفعل، يبيّن للناس في المجالس، في المساجد، في أي فرصة مناسبة، يبيّن لهم الحق، حتى إذا قام بفعله فإذا الناس قد اطمأنوا وفهموا وعرفوا"العثيمين، محاضرة تعاون الدعاة وأثره، ص ٢٥..

ومن ذلك اللين في الخطاب كما قال تعالى: {فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: ٤٤]، قال ابن القيم: "فأمر -تعالى- أن يليّنا القول لأعظم أعدائه وأشدّهم كفرًا وأعتاهم عليه، لئلا يكون إغلاظُ القول له -مع أنّه حقيق به- ذريعةً إلى تنفيره وعدم صبره لقيام الحجّة، فنهاهما عن الجائز لئلا يترتّب عليه ما هو أكره إليه تعالى"ابن القيم، إعلام الموقعين، ج ٣، ص 11..

 

 13. مراعاة عادات الناس وأعرافهم:

فالناس في العادة يعظّمون أعرافهم، ويشدّدون في مخالفتها، وتنفر نفوسهم ممن لا يبالي بها، فمن الحكمة مراعاة هذه الأعراف المباحة حتى لا تكون سببًا لتنفيرهم، وهو معنى قد ذكره بعض أهل العلم في ما يستفاد من الحديث، قال ابن الجوزي: "وهذا تنبيه على مراعاة أحوال الناس ومداراتهم، وألّا يبدهوا بما يُخاف قلة احتمالهم له، أو بما يخالف عاداتهم، إلّا أن يكون ذلك من اللازمات"ابن الجوزي، شرح مشكل الصحيحين، ج ٤، ص ٢٦٣..

ومن هذه المراعاة أن ما اعتاد الناس على بقائه، لا يتعرض له ما دام لا يوجد مرجح شرعي أقوى.

 

 14. الرفق بالرعية:

فرفق الحاكم بالرعية سبب لتأليف قلوبهم ودفع النفور عنها، وهذا النفور قد يكون نفورًا عن الدين نفسه، قال النووي: "تألُّفُ قلوب الرعيّة وحُسنُ حِيَاطَتِهِم، وأنْ لا يَنْفِرُوا، ولا يَتَعَرَّضُ لما يَخَافُ تنفيرهم بسببه، ما لم يكن فيه ترك أمر شرعي"النووي، شرح صحيح مسلم، ج ٩، ص ٨٩..

 

 15. مداراة من يتقي تغير دينه:

قال القنازعي: "في هذا من الفقه: مُداراةُ مَن يُتَّقَى عليهِ تَغَيُّرِ حالهِ في دينِه، والرِّفقُ بالجاهلِ، قال: لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ في مَعْصِيةِ اللهِ"القنازعي، تفسير الموطأ، ج ٢، ص ٦٣٣..

 

هذه جملة من المجالات التي تجري فيها مراعاة هذا المعنى، وليس بالضرورة أن يكون الإِعمال المتعلّق بمراعاة النفور من قَبِيل ترك أمرٍ مشروعٍ لأجله، فقد يكون تركًا لمشروع هو من قبيل ارتكاب أدنى المفسدتين لدفع أعلاهما، كما قد يكون فعلًا مشروعًا في ذاته ليس فيه ترك لشيء، وإنّما هو من قبيل المصالح المعتبرة في تأليف المسلمين وتقريبهم لدينهم، وفي الغالب سيكون ذلك بفعل الأيسر، لكنّه ليس بلازم، فقد يكون من مراعاة هذا المعنى أن يسلك الأشدّ كما يَتركُ بعض الناس الذين لهم قدوة وتأثير في الناس الترخّصَ في النطق بكلمة الكفر ونحوه في حال أنّه خشي أن يكون ذلك مضرَّا بدين الله.

 

خاتمة البحث:

اللهم لك الحمد حتى ترضى، وصل اللهم وسلم على النبي المصطفى، وبعد:

فمن خلال النظر في فقه هذا الحديث الشريف، والتأمّل في مقاصد هذه السياسة النبوية نستخلص ما يلي:

  1. تَرْكُ النبي -صلى الله عليه وسلم- لإعادة الكعبة على قواعد إبراهيم مع كونه الأفضل والأكمل مراعاة لمفسدة نفور الناس عن الدين، نظرًا لحداثة عهدهم بالإسلام، وعظم هذا على نفوسهم.
  2. إعادة الكعبة على قواعد إبراهيم هي من الأمور المستحبة المشروعة، تركها النبي -صلى الله عليه وسلم- مراعاة لمصلحة أرجح منها هي الحفاظ على إيمان الناس ودينهم، وهو دليل على القاعدة الشرعية في ارتكاب أدنى المفسدتين لدفع أعلاهما.
  3. يتفق الجميع على إعمال قاعدة جلب المصالح ودفع المفاسد، ويتفقون أيضًا على أنّ أرجح المصلحتين تقدّم، وأدنى المفسدتين ترتكب، إنّما الذي يحتاج إلى تعميق فقهي أكثر هو في الضوابط والمعايير التي تحدّد الأرجح من المصلحتين والمفسدتين.
  4. مراعاة نفور الناس معنى شرعي معتبر، وعلّة معتبرة، غير أنّها ليست علّة مطردة، وإنّما لها حدود شرعية تعمل فيها، إذ إنّ الشريعة لم تجعل هذا علّة مطّردة، فقد تركت الشريعة مراعاة هذا المعنى في صور كثيرة بما نقطع فيه أنّ نفور الناس ليس أصلاً يقدّم على أي مصلحة شرعية، فلا يصح تقديم مراعاة نفور الناس والظنّ أنّه من قبيل ارتكاب أدنى المفسدتين دائمًا.
  5. لهذا فالأصل في الواجبات الشرعية من إقامة الحدود ومنع المنكرات وإظهار الشعائر وغيرها أن لا يلتفت فيها لهذا النفور، فلا تتوقف بسببه، وإنّما يجمع بين مصلحة إقامة الواجب، وتدفع مفسدة النفور بطرق أخرى، وليس هو في الحقيقة بمفسدة أرجح من مفسدة ترك الواجب في الوضع المعتاد.
  6. باستثناء الوضع الطارئ الاستثنائي في الواجبات، فلإعمال هذا المعنى مجالات كثيرة في الحياة، في الجانب السياسي والفقهي والقانوني والتربوي وغيرها، كلّها تجري في دائرة المستحبّات والمباحات.
  7. هذا الحديث متعلّق بمراعاة شرعية لنفور المسلمين عن دينهم، وهو معنى معتبر ودلّت عليه شواهد شرعية كثيرة، كما أنّ مراعاة عدم تنفير غير المسلمين عن الإسلام معنى معتبر أيضًا، ومن أشهر الشواهد عليه حديث: لا يتحدّث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه.
  8. تعالى أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

1 - أخرجه البخاري، في باب ما يجوز من اللو، برقم: ١٥٨٤ ، ومسلم، في باب جدر الكعبة وبابها، برقم: ٤٠١.
2 - أخرجه مسلم، في باب نقض الكعبة وبنائها، برقم: ٤٠٢.
3 - أخرجه مسلم، في باب نقض الكعبة وبنائها، برقم: 404.
4 - أبو الوليد سليمان بن خلف الباجي، المنتقى شرح الموطأ، مطبعة السعادة، ط ١،  ١٤٣٢ ه، ج ٢، ص ٢٨٢.
5 - محيي الدين يحيى بن شرف النووي، شرح صحيح مسلم، دار إحياء التراث العربي، ط2، 1392هـ، ج9 ص89
6 - سراج الدين عمر بن علي بن الملقن، التوضيح لشرح الجامع الصحيح، دار النوادر، ط١، ١٤٢٩ ه، ج ١١، ص ٣٠٢.
7 - عبد الرحمن بن يحيى المعلمي، آثار المعلمي، دار عالم الفوائد، ط ١، ١٤٣٤ ه، ج ١٦ ، ص ٤٨٦.
8 - أبو الحسن علي بن خلف بن بطال، شرح صحيح البخاري، مكتبة الرشد، الرياض، ط ٢، . ١٤٣٢ ه، ج ١، ص ٢٠٥.
9 - ابن الملقن، التوضيح لشرح الجامع الصحيح، ج ٢، ص ٦٥٠.
10 - المعلمي، آثار المعلمي، ج ١٦ ، ص ٦٥٠.
11 - أخرجه البخاري، برقم: ١٢٦.
12 - الباجي، المنتقى شرح الموطأ، ج ٢، ص ٢٨٢.
13 - ابن الملقن، التوضيح لشرح الجامع الصحيح، ج ١١ ، ص ٣٠٢.
14 - المعلمي، آثار المعلمي، ج ١٦ ، ص ٤٨.
15 - أخرجه البخاري، باب من ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر فهم الناس عنه فيقعوا في أشد منه، برقم: ١٢٦.
16 - ابن بطال، شرح صحيح البخاري، ج ١، ص ٢٠٥.
17 - بدر الدين محمود بن أحمد العيني، عمدة القاري شرح صحيح البخاري، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ج ٢،  ص ٢٠٤.
18 - ابن الملقن، التوضيح لشرح الجامع الصحيح، ج ٣، ص ٦٥٠.
19 - أبو المطرف عبد الرحمن بن مروان القنازعي، تفسير الموطأ، دار النوادر، ط١، ١٤٢٩ه، ج ٢، ص ٦٣٣.
20 - أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي، كشف المشكل من حديث الصحيحين، دار الوطن، الرياض، ج ٤،  ص ٢٦٣.
21 - أبو القاسم عبد الكريم بن محمد الرافعي، شرح مسند الشافعي، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، قطر، ط١، ١٤٢٨ ه، ج ٢، ص ٣٤٨.
22 - النووي، شرح صحيح مسلم، ج ٩، ص ٨٩.
23 - ابن بطال، شرح صحيح البخاري، ج ١، ص ٢٠٥.
24 - محمد بن صالح بن عثيمين، محاضرة تعاون الدعاة وأثره، من المكتبة الشاملة، ص ٢٥.
25 - أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير، تفسير القرآن العظيم، دار طيبة، الرياض، ط ٢،  ١٤٢٠ ه، ج ١، ص ٤٤١.
26 - أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، الرد على المنطقيين، دار المعرفة، بيروت، ص ٥٠٣-504.
27 - أبو العباس أحمد بن عمر القرطبي، المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، دار ابن كثير، ط١، ، ١٤١٧ ه، ج ٣  ص ٤٣٧-438.
28 - المصدر السابق، ج ٣، ص ٤٣٩
29 - ابن بطال، شرح صحيح البخاري، ج ٤، ص ٢٦٤.
30 - تغييرالقرطبي، المفهم لما أشكل من تلخيص مسلم، ج ٣، ص ٤٣٩
31 - أحمد بن محمد بن حجر الهيتمي، الفتاوى الفقهية الكبرى، المكتبة الإسلامية، ج ١، ص ١٣٧.
32 - انظر: الزرقاني، شرح الزرقاني على الموطأ، ج ٢، ص ٤٤٨ ، النووي، شرح صحيح مسلم، ج ٩، ص ٨٩ ، أبو العباس محمد بن أحمد القسطلاني، شرح القسطلاني على صحيح البخاري، المطبعة الأميرية، مصر، ط١، 1332م، ج3، ص ١٤.
33 - أخرجه البخاري، باب قوله: إذ يبايعونك تحت الشجرة، برقم: ٤٨٤٤ ، ومسلم، باب صلح الحديبية في الحديبية برقم: ٩٤
34 - أخرجه مسلم، باب صلح الحديبية في الحديبية، برقم: ٩٥.
35 - أخرجه البخاري، باب غزوة الطائف، برقم: ٣١٤٧ ، ومسلم، باب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام، برقم: ١٢٣.
36 - أخرجه البخاري، باب بعث علي بن أبي طالب عليه السلام، برقم: ٧٤٣٢ ، ومسلم، باب ذكر الخوارج وصفتهم، برقم: ١٤٤ واللفظ له.
37 - أخرجه البخاري، باب قطع الشجر والنخل، برقم: ٢٣٢٦ ، ومسلم، باب جواز قطع أشجار الكفار وتحريقها، برقم: ٣٠.
38 - انظر: أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، جامع البيان في تأويل القرآن، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط١،١٤٢٠ ه، ج ٢٣ ، ص 271.
39 - قصة مقتل كعب بن الأشرف أخرجها البخاري برقم: ٤٠٣٧ ومسلم برقم: ١١٩.
40 - أبو جعفر أحمد بن محمد الطحاوي، شرح مشكل الآثار، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط١، ١٤١٥ ه، ج1، ص 190-191، أحمد بن الحسين البيهقي، دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة، دار الكتب العلمية، بيروت، ط١، 1415هـ، ج ٣، ص ١٩٣.
41 - أخرجه البخاري، باب {ثمّ أفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النّاسُ} برقم: ١٦٦٥ ، ومسلم، باب الوقوف بعرفة وقوله تعالى: {ثمّ أفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النّاسُ} برقم: ١٥١ ، من حديث عائشة رضي الله عنها.
42 - أخرجه البخاري، باب التمتع والقران والإفراد بالحج، برقم: ١٥٦٤ ، ومسلم، باب جواز العمرة في أشهر الحج، برقم: ١٩.
43 - أخرجه البخاري، برقم: ٥٠٨٨، ومسلم، باب فضائل زيد بن حارثة وأسامة بن زيد برقم: ٦٢، ولم يذكر في صحيح مسلم حكم الإرث بالتبنّي الذي كان في الجاهلية.
44 - انظر: الطبري، جامع البيان، ج ٣، ص ١٥٦.
45 - أخرجه مسلم، باب في فضل سعد بن أبي وقاص، برقم:  ٦٤.
46 - انظر: الطبري، جامع البيان، ج ١١ ، ص ٣٧٦.
47 - انظر: فهد بن صالح العجلان، "لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه"، دراسة فقهية في الموقف السياسي النبوي في ترك معاقبة المنافقين"، مجلة كلية الدراسات الإسلامية والعربية، (للبنين) دمياط الجديدة، عدد ٣، نوفمبر 2015م، ج ٤، ص 2227-2228.
48 - النووي، شرح صحيح مسلم، ج ٩، ص ٨٩.
49 - محمد أمين بن عمر بن عابدين، رد المحتار على الدر المختار، دار الفكر، بيروت، ط٢، 1412هـ، ج4، ص 51، ضياء الدين خليل بن إسحاق خليل، التوضيح في شرح مختصر ابن الحاجب، نجيبويه، ط1، ١٤٢٩ ه، ج ٨، ص ١١٠ ، محيي الدين  يحيى بن شرف النووي، روضة الطالبين وعمدة المفتين، المكتب الإسلامي، بيروت، ط٣، 1412هـ، ج10، ص 173، منصور بن يونس البهوتي، كشاف القناع عن متن الإقناع، دار الكتب العلمية، بيروت، ج ٦، ص ٨٠.
50 - أخرجه البخاري في الصحيح معلقاً، رقم:  ١٢٧.
51 - أخرجه مسلم في مقدمة صحيح مسلم.
52 - أخرجه البخاري، باب جمع القرآن، برقم: ٤٩٨٧.
53 - محمد بن أبي بكر بن القيم، إعلام الموقعين عن رب العالمين، دار الكتب العلمية، بيروت، ط١، ١٤١١ ه، ج ٣، ص ١٢٦.
54 - أخرجه الترمذي، باب ما جاء أنّ الأيدي لا تقطع في الغزو، برقم: ١٤٥٠، والطبراني في المعجم الأوسط، برقم: ٨٩٥١ وصححه الألباني في مشكاة المصابيح.
55 - انظر: البهوتي، كشاف القناع، ج ٦، ص ٨٨.
56 - انظر: ابن القيم، إعلام الموقعين، ج ٣، ص ١١٤.
57 - انظر: فهد بن صالح العجلان،  "لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه: دراسة فقهية"، المرجع السابق.
58 - أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، الفتاوى الكبرى، دار الكتب العلمية، بيروت، ط١،  ١٤٠٨ ه، ج ٢  ص 166.
59 - المرجع السابق، ج ٢، ص ٣٥١.
60 - محمد بن عبد الله بن العربي، أحكام القرآن، دار الكتب العلمية، بيروت، ط٣، ١٤٢٤ه، ج ٤، ص ٣٦٩-370.
61 - ابن القيم، إعلام الموقعين، ج ٣، ص 3.
62 - أخرجه البخاري في الصحيح معلقًا، برقم: ١٢٧
63 - أخرجه مسلم في مقدمة صحيح مسلم.
64 - ابن القيم، إعلام الموقعين، ج ٤، ص 120.
65 - محمد بن صالح العثيمين، شرح رياض الصالحين، دار الوطن، الرياض، ط١، ١٤٢٦ ه، ج ٣، ص ٦٧١.
66 - الزرقاني، شرح الزرقاني على الموطأ، ج ٢، ص ٤٤٨ . وانظر: النووي، شرح صحيح مسلم، ج ٩، ص ٨٩.
67 - ابن بطال، شرح صحيح البخاري، ج ٤، ص ٢٦٤.
68 - النووي، شرح صحيح مسلم، ج ٩، ص ٨٩.
69 - الزرقاني، شرح الزرقاني على الموطأ، ج ٢، ص 448.
70 - المصدر السابق، ج ٢، ص ٤٤٨.
71 - أخرجه البخاري، باب ترك النبي -صلى الله عليه وسلم- والناسِ الأعرابيَ حتى فرغ من بوله في المسجد، برقم: ٦٠٢٥، مسلم، باب وجوب غسل البول وغيره من النجاسات، برقم: ٩٨.
72 - أخرجه البخاري، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: يسروا ولا تعسروا، برقم: ٦١٢٨.
73 - أخرجه مسلم، باب تحريم الكلام في الصلاة ونسخ ما كان في إباحته، برقم: ٣٣.
74 - أخرجه أحمد في المسند، برقم: ٢٢٢١١ ، والطبراني في المعجم الكبير،  برقم: ٧٦٧٩ ، وصحح الألباني إسناده في السلسلة الصحيحة، ج ١، ص ٦٤٥.
75 - أخرجه البخاري، باب ما يكره من الاختلاف والتنازع في الحرب، برقم: ٣٠٣٨، ومسلم، باب في الأمر بالتيسير وترك التنفير، برقم: ١٧٣٣.
76 - العثيمين، محاضرة تعاون الدعاة وأثره، ص ٢٥.
77 - ابن القيم، إعلام الموقعين، ج ٣، ص 11.
78 - ابن الجوزي، شرح مشكل الصحيحين، ج ٤، ص ٢٦٣.
79 - النووي، شرح صحيح مسلم، ج ٩، ص ٨٩.
80 - القنازعي، تفسير الموطأ، ج ٢، ص ٦٣٣.
ملف للتنزيل: 

إضافة تعليق جديد