الجمعة 29 مارس 2024 الموافق 19 رمضان 1445 هـ

إضاءات فكرية

كيف يفكّر الغلاة؟

16 ربيع اول 1440 هـ


عدد الزيارات : 2240
شريف محمد جابر

مقدّمة

عندما نقرأ أيّ نصّ أو موقف يصدر عن الغلاة في عالمنا العربي نلاحظ سريعًا الخلل الفكري الذي نتج عنه هذا النصّ أو الموقف، فالأزمة الرئيسية عند الغلاة ليست في تبنّي بعض الآراء والمواقف المفْرِطة في الغلوّ، بل هي في رؤية العالم من منظار ضيّق له سمات محدّدة، هذا المنظار هو مجموعة البُنى الفكرية التي تمثّل "النظام" الذي يعالج المعلومات الواردة على أدمغتهم.

وفي هذا المقال بيان للبُنى الفكرية التي ينطلق منها الغلاة:

  • ثنائية التفكير (أبيض أو أسود).
  • الخطاب الاختزالي.
  • تعطيل العقل.
  • الخطأ في تحديد مناط الفعل.
  • عدم التفريق بين الخطاب الشرعي والخطاب السياسي، وبين خطاب التكليف وخطاب الوضع، وبين العمل التكتيكي والهدف الاستراتيجي.
  • المثالية.

 

كيف يفكّر الغلاة؟

عندما أقرأ أيّ نصّ أو موقف يصدر عن الغلاة في عالمنا العربي ألاحظ سريعًا الخلل الفكري الذي نتج عنه هذا النصّ أو الموقف، فالأزمة الرئيسية عند الغلاة ليست في تبنّي بعض الآراء والمواقف المفْرِطة في الغلوّ، بل هي في رؤية العالم من منظار ضيّق له سمات محدّدة، هذا المنظار هو مجموعة البُنى الفكرية التي تمثّل "النظام" الذي يعالج المعلومات الواردة على أدمغتهم. وقد أحببتُ في هذه التدوينة استعراض ستّة محاور هي من أبرز البُنى الفكرية السقيمة التي يقرأ من خلالها الغلاةُ الأفكار والأحداث، والتي تشكّل آراءهم ومواقفهم، لعلها تكون تذكرة وتنبيهًا للعقلاء بإذن الله.

 

  • أولًا: ثنائية التفكير - أبيض أو أسود

فالخيارات عندهم هي بين "المثال" المنشود وبين كل واقع مخالف له أيًّا كان. وليس عندهم أيّ نوع من المقارنة بين سيء وأسوأ مثلًا، ولا بين المصالح والمفاسد المتحقّقة من كل خيار من خيارات الواقع المتاحة. بل هم أساسًا لا يفرّقون بين الخيار المتاح وبين الخيار المثالي النظري الذي يقدّمونه، فهم يزعمون أنهم مثلًا اختاروا "الخلافة" أو "الشريعة". ولكنّهم يغفلون أنّ خيار الشريعة هذا في القلب، فهو موقف إرادي إيماني، وهو خيار كل مسلم ابتداءً، أمّا الاختيار بين وضع سياسي وآخر فهو اختيار سياسي بين بدائل الواقع المتاحة حاليًّا، ولا يوجد من بين هذه البدائل خليفة قوي يريد تطبيق الشريعة وكسر الحدود!

ومن مظاهر ثنائية التفكير لديهم أيضًا أنّهم يقولون: الحكومة الفلانية نجحت في التنمية والصناعة وقوة الدولة والاقتصاد، ولكن هذا لا علاقة له بالشريعة! وهذا الاستخفاف بتقدّم قوة بلاد المسلمين وتنميتها نتج عن تقسيمهم العالم إلى دار كفر أو دار إسلام، بحيث لا فرق بين دار كفر محض وبين بلاد مسلمة يحكمها نظام علماني، فالجميع دور كفر لها نفس الحكم عندهم! ولو سألت هؤلاء: إذا نزل محتل أجنبي بتركيا مثلًا هل يجب على الناس جهاده؟ سيقولون نعم! إذن فهي وإن كانت لها صورة الكفر (القانون العلماني) فلها حُكم دار الإسلام من حيث وجوب الدفاع عنها والحرص على تقويتها وعدم ضعفها، لأنّ ذلك كله في صالح المسلمين فيها، وهذه القوة في الدولة هي في النهاية لصالح المسلمين، والذي يهتم بضعف بلاد المسلمين وتفكّكها وفشلها هو أعداء هذه الأمة.

 

  • ثانيًا: الخطاب الاختزالي

الخطاب الاختزالي عند بعض الغلاة هو بمثابة قيود تعطّل العقول عن القيام بأيّ خطوة على درب الخروج من النفق المظلم الذي تعيش فيه الأمة. وأمّا مظاهر هذا الخطاب الاختزالي فستجدها في مقولات مثل:

• المشكلة هي سقوط الشريعة أو الخلافة، وحين نطبّق الشريعة أو نقيم الخلافة ستُحلّ كل مشاكل المسلمين! (اختزال الأزمات والحلول).

• الأنظمة كلّها نظام واحد تحرّكه أمريكا بخيوطها، ولا ينبغي الاهتمام بعد ذلك بأيّة تفاصيل أخرى تتعلق بأيّ منها! (اختزال الأوضاع والمتغيرات السياسية).

• هناك طريق واحد للتمكين في كل مكان وزمان ولا يجوز الحياد عنه! (اختزال الواقع وتضاريسه المختلفة).

مشكلة هذا الخطاب أنّه انفعالي أكثر من كونه يفكّر بحلول جادّة لإخراج الأمة من أزمتها الكارثية. ففي جميع هذه القضايا يريد أن يحمل عربة البطيخ كلها بيد واحدة! فإمّا أن يحملها كلّها وإلا فكلّ جهد يحاول نقل بطيخة واحدة فهو جهد آثم، مُدان، لا قيمة له!!

وهؤلاء رغم توهّمهم أنّهم يتبعون الكتاب والسنة وسيرة العلماء الأولين، فإنّهم في الواقع أبعد الناس عن ذلك، فالله عزّ وجلّ يقول في كتابه: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}، يُعلِمُهم أنّ التزام الشريعة يكون على قدر الاستطاعة، فإذا استطاعوا القيام بأمرٍ وعجزوا عمّا وراءه فلا عُذر لهم في التلكّؤ والتباطؤ عن تنفيذ الأمر المستطاع.

والرسول -صلى الله عليه وسلم- يقول: (فإذا أمرتُكم بشيٍء فأتوا منهُ ما استطعتم) (صحيح مسلم). فإذا استطعتم حفظ حقوق الأمة (وهو مأمور به شرعًا) ولم تستطيعوا إقامة الدين كاملًا فلا ينبغي التلكّؤ عن إقامة ما تستطيعون من الدين. وإذا استطعتم الإنكار على الطغاة ولم تستطيعوا خلعهم أو إسقاط شرعيّتهم فلا تتنازلوا عن الإنكار. وقد قرّر العلماء بناء على هذه النصوص وغيرها قاعدة فقهية تقول "الميسور لا يسقط بالمعسور"، فالميسور من أعمال الإسلام كالدعوة إلى دين الله، والدفاع عن حقوق المسلمين، وكشف ألاعيب الطغاة، والسعي لتمكين الصالحين من مفاصل السلطة بكل وسيلة ممكنة، والحدّ من المزيد من التفكك والتخلف والانهيار في بلاد المسلمين، هذا كله لا يسقط إذا كان من المعسور إقامة خلافة جامعة تقيم الدين كاملًا!

بل يتجاهل هؤلاء دروس السيرة النبوية الكثيرة، والتي تبيّن لنا أنّ الرسول -صلى الله عليه وسلّم- كان خبيرًا جدًّا بواقعه، وبقواه المختلفة وطبيعة العلاقات فيه، وبوسائل الحماية وعناصر القوة، وقد استطاع -صلى الله عليه وسلم- التعاطي مع واقعه بمختلف معطياته السياسية والاجتماعية والاقتصادية وتسخيرها جميعًا لنصرة دين الله والتمكين له حتى تمّ له هذا الأمر. ومن يقرأ السيرة النبوية قراءة واعية يتعجّب كيف تأتّى لهؤلاء أن يحملوا هذه العقلية الاختزالية!

 

  • ثالثًا: تعطيل العقل

وهذا الخلل نابع عن الخلل الأول ومرتبط به، فيقول لك أحدهم حين تجري هذه المفاضلة الواقعية التي يمكن قياسها: "نحن لا نحدّد مواقفنا بناء على العقل والنظر في الواقع، بل بناء على نصوص الشرع"! وهذه إشكالية، لأنّ نصوص الشرع هي تكليف لإنسان عاقل وليست "برمجة" لحاسوب، أي أنّ للإنسان مساحة من التفاعل مع الواقع ومسؤولية الاختيار الأخلاقي، فهو يجتهد ليختار لأمّته أفضل الخيارات، حفاظًا على حقوقها ودينها وسعيًا في تقدّمها ولو خطوة واحدة إلى الأمام. أمّا عقلية الغلوّ فهي لا تأبه لهذا النظر إطلاقًا، وترى أنّ كل شيء موجود بصيغة جاهزة في "الكتالوج"، ويردّد أصحاب هذا التفكير على مسامعك شعارات شمول الشريعة وأنّ الخيرة فيما اختاره الله، وكأنّك لم تنطلق من اختياراتك من تحقيق مقاصد تلك الشريعة، ومن قناعتك أنّ الخيار الذي تفضّله حاليًّا هو الخيار الذي يرضي الله!

 

  • رابعًا: الخطأ في تحديد مناط الفعل

وهذا الخلل مرتبط أيضًا بما قبله، ومفاده أنّ عقلية الغلو لا تستوعب حقيقة الفعل، فمثلًا: عندما تكون حقيقة فعلك هي تفضيل أردوغان وحزبه على خصومه بقصد حفظ حقوق المسلمين ودينهم، يُترجم هو في عقله هذا الفعل أنّه "اختيار العلمانية" أو "اختيار الحكم بالكفر"! مع أنّ فعلك لم يدعم من قريب أو بعيد هذا الكفر، ومع أنّ العلمانية موجودة في بنية النظام التركي والقانون في الخيارين، بأردوغان وبغيره، أيّ أنّ خيارك غير واقع على العلمانية.

ما لا يدركه صاحب عقلية الغلو هنا أنّ الحكم على الفعل يكون باعتبار القصد، فمثلًا: من يدخل إلى حمام نسوان لينقذهنّ من حريق، لا يُقال له "بما أنّك ستكشف على عوراتهنّ وستراهن فسوف ترتكب معصية، والفضيلة لا تؤدّى بارتكاب المعصية"! فهذا تفكير سقيم، ولا يقول أحدٌ إنّ فِعْلَه الذي ينزل عليه الحكم الشرعي هو "الدخول بين نساء عاريات والنظر إلى عوراتهنّ"، بل فعله الذي يتنزل الحكم عليه هو "الاندفاع إلى الحمام لإنقاذ بعض النساء العالقات". وكذلك في حالة انتخاب أردوغان وحزبه يتنزل الحكم على فعلك باعتبار قصدك، وهذا القصد ليس نيّة فحسب، بل له انعكاس وقرائن في الواقع يلمسها الناس جميعًا.

 

  • خامسًا: عدم التفريق بين الخطاب الشرعي والخطاب السياسي، وبين خطاب التكليف وخطاب الوضع، وبين العمل التكتيكي والهدف الاستراتيجي

فيخلطون بين جميع ذلك، أي أنّهم لا يفرّقون بين سؤال "ما ينبغي أن يكون" وسؤال "كيف نتعامل مع ما هو كائن"، فهم يحكمون على كل ممارسة سياسية من حيث انطباق المعايير الشرعية عليها، أي أنّه "خطاب تقييم"، ولكنّهم يجعلونه خطابهم السياسي! فتجد مثلًا تكرار عبارة "الخلافة هي الحلّ"، رغم أنّ الخلافة ليست "حلا" من الناحية المنطقية، بل هي "نتيجة" لمجموعة تراكمية من الحلول. فحقيقة الخلافة هي: وحدة ديار المسلمين تحت قيادة سياسية واحدة، وهذه الوحدة هدف منشود، ومن السذاجة أن يُطرح باعتباره حلًّا! ومن هذا المنطلق أيضًا ينظرون إلى الانتخابات في النظام التركي باعتبارها انتخابات في نظام غير إسلامي، فيحكمون عليها بالبطلان من حيث "الوضع" (راجع الفرق بين خطاب الوضع وخطاب التكليف في كتب أصول الفقه)، ولكنّهم لا يعالجون خطاب "التكليف"، أي: ما الفعل الذي ينبغي للمسلم اتخاذه في هذه اللحظة لتكون أحوال الأمّة أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد؟

فالخطاب الشرعي المعياري ضروري لأداء واجب البلاغ وبيان معالم الدين، ولكن هناك خطاب آخر وهو الخطاب السياسي الذي يستهدف تحقيق مصالح الأمة في سياقها الراهن بحسب أحوال ضعفها وقوتها، وبحسب المخاطر التي تحيط بها وبدائل الواقع المتاحة أمامها للتقدم نحو أوضاع أفضل. ويكمن الانسجام التام بين الخطابين أنّ الهدف الاستراتيجي للخطاب السياسي هو إقامة معالم هذا الدين المبيَّنة في الخطاب الشرعي المعياري، وهو "المثال" الذي يسعى إليه حتى لو ظلّ بعيدًا عن تطبيقه، ذلك أنّ الخطاب السياسي -كل خطاب سياسي- بحاجة إلى محور قيمي يشدّه ومبادئ تأسيسية تعطيه معناه وقيمته، وإلا أصبح خبط عشواء وضلّ سواء السبيل. هذا الخطاب السياسي يخوض الأشواك ويتعامل مع الواقع "القذر"، بينما يظلّ الخطاب الشرعي المعياري محتفّظًا بنقائه.

تكمن المشكلة عندما يتم إلغاء الخطاب السياسي ويتحوّل إلى خطاب فكري جامد، حينئذ يصبح النظر إلى التجربة التركية بمعيار: ما مدى قربها من الإسلام الصافي؟ وبناء على إجابة هذا السؤال وحده يتحدّد الموقف من التجربة كلها! بينما حين ننظر إلى التجربة التركية من منظور الخطاب السياسي (وهو منظور شرعي) تختلف الأسئلة وتتسع، ومنها على سبيل المثال: كيف نستفيد من التجربة التركية؟ هل من المصلحة دعم هذه التجربة وما هو البديل المحتَمل عنها لو سقطت؟ هل يجدي هدم البناء القديم الذي توجد لدينا العديد من الملاحظات الهندسية عليه والذي يخالف معايير البناء التي نرتضيها إذا كان البديل عنه هو البقاء في العراء؟!

أي إنّ الخطاب السياسي ينظر إلى الواقع ككل، يلاحظ البدائل، يقتنص الفرص المتاحة، ويسأل نفسه دومًا: أيّ وضع هو الذي يجعلني أقرب إلى تحقيق رسالتي التي تضمّنها الوحي كي أقبله وأبني عليه وأستفيد منه؟ ولا يسأل نفسه: أي وضع هو المطابق لرسالة الوحي كي أقبله أو المخالف لها كي أرفضه تمامًا وأعاديه؟! والخلط بين الخطابين هو كالخلط بين الهدف الاستراتيجي والتصرّف التكتيكي، فالتصرّف التكتيكي هو خطوات واقعية تقرّب من الهدف أو على الأقل لا تبعد المسلمين عنه، ولكن تخيّلوا ماذا يحدث حين يُراد جعل الهدف الاستراتيجي هو التصرّف التكتيكي الواجب، سيتحوّل الموضوع كلّه إلى شعارات مجرّدة!

 

  • سادسًا: المثالية

وهي ناتجة عن المحور الخامس، فهم لا يقبلون من أحدٍ اليوم أقل من خلافة راشدة على منهاج النبوة! رغم أنّ هذا الشرط لم يتحقق إلا في فترة ضيّقة من التاريخ الإسلامي، بل حتى السلطنة العثمانية التي يمجّدها هؤلاء حتى سقوطها ويُقيمون المآتم في ذكرى "هدمها"، وقعتْ في أمور واحدة منها كافية عندهم اليوم للحكم بخيانة أو تكفير الدولة التركية المعاصرة، كالاستعانة بالكفار على المسلمين، وإدخال نفوذ الغرب في بلاد المسلمين، والسماح بجهود التنصير في بلاد المسلمين، وإدخال القوانين الوضعية للحكم بها، والاستبداد وإهدار الشورى وإقطاع الأراضي للأمراء والقادة العسكريين وغيرها من الكوارث التي غفروها للدولة العثمانية لِما كانت تمثّله من وحدة وقوة وحفاظ على قدر من القيم والشريعة وتماسك الأمة.

ولكنهم في حالة حزب العدالة التركي مثلًا لم يروا سوى السيئات، ولم ينظروا إلى ما يشكّله وجود الحزب في الحكم من منافع مقابل وجود خصومه في الحكم، ولم ينظروا إلى كيد القوى الغربية له وتشويه صورته ومحاولة الانقلاب عليه وإرادة إضعاف تركيا، فهم يتعاملون بمنطق مثالي مع الواقع، وهذا التعامل المثالي لم ينشأ إلا في العصر الحديث مع التأثّر بالحركات الأوروبية الشمولية، ولو راجعتَ كلّ ما كتبه علماء المسلمين في السياسة الشرعية في كتب التراث فلن تجد هذه النظرة المثالية.

 

هذه المحاور الستّة هي من أبرز الأمراض الفكرية التي يعاني منها الغلاة والتي ينتج عنها معظم ما ترونه من مواقفهم العجائبية وآرائهم السقيمة.

 

المصدر: الجزيرة نت

إضافة تعليق جديد